|
Re: حوار: (حامد بدوي) الحائز على جائزة الطيب صالح للإبداع الروائي (Re: Alsadig Alraady)
|
حاز على جائزة الطيب صالح للإبداع الروائي الكاتب (حامد بدوي) لـ (السوداني الثقافي): الرواية حرية مطلقة وهي دواء الكبت
* الكاتب حامد بدوي *
الكاتب حامد بدوي، عرفت كتاباته النقدية طريقها للنشر باكرا عن طريق ملحق الايام الأدبي عام 1978م، قبل أن يغادر البلاد إلى المملكة العربية السعودية، وقبل أن يتحول إلى الكتابة الروائية في تسعينيات القرن المنصرم. أحرزت روايته (مشروع إبراهيم الأسمر الروائي) جائزة الطيب صالح للإبداعي الروائي في دورتها الخامسة والتي أعلنت، في تمام الحادية عشر من صباح الأحد 21 أكتوبر المنصرم، وكانت روايته (مدينة النهر الميتة) قد أحرزت الجائزة التقديرة في الدورة الأولى للجائزة عام 2003م. عبر البريد الإلكتروني، أجرينا معه هذه المقابلة، حول عدة محاور.
نواصل
| |
|
|
|
|
|
|
Re: حوار: (حامد بدوي) الحائز على جائزة الطيب صالح للإبداع الروائي (Re: Alsadig Alraady)
|
ما عدا قلة من الأصدقاء، وقراء (المنتديات الإلكترونية) ربما لم يقرأ لك أحد بالصحافة الثقافية والمنابر المختلفة التي تعنى بنشر الأدب، حتى الآن، ماهي قصتك مع الكتابة الإبداعية ؟!
قصتي مع الكتابة هي قصة الرحيل والهجرة والنزوح حين تضيق اخلاق الرجال حتى لا نقول ضاقت بنا بلادنا. لقد بدأت نشر كتاباتي في وقت مبكر جدا، بعد تخرجي من الجامعة مباشرة في عام 1978. فقد نشر لي الاستاذ عيسى الحلو في ملحق (الأيام) الأدبي سلسلة من المقالات النقدية كانت منها دراسة تحليلية وبرؤية جديدة لرواية الطيب صالح (موسم الهجرة للشمال)، كتبتها وأنا بالجامعة. ثم توالت كتاباتي النقدية فتناولت بجانب الطيب صالح كل من مختار عجوبة والدكتور محمد عبد الحي وآخرين. ولا يزال أستاذنا عيسى الحلو يقول، حين يهاجمه الشباب بأنه لا ينشر إنتاجهم : (أنا نشرت للبدوي وكان شافع). وأنا أعرف عيسى الحلو. فهو أنسان يقدس الكتابة ولا يستطيع ان يجامل. فالرجل قبل ان يكون صحفى، فهو من آباء القصة السودانية.
المهم في الامر، أن ذلك النشاط قد أوصلني لأن أكون عضوا في لجنة القصة بالمجلس القومي لرعاية الآداب والفنون. وما أدراك ما ذلك المجلس. تصور فقط أن الدكاترة البروفسير إبراهيم الحاردلو كان فقط رئيس لجنة القصة التي تشرف بعضويتها كل من عيسى الحلو وعلي المك وإبراهيم اسحق. في اول إجتماع لي مع هذه اللجنة كنت حقيقة أتصبب عرقا وأرتجف وأدعو في سري على عيسى الحلو الذي ورطني تلك الورطة. والأهم في الأمر هو إنني وفي نفس تلك الأيام سافرت للعمل بالسعودية. وبسبب الهجرة المبكرة فقدت صلتي بالقارئ السوداني لأن هجرتي قد طالت كثيرا. وحين عدت كنت أعرف إنني منسي تماما. وكان صديقي مجذوب عيدروس يعبر عن هذا النسيان بقوله انه كلما ذكر لبعض المثقفين ناقدا باسم حامد بدوي أتهموه باختراع الاسماء أو الخرف. وأحيانا أحس ان العيدروس هو الكاتب الوحيد الذي يذكرني وتغضبه غيبتي، وأنا أحمل له هذا الجميل.
الكتابة يا صديقي، وأنت سيد العارفين، مثلها مثل كل الأمراض المزمنة، لا فكاك منها. وأعترف إنني عندما وصلت إلى السعودية كانت في ذهني الصورة التي كانت شائعة في ذلك الزمن وهي أنها بلاد لا تعرف سوى البترول والدولار. وبعد عام واحد اكتشفت مدى خطل هذا الرأي. فقد كنت أقرأ في الصحف السعودية كتابات في الشعر والقصة والنقد ذات مستوى متقدم جدا. وعن طريق صديق سوداني من المهتمين بالأدب، تعرفت به هناك، هو الأستاذ محمد الطيب، الله يرحمه، فقد توفى في حادث حركة، تواصلت مع الادباء السعوديين الشباب. وأقول لك لقد اذهلوني بغزارة علمهم وأسروني بتواضعهم. وكانوا حينها، ونحن في بداية الثمانينات، قد اشعلوا عن عمد معركة بين الحداثة والتقليد. وما كان من الممكن ان أقف متفرجا، فخضت مع الشباب السعودي معركة الحداثة. كان حوارا ثقافيا ثرا وحافزا أخرج للوجود كتابا سعوديين لا يستهان بهم. فقد ظهر من نتاج تلك الفترة عدد من النقاد والشعراء وكتاب القصة وانتصرت قضية الحداثة تماما وسيطرت على كل الملاحق الادبية بالصحف السعودية. وكان لي بعض المساهمة في ذلك من خلال كتاباتي النقدية ومن خلال عمودي الأسبوعي (ذاكرة اليدين) في صحيفة عكاظ. كما اكتسبت صداقات اعتز بها مع أدباء تلك الفترة الكبار. فقد كان هناك من الأصدقاء، النقاد، الدكتور عبدالله القذامي والدكتور سعيد السريحي والأستاذ فايز أبا والدكتور عثمان الصيني والدكتور عالي القرشي وآخرين كثر. ومن الشعراء محمد الثبيتي وعلي الدميني ومحمد الدميني وعبدالله الصيخان وفوزية ابو خالد وآخرين كثر. ومن كتاب القصة رجاء عالم وعبدو خال وسعد الدوسري وعبدالله باهيثم وعبدالله باخشوين وصالح الاشقر واخرون كثر. كانت بحق فترة خصبة أنقذتني من الإرتكاس والصدأ.
عدت للسودان في منتصف التسعينات وكانت الأجواء قاحلة كالحة لا تسمح بالتنفس ناهيك عن الكتابة في الصحف. عندها قررت التحول كليا لكتابة الرواية. فقد كانت هناك أزمة حرية والرواية هي دواء الكبت. الرواية حرية مطلقة. هذه هي قصتي مع الكتابة الإبداعية، حكيتها عليك بكل ما فيها من الإملال. فأنت الذي طلبت.
نواصل
| |
|
|
|
|
|
|
Re: حوار: (حامد بدوي) الحائز على جائزة الطيب صالح للإبداع الروائي (Re: Alsadig Alraady)
|
سبق أن نلت شهادة تقديرية في الدورة الأولى لجائزة الطيب صالح للإبداع الروائي، وأنت تحققها اليوم ماذا تقول عن دورها في الساحة الثقافية والإبداعية، وما هو الأفق الذي يمكن أن يكون قد انفتح أمامك من خلالها؟!
صادف إعلان مركز عبدالكريم ميرغني عن جائزة الطيب صالح للإبداع الروائي لأول مرة عام 2003، ان كانت لدي رواية مكتملة بالفعل هي رواية (مدينة النهر الميتة). وفي الحقيقة فقد أكبرت الفكرة كثيرا. فها هي منظمة من منظمات المجتمع المدني تبادر للقيام بما كان يجب أن تقوم به أجهزة الدولة المختصة التي كانت مشغولة حينها بأناشيد القتل. ومنذ تلك اللحظة، وتقديرا لهذا الإهتمام الراقي بجنس أدبي تعاني الساحة الثقافية السودانية من شح فيه، قررت ان أتقدم بأية رواية أكتبها لهذا المركز الشامخ، ولا يهم فازت أم لم تفز. المهم ان تستمر هذه الجائزة وألا يصيبها داء المشاريع السودانية المزمن، فتضمحل بدل الإزدهار وتزوي بدل الإنتعاش. ويكفي أن هذه الجائزة قد أظهرت لنا عشرات الروايات التي ما كنا سنسمع عنها وعشرات الكتاب الذين ما كان لنا ان نعرفهم. هذه هي الإضافة الحقيقية لهذه الجائزة ولفائدة الرواية السودانية. وليس هذا بالأمر السهل.
