دعواتكم لزميلنا المفكر د.الباقر العفيف بالشفاء العاجل
|
هموم دارفورية ؟ ..(3،2،1) .. دكتور حسين أدم الحاج !!
|
هموم دارفورية؟ (1/3)
د. حسين آدم الحاج
الولايات المتحدة الأمريكية
[email protected]
سأتناول فى هذا المقال شتات مواضيع, صغيرة فى أحجامها, كبيرة وخطرة فى محتواها, وهى جزء من هموم أهل دارفور, هموم مسكوت عنها الآن على الأقل, وستظل كذلك طالما أنَّ الناس اليوم مهددون فى أرواحهم نفسها, وفى مثل هذه الظروف تصير إنقاذ تلك الأرواح البريئة أولى ويعلو على ما عداها من هموم, وذلك تحديداً ما يهدف إليه هذا الحراك العالمى الغير مسبوق وهى تجتهد فى السباق مع الزمن. ولذلك نود أن نسلط الأضواء على همومنا المؤجلة الآن حتى إشعار آخر فلربما تجد لها مواقعاً من إعراب المهتمين بالشأن الدارفورى.
وعموماً فإنَّ القضايا التى سيتناولها هذا المقال, كل قضية على حدة, تحتوى معظمها على ألغاماً غاطسة وقنابل موقوتة تترقب بدورها لحظات تفجرها لتدور ساقية جحا فى الإخلال بمجتمع الإقليم بصورة جديدة من الصور, ثمَّ إنَّ هناك قضايا معاشة عملت على تدمير دارفور تحتاج لحل ناجز حتى لا تتكرر مرة أخرى وتؤرق مشاعر المجتمعين المحلى والدولى مثلما يحدث اليوم, فالجنجويد مثلاً ظلُّوا يمثلون قنابل حية متفجرة ويعكف المجتمع العالمى اليوم لنزع فتيلها وتفكيكها الآن قبل الغد, لكن بعض السياسات الباطنية تصر وتعمل على تحويلها لإلغام غاطسة وقنابل ساكنة يمكن تفجيرها مستقبلاً إذا ما واتتها الظروف المناسبة أو أن تقاعس المجتمع الدولى عن المطالبة بحلِّها. لقد دخلت قضية دارفور أنفاقاً خطيرة وصارت لها أبعاد محلية وإقليمية وعالمية, ولعلَّ رحمة الله بعباده المقهورين قد إقتضت ذلك ليزع بالأجنبى ما لم يزع بالوطنى, وطالما وصل الأمر إلى هذه الدرجة فيجب أن يكون الحل شاملاً والعلاج شافياً يتناول أصول القضية فى جملتها الكليَّة وينظر لها بزوايا عريضة وأفق واسع يتجاوز الحلول الوقتية والمسكنات الموضعية, ولا بد أن يحدث ذلك, وبإصرار عنيد من كل الأطراف المعنية, حتى ينبلج فى دارفور فجر جديد ومستقبل وضيئ, ويهب عليها دعاش الأمل و"الهمبريب" مثل زخات الخريف المنعش التى أقبلت على دارفور مع مقدم كولن باول وكوفى أنان كما شاهدناها فى نشرة أخبار البى بى سى التلفزيونية, والخير مع قدوم الواردين.
(1)
أطفال دارفور:
أثار موقع سودانيز أون لاين فى شبكة الإنترنت على صفحتها "المنبر الحر" خلال الأيام الماضية قضية أطفال دارفور والمآسى التى يتعرضون لها من جوع ومرض وموت بطيئ بفعل الكارثة الإنسانية المخيِّمة عليهم كعقَّاب جارح, ولقد جاء تجاوب المشاركين فى النقاش ومداخلاتهم صادقاً ومعبراً عن مدى إستياءهم تجاه ما يحدث محملين الحكومة السودانية ومليشيات الجنجويد والبشمرقة التابعين لها مسئولية ذلك, كما ظلَّت الصحف ووكالات الأنباء المحلية والعالمية تنقل صور الأوضاع الحرجة التى يعيشها النازحون فى معسكراتهم الرثة والتى تفتقر لأبسط مقومات الحياة التى تليق بالروح الإنسانى, ومن الأخبار التى أثارت إنتباهى تلك التى أشارت إلى وجود سبعين طفلاً دون سن السادسة بمعسكر أم القرى بغرب دارفور فقدوا ذويهم وأصبحوا أيتاماً (الرأى العام 3/6/2004م), هؤلاء المجموعة من الأطفال فاقدى