دعواتكم لزميلنا المفكر د.الباقر العفيف بالشفاء العاجل
|
الحاج دَفَعَ الله يحجُّ مرةً أخرى...
|
الحاج دَفَعَ الله يحجُّ مرةً أخرى
نادى أحدُهُم من مكبِّرٍ للصوت في نبرةٍ فيها طيبةٌ ولؤم، بـأنَّ الصلاةَ خيرٌ من النوم، الصلاةُ خيرٌ من النوم. قامَ الحاج دَفـَعَ الله الحِلو مسرعاً ليغتسل، وهو يسبّ شهوةَ الجسد ويلعنُ النساءَ جميعاً، خصوصاً زوجَهُ نفيسةَ بنتَ خِضْر. كان قد فرغ لتوِّه من امرأته – حلاله – بعد أن دام افتراقهما في الفراش حولين كاملين. عليه الآنَ أن يستحمَ – بسببها - في هذا البردِ القارس، ليمشي حتى ميدان المولد حيث يقبع جامع سيده ومولاَّه "كاشف البحار التسعة" الذي مشى على الماء وهو بعدُ صبي. خبَّ دفع الله سريعاً وهو يقطع الدربَ من زقاقٍ الى زقاق، آملاً أن لا يراه أحد فيلمح ارتباكَ ساقيه أو يُعجبَ في ما حلَّ بمشيته الواثقة التي خبرها الناسُ عنه مذ عاد من حجته المباركة إلى بيت الله الحرام. عندما وطأت قدماه الأراض المقدسة لأول مرةٍ قبل عامين، تبلّلَ وجهُ دَفـَعَ الله ود حِلُو بالدمع؛ وسمع مجاورُوه حشرجةً كالبكاء. قال بعدها إنه رأى في ذلك اليوم – وبأمِّ عينيه – ملائكةً غاضبينَ يتوعَّدونه، وهم يتلونَ عليه ما اقترفَ من ذنوب ومعاصٍ، وجاء في قولهم ما فعلَ بخلق الله أثناءَ تجارته بين القرى والديار، وجاء ذكرُ البيوت التي دخلها من غير أبوابها، والبيوت التي لا تزار إلا بالليل... وجاءَ ذكرُ أسماء كثيرة لأناس كثيرين، جلَّهم من النساء أو الصبيات اليافعات. مسح دَفـَعَ الله دموعه بمنديلٍ أبيضَ ليس فيه نقوشٌ ولا عليه حواف، وحلف على نفسه بإيمان مغلـَّظةٍ، وبحق الأرض الطاهرة التي يقف عليها، أن يكفـِّر عن كل ذنوبه وسيئات أفعاله التي خرجت عليه من مخابئها في الماضي القريب والبعيد، وتجمهرت في عينيه وقلبه، كالخلق يومَ الحشر العظيم، حتى احمرَّت عيناه وآلـمه قلبُه. عندما عاد الى البلد وأهله، أقسم كل من زاره ورآه أنه آبَ وفي صدره قلبُ طفل غرير وروحه صافيةٌ كغديرٍ عذب. وافقه وآزره صديقـُه ومكمنُ سرِّه ورفيقُ صباه خال أولاده ابنُ عمه "الطيب خِضِر" على ما اعتزم ونوى. قال له الطيب حسناً فعلت، فأنت الآن في سني الشيوخ، وما الخمسُ وخمسون أو تزيد إلا سنّ الأولياء الصالحين، وما غيرها – يا حاج دَفـَع الله – يمنحكَ رحمةَ الله وغفرانه. وإن كنتَ ستأسى على شباب فانٍ، فاصبـِر لترى كيفَ تدخلكَ الحورُ العينُ دنيا ما عرفتْ وشباباً ما عِشتَ ولا رأيتْ. خاط الحاج دَفـَعَ الله كفنـَه بيده من قماش أبيض ذهيد الثمن، وقضى عامين كاملين في حجرةٍ بأقصى البيت بناها توَّ عودته الحميدة المباركة، انقطعَ فيها للتأمل والقراءة والتفقه في الدين. وكان قد أوعز له بعدها أمامُ جامع سيدي " كاشف التسعة" أن يؤمَ الناس في الصلاة الوسطى بزاويةٍ بالحي ، وأن يعقد قراناتَ أنجالِ أهلهِ وجيرانه، ويصلي على موتاهم كلما غابَ هو عن البلد في أمر مهم بالمدينة. ولقد راقَ ذلك للحاج كثيراً، فزاد من زياراته لمقبرةٍ في فضاءٍ خلف الحقول القصية، وزار في قرىً مجاورةٍ من الأولياء أطهرهم ومن الأخيار أطيبهم وأكرمهم، وقبَّل ترابَ قبور الميتين منهم حتى اغبرَّت لحيتـُه النظيفة.