نواصل
| |
|
|
|
|
|
|
Re: حوار: (حامد بدوي) الحائز على جائزة الطيب صالح للإبداع الروائي (Re: Alsadig Alraady)
|
إنتعش الإنتاج الأدبي في مجال السرد مؤخرا بصورة ملحوظة وبرزت عدة أسماء على الساحة، كيف تقرأ واقع المشهد الروائي السوداني الآن؟!
بصفتك شاعرا فأنا آخذ قولك (الأدب السردي) على أنه الرواية. فالقصة القصيرة، في رأيّ أقرب لجنس الشعر. واعتقد ان سبب إنتعاش ما تسميه الأدب السردي هو شعور المبدع السوداني، في الأزمنة الحديثة بأن هناك الكثير من المسكوت عنه الذي طال السكوت عنه والذي يجب ان يقال بالتبحر وبالتفصيل. تبحر وتفصيل لا تحتمله سوى الرواية. نحن أمة تبحث عن هويتها لأن ثمة من عملوا مع سبق الإصرار والترصد على جعلنا نحتقر ذاتنا الناريخية وشوهوا داخلنا الحقائق منذ طفولتنا. كتبوا لنا في كتب المدرسة ان محمد علي باشا غزى السودان بحثا عن الذهب و(الرجال). لم يقولوا (العبيد) مع ان عشرات آلاف من السودانيين قد سيقوا مقيدين ومشيا على أرجلهم إلى مصر وقد مات معظمهم عطشا وجوعا وظلما. كتبوا لنا ان عبدالله بن أبي السرح قد اكتفى من غزوته ضد السودان بعدد من (العبيد) يورد سنويا لحاكم مصر وكأن أولئك (العبيد) ليسو أجدادنا. بل بلغ بهم السخف أن قرروا لنا في المدارس قصيدة المتنبي التي يهجو فيها كافور سيد مصر الذي هو في ذلك النص مجرد عبد لأنه أسود. ونحن كأطفال كان لا بد لنا من أن نتماهى مع بطل القصة الذي هو المتنبي ونحتقر كافور الإخشيدي. يحدث هذا في فصل دراسي كل الذين فيه (كوافير). وأعتقد أن الرواية هي الجنس الأدبي الأقدر على الدخول في تلك المجاهل. ذلك لأن الرواية هي حرية مطلقة. فإذا ازدهرت الرواية، فهذا يعني إننا نستيقظ. فلكي يرى الإنسان نفسه لا بد له من وسيلة، لا بد له من حجر كريم مصقول أو بركة ماء صافية قادرة على عكس صورته حتى يرى نفسه. هذا الحجر الكريم، تلك البركة الصافية، هي الرواية.
نواصل
| |
|
|
|
|
|
|
Re: حوار: (حامد بدوي) الحائز على جائزة الطيب صالح للإبداع الروائي (Re: Alsadig Alraady)
|
حملت روايتك الفائزة اسم (مشروع إبراهيم الأسمر الروائي)، ونريد أن نسألك: ماهي الملامح العامة لأبعاد مشروعك الروائي؟!
أعتقد أن فيما قلته أعلاه بعض ملامح ذلك المشروع. أنا أسعى لاستكشاف الوقود الذي يحرك حياتنا الراهنة. وهذا استكشاف مشروط بالمكان. فنحن حتما من صياغة هذا المكان وليس أي مكان آخر. فقد علمونا منذ الصغر أن نتعلق بمطلقات مكانية وزمانية وجمالية لا علاقة لنا بها بما هو أكثر من علاقة كل مسلمي العالم بها. ومنذ ازمان مبكرة اكتشف الفنان السوداني هذا الخلل. شعر ما يسمى (الحقيبة) كان ثورة في اتجاه تأسيس مطلقاتنا المكانية والزمانية والجمالية. جعل الخليل معالم أم درمان مطلقات مكانية له فذكر فتيح والخور والمعالق والطريق الشاقي الترام واحلها محل مطلقات المدائح النبوية من عرفه ومناها. ودفع هؤلاء الفنانون الثمن رفضا وطردا من بيت الأسرة. علمونا منذ الصغر أن نتماهى مع صور إنتقائية وغير حقيقية لإنسان تلك الأمكنة الأخرى، وكأنما هذه الأرض لم يكن فيها سوى الأفيال والذئاب. كيف يبدع إنسان لا ترتكز رجلاه على أرضه؟ أسعى لأن نحب تاريخنا أن نحب أنفسنا كبشر موجودون هنا قبل أن توجد معظم شعوب الأرض، لأنني أعتقد أن ذلك هو طريق الخلاص.
نواصل
| |
|
|
|
|
|
|
Re: حوار: (حامد بدوي) الحائز على جائزة الطيب صالح للإبداع الروائي (Re: Alsadig Alraady)
|
تقيم وتعمل خارج البلاد، ماهي إضافات المشهد من الخارج بالنسبة للمبدع، ماهي خساراته، من واقع تجربتك؟!
الغربة كلها خسارة نسعى إليها بأرجلنا مجبرين. لا يغادر الإنسان مكانه إلا مجبرا يا صديقي. وقد ذكرت لك في بداية حديثي كيف إنني قد عدت إلى السودان فوجدت أن ليس هناك من يعرفني. أية خسارة أكبر من هذه؟ الحسنة الوحيدة في الغربة هي أنك تستطيع ان تقرأ كتبا لن يتسنى لك الحصول عليها في السودان.
ـــــــــ نُشر بـ السوداني الثقافي عدد الإثنين 12نوفمبر الجاري.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: حوار: (حامد بدوي) الحائز على جائزة الطيب صالح للإبداع الروائي (Re: حامد بدوي بشير)
|
شكراً الأستاذ الصادق الرضي على تسليط الضوء على فوز الروائي حامد بدوي بجائزة الطيب صالح لهذا العام ..كم سعدت بمعرفة هذا الرجل في بلاد الغربة.. وزادت سعادتي حين عرفته أكثر من خلال روايته التي فازت بالجائزة التقديرية عام 2003. فهي رواية تستعذب قراءتها أكثر من مرة لجمال حبكتها الروائية التي تزينها رمزية محببة تتبادل فيها الأدوار بشكل متسارع بين الواقع والخيال الأمر الذي يجذبك أكثر تجاه الرجل لتكتشف عالمه الروائي. ففوز روايته الجديدة بجائزة الطيب صالح فوز مستحق بجدارة.. إن حامد بدوي بشير رجل يكتب ما يحترم عقل القاريء الذي يريد أن يخرج عن دائرة الكتابة التقليدية والمعالجة التقليدية لقضايا يراها القاريء شائكة ..
.ومن محاسن الصدف أننا موعودون-يوم غد الأحد بالنادي السوداني بمسقط- بمحاضرة يقدمها الأستاذ حامد عن الهوية الثقافية ومسيرة الكتابة الإبداعية بعد حركة الغابة والصحراء..
ألف مبروك صديقي العزيز حامد على الجائزة التي جاءتك تسعى وإن شاب رحلتها بعض التأخير..
شكرا الأستاذ الصادق الرضي مرة أخرى ولنا عودة..
الزاكي
| |
|
|
|
|
|
|
Re: حوار: (حامد بدوي) الحائز على جائزة الطيب صالح للإبداع الروائي (Re: حامد بدوي بشير)
|
استاذ حامد
عشمنا كله ان نجعل من هذا المنبر نافذة حقيقية لابداعاتنا الادبية لنعلى من شأنها وشأن مبدعينا ..