الوالدين والأهل ليسوا وحدهم, إنَّ الأخبار التى تتواتر علينا من الإقليم بصورة شبه مستمرة تؤكد تنامى نذر كارثة إجتماعية خطيرة أخذت تتفاعل بقوة فيما يختص بأطفال دارفور فاقدى الأبوين, وربما جميع الأهل, عددهم اليوم بالآلاف فى أنحاء الإقليم, يجوبون شوارع القرى والبلدات الكبيرة يطرقون الأبواب ويطلبون المأكل والمشرب, كثيرون منهم لا مأوى لهم ينامون تحت الأشجار أو فى ردهات المتاجر ورواكيب الأسواق, أو حتى فى البيوت المهجورة وساحات المساجد والمبانى الحكومية إن لم يكن لها رقيب, يجوبون الطرقات ويهيمون على وجوههم فى وضح النهار وتحت جنح الليل كالكلاب الضالة, بل إنَّهم قد يتشاركون مع الكلاب نفسها فى بعض ما تأكلها مما تلقيها المطاعم والبوفيهات من فتات الأكل وبقايا العظام. هؤلاء الأطفال معظمهم يعانى من الإختلالات السيكلوجية والإضطرابات العصبية بفعل الهلع والذعر العنيف التى عصفت بهم وبأهلهم جراء الهجمات الصاعقة على قراهم الآمنة فى دواهم الليل أو مع تباشير الفجر, معظمهم هبَّ مذعوراً من نومه الهانئ وأحلامه البريئة على صراخ الأهالى ولهيب الحرائق ودوى قصف الطائرات ثمَّ هجمات المليشيات القاتلة من جنجويد وبشمرقة, معظمهم شاهدوا بعيونهم البريئة أباءهم يُقتلون وأمهاتهم وأخواتهم يُغتصبن وبيوتهم تحترق, لا يدرون أو يفهمون ماذا حدث؟ ولماذا يحدث؟ فهربوا فى جنح الظلام مع الهاربين وفى كل إتجاه, ولما إنفلق الصباح وجدوا أنفسهم وحيدين لا آباء ولا أمهات ولا أهل, فتبددت إستغاثاتهم وصراخهم فى تجاويف الأودية الخاوية وتلاشت مع صدى الجبال بلا مجيب, فقد إنتقلوا إلى رحمة مولاهم فى تلك اللحظات الخاطفة, ولمَّا لم يجدوا بداً من فعل أى شيئ, وحيث لم يتبق أى أمل يسند مقوِّمات للحياة فى تلك الأماكن التى توارثها أجدادهم خالف عن سالف, تبعوا من نجوا من رسل الموت فرمت بهم أقدامهم الغضة الحافية إلى أطراف المدن ومعسكرات اللاجئين دون مغيث أو نصير سوى رب العالمين.
آلاف هم هؤلاء الأطفال اليافعين يجوبون شوارع الفاشر ونيالا والجنينة وكتم وزالنجى وكاس وكبكابية وقارسيلا وكلبس, بجانب معسكرات اللاجئين والقرى والبلدات الأخرى, ليس لديهم أسر أو عوائل ترعاهم ناهيك عن مدارس أو حتى رعاية أولية, هؤلاء الأطفال يمثلون القنابل الموقوتة التى ستعصف بمستقبل دارفور إن لم يجدوا العناية والرعاية, وأهمَّها الرعاية الصحية والنفسية, والتى يجب أن تنزع عن نفوسهم البريئة وعقولهم الغضة رؤى الموت وهلاويس القتل والحرائق وأزيز الطائرات, فهذه الكوارث والرؤى المرعبة قد لصقت بخيالهم المتشكل وستصحبهم بقية مسيرة حياتهم إن لم يتلقوا العناية النفسية المطلوبة, وطالما أنَّ للحكومة إهتماماتها الأخرى وطرق تفكيرها المغايرة فليس لهؤلاء الأطفال سوى الله وأهل دارفور والمنظمات الدولية, ولقد كانت الإدارة الأهلية فاعلة فى مثل هذه الحالات حيث كانت بيوت الشيوخ والملوك والنظار والعمد مفتوحة للقريب والغريب, وكان الكرم الحاتمى يمتد ويفيض على "الحيران" طلاب العلم وحفظة القرآن فى خلاويهم, يظلون لسنوات يتحصلون فيها العلم دون أن يعرفوا من أطعمهم أوأسقاهم, فقد كانت الحياة تمضى بالبصيرة والمباصرة, أمَّا اليوم فعاديات الدهر هى التى أخذت تترى لتهد كل ذلك الماضى الجميل.
