دعواتكم لزميلنا المفكر د.الباقر العفيف بالشفاء العاجل
|
Re: بعض من مقالات الطيب صالح الجميلة.. (Re: مدثر محمد عمر)
|
في تذكر نجيب محفوظ الطيب صالح 15/09/2006
رحم الله نجيب محفوظ .. عاش أربعة وتسعين عاما، وكتب أكثر من خمسين رواية ومجموعة قصصية. أمهله، القدر حتى أكمل مشروع حياته وبلغ الذروة في عطائه، وضع لنفسه ولأمته مجداً شامخاً باذخاً. كان أكثر ما يعجبني فيه النظام الصارم الذي ألزم نفسه به. يصحو في موعد محدد، وينام في موعد محدد. يؤدي عمله الوظيفي – وكان دائما يعمل في وظيفة رسمية – ويجلس للكتابة كل مساء في وقت محدد. يقابل أصدقاءه ومديريه، ويتسكع في حارات السيدة زينب والحسين التي عرفها وارتبط بها. نذر نفسه كلية للكتابة، طوال أيام الأسبوع إلا يوماً واحداً، كما نعلم من أصدقائه المقربين أمثال الأستاذ رجاء النقاش، والأستاذ جمال الغيطاني، كان الأستاذ نجيب يفرغ نفسه للكتابة عدداً محدداً من الساعات، أي إنسان جرب صناعة الكتابة، يعرف كم هو مؤلم وممض هذا النضال اليومي مع عالم التصورات والأفكار. لا يوجد في الأدب العالمي كله، فيما أعرف، كاتب نذر نفسه للفن وجعل حياته كلها وقفاً عليه، إلا كاتب واحد، هو الروائي الفرنسي (بلزاك) الذي كان يوصف بأنه (ماكينة كتابة). لذلك لم يكن عجيباً أن الناقد العربي النابغة الراحل إدوارد سعيد، شبه نجيب محفوظ ببلزاك، وأضاف إليه فلوبير وتشارلز دكنز. بلزاك ودكنز احترقا مبكراً في محراب الفن وماتا في أوائل الخمسينيات من العمر. كانت حياة كل واحد منهما فوضى. بلزاك لم يتزوج ولم ينجب. وشارلز دكنز عاش حياة عاطفية ممزقة كل واحد منهما دفع ثمناً باهظاً للإنتاج العظيم الذي تركه. وفي الأدب العربي المعاصر، يخطر على بالي ثلاثة كتاب، كان كل واحد منهم عظيم الموهبة لكنه لم ينتج بالقدر الذي بشرت به موهبته. الكاتب الأول هو الراحل/ محمود المسعدي التونسي. كان في تقدير أغلب العارفين ذا موهبة عظيمة، لكنه لم يشأ أن يدفع الثمن الذي يقتضيه الفن، ودخل في معترك السياسة والحياة العامة في تونس، وتوفي عن أكثر من تسعين عاماً، ولم يترك سوى أربعة أو خمسة أعمال. الثاني هو الكاتب المصري الراحل/ يحي حقي. كان نادر الموهبة. لكنه اختار ألا يلتزم بالفن التزاما كاملاً، ويستجيب لندائه استجابة قاطعة. كاتب يكتب حين يحلو له. كتب أشياء قليلة نسبياً لكنها عظيمة الجمال، وعاش حياة خصبة متنوعة النموذج. الثالث هو الراحل/ يوسف إدريس. كان بإجماع الناس، صاحب موهبة عظيمة. لكنه لم يحسن استغلالها وبدد جزءاً كبيراً منها في حياة لم تخل من الفوضى والتهور. ورغم ذلك ترك وراءه إنتاجاً وإن كان قليلاً نسبياً، فهو إنتاج فيه سمات العبقرية. إنني التقيت بالراحل/ نجيب محفوظ مرة واحدة، وكان ذلك في القاهرة أوائل الستينيات. التقيت به في ندوة (الحرافيش) الشهيرة. كانوا يجتمعون مساء كل خميس، كما أذكر، في دار حسن كامل – إذا لم تخني الذاكرة – كان كاتباً موهوباً. ولكنه ترك الكتابة بعد عملين أو ثلاثة وتفرغ لمهنة المحاماة. ذهبت مع (منسي بسطاوروس)، وخطر لي فيما بعد أن (منسي) كعادته ربما قد ذهب إلى ندوتهم متطفلاً، واقتحمها عليهم اقتحاما. كان صديقه من الموجودين الراحل/ صلاح جاهين، وكان أكثرهم تلطفاً معنا وحفاوة بنا. وكانوا كلهم في الواقع لطيفين كرماء، لكنني أحسست أنهم لم يكونوا على سجيتهم تماماً. كان ذلك الوقت في مصر، في الستينيات، زمن توجس وحذر وارتياب، وكنت أنا أعمل يومئذ في هيئة الإذاعة البريطانية، ولم أكن معروفاً بأنني كاتب إلا لقلة من الناس في مصر. وكان (منسي) قد عاد إلى القاهرة من لندن منذ وقت قصير ووجد لنفسه عملاً في الجامعة الأمريكية. كان يتعمد الحديث بلغة إنجليزية متقعرة، ويسعده جدا أن يثير الشكوك حول نفسه ولا يبالي حتى إذا قيل أنه جاسوس. كانت مجموعة صغيرة أذكر منهم غير صاحب الدار والأستاذ نجيب محفوظ والأستاذ صلاح جاهين، أذكر الممثل الشهير أحمد مظهر. كان يوجد شخصان آخران ضاع مني اسماهما. أجلسوني كرمأ منهم، بجوار الأستاذ نجيب، إذ أنني كما قلت لم أكن كاتباً معروفاً. وكان (منسي) واقفا طول الوقت، يتحدث بلهجة خطابية، بالعربية أحيانا، وبالإنجليزية في أغلب الأحيان، كان يثير شغباً عظيما ويريد، كما هو واضح أن يترك أثرا قوياً. وكان الأستاذ نجيب قليل الكلام. الشخص في تلك المجموعة الصغيرة، الذي كان يعرف (منسي) أكثر ويحبه، وعارف للعبة التي يلعبها (منسي) كان صلاح جاهين أنا أيضا كنت أعرف صلاح جاهين، بقدر أقل من (منسي)، وقد عرفته أكثر فيما بعد وأحببته. أردت أن أستفز الأستاذ نجيب للكلام، وكنت قد قرأت لتوي روايته (اللص والكلاب). قلت له إنني أعجبت بها، ولم يبد عليه أنه اهتم كثيراً لقولي، كما ظننت. قلت له إنها ذكرتني بمسرحية (هاملت) لشكسبير. أجابني فوراً بشيء من الحزم، وكأنه استيقظ من غيبوبة: (أزاي بقى؟ دي كلها أكشن. هاملت ما فيهاش أكشن خالص). وقبل أن أقول شيئا، سارع (منسي) فالتقط خيط الكلام، وأعطاهم محاضرة عن أن (هاملت) مليئة بالأكشن. وكان يتحدث باللغة الإنجليزية في الغالب، ويضرب أمثلة من مسرحية شكسبير، بعضها حق وبعضها باطل. ولما أطنب وأطال والأستاذ الكبير نجيب محفوظ صامت لا يقول شيئا، قال له صلاح جاهين بلطفه المعروف: (إحنا مش قد الإنجليزي دا كله يا دكتور!). وهكذا أضاع عليّ منسي متعة الاستماع إلى الأستاذ الكبير في تلك الليلة التي لم تتكرر لسوء الحظ، والأستاذ نجيب كما يقول كل من يعرفونه محدث بارع وصاحب طرافة ونكتة. إنني، بما في طبعي من الحياء، غلب علي الحرج، إن (منسي) فرض نفسه وفرضني على أولئك القوم الكرام في خلوتهم، مثل الضيوف المتطفلين الذين يصفهم الجاحظ في كتابة (البخلاء). أما (منسي) فلم يكن يبالي. كان يحس أن له دعوة مفتوحة على مائدة الحياة، أينما تكون وعند من تكون.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: بعض من مقالات الطيب صالح الجميلة.. (Re: مدثر محمد عمر)