الانترنت اصبح من الوسائط السريعة والمحببة فى النشر
شكرا لاستجابتك الكريمة
_________________________________________________________________________________________________________ كنت ادمن قراءة مساهمات الاستاذ الصادق الرضي فى صحيفة الخرطوم ايام صدورها من القاهرة وسعدت جدا لما وجدته بيننا فى المنبر
| |
|
|
|
|
|
|
Re: حوار: (حامد بدوي) الحائز على جائزة الطيب صالح للإبداع الروائي (Re: حيدر حسن ميرغني)
|
الأخ حيدر حسن ميرغني،
الشكر لك أنت والشكر للأستاذ الصادق على كل هذا الإهتمام.
وكان بودي لو استطيع ان أنشر كامل الرواية هنا في هذا المنبر. وقد فعلتها مع روايتي الأولى (مدينة النهر الميتة) التي نشرها هنا كاملة الاستاذ الصديق مرتضى جعفر. لكن شروط الجائزة لا تسمح لي بنشر الرواية إلا بعد مرور عام. عليه سأنشر الفصل الثالث وأرجو ان يعطي فكرة ما عن مستوى الرواية.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: حوار: (حامد بدوي) الحائز على جائزة الطيب صالح للإبداع الروائي (Re: حامد بدوي بشير)
|
3)
البدايات
للمرة الأولى في تاريخ القبيلة لم يتناول الشيخ حماد العشاء مع القوم دون أن يكون مريضا أو مسافرا. ترك الناس يتحلقون حول الأقداح وذهب. انطلق مباشرة إلى بيت أمه.
وجدها جالسة رغم تأخر الوقت. كلما زارها وجدها مستيقظة. كأنما لا تريد أن تفوتها لحظة من لحظات الحياة فيما تبقى لها من العمر.
في ضوء القمر استطاع أن يلمح أنها عارية. غض بصره وتنحنح حتى لملمت عليها ثوبها.
هل هذا بسبب ما تدعي من حكة في جميع أجزاء جسمها أم بسبب ما ورثته من جدودها النيليين من الإعتزاز بالجسد العاري؟ إمرأة تجاوزت الثمانين ولا تزال قوية متماسكة. لا تشكو من عينيها أو أسنانها. ذهنها صاف وكثيرة الضحك والمزاح مع نساء أولادها وحفيداتها. هذه البدوية السوداء النحيلة هي المستودع الأمين لتفاصيل تاريخ هذه القبيلة. تحفظ تفاصيله لحظه بلحظة. تاريخ القبيلة هو كتابها المقدس. تحفظه وتتلوه ولا تبدل فيه. إذا اختلف الناس في واقعة أو اسم أو نسب عادوا إليها فأعطتهم القول الفصل.
وأنا أحضر إليك من أم درمان بنفس الدرب الذي عاد به أبي. وكما جاء إليك إبنك الشيخ حماد ذات يوم وقد انبهمت أمامه السبل، حضرت لأسمع منك هذا الكتاب كلمة كلمة. لماذا؟ لا أدري. فقط ثمة حاجة ملحة لذلك. ثمة فراغ ما في مكان ما لعل السيرة العتيقة تسده.
وتدفق الحكي من مكان ما مبهم وعميق، يورد التفاصيل منذ انفصال القبيلة الكبيرة الأم عن أبي زيد الهلالي ونزوحها من تونس الخضراء جنوبا عبر الصحارى والأهوال والحيوانات الخرافية التي كانت تعج بها أفريقية. وكيف تشتت بطون القبيلة وأفخاذها وخشوم بيوتها التي صارت قبائل في سهول بلاد السودان. وماذا حدث للبطون التي بقيت على تخوم الصحراء ترعى الإبل، وماذا حل بتلك الأخري التي توغلت جنوبا واستبدلت الناقة بالبقرة. والحروب التي خاضتها هذه القبيلة الصغيرة الشرسة ضد أبناء عمومتها. ووباء الجدري الذي ضربها وكاد يفنيها. وكيف نبذتها القبائل الأخرى وأجلتها عن الديار القديمة خوف العدوى. وكيف نهضت مثل الفينق، من موتها ومنفاها عند تخوم الغابات المظلمة حيث يلتقي نهر متحدر شرقا بالنهر الكبير المنحدر شمالا عند مثلث الأنهار هذا.
عندما عدت قادرا على الإمساك بنفسي والإستماع، كان الحكي الذي لم أكن أدري مصدره، هل هو من فزارية؟ من امها؟ من أخيها؟ كان الحكي يعيد علينا تفاصيل الصراع القبلي الذي كان دائرا داخل بيت الشيخ هذلول الذي قاد القوم إلى بلاد السودان بعد الإنفصال عن بني هلال. وكيف أن زوجته النيلية التي يحبها أكثر من بنات أعمامه، زوجاته الأخريات، كانت شديدة الإعتزاز بقبيلتها. وكيف أن هذا كان يثير دهشته وحفيظته كثيرا. فالعربي لا يرى أن هناك قبيلة تستحق الإعزاز أن لم تكن عربية. وكان يريدها شاكرة حامدة أن اختارها، وهو شيخ الأعراب، زوجة مفضلة على غيرها. وكانت تريده شاكرا حامدا أن تنازل أبوها سلطان النيليين وقبل به زوجا لأحب بناته إليه. أتانا الحكي .... وكيف أن الشيخ هذلول هذا، كان يصرف جل وقته في ابتكار الألغاز ليرسلها عبر زوجته إلى أبيها حتى يثبت لها تفوق عنصره على عنصرها.
كان يقول لها إذهبي إلى أبيك بهذا اللغز، فإن حله شهدت له بالذكاء والنجابة. وإن فشل في حله كففت عن مناكفتك إياي. وكان مرعي، إبن الشيخ هذلول منها، كثيرا ما يسترق السمع لجدال أمه وأبيه. وكان ميالا لجده وأخواله من النيليين. وعندما تخرج أمه قاصدة قرية أبيها على الضفة الأخرى من النهر، يتسلل مرعي ويلحق بها. كان يقول أنه يرى أن في الأمر كله ظلم لها ولأبيها. فهذلول يرسل لجده الألغاز العربية التي لا يدري عنها شيئا. ومن المؤكد أنه سوف يفشل في حلها. لهذا فمن الأفضل أن لا تطرح على أبيها تلك الإلغاز حتى لا يعلم أن الأعرابي يستخف به وهو السلطان العظيم، فيغضب فتقع الكارثة. وتحايلا على أبيه الشيخ، رأى مرعي أن يقوم هو بتزويد أمه بحل الألغاز لتعود بها إلى ابيه.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: حوار: (حامد بدوي) الحائز على جائزة الطيب صالح للإبداع الروائي (Re: حامد بدوي بشير)
|
ايتها البدوية السوداء، اين أنت من هذا الصراع. هل أنت مع أخوالك النيليين أم مع أعمامك العربان؟ أم أنت شيئ ثالث؟ وهذا الهذلول الذي صار الآن هضلول، هل هو حقيقة أم حكاية من نسج الخيال؟ هل حقا جاء إلى هنا أم أنه مجرد رمز لما حدث هنا على وجه التحقيق؟
جاءه صوت أم الشيخ مرة أخري. كانت قد تجاوزت في الحكي زمان أبي زيد الهلالي وهذلول وولجت إلى تاريخ القبيلة القريب.
- عند انقشاع الوباء كان الذي يتولى زعامة القبيلة هو الشيخ حماد المجدور، آخر الأعراب نقاء دم في القبيلة. كانت آثار الجدري تملأ صفحة وجهه الأبيض الصبوح فأسموه المجدور. هذا هو الرجل الذي نهض بهذه القبيلة من العدم.
كنت أجلس في قلب سرير فزارية الصغير، محيطا فخذي بيدي، مسندا ذقني على ركبتي والقمر يبدو أصفرا مريضا من بين فروع الأشجار. لم أكن أعي تماما ما إذا كانت تفاصيل سيرة القبيلة تأتيني من فم إنسان أم إنني كنت أسترجع صورا وتفاصيل تأتي من أعماق سحيقة لا أدري ما هي. في لحظة أسمع صوت فزارية يعلو ويخفت مثل أمواج النهر وفي اللحظة التالية يتلاشى الصوت وينهض التاريخ في حضور حي عنيف ...
