|
حوار مع الطيب صالح.. من أين أتى هؤلاء؟ فائز السليك
|
حوار مع الطيب صالح.. من أين أتى هؤلاء؟. 1
وأنا هنا؛ لا تعنيني كثيراً تلك "الأفعال" التي يمكن إدراجها في خانة "أفعال المراهقة الفكرية"، "والصبينة السياسية"، والفتونة التنظيمية"، وأذكر أنني لم أشعر بحزن على حالتنا الفكرية، مثل تلك التي انتابتني وأنا أشاهد قبل عدة أعوام حلقة من حلقات برنامج "خليك بالبيت" بفضائية المستقبل اللبنانية، من تقديم الأديب والاعلامي المتمكن زاهي وهبي، حيث كانت الحلقة مع الطيب صالح، فقال وهبي: إنه لم يتلق رسائل في عدد تلك التي استقبلها في حلقة الطيب صالح..
وما زادني حزناً أنَّ فتيات من الأردن، ومن دول عربية أخرى تساءلن حول مغزى: قصة "نخلة على الجدول"، أو "دومة ود حامد" لأنها من القصص المقررة هناك في المدارس ضمن مقرر الأدب، وساعتها كانت قصص الرجل محظروة حتى في الجامعات؛ لا في المدارس في وطن الأديب الكبير، وهو وطن وصف إحساسه تجاهه على لسان راوي "موسم الهجرة الى الشمال" " (المهم، أني عدت، و بي شوق عظيم إلى أهلي في تلك القرية الصغيرة، عند منحني النهر. سبعة أعوام وأنا أحن إليهم وأحلم بهم، ولما جئتهم، كانت لحظة عجيبة، أن وجدتُني حقيقة قائماً بينهم. فرحوا بي، وضجُّوا حولي، ولم يمض وقت طويل، حتى أحسست، كأن ثلجاً يذوب في دخيلتي، فكأنني مقرور طلعتْ عليه الشمس. ذاك دفْء الحياة في العشيرة، فقدته زمناً في بلاد تموت من البرد حيتانها، تعودت أذناي أصواتهم، وألفت عيناي أشكالهم، من كثرة ما فكرت فيهم في الغيبة........،(أحس بالطمأنينة، أحس أني لست ريشة في مهب الريح، ولكني مثل هذه النخلة، مخلوق له أصل، وله جذور وله هدَف). ويقول في موقع آخر من ذات الرواية ذائعة الصيت (تمهَّلت عند باب الغرفة، وأنا أستمريء ذلك الإحساس العذب، الذي يسبق لحظة لقائي مع جدي كلما عدت من السفر، إحساس صاف بالعجب من أن ذلك الكيان العتيق، ما يزال موجوداً أصلاً على ظاهر الأرض. وحين أعانقه، أستنشق رائحته الفريدة، التي هي خليط من رائحة الضريح الكبير في المقبرة، ورائحة الطفل الرضيع...نحن بمقاييس العالم الصناعي الأوربي، فلاحون فقراء، ولكنني حين أعانق جدي، أحس بالغِنَى، كأنني نغمة من دقات قلب الكون نفسه.)
ونهر النيل يعزف لحنه القديم ، والسادة الجدد لا.... من أيتى هؤلاء الرجال؟. أمَا أرضعتهم الخالات وشالتهم العمات؟." أو بتلك الطريقة؛ مع تغيير الكلمات والجمل؛ لأن زمناً طويلاً مرّ على طرح تلك التساؤلات، ولم أجد النص الأصلي لما كتبه الطيب صالح في بداية التسعينيات من القرن الماضي، في مجلة "المجلة السعودية" التي تصدر من عاصمة الضباب لندن، لقد كان أديبُنا الراحل في ساعة قهر، وعهد قمع لم ينجل بعد، يطرح تلك التساؤلات؟" وهي أسئلة كان يطرحها بروح الأديب، وشفافية الفنان، و"انستالجيا" الانسان المحب لناسه، وفي قمة الحنين الى الوطن، وحينها غضب القوم وثارت ثائرتهم، وكتب بعض الكُتّاب ومثقفي السلطة آنذاك "لا عاش طيباً ولا صالحاً" ففتشوا في لا وعيهم الجمعي، ونصبوا مشنقة آداب لمحاكمة أدب الرجل، وتفننوا في تعريته، والتسلل الى غرف النوم ليكشفوا عَورة مصطفى سعيد، ووقاحة وجرأة بت الريِّس، وجردوا اللغة الأنيقة من أناقتها، ففتّشوا عن الفُجور، وعن الفسوق في روايات الكاتب الكبير.