|
درعُ أبى العلاء الطيب صالح 23/08/2006
يمضي الشيخ العتيد، في عبثه الممتع المفيد، وكأنّي به جالساً القرفصاء وقت الضحى، في داره المتواضعة في المعرّة، يُملي على أحد تلاميذه، وعلى وجهه السّمح المنبط، أبتسامة ماكره، وفي قلبه إحساسٌ دافئ بالسعادة كالذي يحشُّه الطفل الذكي وهو يعالج لعبة هندسية معقدة. قال رحمه الله وهو يمعن متلذذاً في وصف الدرع: ماذيّةٌ هَّم بها عايلٌ من القنا لا عاسلٌ من هُذَيْل دقّت وما رقّت ولكنّها جاءت كما راقك ضَحْضاح فميْل ها هو ذا الشيخ قد أنتشلنا من السّيل الذي أزعج الضب وزوجتّه وابنه، وقذف بنا في بلاد هُذيْل. فسّر الشرّاح أن الدرع الماذيّه هي البيضاء، وأن العسل الماذيّ هو العسل الأبيض. والعاسل الأول محارب يستهدف الدرع ولا بسها. والعاسل الثاني يجمع عسل النحل في بلاد هُذيْل، وكانت مشهورة بذلك. والمقصود هنا هو العاسل المحارب لا الذي يجمع العسل. والفيْل هو الماء الضحل. هذا وقبيلة هُذيل اشتهرت بكثرة شعرائها المجيدين، ومنهم أبو كبير الهُذلي الذي قال: ولقد وردتُ الماء لم يشرب به بين الشتاء إلى شهور الصيِّف الاّ عواشَلُ كالمراط معيدةٌ باللّيل موْردّ أيِّم مُتَفضِّف. والعواسل هنا، هي الذئاب، واحدها عاسل. وأبو كبير، يصف ماء آنا مهجوراً، لا ترده إلاّ الذئاب بالليل، وقال في أبيات تلى هذين، أنه عافه ولم يشرب منه، رغم شدّة ظمئه. وكانوا يعدّون الصبر على الظمأ خاصة، من علامات الرجولة، كما قال أبو الطيّب: وأظمى فلا أُبدى إلى الماء حاجةً وللشمس فوق اليعْمّلات لعابُ. ثم يمضى أبو العلاء، فيصف أن الدرع رغم رِقتها فإنها صلبة قوية، وأنها ناعمة مثل ماء ضحل. وقالوا إن الفيل هو الماء الذي يجري بين الشجر. ثم يقول: فمن لبِسطام بن قيس بها ذخيرةً أو عامر بن الطُّفْيل فارسها يسبح في لجة من دجلة الزرقاء أو من دُجَيْل. تصوّر فارساً، لأنه يلبس هذه الدرع، كأنه يسبح في ماء دجله أو الفرات. وقد أمعن أبو العلاء في تشبيه الدرع بالماء الجاري لنعومتها. ودجيْل، تصغيردجلة هو أحد النهرين، دجلة والفرات. وفسّر الخوارِزْمي، أن بِسطام، بكسر الباء، هو بسطام بن قيص فارس بكر، وكان من فرسان العرب المعدودين في زمانه. وقتله عاصم بن خليفه الضبّى. وكان عامر بن الطُّفيْل من أشجع أهل زمانه وكان يُلقّب بمُلاعِب الأسِنّة. وهو القائل: وإنى وإن كنت ان سِّيد عامرٍ وفارسها المشهور في كل موكب فما سوّدتْني عامرٌ عن وراثةٍ أبى الله أن أسمو بأم ولا أب وكان حين يجتمع الناس للموسم بعكاظ يرسل منادياً ينادى في الناس: "هل من راجل فأحمله؟ أو جائع فأطعمه؟ أو خائف فأؤمِّنْه؟" ويقول أبو العلاء إن هذين الفارسين المعُلّميْن، لو كانت لهما مثل هذه الدرع، لما قتلا كما حدث لهما. ثم يقول: أعدّها الشيخ معَدٌّ لما يطرقُه من لفّ خيلٍ بخيل كانت لهودٍ عُدّةَ قبلَ أديان يهودَ حدّثت من قُبيْل الشيخ معد، بفتح العين أو سكونها، هو ابن عدنان، من آباء العرب الأولين وكان مشهوراً بالذكاء وحدة الذهن والتقشف في المعيشه. وقول أبى العلاء (من لفّ خيل بخيل) يشير إلى قول الفرار السُّلمى: وكتيبةٍ لبَّسْتُها بكتيبةٍ حتّى إذا التبسْ نفضتُ لها يدي. قال الشارح (وهذا من فصيح الكلام وبديعه). وهو كذلك لعمري. وقول أبى العلاء (لفُّ خيلً بخيل) غايةً في الحُسن أيضا. أراد أبو العلاء أن الشيخ معد، أعد هذه الدرع لحروبه حين تلتف الكتيبة بالكتيبة في غمار المعارك. وكانت قبله عند هود الذي جاء ذكره في القرآن الكريم، وقد سبق ديانات اليهود. وكلمة قبيل، تصغير قبل، ثم يقول: تُعلَّم الزُّمْيلً ضرب ابن دارة المنايا كسجايا زُمَيْل. وقال الخوارزمى: "الزّميْل هو الرَّذْل الجبان. وابن داره هو سالم بن دارة، ودارة اسم أمه، سميت بذلك لجمالها تشبيهاً لها بدارة القمر، وكانت من بنى أسد. وابن داره من ولد عبد الله بن غطفان بن سعد. وكان هجا بعض بني فزارة هجاء فاحشاً، فقتله زُميل بن ابير وقال مفتخراً: أنا زمْيلٌ قاتلُ ابن داره وغاسلُ المخزاة عن فزارة. يقول أبو العلاء رحمه الله، أن رجلاً تافهاً صادف اسمه وصفه (زميل) جرَّأته هذه الدرع على قتل رجل شريف هو ابن دارة، وأن تلك عادة المنايا، تأخذ الشريف وتترك الرَّذلَ الزّميل.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: بعض من مقالات الطيب صالح الجميلة.. (Re: مدثر محمد عمر)
|
أبو العلاء وعقيل الطيب صالح 01/09/2006
لبس الرجل تلك الدّرع المُحْكمَة النسج الليّنة الملمس، فوجد في نفسه القوة والشجاعة والإقدام، وأخذ يضرب في الأرض يطلب الكسب لزوجه وعياله، قال أبو العلاء: أُسِيل مَآقَ العِِِيسِ في أكحلٍ تنضح ذِفْراها بمثل الكُحيْل عن نفَلٍ أسأل أو حَنْوة سؤالَ مُزجى فيله عن نُفيْل والمرءُ يحتالُ ويفتالُ ما عاش ويأتال بقصْد وميْل قال الشارح إن الإبل إذا تعبت من شدّة السير، تسيل مآقى عيونها بدمع إذا جفّ صار أسود مثل الكُحيل أي القطران، بعكس الخيل التي إذا جف دمعها صار أبيض، وقوله (في أكحل) أي بحثاً عن نبات أخضر. وفسر الخوارزمي أن النّفَل ضرب من الشجر والحنوة بفتح الحاء المهملة نبت طيب الرائحة. ونفيل تصغير نفل وهو أيضا نفيل بن حبيب سيد خثعم وكان دليل أبرهة الحبشي حين سار بالفيلة نحو الكعبة ليهدمها. والمرء يحتال، من الحيلة، ويفتال من الفيل، ويأتال، من آل يئول، إذا ساس، كل ذلك طلباً للرزق والفلاح والسؤدد لعياله.وقد أوضح الشاعر أكثر في قوله: والودُّ غرّارٌ ونجوى عليّ ولديه غير نجوى كُميل. عليّ هو ابن أبى طالب رضي الله عنه.وكان كميل بن زياد النّخعي من أصحابه المقرّبين، قتله الحجّاج بن يوسف.ويقول الخوارزمي في شرح البيت أن الإنسان مشغوف بأبنائه لا ينزل أحداً منزلتهم ولذلك تراه أبداً يسعى لهم بجد واجتهاد.