- قالوا أن الجدري أهلك معظم الرجال والنساء وحتى الأطفال. أنا لم أكن قد ولدت بعد. سمعت القصة من جدك أبو حوه. قال في البداية كان الوباء شديدا. كل من يصاب يموت. لكن ومع مرور الأيام بدأت حدته تخف. صار البعض يصاب ثم يشفى. وأول من أصيب وتعافي كان هو جدي حماد المجدور نفسه. وحين انقشع الوباء نهائيا ولم يعد يصيب الأصحاء من الأطفال خاصة، تولى الشيخ حماد المجدور تقوية الأمل في النفوس الضعيفة التي كانت لا تزال خائفة. قالوا أنه تولى بنفسه رعاية أطفال القبيلة. لم يترك أمرهم لأهلهم. كان يقوم بإطعامهم بنفسه. المرأة التي تلد صبيا يمنحها من أبقاره بقرة. والتي تلد بنتا يمنحها بقرتين. وكان يقول احسنوا تغذية البنات ليلدن للقبيلة الذكور الأقوياء. وكان يقول أن القبيلة قليلة النساء أوالضعيفة النساء قبيلة مهددة بالفناء، فالرجال لا يلدون. في موسم الأمطار، قالوا أنه كان يزرع أرضا واسعة بالدخن والسمسم والذرة لإطعام القبيلة التي أنهكها المرض. وكان يأخذ الشباب وحتى الأطفال للعمل معه فيها. في غير أوقات العناية بالزرع، كان يأخذهم للصيد بالكلاب فيجلبون للقبيلة لحوم التيتل والغزلان والأرانب والدجاج البري. وأحيانا يأخذهم لصيد الأسماك والتماسيح في النهر. كان يعيش ليله ونهاره معهم. لا يفارقهم إلا ساعات النوم. منذ الصباح الباكر يتجمع الأطفال والصبيان والشباب من البنات والأولاد عند الشجرة التي أمام بيوته. هي نفس الشجرة التي أمام بيوتك الآن. يأمر بعضهم برعي الأبقار وبعضهم برعي الأغنام وبعضهم يوكل إليه صيد البر وآخرون للصيد في النهر. يعرف عنهم كل كبيرة وصغيرة. إذا بلغت البنت ليلا زوجها من أحد الشبان البالغين صباح اليوم التالي. وإذا بلغ الصبي زوجه من بنتين في يوم واحد إذا توفر العدد الكافي من البنات. كان يزوجهم صغارا،حتى إذا جئت القبيلة في ذلك الزمان لتعذر عليك أن تستبين البنت من أمها أو الولد من أبيه. تقاربت أعمار الأبناء والآباء حتى صارت القبيلة قبيلة من الشباب متقاربي الأعمار. وكان حماد المجدور سعيدا بكل ذاك الذي صنعت يداه. أوقف كل حياته وأمواله على شباب القبيلة. كان يعيش يومه كله بينهم. كان، وهو الكهل، كأنه واحد منهم. يتسابق معهم عدوا وعوما وعلى ظهور الخيل. يلعب بينهم في الليالي المقمرة ألعاب الصبيان والشباب. يمزح معهم طوال الوقت وهو يعلمهم. في صحبة الشيخ حماد المجدور، على الجميع أن يكونوا متيقظين باستمرار ومتحفزين أيضا. لا أحد يمكن أن يأمن من مفاجاءات الشيخ التي لا تنفذ. إذا مر بقربه فتى أو فتاة على ظهر حصان، وخذ الحصان بسن سيفه على حين غرة حتى يجفل الحصان بعنف ليرى الشيخ أن كان الذي على ظهره فارسا حقيقيا. حين تكون معه مجموعة منهم على طوف وسط النهر المندفع العنيف، يغافل أحدهم ويقذف به في الماء ثم يتركه يعود إلى الشاطئ عوما. أحيانا يتناوم تحت شجرة حتى إذا اقترب منه أحدهم، فاجأه بضربة بالسيف أو العصى ليرى إن كان يمشي متيقظا. كان مزحه خشنا مع الجميع والجميع يحبونه أكثر من حبهم لآبائهم.
هو الذي متن العلاقة بين القبيلة وبين جيرانها من النيليين. صادق كبيرهم وتزوج من إحدى بناته. جدتي لبوك. ثم أهدر عن طيب خاطر أبقاره وأبقار القبيلة في تزويج شباب القبيلة من النيليات حتى بلغ عدد زوجات بعضهم منهن التسة والعشرة. كان يقول خذوا بنات النيليين واعطوهم أبقاركم فأنتم الرابحون. هؤلاء قوم شجعان محاربون بالسليقة. وغدا حين تلد لكم بناتهم، فسوف يكون لدى القبيلة من الفرسان الأقوياء من يجلبون لها أضعاف ما دفعت من أبقار مهرا للنيليات. كان يحتفي بكل نيلية تلد للقبيلة ولدا ويعتني بها. كان يقول إن كل القبائل من دار الفور غربا إلى دار البجة شرقا ستعرف يوما ما بأس فرساننا السمر وتحسدنا عليهم.
وكان، حين يعترض معترض أو يحتج محتج على ضياع نقاء دم القبيلة العربي، كان الشيخ حماد المجدور يسخر منهم قائلا أنهم جهلة لا يعلمون شيئا. من هم العرب؟ أليس جدهم إسماعيل إبن إبراهيم من هاجر النيلية؟
وصدق حدس حماد المجدور. فلم تمض عشرة أو خمسة عشر سنة على انقشاع الوباء حتى صارت سيرة فرسان القبيلة السمر على كل لسان. فقد كانوا لا مثيل لهم في القوة والإقدام. تلك ايام مجيدة كنت شاهدة عليها. استطاعت القبيلة أن تخرج من مثلث الأنهار. استطاعت أن تقاتل وأن تفرض قوتها وسيادتها على الجميع. صار فرسانها السمر يغيرون شرقا فيعودون بالأبقار الحمر والأغنام البيض. ويغيرون غربا فيعودون بالأبقار البيض والأغنام الحمر. صارت كل القبائل، القاصية والدانية، تحسب لنا ألف حساب. لم يعد من قبيلة تتقدمنا وتطأ العشب قبل أن ترعاه أبقارنا إذا نشقت قبائل البدو شمالا في الخريف. ولا من قبيلة تجرؤ على أن تتقدمنا إلى النهر فتعكر ماءه قبلنا إذا عاد البدو جنوبا في الشتاء. جدي حماد المجدور لم يعش ليشهد ما بنى من مجد. مات قبل أن يصير الفرسان السمر ما صاروا. كل ذرية حماد المجدور من بنات أعمامه البدو أفناها الجدري. كل ذريته التي بقيت جاءت من جدتي لبوك بنت السلطان أجاك. أنجبت له من البنين البشاري وهضلول وأبوحوة وموسى وأجاك ودينق. ومن البنات بتول والرضية وفاطمة وسبابا وربابا وأقواك. البشاري وموسى وأجاك ماتوا في غزوات الفرسان السمر. أبوحوة الأسمر كان هو قائد الفرسان السمر. كانت القبائل تسميه الشيطان الأسمر. أذاق كل القبائل الأمرين. كان لا يكاد يعود من غزوة حتى يخرج في أخرى. صار مال القبيلة من الأبقار والأغنام والخيل بلا عدد. ومع كل ذلك فقد مات ذلك الفارس في فراشه. وبموته تولى أمر القبيلة إبنه جدك الشيخ حماد حنكوك في نفس السنة التي تزوجني فيها أبوك. كل المصائب حلت بالقبيلة في عهد جدك حنكوك. جاء الترك وفقدت القبائل هيبتها وعزتها. عانت القبائل حملات الحكومة لجبي ضرائب القطعان وحملات تجنيد الشباب وأخذهم بعيدا إلى حيث لا يعلم أحد. وفي عهده وقعت الفتنة مع الشيخ عيسى الإحيمر وبدأت حروب السنوات الخمس التي أفنت من شباب القبيلة ما لم يفنه وباء الجدري....................................