و لكن ما يعنيني هنا أكثر هو السؤال الكبير " من أين أتى هؤلاء الرجال؟". وكان الطيب صالح يقصد: أن أفعال هؤلاء لا تشبه أفعال السودانيين، فهم قساة والسودانيون رحماء، وهم غلاظ والسودانيون رقيقو النفس والمشاعر، وهم.. .. والسودانيون..... لكن لم يسأل أديبنا عن من هم السودانيون؟. ولم يطرح السؤال الا بطريقة عاطفية وإن كانت مشحونة بتوتر اللغة، وبرهافة حس الأديب، لكنها طريقة ربما تثير غضب بعض السودانيين، وربما يقفز البعض ليعلنوا على الملأ أنّ هؤلاء الرجال جاءوا منّا، وهم نتاج طبيعي لممارساتنا، ولسياساتنا، بل أن الإسلام السياسي هو إعادة لإنتاج الأزمة السودانية في أبشع صورها، وينظرون الى سؤال الطيب صالح بأنه سؤال فوقي من رجل يجلس فوق برج عاجي، ولا يخلو من صفوية، فتاريخ السودان السياسي الحديث مليء بالفواجع، فمثلاً: من قتل الشيخ محمود محمد طه، وهو يتجاوز عمره السبعين عاماً، أوَ ليس من قتله هو من السودان؟. ومن ارتكب مجازر بيت الضيافة والجزيرة أبا وودنوباوي؟. ومن اغتال عشرات السياسيين؟. ومن ارتكب مجزرة الضعين؟. ومن أشعل الحريق في دارفور منذ ثمانينات القرن الماضي؟. ومن ارتكب مجزرة عنبر جودة؟. هم شريحة من ذات الناس الذين أرضعتهم الخالات، وشالتهم العمات والحبوبات، وهم أيضاً من أنجب من كان يبقر بطون النساء الحوامل في جنوب السودان، ومن يتعلم رمي السلاح في صدور الرجال هناك!.
و قد يكون هؤلاء الناس المعنيّون بسؤال الطيب صالح "زوّدوا العيار فقط، وأكثروا من الزيت المسكوب على النار المشتعلة، لأنهم أكثر جرأةً ، ولأنهم يفوقون سوء الظن، فهم ليسوا استثناء في الممارسة الشمولية، برغم أنهم استثناء في الدم البارد، وفي التخلص من تأنيب الضمير، والفجور في الخصومة، فهم منا مع فوراق نسبيّة وكميّة ؛لا نوعيّة، وهي فوارق أحسها قلبُ الأديب قبل الآخرين، والتقطها قلمه لحساسيته العالية.
ويظل الطيب صالح إنساناً غير عادي بمعيار آخر، فهو رجل له القدرة على إثارة الدهشة، وعلى تفجير الأسئلة منذ رائعته "موسم الهجرة الى الشمال"، وحتى "المنسي"، فهو قد تحدَّث عن الهم الإنساني العام، وعن صراع الحضارات بين الشمال والجنوب" بكلمات رقيقة، وبدفق شحنات إنسانية في روعة الرومانسية " أي شيء جذب آن همند إليّ ؟" لقيتها وهي دون العشرين، تدرس اللغات الشرقية في اكسفورد، كانت حية، وجهها ذكي مرح وعيناها تبرقان بحب الاستطلاع. رأتني فرأت شغفاً داكناً كفجر كاذب، كانت عكسي تحن إلى مناخات استوائية، وشموس قاسية، وآفاق أُرجوانية، كنت في عينها رمزاً لكل هذا الحنين، وأنا جنوبي، يحن إلى الشمال والصقيع".
وربما يأخذ كثيرون على الطيب صالح أنه ظل يعبّر عن سودان المركز، أو الهوية الاسلاموعروبية في السودان، وهو أمر حقيقي، الا أنه يعبر عن تفكير عيله القديم، وعن هموم ناسه، ولحظتها لم يطرح الناس هنا سؤال الهوية، وهو مشروع كبير، لكن هل من الضرورة أن يتحول الأديب الى مشروع سياسي ؟. وهل الكتابة هي أداة تعبير لمشروع فكري ، أم هي حالة مزاجية تعبر عن مزاج كاتبها؟.
ولا أرى من الصواب محاكمة الرجل، ونصب مشنقة أخرى على شاكلة مشانق محاكم التفتيش الانقاذية، بقدرما نعتبر مشروعه الأدبي مساحة للحوار الفكري، وللجدل، ولما لم يقله، وقاله ، ولا يعبر عن شرائح كل السودانيين، ولا أريد هنا تشريح كتابات الرجل أدبياً فأنني لن أضيف شيئاً، ولن أقول أكثر مما قاله رجاء النقاش، أو غيره من النقاد، لكنني أحتفي هنا بسؤاله القديم والمتجدد " من أين أتى هؤلاء الرجال؟" . أهم منا؟. أم من لا وعينا الجمعي، أم من حقل الهيمنة؟. أم هم أناس غرباء جاءوا الينا من كوكب آخر؟.
http://ajrasalhurriya.net/ar/news_view_2097.html
|
|
|
|
|
|