أوقدت نفيسةُ بنتَ خِضْر في تلك الليلة سبعَ جمراتٍ بدا لهنَّ لهيبٌ بنفسجيُّ خفيت الوهج. كان الليلُ في ربعه الثالث (وقتٌ تنفلتُ فيه الشياطينُ من آسريها، كانت تقول). شقـَّقت الحَطَباتَ الصغيرةَ وأطعمتها النار. لـها رائـحةٌ من جِنٍ وحنين. ثم وضعت سريرها في ركنٍ من ساحة البيت، تحت مهبِّ رياح خفيفةٍ تأتي من مزارعَ يسْقِها أصحابها طوال الليل. ضفرت شعرها، في الليل، الى "فردتين"، ودخلت فستانـَها الأزرقَ القصير – الذي يسميه الحاجُ أخضراً -... أما العطر الذي أخرجته من مكمنه في المخزن القديم، فهو الذي شدَّ الحاجَ من أنفه وقاده من يديه يقطعُ الطريقَ من حجرته بالركن البعيد، كأنما تقوده قوةٌ لا فكاكَ منها إلى مصيرٍ لا مفر منه. جلسَ على طرفِ فراشها كالمسحور، وهي نائمةٌ وليست نائمة. وما درى ما يقوله... ناداها بكل أسمائها القديمة، شدَّها من شعرها برفقٍ مرتعشٍ ويدٍ مرتجفة. مالَ متكئاً بيده اليسرى على الطرف البعيد ليزيحَ الثوبَ الخفيف عن وجهِها باليد الأخرى، فانكفأَ وجهُهُا على ساعدها الذي تنام عليه، مفسحةً له خلفَ ظهرِها فضاءاً دَخـَله الحاجُ حُمَّى تطلبُ الدفءَ والغطاء. بوغِتَ، واندهشَ وهو يئنُ ككلبٍ عجوز، حينَ رفعت إحدى ساقيها على بطنه، وسمعها تقولُ كلاماً لم يسمعْه من قبل، عن أنَّه جروٌ صغيرٌ مغفَّل،وأنَّها لم تلِده سبعةَ أولاد وأربع إناثٍ لـ"يدفنونها بالحياة" – قبل عمرها – ثم أمسكت كفيه الخشنتين بقوة، وضغطتهُ في مكانٍ خفيٍّ تحت بطنه حتَّى شهق... ووجدها تعلـوُه وهو مستلقٍ على ظهره يرقبُ وجهها يعلو ويهبط، يُخفي عنه السماءَ حيناً ويُجليها... ثمَ سمع صوتاً هو صوتُهُ، يشخبُ بالبكاءِ، ورآها بعيونٍ تغرورقُ بالدمع، فقد ذكـَّره كل ذلك بيومه في تلك البلاد البعيدة المقدسة.
أبطأ الحاج دَفـَعَ الله خُطوتـَه فجأة وهو يستهِّلُ مَيدانِ المـَولدِ، إذ لفحَ الهواءُ الباردُ أعلى ساقيه... وقف الحاجُّ، وتحسسَ بيدٍ قلِقةٍ سرواله، فتأكدَ مُفجَعاً أنَّه قد نسيه بالفعل، وأخذ يدمدمُ ساخطاً حيناً – وقد قفلَ عائداً الى البيت يمشي بخُطىً مهتزَّةٍ – ثم حيناً يهمهمُ حامداً الله الذي جعلَ النهارَ معاشاً والليلَ لباساً وإلا رأى الناسُ عورَته في الطرقات... لكنه، فكَّر لوهلةٍ، ثم أسرعت خطواتُه تستبقُ بعضها، وألفى نفسَه يبتسمُ دون أن يدري وهو يجذبُ أنفاسه بقوة... يتصيدُ خيطاً من العطرِ بعيد.
ح.خ نشرت أولاً في جريدة الخرطوم في عام 1999.