........... الله يرحمك يا حماد المجدور. لماذا كانت كل تلك التدابير الشيطانية؟ عامدا شئت أن تنشئ قبيلة محاربة عنيفة وعدوانية. دبرت وخططت ونفذت. لا شك إنك كنت تحتقر من أعماقك حياة الدعة والإستقرار. سفك الدماء كان نتيجة محتومة لما دبرت. أردت الإنتقام ولم ترد الحياة ومت قبل أن ترى حصاد ما زرعت يداك. إبنك أبوحوة الأسمر، نصف النيلي ونصف العربي هو من عاش المجد الدموي وصار جزءا منه. وتركتما، أنت وهو، الثمالة المرة لابنه حفيدك حماد حنكوك. جنيت أنت سعادتك الشيطانية وأبنك أبو حوة مجده الدموي وتركتما لحماد حنكوك مواجهة حروب الثأرات. جاءته القبائل لتأخذ منه ما أخذتما أنتما منها. حملتماه ما لا يطيق بشر. وماذا كانت النتيجة؟ عادت القبيلة حقيرة منبوذة ومحصورة في مثلث الأنهار.
ونواصل
| |
|
|
|
|
|
|
Re: حوار: (حامد بدوي) الحائز على جائزة الطيب صالح للإبداع الروائي (Re: Alsadig Alraady)
|
____________________________
Quote: فأنا آخذ قولك (الأدب السردي) على أنه الرواية. فالقصة القصيرة، في رأيّ أقرب لجنس الشعر |
الأستاذ: حامد بدوي بشير
أولاً أبارك لك هذا الإنجاز وبالتأكيد هي إضافة حقيقية للمكتبة السودانية والعربية بإذن الله ، ولكن هل تسمح أن تشرح لي جملتك التي اقتبستها أعلاه؟ فعلى أي أساس اعتمدت في تصنيف جنس القصة القصيرة على أنه أقرب لجنس الشعر؟
| |
|
|
|
|
|
|
Re: حوار: (حامد بدوي) الحائز على جائزة الطيب صالح للإبداع الروائي (Re: هشام آدم)
|
أخي هشام آدم، شكرا على اهتمامك.
قلت لصديقنا الشاعر الصادق الرضي، إني أعتبر القصة القصيرة أقرب لجنس الشعر من جنس الرواية. نعم، فالقصة ببساطة، لا تقوم على رسم عالم متخيل مواز للعالم الواقعي. وإنما هي مثل القصيدة (تسيل) هذا العالم و(تقطره) في دفقات مكثفة بلغة لا تعرف ترف الثرثرة والإطالة الذي تتمتع به الرواية.
نعم كل الاجناس الثلاث، الشعر والقصة والرواية تستخدم اللغة، لكن طريقة استخدام اللغة تجعل القصة في رأيّّ أقرب للشعر.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: حوار: (حامد بدوي) الحائز على جائزة الطيب صالح للإبداع الروائي (Re: عبدالغني كرم الله بشير)
|
__________________________
الأستاذ : حامد بدوي بشير
أشكرك كثيراً على الرد السريع .. وأعتقد أنني أقف من كلامك هذا موقف الرافض له. فمنذ حقباً طويلة جداً والشعر في مماحكة مع أدب النثر وكان الفارق السردي بينهما شديد الوضوح ، وربما وجد اللغويون الراديكاليون فرصتهم في طور أو مرحلة ما من مراحل الحداثة التي استجلبت معها القصيدة النثرية فكادوا أن يشككوا في شعرية هذا الجنس الشعري. ولكن السرد بطوبغرافيته المعروفة لا يمكن أن يعد تحت أي ظرف ولأي مبرر كان جنساً يمكن مقاربته مع الشعر.
بالطبع أحترم رأيك جداً وأحفظ لك أنّك نوّهت في بداية الكلام إلى أنه رأيك الشخصي الذي لا نملك أمامه إلا أن نحترمه وحسب. ولكن النقاش قد يخلق عوالم ومساحات أرحب لكلينا.
أخيراً أرجو أن تقرأ مقالي الذي بعنوان ( نحو رؤية جديدة لفن القصة والرواية ) والذي يحتوي في بعض فقراته على نقاط ذات صلة بالموضوع.
لك خالص الود وتمنياتي لك بالتوفيق والنجاح
| |
|
|
|
|
|
|
Re: حوار: (حامد بدوي) الحائز على جائزة الطيب صالح للإبداع الروائي (Re: حامد بدوي بشير)
|
- كان الشيخ عيسى الإحيمر قد صار رجل الحكومة التركية في الناحية. زودوه بالعسكر والبنادق .......
...... كم أنت حكيم وحاذق يا من ظهرت آخر الزمان. تتجاوز الزعماء وتخاطب الناس فرادى. الناس يعطون والزعامات تأخذ. الآخذون لا ينصرون دعوة.
- ... لم يتعجل الشيخ عيسى الإحيمر إشعال نار الحرب. بعد خلافه الحاد مع جدك حماد حنكوك تركنا عاما كاملا حيارى لا ندري إن كان سيهاجمنا أم أنه قد نسي الأمر. كم كان الإنتظار والحذر مرهقين. في حقيقة الأمر فإن عيسى الإحيمر كان يعد للحرب بصبر وحذق. فقد بدأ منذ لحظة المواجهة الحادة بينه وجدك حماد، طوافا واسعا بكل القبائل. لم يرسل الرسل. وصل بنفسه إلى كل قبيلة تعرضت لغزو الفرسان السمر وسلبهم أموالها وقتلهم رجالها. ذكر الجميع بثأراتهم القديمة. وأقنع الجميع أن ساعة الإنتقام قد أزفت ...........
............. هذا شيطان آخر من السفاحين. آخر له طرق أخرى ودوافع أخرى لإشعال الحروب. ليست مثل طرق أبوحوة الأسمر الهوجاء ولا طرق الزبير الغامضة الأهداف. إنه مثل حماد المجدور، يخطط ويعرف النتيجة سلفا. الخطوة الأولى إثارة حماس القبائل. الخطوة الثانية يتقدم كل مشائخ القبائل بالشكاوى ضد السمر وغاراتهم ويطلبون حماية الحكومة. الحكومة تستشير رجلها في الناحية عيسى الإحيمر، فيعود إليه أمر تدبير الحرب بدعم من الترك. كان الداهية يعرف أن الترك يفضلون أن يكون هناك من يحارب نيابة عنهم. لقد شهدت الزبير وحماد عنقرة وحمدان أبو عنجة يقاتلون العرب والعجم من بحر الغزال إلى دارفور، نيابة عنهم ..........
......... وبدأت المعارك. استطاعوا أن يقتلوا العديد من فرساننا بالسلاح الناري الذي زودت الحكومة به عيسى الإحيمر. جدك حنكوك أسماه حيلة الجبان ورفض تزويد فرسانه به. كان الممسك به يقتل خصمه من بعيد. أي جبان كان يستطيع جندلة أعتى الفرسان وشجاعته في قلبه لم تمتحن في صدام حقيقي. في إحدى المعارك غنم فرساننا خمسا من هذه البنادق. جدك حنكوك أخذها ورمى بها في النهر. قال سوف نريهم حيلة الشجعان. صار حين يريد الهجوم، يجعل فرسانه يسوقون أمامهم قطيعا من الابقار وهم يغيرون ليلا في سرعة خاطفة. عندها يفرغ رجال عيسى الإحيمر المذعورون بنادقهم على الأبقار. وقبل أن يعيدوا حشوها بالبارود، يكون فرسان الشيخ حماد قد اقتحموهم وصاروا وسطهم والتحموا معهم في قتال حقيقي بالسيف والرمح. لكنهم كانوا كثيري العدد. عشرات القبائل المتعطشة للثأر. وهكذا ظللنا نتراجع جنوبا عقب كل معركة. وخلال خمس سنوات وعشرات المعارك أوصلونا إلى هنا. أعادونا إلى حيث بدأنا. مثلث الأنهار حيث واجهنا الفناء أيام وباء الجدري. كان عددهم مهولا وهم يزحفون علينا من ناحية الشمال. أوصى عيسى الإحيمر كل فرسان الأعراب ألا يتركوا ذكرا من قبيلتنا حيا وإن كان عمره يوما واحدا. جدك حماد حنكوك صاح في رجاله قائلا لا يهمكم عددهم. سوف نغلبهم. نحن نقاتل دون أطفالنا ونسائنا وهم يقاتلون طلبا للغنائم. ثم نظم رجاله وسط ساحة الأفيال أول الفجر. جعل الذين يقاتلون على أرجلهم يقفون في دائرة محكمة وجوههم إلىالعدو في كل اتجاه وظهورهم إلى بعضهم البعض. ثم جعل الفرسان راكبي الخيول يقفون في دائرة أكبر تحيط بالدائرة الأولى وجوههم إلى العدو في كل اتجاه وظهورهم إلى رجال الدائرة الداخلية.