إنَّ أوجب واجبات أى دولة تحترم نفسها تتمثل فى صيانة كرامة مواطنيها وإحترام إنسانيتهم, وذاك واجبها الأول فوق كل الواجبات, بل إنَّ كل المعتقدات والشرائع تثبت بما لا يدع مجالاً للشك تكريم الخالق لإنسانية هذا الإنسان ومن ذلك يستمد الإنسان شرعيته ومشروعيته فى الحياة, ولعلَّنا نلمس ذلك جليَّاً فى هذه البلاد الأمريكية من خلال حرص الدولة الأكيد على رعاية مواطنيها, بل قد يمثل ذلك بالنسبة لهم السبب الحاسم فى فوز أو سقوط حزب أو شخصية سياسة فى التنافس الإنتخابى, تلك هى من أعظم فوائد الديمقراطية تتمثل فى كونها أقوى سلاح يدافع بها الشعب عن نفسه وينتزع بواسطتها حقوقه المشروعة, ولذلك فقد تحولت إلى هدف مباشر لبنادق العسكر والدكتاتوريات الغاشمة فى البلاد المتخلفة يدكونها مع أول بيان لهم ولا يترددون فى مواصلة ذلك فى سبيل الحفاظ على مصالحهم وأجندتهم الخاصة, ومن ثمَّ تحويل البلاد إلى سجن كبير, ومما أثار إنتباهى فى ملاحظاتى لطريقة إدارة المجتمع الأمريكى الإهتمام المطلق للدولة بضرورة توفير "الرعاية النفسية للمجتمع" فى فترات الإحتقان والكوارث الإجتماعية العاصفة, فقد كانت أولى الأوامر التى أصدرتها إدارة الرئيس بيل كلينتون عقب حادثة الإنفجار الإجرامى بمدينة أوكلاهوما سيتى عام 1994م هى إرسال مجموعة كبيرة من خبراء الصحة النفسية وسيكلوجية المجتمع للجلوس مع أسر الذين قتلوا فى ذلك الإنفجار ومحاولة مواساتهم والتخفيف عنهم, بجانب إزالة أى رواسب نفسية قد تعلق بذاكرة الناجين وتعيق حركتهم الفاعلة فى الحياة, ولقد فعلت إدارة الرئيس الحالى جورج دبليو بوش نفس ذلك عقب تدمير برجى التجارة العالمى بنيويورك فى سبتمبر 2001م, مثل هذه البرامج لرعاية سيكلوجية المجتمع والإستشارات النفسية (Counseling) تهدف لإمتصاص الصدمات القوية التى تهز المجتمع هزَّاً عنيفاً ويندرج تحتها مجموعة مشابهة, لكنَّها متكاملة أيضاً, من الأنشطة الأخرى تتضمن ذات الهدف مثل الصلوات الجماعية فى الكنائس وإجتماعات المدن (Town meeting) يقوم بها الرئيس أحياناً, وقد إشتهر بها الرئيس كلينتون خاصة, بجانب أعضاء الكونغرس فى ولاياتهم ودوائرهم الإنتخابية لمحاورة المواطنين وجهاً لوجه ومناقشة قضاياهم وهمومهم ولا يخفى أثر ذلك فى تخفيف الضغوط وتجفيف الإحتقانات الإجتماعية ونقل المجتمع من دوائر المعاناة والإحباط إلى آفاق الأمل والإيمان بغدٍ أفضل. نأمل أن يتم تطبيق شيئ من ذلك فى مجتمع دارفور وإلاَّ لظلَّ هذا الجرح نازفاً بلا توقف.
من هنا تبرز أهمية رعاية الأطفال صحياً وجسمانياً ونفسياً, الشيئ الذى يعكس لدينا شعوراً من القلق حيال ما يحدث لأطفالنا فى دارفور تحت لا مبالاة كاملة من الحكومة, وتتصاعد درجة الخطورة فى حقيقة أنَّه حتى الأطفال الرضع واليفع المصحوبين بأهاليهم لم ينجو من كوارث الموت والهلاك, فقد حذَّرت منظمة أطباء بلا حدود فى دراسة أجرتها مؤخراً فى منطقة وادى صالح ومُكجر بغرب دارفور أنَّ (21,5) بالمائة من الأطفال دون (سن الخامسة) يعانون من سؤ تغذية حادة, وأنَّ (خمسة) بالمائة من الأطفال دون (سن الخامسة) توفوا خلال ثلاثة أشهر فقط (الحياة 20/5/2004م), وأضافت المنظمة أنَّ «الشعب بأكمله يعاني من الجوع مما يجعلهم أكثر عرضة للإصابة بالأمراض» (الشرق الأوسط 20/5/2004م), بل وأنَّ ما بين 15 – 17 طفلاً يموتون يومياً بمعسكر مورنى بولاية غرب دارفور (الرأى العام 3/6/2004م), ماذا تبقى بعد هذه الكوارث, أهوالطوفان؟
وتمضى الصور المقلوبة والأرقام المأساوية لتزيدنا قلقاً من الكارثة الماحقة التى تحدق بأطفال دارفور ولتكشف سوءة الحكومة والمجتمع السودانى على السواء, فقد أعربت وكالة أممية هى صندوق الأمم المتحدة لرعاية الطفولة (يونيسيف) عن قلقها إزاء أوضاع الأطفال في دارفور وأشارت إلى أنَّ قرابة نصف مليون طفل يواجهون خطر الموت من الامراض وسوء التغذية, بجانب مليوني شخص, بينهم مليون نازح, تركوا أراضهيم ومنازلهم بسبب هجمات ميليشيا الجنجويد الموالية للحكومة الذين يتجول أفرادها على أحصنة أو جمال, وقد تمَّ تجميع النازحين في مخيمات مزدحمة حيث يعيشون في ظروف بالغة القسوة، وأفاد التقرير أنَّ وضع الأطفال النازحين "قاتم"! إذ تبلغ نسبة المصابين بسوء التغذية (23%), وهي نسبة مرتفعة قياسا ل"الحد االأقصى" للمعايير المحددة دوليا وهو(15%). وحسب التقرير، فإنَّ غالبية النازحين من الأطفال والنساء والشيوخ موزعين بين ولاية غرب دارفور (570 ألفا) وولاية شمال دارفور (290 ألفا) وولاية جنوب دارفور(140 ألفا), إضافة إلى لجؤ قرابة 120 ألف شخص إلى دولة تشاد المجاورة وبضعة آلاف أخرى بدولة أفريقيا الوسطى, وتابع التقرير أنَّ اليونيسيف "تعطي الأولوية لحملات التطعيم ضد الحصبة وحماية الأطفال (الذين إنفصلوا عن ذويهم) وحماية المرأة من العنف", وقررت تطعيم (2،2) مليون طفل تتراوح اعمارهم بين 9 أشهر و15 عاما ضد الحصبة وتقديم فيتامين A لحوالى (784 ألف) طفل آخر وتقديم خدمات صحية أساسية لمليون إمراة وطفل فضلا عن رعاية (1200) طفل يعانون من سوء تغذية حاد (سودانيز أون لاين 12/6/2004م), لكم الله يا أطفال دارفور وأهلها ولله جنود يعلم كيف يسخرها لرعاية عباده المقهورين.