ويضيف الشارح: (كأنه قال هذه اللّاميّة على لسان رجل قام على نفقة عياله). ربما ذلك، أو ربما اشتاق أبو العلاء للزوج والأبناء! من حبّ عبد الدّار ما أبعدت حبّي أخاها عن وصايا حُليْل هذا البيت يختصر قصة عجيبة في حبّ الآباء للأبناء، والقصّة تتعلّق بسدانة الكعبة في الجاهلية.كانت لخزاعة وكان سيد خزاعة حليْل بن حبيْشة.وكانت ابنته حبّى متزوّجة من قصيّ بن كلاب من سادة قريش ولها منه أبناء منهم عبد الدار ابن قصيّ. لمّا حضرت حُليْل بن حبيشة الوفاة أوصى بحجابة الكعبة إلى ابنه المحترش وكان غائباً، وأعطى المفتاح إلى ابنته حبى وأوصاها أن تسلمه إلى أخيها المحترش وأشهد على ذلك رجلاً يدعى أبا غبشان الملكاني وابنها، حفيده عبد الدار بن قصي. فلما رأى قصي أن حليلاً قد مات، وكان أبناء حليل غيباً عن مكة لوباء أصابهم، طمع قصي أن يجعل سدانة الكعبة عند ابنه عبد الدار، وأخذ يلح على زوجته حبى وكانت هي أيضا تميل إلى أن تعطي السدانة لابنها عبد الدار. فقالت لزوجها قصي: كيف أصنع بأبي غبشان وهو وصي معي وشاهد علي؟ فقال لها زوجها قصيّ:- (سوف أكفيك أبا غبشان.سوف أحتال عليه وأرضيه حتى يكتم ذلك ويخبر الناس أن حليلاً أوصى بسدانة الكعبة إلى ابن ابنته عبد الدار). وكذلك فعل قصي مع أبي غبشان وأعطاه ثياباً وأبعده فقبل.وقال الناس (أخسر من صفقة أبي غبشان) فسارت مثلاً. وقال شاعر في ذلك: أبو غُبشانَ أظلمُ من قصيّ وأظلمُ من بني فِهْرٍٍ خُزاعة فلا تلْحوْا قصيّاًً في شِراه ولوموا شيخكم إذْ كان باعه. قال أبو العلاء رحمه الله: والدهرُ إعدامٌ ويسرٌ وأبْ رامٌ ونهارٌ وليْل يُفني ولا يَفنَى ويُبلي ولا يبلى ويأتي برخاء وويل يُدعى الفتى ضبّا وفيه ندى وواهباً وهو عديم لنََيْل بعد أن تكون ظننت أن أبا العلاء قد فرغ من القصيدة وختمها ببيتين عن الدهر وتقلب أحواله، إذا هو يفاجئك أنه يعود إلى لعبه وجده الذي يشبه المزاح.ويأبى إلا أن يذكرك بالضب الذي بدأ به القصة، هو وحسيله وأم الحسيل! يخبرك أن الفتى قد يسمى (ضبا) وكانوا يسمون أبناءهم بأسماء الحيوانات.والضب يكره الماء وينفر منه.إنما هذا الضبّ الآدمي، ففيه ندى، أي أنه كريم، والندى أصلاً من الماء.والآخر أسمه واهب وهو في الحقيقة بخيل.ثم يقول: إن كليباً كان ليث الشرى والهجرس الخادر من غير فيل كليب هو سيّد وائل الذي حرم مواقع القطر وأجار القبرة التي بسببها اشتعلت حرب البسوس نحو أربعين عاما.وكان يضرب به المثل في العزّة والمنعة فكان يقال (أمنع من كليب وائل).ورغم ذلك كان اسمه كليب وهو تصغير كلب. والهجرس تعني الثعلب، وهو اسم ابن كليب، الذي نشأ في كنف خاله جساس بن مرة، ولما كبر وعلم أن خاله هو قاتل أبيه، قتله أخذاً لثأره. كم ظبية في أسد تعتزى وجاهل منتسب في عقيل هي ظبية لكنها بنت أسد، وهو جاهل لكنه من عقيل.وأسد وعقيل قبيلتان. ويبدو أن أبا العلاء كان معجباً بعقيل، فقد قال يصف فتاة: تجل عن الرهْط الإمائيّ غادة لها من عقيل في ممالكها رهْطُ والرهط الإمائيّ إزار من سيور الجلد كانت تلبسه الإماء والفتيات دون البلوغ .
| |
|
|
|
|
|
|
Re: بعض من مقالات الطيب صالح الجميلة.. (Re: مدثر محمد عمر)
|
إعصْار من الطّّيب الطيب صالح 08/09/2006
قال الشاعر القرم في تلك القصيدة، التي هي عندي من روائع الشعر العربي، يصف الفتاة المحبوبة: إذا حملتكِ العيْس أوْدى بأيْدها جلا لُكِ حتى ما تكاد به تخطو والبيت من القصيدة التي يمدح فيها خازن دار العلم ببغداد ومطلعها: لِمَن جيرة سيموا النّوال فلم ينطو يظلّلهم ما كان ينبته الخطّ وقد ركب أبو العلاء فيها قافية حرونا فذ لّلها وأسلس قيادها. قال التبريزي في شرح البيت: (الأيد القوة، والجلال العِظَم أراد به ها هنا وفور الجسم). وقال البطليّوسى: (أودى، ذهب وهلك. والأيد القوة. والجلال ها هنا وفور الجسم وكثرة لحمه. يقول، إذا حملتك العيس ذهب بقوتها ثقل ردفك ووفور جسمك فلا تقدر على الأسرع في المشي). وقال الخوارزمي: (عنى بالجلال فخامة الجسم وضخامة البدن. الضمير في (به) يرجع للجلال. هذه السمينة المنعمة لو أدركت زمن محمد بن باه الخوارزمي، لما كانت له معشوقة غيرها، وذلك أن محمدا هذا كان من كبراء خوارزم وأمرائها، وقد بلغ به السمن والضخامة إلى حيث لم يستقل به مركوب ولا قدر هو نفسه على الركوب. وإنما كان يحمل في عجلة ...). وأقول، رغم احترامي العظيم لهؤلاء الأساتذة الأعلام الأجلاء، هل يعقل أن يكون حنين الشاعر كل ذلك الحنين الممض، لامرأة تعجز الإبل الشداد عن حملها لضخامتها وكأنها من نساء الكاتب الفرنسي القديم (رابلى) أو بعض نساء الأمريكان في هذا الزمان؟ فلنمعن النظر في بقية أوصاف المرأة المشتهاة لنرى هل يوافق وصف الشاعر لها أوصاف هؤلاء الأساتذة. منذ البداية، يصف الشاعر المرأة المعشوقة بأنها تعيش في عزة ومنعة تحت ظلال السيوف والرماح، وهي كالتي وصفها أبو الطّيّب بقوله: وما شرقي بالماء إلا تذكراً لماء به أهل الحبيب نزول يحرمه لمع الأسنة فوقه فليس لظمآن إليه وصول امرأة كهذي، قد تكون مرفهة، ولكنها لا تكون خاملة. ويقول أبو العلاء أيضا في وصفها: تجل عن الرّهط الإمائىّ غادةٌ لها من عقيل في ممالكها رهط. وصفها الشاعر بالجلال، ونزهها عن أن تلبس (الرهط) الّذي تلبسه الإماء، وهو أزار من سيور الجلد كانت تلبسه الإماء والفتيات دون البلوغ. إنها امرأة شريفة من (عقيل) وهي قبيلة عزيزة أصلا ولها في قومها عزة وكبرياء. وقد اتفق الشرّاح الأجلاء على أنها ربما تكون من بنات الملوك. وليس من صفات الشرف، أن تكون المرأة خاملة جامدة الحس، تعيش مثل البهائم، مهما بلغت من الغنى والترف. ثم يقول الشاعر: قُريْطيّة الأخوال ألمع قرطها فسرّ الثريّا أنها أبداً قرْط هذه فتاة أصيلة (بنت قبائل) كما نقول ? أخوالها في قريط أو قريطة، من كلاب بن ربيعة بن عامر ابن صعصعة. وقد بلغ من عظمة هذه الموصوفة أن كوكب الثريا، سرّها أن تشبّه بالقرط الذي يلمع في أذن الموصوفة. فسر البطليّوسي بقوله: (وشبه الثريّا بها في شكلها وامتناع مكانها من الوصول إليه، وفي قوله (أبداً) إشارة إلى قول ابن المعتز في وصف الثريّا: في الشرق كأس وفي مغاربها قرط وفي وسط السماء قدم فشبهها وقت طلوعها بكأس، ووقت غروبها بقرط، ووقت توسطها في السماء بقدم. فولد أبو العلاء معنى آخر فقال إن الثريّا لما رأت قرط هذه المرأة، سرها ألا تشبّه في جميع أحوالها إلا بالقرط دون غيره مما شبّهت به...) قال أبو العلاء مواصلاً وصف الفتاة: إذا مشطتها قينة بعد قينة تضوّع مسكا من ذوائبها المُشطُ ربما لكثافة شعرها، لا تمشطها قينة واحدة، بل تشمطها قينة بعد قينة، وكل مرة يتضوّع المشط من المسك العالق بشعرها. هذا، وقد ذكروا أن كلمة (مشط) تكون بفتح الميم وسكون الشين، وكسر الميم، وضم الميم مع سكون الشين، وضم الميم والشين. قال أبو العلاء: تقلّد أعناقَ الحواطب بالدّجى فريداً فما في عُنق ما هنةٍ لََطّ الماهنة هي الخادمة، واللطّ، يعني الحلىّ المزيّفة التي تشبه الحلىّ الحقيقية. يقول الشاعر أن هذه السيدة الفاضلة من شدة كرمها وعنايتها بالماهنات اللائي يخدمنها، تلبس حتى اللائي يجمعن الحطب بالليل، حليا حقيقية مصنوعة من الذهب. وبالليل لا يراهن أحد، فالأمر ليس للتظاهر! هذا وكأنما الخوارزمي فجأة استفزه الطرب لجمال الوصف فقال: (هذه الحبيبة موسرة كثيرة النعم، شريفة رفيقة الهمم، تقلد إماءها عقود الفرائد، ولا ترضى لهن بالدون من القلائد). ويرفع إعصار من الطّيب لا يرى عليه انتصار كلما سحب المرط أجارتنا إن صاب دارة قومنا ربيع فأضحى من منازلنا السنط إذا حملتك العيس أودى بأيدها جلالك حتى ما تكاد به تخطو كلما رفعت مرطها ثار إعصار من العطر لا يقاوم. وقوله (إن صاب دارة قومنا ربيع) أراد أن الربيع أصاب بلاد الشاعر فأخصبت فانتجع إليها قوم المحبوبة، فأصبحوا جيرة. والسنط والسلط، بالنون واللام بلدة موجودة إلى اليوم في الأردن. وحين نصل إلى هذا الحد من الوصف، يتأكد لدينا أن الشاعر حين قال في وصف المحبوبة (أودى بأيدها جلالك) فإنه لم يقصد بدانة المرأة وضخامة جسمها وإنما قصد جمالها وجلالها. ولا يخفى أن الجمال والجلال لهما وزنٌ ووطأةٌ تحسّ بهما الإبل كما يحس البشر! وقد صدق الخوارزمي حين لمع المعنى في خاطره فجأة فقال: (هذه الحبيبة موسرة كثيرة النعم، شريفة رفيقة الهمم، تقلد إماءها الفرائد ولا ترضى لهن بالدّون بالقلائد).
| |
|
|
|
|
|
|
Re: بعض من مقالات الطيب صالح الجميلة.. (Re: مدثر محمد عمر)
|
نحو أفق بعيد: الإنسان المعتدي أفسد الحياة ليس على نفسه فقط الطيب صالح 11/11/2006
* عاش الإنسان زمناً، ينتهب من خيرات الأرض بلا حساب، كأنها كنوز أبدية لن تنفد. أعطاه الله سبحانه وتعالى كل ما يحتاج إليه. أعطاه الأرض والسماء والبحار والغابات والأسماك والحيوانات والطيور والنباتات.جعله خليفة في الأرض، يأخذ منها بمقدار. يعيش في توازن ووفاق مع عناصر الحياة على الأرض.وكذلك مضت الحياة آماداً طويلة، ثم فجأة ارتبك التوازن واختل النظام. وكان الإنسان هو المعتدي. ووصل عدوانه الذروة بعد الحرب العالمية الثانية. غرّته الاكتشافات العلمية المتلاحقة التي أحرزها.وبدلاً من أن يستغلها في تحسين حياته، أخذ ينتهك حرمة الأشياء واحداً تلو الآخر. ملأ الجو بالسموم والدخان، وصب في البحار النفايات الملوثة من المصانع. دمر مساحات واسعة من الغابات، وهي الغابات التي تمده بالأوكسجين الذي يتنفسه، لوث الإشعاعات الذرية الفتاكة، ولوث الأرض بأسلحة حروبه البشعة. أفسد الحياة ليس فقط على نفسه، ولكن على الأسماك في البحار، والطيور في الجو، والنباتات وكل شيء حي في المروج والغابات. وأكثر ما حدث هذا الانتهاك، كان من الإنسان الأكثر حظا، من الدول الأكثر تقدماً وثراء. بدأت الطبيعة تستجيب لهذا العدوان. بدأت تحدث ظواهر جديدة. ارتفعت درجة الحرارة، وبدأت الثلوج القطبية التي ظلت جامدة منذ بدء الخليقة، بدأت تذوب، أخذت تحدث فيضانات لم تكن تحدث من قبل، وأحيانا فترات جفاف طويلة، بدأت بعض أنواع الحيوانات والنباتات تنقرض وتظهر أوبئة وأمراض غامضة.انتبه بعض الناس لهذه التحولات الخطيرة. بعض الدول بدأت تهتم بأمور البيئة، وانعكس هذا الاهتمام على منظمة الأمم المتحدة، نشأت أحزاب تسمى (أحزاب الخضر) انصب اهتمامها على شؤون البيئة. إنما هذا كله لم يرق إلى مستوى خطورة الموقف. في أثناء ذلك ظل العلماء والمهتمون من قادة الرأي، يرفعون أصواتهم منبهين الشعوب إلى خطورة الأمر. وقال بعض العلماء، إن البشرية إذا لم تفعل شيئا حاسماً لتغيير سلوكها والتعامل باحترام أكثر مع موارد الطبيعة، فإن حياة الإنسان على الأرض لن تستمر أكثر من خمسين عاماً. هذا ومن دلائل الاستجابة لهذه الإنذارات، أن الحكومة البريطانية قد أصدرت منذ أيام تقريراً شاملاً أعدة اقتصادي مرموق كان إلى وقت قريب كبير الاقتصاديين في البنك الدولي هو (سير نكولاس ستيرن). يقول التقرير إن على العالم أن يبدأ العمل فوراً بجد، لتلافي أخطار تغير المناخ، وإلا فإنه سوف يواجه نتائج اقتصادية مدمرة، وإن الكربون الذي ينفث في الهواء (من السيارات وغيرها) رفع درجة الحرارة بمقدار درجة سِلسِيَس، وإذا لم يعمل شيء لإيقاف ذلك، فإنه يوجد احتمال بمقدار 75 في المائة أن معدلات درجة الحرارة في العالم سوف ترتفع بمقدار درجتين إلى ثلاث درجات خلال سنة القادمة، ويوجد احتمال بمقدار 50 في المائة أن درجة الحرارة سوف ترتفع بمقدار خمس درجات سِلسِيَس. ويضيف التقرير: (الثلوج القطبية الذائبة سوف تزيد من خطر الفيضانات، وأن إنتاج المحاصيل الزراعية، خاصة في إفريقيا سوف يهبط، وأن ارتفاع مستوى مياه البحار (التي سوف تغمر مساحات واسعة من الأراضي) سوف يجعل مائتي مليون إنسان، مشردين بلا مأوى بشكل مستديم. ويضيف التقرير قائلا: (التغير الحاد للطقس، قsد يخفض معدل الإنتاج الاقتصادي بمقدار 1 في المائة، وأن ارتفاع درجة الحرارة بمعدل ثلاث درجات، قد يجعل الإنتاج الاقتصادي في العالم يهبط بمقدار 3 في المائة. وفي أسوأ الحالات المنتظرة، سوف يهبط استهلاك الفرد بمقدار %20. هذا ويقدم التقرير هذه الخيارات للتغيير: 1-تخفيض الطلب على السلع التي تسبب تلوثا ملحوظا. 