وقبل أن تبدا المعركة، وعلى غير توقع، ظهر الفقير الشيخ أبو بكر. ظهر فجأة كأنما انشقت عنه الأرض. كان قبلها غائبا عن القبيلة سائحا لسبعة وعشرين سنة. فقد ترك القبيلة على أيام أبو حوة الأسمر وغزوات فرسانه السمر. قال إن الأموال المنهوبة حرام وأن القبيلة تأكل الحرام. أغلظ له أبو حوة الأسمر في القول فذهب عنا حزينا ...... .......... وياتي مالك الحزين. يقف بعيدا عن جثة الثور، يتفرج على الصقور الصلعاء القوية وهي تتصارع. طويل ونحيف وقنوع وحزين.
- ........ فجأة رآه الجميع. كان هناك طويلا نحيفا وحزينا في ثيابه الناصعة البياض وهو يمسك بيد أرنبا وبالاخرى مسبحته. إلتفت ناحيتنا نحن النساء وقال: أريد بنتا بكرا لم يمسسها رجل بشهوة قط منذ بلوغها وحتى اليوم. برزت له من بنات أسرة الشيخ وحدها عشر بنات تقسم كل واحدة منهن أنها المعنية. إختار من وسطهن فاطمة بنت عمتي أقواك. كانت طويلة وفاتنة. أخذها من يدها وقادها إلى منتصف المسافة الفاصلة بيننا وبين العدو. وضع الأرنب بين يديها واستدار إلي رجالنا وقال بصوت سمعه الجميع: سوف تفلت هذه المبروكة هذا الأرنب. فإذا ركض تجاه العدو فاعلموا أنكم منتصرون عليهم مهما كان عددهم. أما إذا ركض تجاهكم، فليس أمامكم سوى أن تقاتلوا حتى تفنوا عن آخركم ولا راد لقضاء الله. كانت تلك لحظة عجيبة لن أنساها حتى أتوسد الثرى. أمر الشيخ البنت باطلاق الأرنب، سقط الأرنب من يدها على الأرض لكنه لبث في مكانه وكأنه لا يدري في أي اتجاه يجب أن يركض. وانتظر الجمع لحظات كأنها دهور. وفجأة استدار الأرنب ناحيتنا ووقف ينظر تجاهنا يشمشم الهواء. ثم استدار ناحية العدو ووقف ايضا يشمشم الهواء والجمع على الناحيتين ينتظر. وفجأة بدأ يركض تجاههم. شيء غريب يا ولدي كان يحدث في تلك الساعة. فقد رأينا الأرنب يركض دون خوف تجاه جياد العدو المهتاجة حتى اختفى بين أرجلها. أطلقت نساؤنا الزغاريد وسرى الحماس بين رجالنا. أنا كنت حاملا بك في شهري التاسع. أخذتني موجة الحماس الذي فجره الأرنب في القبيلة. أحسست يا ولدي كأنني أرتفع في الهواء. سرت ورجلاي لا تلامسان الأرض. صحت في النساء بصوت قوي مجلجل لا أدري من أين جاءني. هل تقفن هنا تتفرجن على رجالكن وأولادكن وأبنائكن يقتلون دون أن تساعدنهم؟ هل تنتظرن أن يأخذكن عيسى الإحيمر سبايا؟ هل تحلو لكن حياة بعد فناء رجالكن؟ ماذا تنتظرن؟ فلتتسلح كل واحدة منكن، كبيرة أو صغيرة بما يقع في يدها. الفئوس، السكاكين، أعمدة البيوت، حطب الوقود، أي شيء. سنموت مثل رجالنا واقفات مقاتلات أو لنهزمن هذه الشرازم الجبانة. ونجحت. سرى حماسي في النساء. إندفعت كل واحدة منهن تتسلح بما تجد. ثم تقدمتهن وإندفعت مخترقة بهن الدائرة الخارجية من فرساننا راكبي الخيول ثم دائرة مقاتلينا الداخلية. وقفت بهن وسطها وصحت في الرجال بنفس ذلك الصوت القوي الذي لا أدري من أين جاءني: من يجبن أو يتخاذل أو يتراجع سوف تراه كل نساء القبيلة. وإذا تراجعتم جميعا فسوف نقاتل نحن ونرد هؤلاء الجبناء ..............
....... هذه العجوز السوداء لا تزال تعشعش داخلها هي الأخرى نزعة الإحتراب. لم تترك فيها المعركة التي خاضتها مع قبيلتها يوم ساحة الأفيال سوى هذه النشوة التي تبرق في عينيها الآن مع ضوء القمر. حفظت وأبقت على تاريخ القبيلة حيا في قلبها وفي ألفاظها من أجل أن تحافظ على جذوة حب الإحتراب والقتل. لا تزال هذه قبيلة محاربين. كم كنت واهما حين ظننت أنك قد أنسيتها سفك الدماء. أغنيات الحرب ومدائح أبو حوة الأسمر وفرسانه هي أول ما يتعلمه الأطفال من أفواه أمهاتهم وجداتهم. لم تفعل شيئا ياحماد. منعت القبيلة من الترحال والتنازع مع القبائل البدوية الراحلة وراء المرعى ومع القبائل القاطنة من أجل الزرع، لكن الحرب ظلت حية تتقد في ضمير القبيلة. تنتظر اليوم الذي تستطيع أن تنطلق فيه. وها هو المهدي يدعوها للإنطلاق. لن تستطيع أن توقفها. أنت لن تقدر على فعل شيء ..................
- ........... وزحفوا علينا أول الصباح. فرسانهم على الخيول مد البصر في كل اتجاه. صفوف خلفها صفوف خلفها صفوف. كأنهم بلا نهاية. أحاطوا بنا وتقدموا تجاهنا. اصطدمت الموجة الأولى بفرساننا في الدائرة الخارجية فكسرناهم حتى تراجعوا. ثم أتت الموجة الثانية فكسرناها أيضا. لكنهم استمروا يأتون موجة إثر أخرى. صرعوا خيرة فرساننا. أخيرا كسروا دائرة فرساننا واشتبكوا مع مقاتلي الدائرة الداخلية. كان عددهم مهولا فقاتلنا نحن النساء مع رجالنا كتفا لكتف. لم تكن هناك فرصة لالتقاط الأنفاس أو النظر إلى الخلف. وعندما مالت الشمس عن كبد السماء، تراجع الشيخ عيسى الإحيمر بفرسانه. حملوا جرحاهم وحملنا جرحانا. أكلور وشربوا وأكلنا وشربنا. وما أن جاء العصر حتى ركبوا وتجمعنا في انتظارهم. زحفوا وأحاطوا بنا مرة أخرى. كانوا مصممين على إفنائنا. ولم يكن لنا قبلا بهم. إذا قتل فارسنا منهم عشرة، كان يكتشف أن أمامه عشرة آخرين. كنا فقط نرغب في الموت مقاتلين. والإنسان اليائس يا ولدي أشرس في القتال من من صاحب الأمل.
وفجأة علا صوت عميق. صوت آلاف الحناجر ترزم بأغنية نعرفها نحن جميعا ولا يعرفها جيش حماد الإحيمر. إنها أغنية الحرب عند النيليين. وفي تلك اللحظة رأى كل من استطاع أن يختطف نظرة تجاه النهر الشرقي، مئات الفلوكات المكتظة بالمقاتلين النيليين وقد أحالوا بياض ماء النهر إلى سواد. حرابهم مشرعة إلى الأعلى ودرقهم يغطي أجسامهم. عبروا النهر في سرعة البرق وساروا على أرض مثلث الأنهار صفا واحدا طويلا. أوقف فرسان الشيخ عيسى زحفهم علينا وأخذوا يحدقون مذهولين في ذلك الثعبان الأسود الطويل الذي أخذ يلتف حولهم في دائرة عظيمة مصدرا تلك الترنيمة الرهيبة. تلك كانت مفاجأة لم تخطر على بال أحد. وأخذت دائرة مقاتلي النيليين تضيق على فرسان القبائل. فجأة وجدوا أنفسهم محصورين بين عدوين. وخرج فرساننا يهاجمونهم وقد قوي عزمهم بتدخل مقاتلي النيليين. عندها صار المقاتل منهم لا يستطيع إلا أن يسترق النظر إلى الخلف أثناء قتاله رجالنا. وعندما مالت الشمس تجاه المغيب كان حماسهم قد انهار وصاروا يتخبطون في القتال. وبعد قليل بدأت نظرات الرجال الأقل شجاعة بينهم تزوغ بحثا عن مخرج من المأزق. البعض بدأ يتحرك بذعر باحثا عن ثغرة للخروج رغم صياح عيسى الإحيمر. ثم أخيرا بدأوا الفرار. والخوف يا ولدي يعدي. فلم نلبث حتى رأينا فرسان النيليين أمامنا وجها لوجه وقد انجلى العدو وغاب. أخلوا أرض المعركة مخلفين جرحاهم وقتلاهم. سلطان النيليين قال لأبيك فيما بعد أنه قد تعمد ترك ثغرات ليفر منها من شاء من مقاتليهم ....................