وتزداد الصورة قتامة بالنسبة للأطفال الذين يكبرون ويصلون لسن الدراسة, لكنَّ معظمهم لا يجدون الفرصة لتحقيق ذلك, فقد أوضحت إصدارة الإحصاء التربوي للعام الدراسي (2001/2002م), والتي أعدَّنها شعبة التخطيط التربوي بوزارة التربية والتعليم الإتحادية, تدنى نسب إستيعاب مريع للأطفال فى سن الدراسة فى ولايات دارفور الكبرى, وكمثال فقد بلغت في ولاية جنوب دارفور (43,4%) للبنين و(30,7%) للبنات، وفى ولاية غرب دارفور (40,2%) للبنين و(26,8%) للبنات, أى بمتوسط إجمالى للولايتين يعادل (35%) فقط من جملة الأطفال المستحقين للقبول (أى ثلثهم فقط) مقارنة بمتوسط إجمالى يعادل (65%) في الولايات الوسطى, وبمعدَّل (103.4%) فى الولاية الشمالية, و(87,3%) فى ولاية نهر النيل, أى بمتوسط إجمالى يعادل (95,4%) للولاية الشمالية بحدودها القديمة (الصحافة 24/5/2004م). وقد عزت الوزارة تدنى نسب القبول فى بعض المناطق إلى تطبيق الحكم الفدرالي وتراجع التمويل وتمديد السلم التعليمي لثماني سنوات، إضافة إلى قلة المدارس وعدم توفر الكتاب المدرسي، ويشكل عدم توفر الموارد المالية المشكلة الأساسية وراء تدني نسب الإستيعاب كما جاء فى التقرير.
حقيقة أخرى لا تقل مأساوية عن أطفال دارفور, إنَّ الروايات التى تصدر من اللاجئين فيما يختص بالمخاطر التى يتعرض لها االأطفال بسبب جرائم الحرب لجد حزينة, فقد ذكر الكثيرون منهم أنَّهم شاهدوا الجنجويد يخطفون أعداداً كبيرة منهم, ورأوا مجموعات من هؤلاء الأطفال مجبرين على السير فى طوابير تحت حراسة مشددة من الجنجويد الخيَّالة يسوقونهم إلى جهات غير معروفة, وأغلب ظنَّ الأهالى أنَّ الجنجويد إنَّما يقومون بذلك من أجل إستعبادهم وإستخدامهم لرعى الحيوانات وحرث المزارع والخدمة فى المنازل بجانب تحويل البنات إلى متع خاصة. إنَّ هناك من لا يتورع عن فعل ذلك وحتى فى أيام السلم, فمعظم الحوادث والجرائم المدوَّنة بمضابط الشرطة فى بعض مناطق التماس بين القبائل يجد أن معظمها يتعلق بجرائم الشرف, كالإغتصاب مثلاً, ومعظمها ضد الفتيات من القبائل الأفريقية, بجانب الإعتداءات البسيطة المبنية على بعض مظاهر الإحتقار والإستخفاف المتعمد.
إنَّ للأطفال حقوق مضمنَّة فى كل الأديان والمعتقدات وكذلك فى البيان العالمى لحقوق الإنسان, وقد أوردت صحيفة الأيام فى عددها بتاريخ 24 مارس 2004م مقتطفات من هذه الحقوق والتى تشتمل على الآتى:
* الحق في التعليم من خلال المادة (2 من قانون حقوق الطفل التى تنص على أنَّ تعترف الدول الأطراف بحق الطفل في التعليم, وتحقيقاً للأعمال الكاملة لهذا الحق تدريجياً وعلى أساس تكافؤ الفرص وذلك من خلال جعل التعليم الإبتدائي إلزامياً ومجانياً للجميع وتشجيع تطوير شتى أشكال التعليم الثانوى العام أوالمهنى وإتاحته لجميع الأطفال.