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: الحاج دَفَعَ الله يحجُّ مرةً أخرى... (Re: farda)
|
Quote: نادى أحدُهُم من مكبِّرٍ للصوت في نبرةٍ فيها طيبةٌ ولؤم، بـأنَّ الصلاةَ خيرٌ من النوم، الصلاةُ خيرٌ من النوم. |
Dear Farda Nice and and very enjoyable story! I note the message quoted above need to be reiterated daily and forever until the "target audience" grow up/get up by themselves
Thank you
Adil
| |
|
|
|
|
|
|
Re: الحاج دَفَعَ الله يحجُّ مرةً أخرى... (Re: farda)
|
يا فردة.. السلام عليكم فى لندن الصيفية.. وبعد قرأت العنوان فقلت لا بد انه موضوع منقول يريد فردة ان يشركنا فى قراءته. وشرعت فى القراءة، فأخذ ظنى يتعزز، ويقوى. ثم انغمست فى القراءة. قراءة دفعة واحدة، بنفس واحد. وفى البال فضول. من كاتب هذه القصة البديعة؟ بالطبع استبعدت ان تكون انت كاتبها. من إذن؟ الطيب صالح؟ وحين جئت الى هذا المقطع، رأيت الايروسية Eroticism تملآ النص بالفحيح. والرغبات الفادحة. والدم يملآ الفجوات. والبلل يسوح نديان فى الامكنة. فذهلت من هذا الصنع القصصى المحكم. من هذا (البناء)! الشاهق، والمنمنم بالتفاصيل. ثم طربت لانتزاع نفيسة بنت الخضر لحقها. ولمبادرتها. وعنف رغبتها. فتذكرت ماركيز فى (الحب فى زمن الكوليرا). ذلك المشهد فى الباخرة. حين اختطفت المرأة المحرومة ذلك الرجل. وادخلته الى قمرتها. ثم اعتلته. وقضت منه ما تريد. لم ير وجهها. ولم يعرف لها اسمآ. ولم يتونس معها. ولم يبادر. هى التى فعلت كل شئ. كل شئ! هى الرغبة إذن. الرغبة المحضة. والفعل المحض! وهاهى بنت الخضر فى هذا المقطع الايروسى البديع تحاول تطفئ عطش عامين كاملين. وجوع حولين عجفاوين!
Quote: أوقدت نفيسةُ بنتَ خِضْر في تلك الليلة سبعَ جمراتٍ بدا لهنَّ لهيبٌ بنفسجيُّ خفيت الوهج. كان الليلُ في ربعه الثالث (وقتٌ تنفلتُ فيه الشياطينُ من آسريها، كانت تقول). شقـَّقت الحَطَباتَ الصغيرةَ وأطعمتها النار. لـها رائـحةٌ من جِنٍ وحنين. ثم وضعت سريرها في ركنٍ من ساحة البيت، تحت مهبِّ رياح خفيفةٍ تأتي من مزارعَ يسْقِها أصحابها طوال الليل. ضفرت شعرها، في الليل، الى "فردتين"، ودخلت فستانـَها الأزرقَ القصير – الذي يسميه الحاجُ أخضراً -... أما العطر الذي أخرجته من مكمنه في المخزن القديم، فهو الذي شدَّ الحاجَ من أنفه وقاده من يديه يقطعُ الطريقَ من حجرته بالركن البعيد، كأنما تقوده قوةٌ لا فكاكَ منها إلى مصيرٍ لا مفر منه. جلسَ على طرفِ فراشها كالمسحور، وهي نائمةٌ وليست نائمة. وما درى ما يقوله... ناداها بكل أسمائها القديمة، شدَّها من شعرها برفقٍ مرتعشٍ ويدٍ مرتجفة. مالَ متكئاً بيده اليسرى على الطرف البعيد ليزيحَ الثوبَ الخفيف عن وجهِها باليد الأخرى، فانكفأَ وجهُهُا على ساعدها الذي تنام عليه، مفسحةً له خلفَ ظهرِها فضاءاً دَخـَله الحاجُ حُمَّى تطلبُ الدفءَ والغطاء. بوغِتَ، واندهشَ وهو يئنُ ككلبٍ عجوز، حينَ رفعت إحدى ساقيها على بطنه، وسمعها تقولُ كلاماً لم يسمعْه من قبل، عن أنَّه جروٌ صغيرٌ مغفَّل،وأنَّها لم تلِده سبعةَ أولاد وأربع إناثٍ لـ"يدفنونها بالحياة" – قبل عمرها – ثم أمسكت كفيه الخشنتين بقوة، وضغطتهُ في مكانٍ خفيٍّ تحت بطنه حتَّى شهق... ووجدها تعلـوُه وهو مستلقٍ على ظهره يرقبُ وجهها يعلو ويهبط، يُخفي عنه السماءَ حيناً ويُجليها |
وحين فرغت من القراءة، تفاجئت أنك أنت الكاتب. إذن يمكننا القول إن اسلوب وموضوعات كتابتك واشتغالك على النصوص قد تغير بين عامى 1999 والان. اصاب اسلوبك تغير، لدرجة اننى استبعدت كتابتك لهذه القصة. لا ادعى اننى محيط بكتاباتك كلها، وعلى معرفة متعمقة بمسيرتك الابداعية والكتابية. ولكن هذا ما حصل. تفاجئت انك كاتب هذا النص. وما زالت المفاجأة تعقد لسانى..