........... قبائل تتعارك. كل معركة هي إضافة جديدة لتاريخ القبيلة ..... بلا معارك هي بلا تاريخ ...... لدى هذه البدوية السمراء، فإن تاريخ هذه القبيلة قد توقف عند معركة ساحة الأفيال .... تاريخ القبيلة ينتهي بنهاية آخر معاركها ..... هذه قبيلة توقف تاريخها منذ خمسين عاما وهي لا تزال تتوق لمواصلته ... خمسون عاما وهي تتوق للخروج والقتال وأنت غافل عن ذلك أيها الشيخ التعس الواهم ..... جني حبسته أنت في قمقم خمسين عاما وجاء اليوم من يفتح القمقم
- ...... في ذلك اليوم قتل جدك حنكوك شيخ القبيلة وخرج أبوك جريحا. وما كادت شمس ذلك اليوم تغيب حتى جاءني الطلق ووضعتك أول الليل. أبوك قال أسميناه حماد، على جدوده حماد المجدور وحماد حنكوك عسى أن يكون مثلهما فينهض بهذه القبيلة من جديد .........
ونواصل
| |
|
|
|
|
|
|
Re: حوار: (حامد بدوي) الحائز على جائزة الطيب صالح للإبداع الروائي (Re: حامد بدوي بشير)
|
الأستاذ هشام آدم،
لقد رجعت لمقالتك (نحو رؤية جديدة لفن القصة القصيرة) وقد استفدت منها كثيرا.
وواضح انك تتحدث عن القصة والرواية كجنس واحد فهما يأتيان في مقالتك مقرونتين باستمرار بحرف العطف - الواو - وأنت تفرق فقط بينها، من جهة وبين الحكاية من جهة اخرى.
أسمح لي أن اختلف معك في ذلك إذ إنني أرى ان القصة القصيرة هي جنس قائم بذاته ولكنه أقرب للشعر من الرواية.
فالرواية تكشف عن عالمها المتخيل من خلال مستويات متععدة من الوعي . مستويات متفقة ومتعارضة ومتصارعة احيانا. وكذلك من خلال حشد من الشخوص وعدد من الأحداث التى تنتظم في شمولية تاريخية وجغرافية وإجتماعية من نوع ما له وشائج واقعية في معظم الحالات.
أما الفصة القصيرة، فهي مثل الشعر تعمل على تكثيف الوعي بالعالم من خلال أثر العالم على الذات القاصة أو الشاعرة مع تكثيف للحدث من خلال توطينه جغرافيا داخل الذات أيضاوهنا تصير الاحاسيس الإنسانية مسرحا بديلا تتجلى عليه فعالية الحدث والفكرة وكثافة العالم.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: حوار: (حامد بدوي) الحائز على جائزة الطيب صالح للإبداع الروائي (Re: حامد بدوي بشير)
|
........... نعم ..... مثل حماد المجدور، ليواصل تاريخ الحروب وسفك الدماء .... لا .... ليس أنا .... أنا غريب عن هذه القبيلة التي لا تحيا إلا بالدم .... هي تتوق للخروج والنزوح والحرب ..... أنا أتوق لشيء مختلف .... ليس أنا .... ربما إبني أبو حوة .... هذا الفتى ينزع لما تنزع إليه هذه القبيلة ... منذ صباه نزاع للقتل ... صار صيادا .... قتل أسدا بمساعدة كلابه فقط .... كان هذا قبل أن يكتشف لعبته .... البندقية ..... كم كان منفعلا حين جاء ذلك المسافر على جمل يعرض بندقية للبيع ..... خشيت أن يموت لو لم أوافق على شرائه البندقية ....... صارت عشقه ومحور حياته .... صار ماهرا في استخدامها لحد مدهش ......
حين عاد الشيخ حماد يسمع ويعي ما يسمع، كانت أمه تترنم بقصائد الهدايين والحكامات التي تمجد يوم ساحة الأفيال وفعائل فرسان القبيلة فيه. انتظر حتى انتهت من تلاوة أمجاد أهلها قبل أن يتحدث. وحين تحدث كان كمن يتأمل وليس كمن يخاطب.
- كنت أذهب مع أبي لاستقبال صديقه الزبير ود رحمه حين ترسو مراكبه كل عام قادمة من الشمال. والزبير كان لا يغادر مراكبه فيضطر أبي لاستضافته على شاطيء النهر. يذبح له ولرجاله الذبائح ويكرمهم. كانت مراكبه تبقى حين تجيء لثلاثة أو لأربعة أيام حتى تتمكن القبيلة من شراء ما تحتاج من السكر والشاي والبن والتمر والملح والقماش. كانت اخبار الزبير قد عمت أرجاء البلاد. فقد أشعل المنطقة غرب مثلث الأنهار حروبا. وحروبه كانت من نوع فريد. فهو لا يقود قبيلة تمتهن الغزو وتسعى لزيادة مالها وجاهها أو توسيع مرعاها. كان يبتكر نوعا جديدا من الحروب لم يألفه الناس. ومع ذلك لم يكن يسعى لحكم البلاد أو منازعة الترك سلطانهم. والرجال الذين كان يقودهم لم يكونوا من أهله وعشيرته. كانوا مثل عسكر الترك. يحتار المرء في سبب اتباعهم له. يخرج بهم من حرب ليرمي بهم في أخرى. إذا رأيت إخلاصهم حسبتهم رجال قبيلته. وإذا رأيت طاعتهم حسبتهم عبيده. كنت دائما أذهب مع أبي لاستقباله حين ترسو مراكبه هنا. أسود البشرة طويل نحيل كأنه من النيليين. جذب انتباهي من رجاله حمدان أبو عنجة. كان في مثل سني أو يكبرني قليلا. صرنا صديقين. كثيرا ما كنا نترك الزعيمين يتحادثان ونذهب نتحادث بعيدا عنهما. وفي جميع لقاءتنا، فشل حمدان أبو عنجة في إقناعي بجدوى أو مغزى الحروب التي يخوضها مع الزبير. ونحن نودعهم، في نهاية إحدى زياراتهم، تقدمت من الزبير نفسه وفاجأته بالسؤال. لماذا تشعل الدنيا حروبا وأنت بعيد عن ديار أهلك وعشيرتك؟ لأي شيء تسعى؟ انزعج أبي لوقاحتي ولم ينزعج الزبير. أجابني بهدؤ من كان يتوقع السؤال. تبسم وقال: أسعى لاستتباب الأمن. أنا أحارب قطاع الطرق واللصوص وأفرض النظام. سألت ودهشة أبي تتسع، من أوكل إليك ذلك؟ قال، وابتسامته لا تزال في مكانها، مصالحي، تجارتي، ثم قفز بنشاط إلى مركبه. وكان حمدان أبو عنجة يقهقه ....
والآن يطل عهد جديد من الاحتراب والنزوح والويلات. حروب من نوع جديد. ليست حروبا قبلية مثل حروب أبوحوة الأسمر، وليست حروبا تجارية مثل حروب الزبير. إنها حروب من نوع ثالث، سوف تكون الحروب القبلية والتجارية بإزائها لعب أطفال. إنها حروب الدين والدولة. من يشارك فيها هالك ومن لم يشارك فيها هالك. انتبه الشيخ حماد على نبرة أمه الحادة وهي تعلق على تأملاته المسموعة: - لو لم تكن ولدي وتربيتي، ولو لم تكن سليل السمر، لظننتك خائفا من الحرب.