* الحق في الصحة حيث تنص المادة (24) من القانون نفسه على أن تعترف الدول الأطراف بحق الطفل في التمتع بأعلى مستوى صحى يمكن بلوغه وبحقه في علاج الأمراض وأعادة التأهيل الصحى, إذ تُعتبر مرحلة الطفولة من أكثر المراحل أهمية حيث ينمو الفرد جسمياً وعقلياً لذلك فان أي نقص في المواد الغذائية او الإصابة بأي مرض سيؤدى إلى آثار سالبة في النمو العقلى! والجسدى كما يؤدى إلى إصابة الطفل بالتخلف العقلى! والحركى.
* الحق في الحصول على المياه النقية.
وقد تعهدت قمة الطفل الثانية 2002م بنيويورك والتى شاركت فيها (189) دولة عضو فى الأمم المتحدة, ومن بينها السودان, بأنَّها ستحقق بحلول عام 2005م ثمانية أهداف أُطلق عليها الأهداف الإنمائية الألفية وهى:
- إستئصال الفقر والجوع.
- تحقيق شمولية التعليم الإبتدائي.
- تعزيز المساواة بين الجنسين وتمكين النساء.
- تخفيض وفيات الأطفال دون سن الخامسة بمقدار الثلثين.
- تخفيض الدول لنسبة وفيات الأمهات بمقدار ثلاثة أرباع.
- مكافحة الإيدز والأمراض الأخرى.
- ضمان الإستدامة البيئية.
- تطوير الشراكة العالمية للتنمية وقد صاحبت القمة خطة عمل لتنفيذ الألفية الثالثة.
فهل عملت حكومتنا على تحقيق ذلك خاصة وأنَّ العام 2005م على الأبواب؟
إنَّه من الواجب على أهل دارفور أن يتكاتفوا, رغم الشدة والمعاناة التى يعيشونها الآن, والتى ستستمر لفترة من الزمن قبل أن تنقشع تدريجياً, وأن يتولوا إيلاء أقصى درجات الإهتمام بهؤلاء الأطفال فاقدى الأبوين والأهل, ولعلَّ ظاهرة الأطفال فاقدى الأبوين موجودة أيضاً بمناطق أخرى من السودان, وتحديداً ولاية غرب كردفان (سابقاً) وولاية كسلا, نتيجة للحروب خلال العقد الماضى, وقد حاولت هاتان الولايتان التصدى لمعالجة الآثار المستقبلية من خلال تأهيل هؤلاء الأطفال غير المصحوبين بذويهم بسبب الحرب وإدماجهم فى حركة المجتمع, وقد إستفادت ولاية غرب كردفان من جهود منظمة العون المدني العالمي في إعادة تأهيل الأطفال المتأثرين بالحرب والتي نفذتها بالعديد من أنحاء الولاية, بتركيز خاص على مدينة المجلد, وقد بدأ ذلك البرنامج بتنفيذ دراسة أولية لتحديد الإحتياجات بجانب مسح ميداني للأطفال المتأثرين بالحرب وتنفيذ برامج إجتماعية ونفسية لتهيئتهم للمرحلة الثانية والتي تمثلت في إقامة برامج تدريبية وتأهيلية وإلحاق بعضهم بالمدارس· وقد تمَّ ترتيب ذلك البرنامج عبر شراكة ذكية بين منظمة العون المدني العالمي وولاية غرب كردفان (أخبار اليوم 24/3/2004م).
أما فى ولاية كسلا فقد نظَّمت حكومة الولاية بالتعاون مع منظمة بلان سودان ومنظمة رعاية الطفولة السويدية واليونيسيف والهلال الأحمر السودانى مؤتمر كسلا لدعم حقوق الطفل والذى جاء تحت شعار (نحو غد أفضل للأطفال بولاية كسلا), وذلك بهدف دراسة المتغيرات التى تعرضت لها الولاية من ظروف طبيعية وموجات الهجرات والنزوح وإنتشار الفقر وتزايد أعداد مصابى العمليات العسكرية والألغام وتفشى العطالة وإنتشار المهن الهامشية كلها أثَّرت تأثيراً سالباً على حقوق الأطفال وحاجاتهم الأساسية.
إنَّ مثل هذه التجارب الوطنية الرائدة يمكن أن تساهم فى معالجة قضايا مشابهة تتعلق بأطفال دارفور, وغالبيتهم الأطفال المتأثرين بالحرب, وهم أكثر فئات المجتمع هشاشة ويحتاجون للعون الإنسان العاجل, وبالرغم من إمكانية الإستفادة من خدمات المنظمات المهتمة بهذا الشأن مثل منظمة بلان سودان ومنظمة رعاية الطفولة السويدية واليونيسيف والهلال الأحمر السودانى إلاَّ أنَّ ذلك لا يعفى من إستحداث خطط طويلة المدى تهدف لإستدامة الحلول الموضوعة مثل تشجيع الأسر لتتكفل بتربية ورعاية هؤلاء الأطفال فى عملية شبيهة بعمليات التبنى, خاصة وأنَّ هؤلاء الأطفال ظلوا محرومين من حنان الوالدين, وأنَّ عملية التبنى حتماً سيولد فيهم الإحساس بالإنتماء ويعوِّضهم فقدان الوالدين والأهلين, ويجب تشجيع هذه العمليات حسب ما تنص عليها تعاليم الشريعة الإسلامية, ولعلَّ عودة الإدارة الأهلية, إذا ما إكتملت بطريقة معافاة من التسييس والغرض, ستمثل الأوعية النموذجية التى يمكن أن تضطلع بالأخذ بأيدى هؤلاء الأطفال وتدريجهم فى سلالم الحياة تحت بصر ورعاية كل أفراد القبيلة والمجتمعات العشائرية.