ثم ضحكت حين وصلت هذا المقطع الذكى والساخر، والماكر cunning
Quote: أبطأ الحاج دَفـَعَ الله خُطوتـَه فجأة وهو يستهِّلُ مَيدانِ المـَولدِ، إذ لفحَ الهواءُ الباردُ أعلى ساقيه... وقف الحاجُّ، وتحسسَ بيدٍ قلِقةٍ سرواله، فتأكدَ مُفجَعاً أنَّه قد نسيه بالفعل، وأخذ يدمدمُ ساخطاً حيناً – وقد قفلَ عائداً الى البيت يمشي بخُطىً مهتزَّةٍ – ثم حيناً يهمهمُ حامداً الله الذي جعلَ النهارَ معاشاً والليلَ لباساً وإلا رأى الناسُ عورَته في الطرقات... لكنه، فكَّر لوهلةٍ، ثم أسرعت خطواتُه تستبقُ بعضها، وألفى نفسَه يبتسمُ دون أن يدري وهو يجذبُ أنفاسه بقوة... يتصيدُ خيطاً من العطرِ بعيد. |
هذا المقطع مشحون هو الاخر بهذه الايروسية التى تملآ فضاء النص بدخان الرغبة وفحيح الجسد، وبلل الشهوات.
شكرآ يا فردة على انك جعلت الاحد فى هذه الديار، يومآ منزوع القداسة. وقليل الحياء!
| |
|
|
|
|
|
|
Re: الحاج دَفَعَ الله يحجُّ مرةً أخرى... (Re: Adil Osman)
|
ماذا أقول سوى أني أثمـِّن عالياً بصيرتك النقدية المنتبهة و الصاحية يا رفيقنا في كتابة الأسافير عادل عثمان؟!
قبل نشري لهذا النص هنا كنتُ قد قلت لـ "سين.سين" أنني لا أكاد أعرف من جاءت هذه القصة القصيرة، فهي تبدو غريبة وبعيدة بأميال عن غالبية النصوص والأصوات التي أجترحها عادةً. ربما هي خلفيتي المسرحية، تهييء لي النصوص والشخصيات والخلفيات من حيث لا أتوقعها؛ ربما هي عادات الكائن الدرامي... ملاحظتك التي تقولQuote: إن اسلوب وموضوعات كتابتك واشتغالك على النصوص قد تغير |
صحيحة إذن، ودهشتك مبررة ، حتى بمقاييسي ككاتب للنص، فالأمر عندي – لأصدقك القول – هو تعبير عن واحدة من "مشاكلي" مع محاولاتي المختلفة في كتابة النصوص... (ما زلتُ أتحسس الأصوات وأتخيرها) ينبغي أن أذكر لك أيضاً أنني كتبت هذا النص القصير (ومعه عدة نصوص أخرى قصيرة، بينها "الزحلقانية" المنشورة في مجلة لواء السودان الجديد التي حررها عادل القصاص من أسمرا) في وقت كنت أعمل فيه على بعض الواجبات الأكاديمية في الكلية وكانت كلها تدور حول الـNarrativety ومسائل السرد وزوايا النظر السردية المتعددة، صوت الراوي الخ... ربما كانت قصة الحاج دفع الله وصاحباتها هي واحدة من تمارين لعبة السرد المدهشة....
عادل عثمان، قٌصر الكلام، أنا سعيد باهتمامك بما أكتب.
مودتي
| |
|
|
|
|
|
|
Re: الحاج دَفَعَ الله يحجُّ مرةً أخرى... (Re: farda)
|
لأكثر من مره قراءت هذه القصه قبل سنوات حين وجدتها منشوره فى مجلة سودانية تصدر فى مصر أظنها تابعه لمركز الثقافات.. وجدت فيها ميزات فنية عالية وسرد بديع كما اننى أتابع أيضاً بعض كتاباتك الشعرية..لديك قدره على أصطياد العادى والقريب فى تفاصيل اليومى وتريحه على لغة سهله وبسيطه
على ان أعلن دون (كشكرا) أننى قارئ متابع بشغف لما تكتب
| |
|
|
|
|
|
������� ��������� � ������ �������� �� ������� ������ ������� �� ������
�������
�� ���� �������� ����� ������ ����� ������ �� ������� ��� ���� �� ���� ���� ��� ������
|
� Copyright 2001-02
Sudanese
Online All rights
reserved.
|
|