2-جعل إمدادات الطاقة في العالم أكثر فعالية، وتشجيع استعمال مصادر الطاقة النظيفة، على أن يخفض من استعمال البترول ومصادر الوقود المعدنية بمقدار 60% بنهاية عام 2050. 3-التعاون مع البنك الدولي وغيره من المؤسسات المالية، على إنشاء رصيد من عشرين بليون دولار لمساعدة الدول الفقيرة لمعالجة نتائج تحولات الطقس. 4-التعاون مع البرازيل و(بابوا نيوقني) وكوستاريكا، لتنمية الغابات ومنع التصحر. هذا، ورغم أن التقرير يخص أساسا الحكومة البريطانية، لكنه يؤكد على ضرورة مواجهة خطر تغير المناخ مواجهة جماعية من كل الدول. ولا يخفى أن الولايات المتحدة تقع عليها أكبر المسؤولية في تلوث البيئة، ورغم ذلك رفضت أن توقع على معاهدة كيوتو التي وقعت عليها سائر الدول. يقول سيرنكولاس ستيرن معد التقرير: (إننا لا نزال نملك الوقت والمعرفة لعمل شيء، ولكن بشرط أن نعمل مجتمعين ونعمل بجد وعزيمة، ونعمل بشكل عاجل)
| |
|
|
|
|
|
|
Re: بعض من مقالات الطيب صالح الجميلة.. (Re: مدثر محمد عمر)
|
بريطانيا لم تستعمر السودان صراحة الطيب صالح 23/03/2007
أقاموا في السودان بالفعل (نظاماً هجيناً) للحكم، ليس له نظير في القانون الدولي. ويقول (سير هارولد ماكمايكل) في كتابه (السودان)، إن بريطانيا فعلت ذلك مراعاة لمقتضيات العدل والسياسة. لعل مقتضيات السياسة كانت هي الغالبة على مقتضيات العدل. كانت بريطانيا هي الدولة الكبرى في ذلك العهد، أواخر القرن التاسع عشر. ولو أنها فرضت نفوذها الكامل على السودان صراحة، لما استطاعت أي قوة أخرى أن تمنعها من ذلك. الدول التي كانت ذات علاقة بما يجري في السودان، كانت مصر، وتركيا العثمانية. ومن الدول الأوروبية كانت فرنسا تتلمظ لتنال قضمة من الكعكة في السودان، إذا صح القول! أما مصر فقد كانت في هذه الفترة، مغلوبة على أمرها، تتبع اسمياً لنفوذ الدولة العثمانية المريضة المتآكلة، وتخضع في الواقع لنفوذ الدولة الاستعمارية الكبرى، بريطانيا. لم يكن الباب العالي في اسطنبول، ولا الخديوي في القاهرة هو المتصرف في شؤون مصر، بل كان (لورد كرومر)، المندوب السامي لبريطانيا، وأحد دهاة المستعمرين، وصناع الامبراطورية. ويمكن القول أن لورد كرومر، كان هو العامل الفاعل في السياسة البريطانية من اسطنبول إلى وسط إفريقيا. وكان من غير المستغرب أن يقول (سير هارولد ماكمايكل) في هذا الكتاب: (لقد قبلت بريطانيا المسؤولية لرعاية مصر وإنهاضها وأصبحت السلطة النيابية لمدة سبعة عشر عاما. لقد انقذت بريطانيا مصر من الخراب المالي والسياسي ومنحتها حكومة نظامية وجيشا مقتدراً وأمنا وعدلاً وازدهاراً. وقد صانتها من عواقب تهورها وسوء أحوالها ومن غزو جيوش المهدي. وبثقلها في المجالس الأوروبية، فإن بريطانيا تمكنت من دحض ادعاءات الآخرين الذين دفعوا بأن السودان قد أصبح بعد إخراج المصريين منه، إقليما مباحاً للاستيلاء عليه من قبل أول قادم. وأخيراً بعون رجال مصر وأموالها، ولكن بقيادة بريطانيا والقوة الدافعة التي كانت متاحة لها، سحقت قوة الخليفة ووضعت نفسها في وضع يمكنها من إنهاض السودان أيضاً!). أما فرنسا، الدولة الاستعمارية التالية في المرتبة لبريطانيا، فقد غامرت بإرسال حملة عسكرية من الشرق بقيادة الرائد مارشان،عبر نهري البارد والسوباط. وكان هدف فرنسا أكبر من احتلال (فشودة) البقعة التي عرفت بها هذه الحملة. كان هدف فرنسا كما يقول (سير هارولد ماكمايكل) هو إخراج بريطانيا من السودان، ومن مصر في نهاية الأمر. لكن القوتين الاستعماريتين توصلتا إلى اتفاق، بعد أن كادتا تدخلان في حرب. يبدو لي من هذا الكتاب الشيق، أن بريطانيا لم تستعمر السودان صراحة وتنفرد بحكمه قولاً وفعلاً لعدة أسباب: أولاً لم تجد في السودان إغراء كافيا للاستيطان فيه كما حدث في كينيا ووسط إفريقيا. كان طقسه كما وصف لورد كرومر (رديئا جدا). لقد اكتشفوا بعد ذلك أماكن ومناخات أكثر إغراء. ثانياً، كان من الواضح أن بريطانيا أرادت أن تستعمر السودان بأقل ثمن. كان ضباط الجيش في الغالب بريطانيين، لكن غالبية الجنود كانوا مصريين وسودانيين. وحتى نفقات الحملة القليلة نسبياً، حملوها مصر، كما حملوا مصر دفع العجز في موازنة السودان، في السنوات الأولى للحكم الثنائي. ثالثا وجد البريطانيون في مقاتلي الثورة المهدية، مقاتلين أشداء ذوي شجاعة وروح معنوية عالية جدا. رأوا كيف أن (الدراويش) كما كانوا يصفونهم أبادوا حملة (هكس باشا) بأكملها، وكيف أنهم قاتلوا بشراسة في معركة (أم درمان) رغم التفوق التكنولوجي للقوة الغازية. خافوا أن يدخلوا في مغامرة لا يستطيعون أن يتنبأوا بنتائجها، تورطهم أكثر فأكثر في (وحل) السودان، لذلك دخلوا السودان يضعون على رؤوسهم الطرابيش، وكأن ذلك سوف يعصمهم ولو إلى حين من غضب الشعب. ويضيف (سير هارولد ماكمايكل) سبباً آخر، وهو أن بريطانيا لم تكن راغبة في إثارة مخاوف فرنسا، أنها باستيلائها المطلق على السودان، بالإضافة إلى سيطرتها (المقنعة) على مصر، تكون قد سيطرت على حوض نهر النيل من المنبع إلى المصب. ولم يكن (سونربري) رئيس وزراء بريطانيا، راغباً في الدخول في حرب ضد فرنسا، خاصة بعد أن عقدت فرنسا حلفاً مع روسيا. الغموض والثنائية في الوضع القانوني والسياسي للسودان، تبلور في وظيفة الحكم العام، فبناء على الاتفاقية البريطانية المصرية لعام 1899، التي صارت بمثابة دستور للسودان، تنص المادة الثالثة: (تفوض الرئاسة العليا العسكرية والمدنية في السودان، إلى موظف واحد يلقب (حاكم عموم السودان) ويكون تعيينه بأمر عال خديوي بناء على طلب حكومة جلالة الملكة، ولا يفصل عن وظيفته إلا بأمر عال خديوي يصدر برضاء الحكومة البريطانية. (للحديث بقية)