وعلى العموم نناشد بإيلاء الإهتمام الكامل بأطفال دارفور, فى كل مستوياتهم العمرية والدراسية, وتشمل هذه المناشدة كل الحكومات الولائية والإدارات الأهلية ومنظمات المجتمع المدنى والمجتمع العالمى, وإضافة لذلك نقترح تطوير المداخل التالية:
* قيام مفوضيَّة إقليمية تغطى كل ولايات دارفور الكبرى, يكون ممثلاً فيها كل من الجهات الحكومية والهيئات الشعبية والإدارة الأهلية والإختصاصيين التربويين, للعناية بشئون الطفل ومتابعة حالات الذين تأثروا نتيجة للحرب.
* تطبيق إلزامية تناول الطفل, خاصة حديثى الولادة, لكافة جرعات التطعيم وإدخال نظام البطاقة الصحية والإستفادة من إمكانيات شيوخ الإدارة الأهلية فى متابعة ذلك بمناطق نفوذهم.
* توسيع مهام وأنشطة أقسام الصحة المدرسية وتطبيق نظام البطاقة الصحية للطالب تصحبه طيلة فترته الدراسية حتى نهاية مستوى التعليم الثانوى.
* إنشاء صندوق لدعم التعليم بمشاركة كافة القطاعات الرسمية والشعبية لتوفير الموارد المالية المطلوبة, وزيادة نسبة الإنفاق على التعليم من الدخل القومى.
* إعادة تأهيل البنى التحتية وزيادة فرص التعليم وتوفير الكتاب المدرسى والمعينات الدراسية.
* إعادة فتح الداخليات منعا للتسرب وتركيزاً للعملية التربوية.
* تطبيق مبدأ إلزامية التعليم للأطفال فى سن الدراسة وزيادة نسب الإستيعاب بصورة كاملة بحيث لا يُترك أى طفل فى العراء.
* إيلاء إهتمام كافى بتعليم الرحل وتطوير عملية وأهداف برامج هذا النوع من التعليم وترقيته.
* الإهتمام الخاص بالفاقد التربوى والمتسربين ومحاولة إستيعابهم فى التعليم الفنى ومعاهد التدريب المهنى.
* سن قوانين خاصة تفرض مبدأ إلزامية تعليم البنات وخفض الفجوة مع البنين مع مراعاة خصوصية دور المرأة فى مجتمع دارفور.
* الإهتمام بالمعلم وتشجيعه وتحفيزه مادياً وتأهيله مهنياً وإنصافه إجتماعياً.
* معالجة مشاكل التعليم بتجويده وإستحداث برامج واستراتيجيات جديدة تكون مواكبة للتطور العالمى مع ضرورة إدخال شبكة الإنترنت فى العملية التعليمية.
* ربط العملية التعليمية بالحاجات الأساسية لمجتمع الإقليم مع الإهتمام الخاص بدراسة وتطوير المصادر الطبيعية والبشرية والإجتماعية والإقتصادية والتنموية لأهل الإقليم.
* الإهتمام بالتنمية البشرية كمدخل أساسى للتنمية الشاملة وإعتبارها فلسفة أساسية فى عملية التربية والتعليم.
* ضرورة قيام مؤتمر دولى لتحديث التعليم بالإقليم ووضع رؤية واضحة وخطط لتعليم متميز عقب تحقيق السلام.
فى مجهود شخصى بحت سيقوم كاتب هذا المقال فى القريب بمشيئة الله بإعداد دراسة عن الأطفال فاقدى الأهل, أو غير المصحوبين بذويهم بسبب الحرب فى دارفور, تتصمن مقترحات محددة لرعايتهم وتأهيلهم وسيقوم برفعها للسيد توم فرالسن مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة للشئون الإنسانية بالسودان وإلى السيد ونتر روجرز نائب مدير الوكالة الدولية للمعونة الأمريكية لتبنيها وتنفيذها لصالح هؤلاء الأطفال, وسيكون ذلك جزء من برنامج كبير موجَّه لخدمة دارفور.