ثم ارتخت نبرة صوتها. تحولت من مقاتلة إلى أم:
- لماذا كل هذه الحيرة يا ولدي. الأمر واضح لا يحتمل التردد. ما عليك سوى أن تبادر إلى المهدي وتضع يدك في يده. إنها فرصتك تأتيك للتخلص من تسلط محمود الإحيمر وجور الترك. هزمنا أباه عيسى الإحيمر يوم ساحة الأفيال، ومع ذلك لا يزال يتحكم فينا مسنودا بالترك. لقد أطاعتك القبيلة على مضض ورضيت أن تقبع مسجونة في مثلث الأنهار. قلت أن الخروج من المثلث معناه الدخول في المعارك مع محمود الإحيمر ومن ورائه الترك. أطاعتك القبيلة على مضض، خاصة الهضاليل. ما هو عذرك الآن؟ أزفت الساعة ولا بد من الخروج. جاءنا الآن من هو قادر على محاربة الترك، أسياد الإحيمر الذين يعتمد عليهم للسيطرة على القبائل. ويجب ألا تنسى الهضاليل. إنهم دائما بالمرصاد. دائما يتحينون الفرص. لا تعطهم فرصة شق القبيلة إلى نصفين. منذ وفاة جدك حماد حنكوك وهم ينازعون في أمر الشياخة.
- الأمر أكثر تعقيدا مما تظنين يا أمي. حرب الترك وطردهم ليس قتالا ينتهي في ليلة أو شهر أو سنة. أنها حرب طويلة الأمد إذا بدأت لا يعلم إلا الله متى تنتهي. لابد لمن يبدأ حربا كهذه أن يواصلها لسنوات طوال حتى يخرج الترك إلى حدود مصر. حين ندخل هذه الحرب مع المهدي، ولا مفر من ذلك، فلابد من أن ينسى الرجال الأسرة والقبيلة والديار. ما أفكر فيه، ما يجعلني أتردد هم النساء والأطفال وكبار السن. ماذا سيحل بهم حين يذهب الرجال ولا يعودون؟ ولا تظني أن الدنيا تبقى هي الدنيا بعد اشتعال الحرب. سوف يتعرض من يتبقى من القبيلة لغارات السفلة وقطاع الطرق واللصوص والجند الفارين من لظى المعارك. من سيدافع عن النساء والأطفال والعجزة؟ هذا هو سبب حيرتي يا أمي. - حسنا. اترك الحيرة وافعل شيئا. إقتل القلق بالحركة. من الصباح الباكر سوف تسافر إلى حيث هذا الرجل، المهدي. قابله وانظر أي نوع من الرجال هو. أنظر أن كان قادرا على حرب الترك أم مجرد درويش لا يدري ما يفعل. قابل شيوخ القبائل الذين تجدهم هناك. تشاور معهم. بعدها تستطيع أن تقرر.
- هذا هو الرأي الصائب يا أمي. لن أتخذ قرارا حتى أرى الرجل وأسمع منه وأقابل شيوخ القبائل الأخرى من الذين أجدهم عنده والذين أمر بهم في طريقي إليه
| |
|
|
|
|
|
|
Re: حوار: (حامد بدوي) الحائز على جائزة الطيب صالح للإبداع الروائي (Re: Alsadig Alraady)
|
الصديق عبدالغني كرم الله لك بازخ المودة ولك الشوق. شكرا للحضور والمشاركة.
الصديق هشام آدم الصديق حامد بدوي سعدت جدا بالحوار الذي دار بينكما علي هذه المساحة، كنت أرجو- ولا زلت- أن تثير قراءة الحوار أسئلة ومداخلات مختلفة خصوصا وأن قدرا لا يستهان به من الكتاب والنقاد والصحافيين بين ظهرانينا، مثلهم مثل صديقنا حامد بدوي، وهي فرصة نادرة لمناقشته حول تجربته وأفكاره المطروحة هنا، ومما يحفز على الحوار والمناقشة المرتقبة نشر فصل من الرواية على هذه المساحة شكرا لكما مجددا ولا يزال باب الحوار مفتوحا..
| |
|
|
|
|
|
|
Re: حوار: (حامد بدوي) الحائز على جائزة الطيب صالح للإبداع الروائي (Re: Alsadig Alraady)
|
___________________________
بكل تأكيد يسرني أن أختلف معك أخي حامد البدوي .. فأنت ترى أن القصة والشعر لديهما ما يلتقيان حوله ويتشابهان فيه ، بينما ما زلتُ مقتنعاً بأن السرد له مميزاته وسماته التي تختلف بشكل كبير وواضح عن أي نوع أو جنس أدبي آخر. وعندما أقول السرد فإنني بالضرورة أعني أي جنس أدبي لا يعتمد على الإيقاعية ولا على الجرسية الموسيقية. فالقصة سرد ، والرواية سرد ، والخاطرة سرد إن تخلصت من موسيقاها التي تفلت من بين أنامل كاتبها أحياناً.
وأقول أنه يسرني ذلك لأنني أعلم أن هذا الاختلاف اختلاف جميل ورائع ومثمر بلا شك.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: حوار: (حامد بدوي) الحائز على جائزة الطيب صالح للإبداع الروائي (Re: هشام آدم)
|
__________________________
شاعرنا الجميل ... الصادق الرضي
هل تصدّق أنني لم أستطع قراءة اسمك باللغة الإنكليزية بشكل جيّد ولم أهتم لذلك. وتعجبّت كثيراً عندما عرفت أنّك أحد أعضاء هذا المنبر ما أشعرني بسعادة غامرة بحق. ربما – يا صديقي – لا تتذكرني ، ولكننا تلاقينا في جامعة الخرطوم ذلك يوم وتعاطينا الشعر والأدب في إحدى غرف داخليات البركس. لا أذكر في أيّ عام كان ذلك، كما لا أذكر في أيّة داخلية على وجه التحديد أو من كان حضوراً معنا وقتها، ولكنني ما زلت أذكر بعض اللمحات الجميلة عن هذا اللقاء الذي لا أعتقد أنه قد كان طويلاً بكفاية أن تتذكرني بعد كل هذه السنوات.
عموماً اسمح لي أن أرحب بكل – بخجل بالغ – وأن أحيّيك على ما تقوم به في خيط الثقافة السودانية.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: حوار: (حامد بدوي) الحائز على جائزة الطيب صالح للإبداع الروائي (Re: هشام آدم)
|
الأستاذ هشام آدم،
لك التحية.
نعم الإختلاف دائما جميل لأن الإختلاف أساس الحوار والحوار هو الغاية والوسيلة معا لخلق مناخ ثقافي وتراكم كمي ونوعي في بناء أية حركة ثقافية. وهناك قول شائع ينبعث عن الإحباط السياسي الذي ظل يعيشه المواطن السوداني منذ استغلال البلاد قبل نصف قرن. إنهم يقولون لك أن آفة السودانيين في الإختلاف. إنهم لا يعرفون كيف يتفقون. وهذا في رأيي وضع للعربة أمام الحصان. فالصحيح أن نقول أن السودانيين لا يعرفون كيف يختلفون.
لا زلت على رأيي من ان القصة القصيرة أقرب في بنيتها ورسالتها التي تسعى لتوصيلها واستخداماتها للغة، للشعر منها للرواية. والرواية من حيث نزوعها للشموليات، تستخدم تكنيكات الشعر والقصة في الجانب الادائي كما تستخدم التاريخ والجغرافيا والإجتماع في توصيل رسالتها. ومن هنا أرى أن علاقتها بالقصة هي مثل علاقتها بالشعر.
إدوارد الخراط وحساسيته الجديدة يكاد يكتب الرواية شعرا خالصا. وفي مريود شعر. لكن كل ذلك يأتي جزءا من البناء الكلي للرواية ومندغما في جسدها.
أما القصة فهي جنس آخر وهو في اعتقادي أكثر استقلالية وكثافة وعمقا من الرواية. فالمعطى في القصة معطى وجداني داخلي. بينماهو في الرواية معطى عام وجماعي تماما.
| |
|
|
|
|
|
|
|