| |
|
|
|
|
|
|
Re: بعض من مقالات الطيب صالح الجميلة.. (Re: مدثر محمد عمر)
|
السودان.. حكم استعماري من نوع جديد الطيب صالح 12/04/2007
* لم يمض وقت طويل حتى بدأ يظهر في بلاد السودان، حكم استعماري من نوع جديد. يقول (سير هارولد ماكمايكل) في كتابه (السودان) الذي ترجمه ترجمة ممتازة الأستاذ محمود صالح عثمان صالح، وأصدره مركز عبد الكريم ميرغنى الثقافي: (كان المتبع في سياسة الحكم البريطاني في السنوات الأولى، هو ترك مجتمعات القبائل والقرى تدير شؤونها بنفسها. وذلك لأسباب ثلاثة. في المقام الأول لم يكن هناك خيار عملي آخر نسبة لقلة الموظفين. وثانياً فقد كان نظام الحكم الأبوي متعارفا ًعليه في المجتمعات القبلية بوجه الخصوص وفي مجتمعات أخرى. وثالثاً كان زعماء القبائل في المناطق البعيدة رجالاً أقوياء وذوي نفوذ ولن يرضوا بأي محاولة تسلبهم سلطانهم، وسيجدون المبرر لمعارضة مثل تلك المحاولات في الوقت الذي كانت فيه الحكومة ترغب في تعاونهم وليس في عدائهم ..). ويمضى سير (هارولد ماكمايكل) فيذكر أن الحكومة في بداية عهدها في ذلك الوقت، لم تكن قد حددت هدفها بالنسبة للنظام السياسي المستقبلي، وإنما انشغلت فقط باستتاب الأمن وترسيخ مبادئ العدالة، ثم يضيف: (كان هناك ميل لدى بعض الدوائر (البريطانية) من ذوي العقول الديوانية ومن موظفي مناطق النيل الشمالية حيث كانت سلطة القبائل ضعيفة، للتطلع إلى اليوم الذي يربط فيه السودان بشبكة من المكاتب تعج بأعداد غفيرة من الموظفين والإداريين والمحاكم القضائية والروتين وكل ما يتبع ذلك من مقتضيات نظم الحكم الحديثة ..). هذا النظام (البيرقراطي) لم يطبق أبداً في السودان. أنشأ الإنجليز جهازاً إدارياً صغيراً جداً بالقياس إلى المساحة الشاسعة للقطر. وكان عدد الموظفين البريطانيين أقل من خمسمائة موظف. كانت لكل واحد منهم سلطات واسعة، وكان قطب الرحى هو الحاكم العام. وتحت هؤلاء يأتي النظار وشيوخ القبائل وهي المؤسسة التي تطورت منذ مملكة (سنّار) وكانت هي الحكومة الفعلية في مختلف العهود وقد أدرك الإنجليز من أول وهلة، أنها مؤسسة للحكم قليلة التكلفة، فتركوها على حالها. يقول (ماكمايكل): (تم تطوير وتعديل الدستور، ولكن السلطة العسكرية والمدنية التي منحت للحاكم العام وحده بموجب اتفاقية الحكم الثنائي لم يطرأ عليها أي تغيير، الأمر الذي ضمن نوعاً من الاستقرار والاستمرارية. وحتى عام 1910 لم يكن هناك مجلس تشريعي أو استشاري أو تنفيذي رسمي. كان السردار، الحاكم العام، حاكما مطلقا. وكانت الحكومة تدار على نمط عسكري، وكان السكرتير الإداري والسكرتير المالي والسكرتير القضائي ومديرو المصالح ومديرو المديريات، موظفيه وقادته الميدانيين. ثم بعدها اتخذ قرار (بتقنين الممارسة غير الرسمية، بخلق مجلس للحاكم العام لمساعدته في تصريف مهامه التنفيذية والتشريعية ..). ومع مرور السنين نمت أواصر وارتباطات بين الموظفين البريطانيين أنفسهم في السودان، أقرب ما تكون بالأواصر القبلية. وكان زعيم هذه القبيلة العجيبة هو الحاكم العام. وقد أحسن الحكّام البريطانيون فهم الطقوس القبلية في السودان وأعرافها وأحسنوا استغلالها. وجاء وقت أصبح فيه التعامل بين الحاكم العام وزعماء القبائل، كأنه تعامل بين أنداد. يقول (ماكمايكل): (إن العامل الأهم في تحقيق تلك النتيجة كان الولاء التام للحاكم العام من كافة الموظفين البريطانيين. لم يكن تعيين الحكام العامين تعيينا سياسياً مؤقتا، إنما كانت خدمتهم في السودان تغطي تقريباً كل فترة حياتهم العملية دون احتمال أو رغبة في التحول للعمل في مكان آخر. لم تكن هناك وزارة أو مصلحة في لندن تتحكم في مصائرهم أو في أعمالهم نظرياً أو فعليا. كما لم تكن هناك محاسبة برلمانية لهم. وفيما عدا أعلى المجالات لم تكن تقدم في البرلمان أسئلة كثيرة عن السودان. وحتى إذا ما قدمت، فإن وزارة الخارجية كانت هي الجهة المدنية الوحيدة التي تتولى الرد نيابة عنهم. ومما يبعث على الارتياح أنه كان يكتفى بالقول إن الأمر متروك لقرار الحاكم العام ..). ويلخص (ماكمايكل) الوضع كما كان قائما في هذه الفقرة الواضحة ذات الدلالات البعيدة: (وهكذا نشأت هيئة مؤتلفة من الموظفين الذين يقدمون خدماتهم للدولة طواعية غير مكبلين بأي نوع من الاستبداد، وغير مشغولين سوى بعملهم وهواياتهم وأسرهم، ويدينون بالولاء المخلص لرأس الدولة الذي يجسد القيادة والسلطة (الحاكم العام). (للحديث بقية)
| |
|
|
|
|
|
|
Re: بعض من مقالات الطيب صالح الجميلة.. (Re: مدثر محمد عمر)
|
عندما يستبدل الماضي بحاضر بشع الطيب صالح 14/06/2008
بلى، المدن مثل البشر، لها ظاهر وباطن، تُخفي عنك وجهاً وتلقاك بوجه. إلاّ أن هذه المدينة، كأنها بلا أسرار، وكأنّ ظاهرها هو باطنها . السائق الذي استقبلني في المطار، إذ إن الهوتيلات في “ بانكوك “ ترسل لك سيارة تستقبلك في المطار، لم يمهلني طويلاً. لم تكد السيارة تتحرك، حتى التفت إليّ وعلى وجهه ابتسامة بريئة، نعم بريئة براءة حقيقية، وسألني : “ ما هي رغبات سعادتك ؟ ما هو الصنف الذي تفضله ؟ قل لي بصراحة. كل شيء متوافر “. كانت إجراءات المطار قد تمت بسهولة، فالسياحة عندهم مصدررئيسي من مصادر الدخل، والكتب السياحية تقول لك إن في مدينة “ بانكوك “ ما يرضي كل “ الأذواق “ حتى الفيزا، تحصل عليها دون مشقة في المطار. لم أضع وقتاً في سؤاله عن قصده، فقد فهمت قصده. قلت له : أنا متعب الآن. بعد أن أستحم سوف أخبرك بـ “ رغباتي “. كان الفصل صيفاً، وهذا مناخ استوائي. والمكان كأنه .. كأنه .. بماذا يذكرني هذا المكان والطائرة، هذه الركوبة المجنونة، تنقلك في لمح البصر من مناخ إلى مناخ، ولا تترك فرصة لخيالك كي يلحق بك. نثرت أشيائي في الغرفة فصارت أقل وحشية، غرفة غريبة في بلد غريب، في أفق بعيد. نظرت من النافذة إلى النهر، الذي أصبح منذ الغد “ نهر الملوك “. إنه الآن قبيل الغروب نهر عادي، وهذا يكفيني. تستطيع أن تتخيل لوهلة أنك في القاهرة أو الخرطوم. الناس على الجسور، والسيارات تروح وتجيء، وهذا النهر كسائر الأنهار، يعطي المدينة وزنها وطابعها، ويحدد أبعادها، فكأنه مغناطيس يجذب إليه الحياة على الضفتين. لأنني نشأت على ضفة نهر، فأنني أعتاد أسرع على المدن التي تقوم على ضفاف أنهار. أول ما قدمت مدينة الدوحة، قضيت زمناً وأنا أحس أن المدينة كأنها بلا مركز ثقل. وكأنها معلقة في الهواء. ثم أدركت أن سبب هذا الإحساس أن المدينة لا تقوم على ضفة نهر، وليس فيها سكك حديدية فلا تسمع ذلك الصوت المثير، صوت قعقعة القطارات أواخر الليل، طبعاً ألفتها بعد ذلك وأحببتها كما هي. كنت قد تمهلت وأنا أتعرف على سكني الجديد الذي سوف يؤويني بضع ليالٍ ثم أرحل عنه، وقد لا أعود إليه أبداً. ونسيت أمر السائق الذي أوصلني من المطار. ولم يخطر لي أنه سوف يأخذ مزاجي مأخذ الجد ،لذلك دهشت حين وجدته ينتظر عند باب النزل. أسرع نحوي : “ ها ؟ هل ارتحت الآن ؟ “. قلت له : “ لسَّع. لا أزال متعباً “ “ غداً إذاً ؟ “. “ نعم، غداً “. تسكعت قليلاً غير بعيد من الـ “ هوتيل “، إعلانات “ مقاصر التدليك “ وصور النساء، شبه عاريات، تحاصرك من كل جانب. وسط المدينة، مثل كثير من مدن العالم، ليس فيه شيء يميّزه، وهذه البضاعة المعروضة في السوق، تزيد المكان قبحاً على قبح. وقد اتضح لي فيما بعد، أن مصيبة هذه المدينة أنها قطعت الوشائج بين ماضيها وحاضرها. وهي مدينة ليست وليدة اليوم، فقد أنشئت منذ أكثر من مائتي عام. الماضي تجده في المتاحف والمعابد والأبنية القديمة، وهنا هذه الحياة “ الحديثة “ بكل آفاتها منفصلة لا تمت إلى ذلك الماضي بصلة. الأمر ليس سهلاً، ونحن أيضاً. انظر إلى القاهرة المحروسة. في الوسط، تلك العمارات التي تُعد تحفاً في فن المعمار، انظر إلى منظرها الكئيب وهيئتها الرثة، وإلى الخراب الذي حاق بالمدينة على أيدي المقاولين والتجار ،رحم الله حسن فتحي الذي كان يصرخ في البريّة. والخرطوم أتعس حالاً. تلك المدينة التي تقوم في موقع من أجمل مواقع المدن في العالم، أي بشاعة حاقت بها من سوء التخطيط وقلة الذوق ! هل نحن حقاً فقراء إلى هذا الحد ؟ وقفت سيارة أمريكية فارهة، فيها امرأتان. التي تجلس وراء عجلة القيادة كأنها خليط من دم صيني ودم أمريكي. أنثى لا مراء في ذلك، ولكن شعرها قصير جداً “ ألا جارسون“ كأنها غلام . قالت : “ هل تحب أن تمضي وقتاً طيباً ؟ “. يا له من سؤال ! ومن ذا الذي لا يحب أن يقضي وقتاً طيباً في هذه الحياة الدنيا ؟ ولكن ما أبعد هذا الذي يدعونني إليه من ا لوقت الطيب! أليس كذلك يا أخا كِندة؟ ما لك أخلدت إلى الصمت ؟ ألم تقل شعراً يصلح لهذا المقام؟ لا عليك، فأنا أعلم أنك تسمو عن هذا، وتربأ بنفسك عن مثل هذه القاذورات ولا تثريب عليك أنك جريت وراء خيالك أبعد قليلاً مما يجوز، حين قلت : عُد وأعدها فحبذا تـــلـــف ألصق صدري بـ ( .. ) الناهد. قلت للمرأة مازحاً : “ هل أنت بنت أم ولد ؟ “ لم أتوقع ما حدث، وانتابني ما هو أكثر من الدهشة، إذ إن المرأة كشفت فجأة بحركة غاضبة عن صدر عار، صدر أنثى لا مراء في ذلك وأغلقت باب السيارة، وانطلقت لا تلوي على شيء. أضحكني ذلك، ولا أدري ماذا كان يجب عليّ أن أفعل، فأنا بعدُ كاتب، وهذه التجارب على غرابتها حصادُ يُجمع ويُخزن إلى حين. وجدت السائق عند باب الهوتيل، ضحك كأنه كان شاهداً على ما حدث، ضحك ضحكة بريئة بحق. البراءة ليست فضيلة في حد ذاتها، ولا بدّ لها من عزيمة تحميها. قال : “ غداً إذاً ؟ “. قلت له : “ نعم. غداً “. في اليوم الثالث قال لي السائق، ليس بغضب، ولكن كمن يعتب عليّ أنني أضيع على نفسي فرصة ثمينة : “ ما هي حكايتك ؟ أنت دائماً تعبان .. تعبان ؟ لك ثلاثة أيام. ألن تستجم بعد؟ “ قلت له ضاحكاً : “ تريد الصراحة ؟ ليس لي رغبة فيما تعرضه عليّ. ولكن تعال أستضيفك على شراب “. جلسنا في مقهى النُزل، وكنت قد أشفقت عليه، وأحسست ببعض الذنب أنني ضللته. مسكين. لابد أن له زوجة وأطفالاً، ويعول والديه المسنين. واضح من وجهه الوديع أنه بار بأبويه، رؤوف بأبنائه. ليس من “ بانكوك “ على الأرجح، فأغلب سكان المدن في عالم الفقراء، العالم الماذا ؟ الثالث ؟ نزحوا إليها من الريف. كأنه من “ كوستي“ أو “ المُجلد “ أو .. “ جوبا “ .. نعم، هذا هو. هذه المدينة الاستوائية تذكرني بـ “ جوبا “ وهؤلاء الناس يذكرونني بأهل جنوب السودان، دعْك من اختلاف الألوان. هل كان عندهم في سالف العصر والأوان فردوس ثم أضاعوه ؟ إذاً لماذا لا يبكون عليه كما نبكي نحن على فراديسنا الضائعة؟ رأوا الشوارع والزحام والعمارات الزجاجية والمحلات التجارية المنسقة بأصناف السلع المستوردة. خالوا السراب ماء. صدّقوا الوعود وظنوا أن ذلك الجحيم هو الفردوس الموعود .. تركوا زراعاتهم وصناعاتهم وجاءوا يسعون وراء الحلم المستحيل.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: بعض من مقالات الطيب صالح الجميلة.. (Re: مدثر محمد عمر)
|
مخلوقات دمرت الحلم الجميل الطيب صالح 19/06/2008
* من أعجب ما سجّله التاريخ من أقوال المستوطنين البيض في أستراليا، عبارة لرجل يدعى “سي. لوكهارت”، قالها عام 1849: “لا شيء سوف يحول دون انقراض عنصر الـ “أبوروجنيز” الذين شاءت الإرادة الإلهية أن تسمح لهم بالاحتفاظ بالأرض ريثما يجيء عنصر أفضل يحل محلهم”. هذا الرجل المغمور الذي لم ينسب له التاريخ عملاً يؤثر، استحق “الخلود” بأنه أفصح بهذه العبارة التي ظلت تزحف مع حركة التاريخ، كما يتحرك الحجر في قاع النهر. إنه عبّر دون مواربة، ودون حياء، عن مبرر أساسي من مبررات الاستعمار الأوروبي، وهو أن الأجناس غير الأوروبية، الـ “همج” في زعمهم ليسوا بشراً بمفهومهم للكلمة، ويمكن اعتبارهم غير موجودين، وأن الحيز الذي يشغلونه على سطح الأرض، هو في الحقيقة خالٍ من السكان. ولم يكتفوا بهذا الصلف العرقي، ولكنهم جعلوه قانوناً إلهياً. وأضفوا عليه مبرراً أخلاقياً. قد يكون الإله الذي تذرعوا به “برستنتياً” كما في أستراليا، أو كالفنياً كما في جنوب أفريقيا، أو كاثوليكياً كما في أمريكا اللاتينية، وقد يكون “يهوه” إله اليهود كما في فلسطين. ويمكن أن يسمع الإنسان صدى عبارة مستر لوكهارت في عبارة جولدا مائير بعد أكثر من قرن من الزمان، “الفلسطينيون؟ أين هم هؤلاء الفلسطينيون؟”.في ذلك الصباح من شهر كانون الثاني / يناير عام 1788، حين رست سفن كابتن فيليب على شاطيء أستراليا، نظر البيض فلم تر عيونهم بشراً. رأوا شخوصاً مثل الأشباح هي في اعتقادهم “لا شيء” كانوا عراة تلمع أجسامهم في الشمس، من الدهن الذي يتمسحون به اتقاء الحشرات. على وجوههم ورقابهم علامات من طلاء. بأيديهم الرماح، وفي أنوفهم أشياء مثل الزمام. منهم من يحمل درعاً، ومنهم من يحمل آلة محدودبة. وقف السود على صخور الشاطئ، وكانوا من قبيلة الـ “أيورا” كما نعلم الآن، ينظرون كالمسحورين، إلى المنظر الذي لابد أنه بدا لهم مثل كابوس من قوى شريرة اقتحمت حلمهم الطويل. تلك المخلوقات الغريبة التي كأنما تسلخت جلودها عنها لشدة احمرارها، أخذت تفرغ حمولة القوارب التي كانت أضخم بكثير من القوارب التي اعتادوا عليها. خرج رجال ونساء وأطفال. بعضهم كانوا يرسفون في أغلال الحديد، وبعضهم يلبسون خرقاً ممزقة، وبعضهم يحملون السلاح، ويعطون الأوامر بأصوات شرسة. ثم نظروا بدهشة أكبر، إلى عدد منهم يتجمعون تحت شجرة. وقف رجل بينهم وتحدث فيهم بصوت عريض، كما يتحدث الرجل الكبير إلى الأطفال. ثم أخذ كأنما يتلو ترانيم سحرية، كان الجمع يرددها وراءه. ذلك الرجل، كما تحدثنا كتب التاريخ، كان قسيساً بروتستانتياً يدعى “ريتشارد جونسون”، تخرج من جامعة كيمبردج، وتشرَّب مبادئ المذهب التبشيري المتطرف الذي كان سائداً تلك الأيام. وقد انضم إلى هذه الرحلة ليخدم “الرب” في تلك الأصقاع البعيدة. سارع أول ما ألقت السفن مراسيها فأقام الصلاة شكراً للإله أنه بلغهم مقصدهم سالمين، وأنه خولهم تلك الأرض، يتبوأون منها كيف شاءوا. كانت مهمته عسيرة، كما اتضح فيما بعد، خاصة بين قومه البيض، الذين كانوا أبعد ما يكون، عن “الآباء المهاجرين” الذين ذهبوا من قبل إلى أمريكا. وأصبح “جونسون” هذا مشكلة بالنسبة للحكام العسكريين الذين لم يكونوا يشاطرونه حماسته الدينية. نظر الفريقان بعضهما إلى بعض في لحظة نادرة من لحظات التاريخ. ولم يعِ أحدهما عن الآخر أي شيء. كان “السود” غارقين في حلمهم الذي خُيل لهم أنه سوف يدوم إلى الأبد. سوف تمضي حقب قبل أن يفهموا مغزى الكارثة التي حاقت بهم. أما البيض فإنهم لم يدركوا – وما كان يهمهم أن يدركوا – أن تلك الأشباح كانت جزءاً من “شعب” توطن تلك الأرض منذ أكثر من ثلاثين ألف عام. جاءوا في هجرات متعددة من آسيا، عبر “تسمانيا” و “غينيا الجديدة”. انتشروا في جزيرة أستراليا بأكملها، وغطوا وجه الأرض مثل ثوب رقيق شفاف. وتقسموا إلى قبائل كان عددها نحو خمسمائة في تلك اللحظة. وكان عددهم نحو ثلاثمائة ألف. كانوا مثل مستنقع انقطع عن نهر التاريخ، فعاشوا كل تلك القرون في عزلة تامة عن الأحداث التي ألمت ببقية سكان الأرض. ولما وصل الأوروبيون، وجدوهم لا يزالون في مرحلة البداوة الأولى، كانوا يعيشون على الصيد من البر والبحر، ويعتمدون على آلات بدائية ورغم ذلك فقد ابتكروا نظاماً مكتملاً للعيش يلائمهم تماماً، وابتدعوا “ثقافة” ليست تافهة إذا نظرت فيها بإمعان، يمتزج فيها البحر بالسماء بالطبيعة بالماضي بالحاضر بالمستقبل في عناق سرمدي أسموه “زمن الحلم”. وكانت الأرض هي مركز الحلم، إذا حرمتهم منها فقد حرمتهم كل شيء كأنما انتزعت “هويتهم” كما يُقال هذه الأيام . تقول الأرض، بلسان شاعر أسترالي معاصر – من البيض – فالشعراء لا جنس لهم، وهم دائماً أكثر إنصافاً وأعمق إحساساً: “... أين راح أبنائي الأبكار، الذين أخرجتُهم من رحمي، من زمان، من زمان؟ لماذا، لماذا يبكون ؟ ماذا حدث للأساطير، الأساطير التي نسجتُ والقوانين؟ قل لي ماذا حدث؟ أنت الذي ولدتُ بعدهم بزمان ،بزمان لماذا، لماذا لا أسمع، إلا صرخات أرواحهم تدوّي في الكهوف؟ في أستراليا أكثر من أي أرض أخرى استوطنها الأوروبيون، وقفت فلسفتان متناقضتان كلية إحداهما إزاء الأخرى. الفلسفة الأوروبية المادية في ناحية، كما تبلورت في القرن التاسع عشر، فلسفة تعتبر “الأرض” مجرد “شيء” من حق الإنسان أن يملكه ويستأثر به، ويقسمه كيف شاء، ويستغله كيفما بدا له. والإنسان، بمقتضى هذه الفلسفة، ليس الكائن البشري عموماً، ولكنه الإنسان القوي القادر، الذي اختارته العناية الإلهية وقوانين التمييز الطبيعية، أي الأوروبي، ليكون خليفة على الأرض. وكان المؤمنون بهذه الفلسفة، يستندون إلى التفوق التكنولوجي وإلى المدافع والبارود. في الجانب المقابل، وقفت فلسفة “أسطورية. شاعرية”، ترى “الأرض” على امتدادها، كائناً حياً، يحس يتألم، مخلوقاً له قداسة مثل “كاثدرائية مفتوحة” كما وصفها أحد الكتّاب. اختار المستوطنون الأوائل أرض الـ “أبوروجنيز”. رأوا أناساً لا يشبهون أي أناس عرفوهم من قبل، أو سمعوا بهم. لم يجدوا لهم زعماء ولا معابد ولا أوثاناً يعبدونها ولا “ ديانة يؤمنون بها. ولم يكونوا يملكون شيئاً، لا بيوت ولا مزارع ولا مقتنيات ولا أرضاً. وكانوا في ترحال مستمر، دون سبب واضح، كأنهم يبحثون عن شيء مبهم ضاع منهم. اتضح بعد زمن طويل أن الـ “أبورو جنيز” يعتبرون الأرض بأجمعها، معبداً لهم، وأن فيها علامات وألغازاً وأسراراً، لابد من مواصلتها باستمرار، وإلا توقفت الحياة،وأن “الأرض” تناديهم وتتحدث إليهم، وأن لهم طرقاً على وجه الأرض لا يخطئونها ،كما يعرف الطائر المهاجر طريقه في السماء.
| |
|
|
|
|
|
|
|