(2)
نساء دارفور:
ومن همومنا المهمومة بأطفال دارفور, ورثة الماضى العريق والتاريخ التليد, ينفجع قلوبنا أكثر بالكوارث التى تعصف بنساء دارفور, إنَّ النسوة اللاتى نشاهدهنَّ فى الصور والقنوات الفضائية هنَّ أمهاتنا وأخواتنا وبناتنا, تنطلق من نظرة كل منهنَّ كتباً وأسفاراً تحكى المسكوت عنه وتفضح سرائر المتنفذين ومتسلطى الحكم السودانى الذين لا يتفننون إلاَّ فى إذلال شعوب الهامش, هنَّ الحرائر اللاتى إحتضنَّ دارفور فى قلوبهنَّ وحملتنها على ظهورهنَّ, وبنتنها بإيديهنَّ, نساء دارفور وعبر التاريخ هنَّ العاملات, العالمات, الشريفات, الطاهرات, هنَّ عماد مجتمع دارفور, ولحمتها فى الرخاء والشدَّة, تجدهن فى موارد المياه ينشلنَّ الماء بأيديهنَّ ليسقين بها أسرهنَّ وحيواناتهنَّ, يسرنَّ ليوم أو بعض يوم على أرجلهنَّ فى سبيل ذلك, تجدهنَّ فى المزراع يحرثنَّ الزرع, ويحصدنَّ السنابل, ويذرن البذور, تراهنَّ فى الأسواق يبعن ويشترين, كثيرات منهنَّ ربتنَّ أسراً بكاملها وخرَّجْنَّ علماء وخبراء من الجامعات والمعاهد العليا دفعنَّ بهم إلى خضم الحياة, تجدهنَّ فى بيوتهنَّ مستورات معززَّات مكرمَّات, يكرمنَّ الضيف ويحفظنَّ العشير ويحملنَّ الحياة على جناح الأمل فى أطفالهنَّ, يبتسمنَّ لجبال المعاناة بإيمان نظيف بأقدار الله والتوكل عليه, هنَّ هؤلاء اللاتى نشاهدهنَّ على مستوى إعلام العالم, ومع كل ما يمرَّنَّ به من تقلب ظروف الزمان وجور الدهر وظلم ذوى القربى من أهل الدار والغرباء والذين بيدهم السلطة إلاَّ أنَّ وجوههنَّ, عجزة وفتيات وطفلات, تظلُّ ترتسم عليها كبرياء عنيد وتصميم أكيد ونظرات نافذة تستمد جذورها من ماضى لا تشوبه شائبة وتاريخ عظيم يتمنى البعض أن يستولى عليه, هنَّ أمهاتنا وأخواتنا وبناتنا تعرضنَّ للذل والإذلال وإمتهان الكرامة, تعرضنًّ للإغتصاب, بعضهنَّ أمام أسرهنَّ, ووكالات الأنباء العالمية تروى كل ذلك وتنقل حديثهنَّ بالصورة والكلمة فيتوقف العالم كله صمتاً وخجلاً, ويرهف السمع غير مصدق وكأنَّهم يشاهدون روايات من عهود التتر والمغول وما دروا أنَّ التتر والمغول قد تمَّ إستنساخهم فى مجموعات جديدة, وقادة جدد, إذا تكلموا ينسال العسل والقرآن من ألسنتهم, لكن إن كشفنا المخبؤ فى قلوبهم لوجدناه السم الزعاف والحقد الأعمى والتربص الدائم.
ينفعل المجتمع العالمى بكل ذلك إلاَّ المسئولين المتنفذين, لا يرف لهم جفن أو يخفق لهم قلب أو يرق لهم خاطر, يتحدثون بصيغ النفى والإنكار عن وقوع الكارثة ويقللون من تعاظم الإهتمام الدولى بها, بل ويتهمونها بالمبالغة والتآمر, حتى إنَّ بعضهم ينفى بالأساس أن تكون تلك الصور هى عن لاجئين سودانيين وينسبها, فى حديث لأكبر قناة تلفزيونية عربية عالمية, إلى رواندا!! بالله عليكم ما هى الطينة التى خُلق منها هؤلاء البشر؟ هل ينامون مطمئنين ملء جفونهم يهنئون بها ويحلمون كما يحلم الأبرياء أصحاب النوايا الصافية؟ هل عندما يلغون أيديهم فى موائدهم الدسمة يتذكرون أنَّ العشرات من أطفال وأهل دارفور قد إنتقلوا إلى رحمة مولاهم فى نفس تلك اللحظات بفعل الجوع والعطش والمسغبة؟
وبالرغم من الصمت المخجل للصحف السودانية عن عكس ما يجرى فى دارفور, بفعل الضغوط والتهديد الواقع عليها, إلاَّ أننا وللإنصاف نجد العديد من الأقلام المنصفة تحاول كسر حاجز التعتيم الحكومى المتعمَّد, مثلما فعلت صحيفتا الأيام والخرطوم مونيتر, وكلنا نعرف قسوة العذاب التى أذاقتهما الحكومة بها بسبب جرأتهما, وبجانب ذلك نجد بعض المحاولات الصادقة لنقل شيئ من جوانب المأساة ومن المتأثرين بها مباشرة, فقد نشرت جريدة الأيام فى عددها بتاريخ 17/3/2004م ملفاً تحت عنوان (متى تتوقف الأحزان؟ نساء الغرب من نزوح الجفاف لنزوح الحرب: إفادات من معسكر مايو جنوب الخرطوم), وبالرغم من أنَّ التحقيق الذى شمل ذلك الملف قد تمَّ على مشارف العاصمة بعيداً عن منابع الكارثة فى دارفور إلاَّ أنَّه أعطى صورة قريبة مشابهة لما يجرى هناك, والمأساة الأكبر هى أنَّه وحتى على مشارف عاصمة البلاد تتواصل المعاناة, إذ أورد ذلك الملف منظراً مكتوباً عن مجموعة أمهات يحملنَّ أطفالهنَّ حديثي الولادة في ظروف بائسة وغير إنسانية, ويقول الصحفيان اللذان أجريا اللقاء (صحفية وصحفى) أنَّ الروح القدرية وحدها غالباً ما يدفع المرء للصمت إزاء أفعال تقفز بنا إلى اللامعقول! ويضيفان "لعل الروح القدرية هذه هي التي تدفع أيضاً ب 100 امرأة لقضاء ليلتهن في فصل واحد بمدرسة وعلى الأرض", كما أنَّ هنالك نساء أخريات يحملنَّ أطفالهن حديثي الولادة, حالة وضوع بعضهنَّ لا تتجاوز الـ45 يوماً, وكان عليهنَّ أن يمضين الأيام والليالي مطاردات تحاصرهنَّ آلام الوضوع ومخاطرها، وإضافة للخوف الغريزي أصبح الأمر وكأنه مخاطرة بالحياة. وحيث أصبح الحزن سيد الموقف, وحيث واجهت أعداد منهن لحظات المخاض فوضعن أطفالهنَّ أثناء رحلة الهرب كيفما إتفق تحت ظل شجرة، أو بالقرب من صخرة أو من منزل ما تصادف قربه من الطريق، وحيث مرّت لحظات المخاض دون رعاية صحية, دون أدوات نظافة, دون وجبة مغذية ساخنة. ويمضى التقرير فيورد إفادات شخصية عن نساء عايشن حالة المخاض وهن يواجهن الخوف والفرار من الموت، تقول "فاطمة" وهي تحمل طفلها (45 يوماً) إنَّها وضعت طفلها في الجامع، أثناء رحلة الفرار من قريتها, وتشتكى بأنَّها تعانى من صداع وإرتفاع فى درجة الحرارة ولم تعد تستطيع النوم، ولا يتوفر لها لبن يكفي حاجة الطفل، ثمَّ أخذت تبكي وهي تتذكر ما قاسته أثناء لحظات المخاض وتقول: "لا أدري كيف تمَّ ذلك، لولا مساعدة إحدى قريباتي لم أكن أدري ماذا أفعل, لم أكن ألبس سوى ثوب مزقته قريبتي على شقين أحدهما لإستعمالي الشخصي, والآخر للطفل, لم يكن هناك بديل", أما "كُبرى" البالغة من العمر 23 عاماً فقالت أنَّ لديها 3 أطفال ولم يحدث أن تركت قريتها قط قبل هذه الرحلة إلى المجهول, وأنَّها شاهدت فظائع كبيرة: "لقد قُتل زوجي أمام عيني, وعندما وصلت لقرية جدتي قامت بمساعدتي وتمت الولادة تحت ظل شجرة بالقرب من خور, لا أملك سوى ثوبي هذا الذي ألبسه" وقالت أنَّها تحتاج لغذاء وملابس لها ولأطفالها, أمَّا "نفيسة" فذكرت أنَّ زوجها قُتل فى غارة لكنَّها تمكنت من الفرار دون أن تتمكن من أخذ أى شيئ لإعاشتها, أمَّا "فاطمة إدريس" فقالت أنَّها تحتاج لطعام يساعد على توفير اللبن لطفلها. هذه أمثلة بسيطة مقارنة بحجم المآسى التى تعانيها النساء فى دارفور, وللأسف رغم نزوح هؤلاء النسوة لأطراف العاصمة إلاَّ أنهنَّ لم يجدن ما كان متوقعاً أن تقوم به حكومة "بلادهنَّ", الأنكر من ذلك أنَّه حتى عندما تحرك طلاب دارفور بالجامعات والمعاهد العليا بالخرطوم لمساعدتهنَّ مع بقية اللاجئين تعرضوا للضرب من قوات الأمن وقُتل عدداً منهم, إلى هذه الدرجة.
التحية لروابط طلاب دارفور بالجامعات والمعاهد العليا فأنتم ضمير دارفور النابض فى خضم هذه الكارثة, أنتم الناطقون حين سكت الجميع, وأنتم الشمعة المضيئة فى وسط هذا الظلام الكالح. نقول لصاحب كل ضمير حى أنَّه من أجل ذلك وغيرها من مجازر وحرائق أشدُّ عنفاً وبشاعة, رفع ثوار دارفور السلاح فى وجه البغى والفتنة, وهل كان لهم أن يفعلوا غير ذلك؟ ثمَّ ماذا سيخسرون طالما أنَّ هناك من حكم عليهم مسبقاً بالفناء؟ وإلاَّ فبماذا نفسر حرق وقصف القرى الوادعة ونفى المواطنين الآمنين وتنفيذ سياسة الأراضى المحروقة؟
لقد كتب أحد الصحافيين الأفارقة إسمه سايمون أبيكو من وكالة الأنباء الفرنسية وصفاً لما يحدث فى دارفور إستخلصه من إفادات اللاجئين بمعسكراتهم قرب مدينة الجنينة, ونشرته موقع (سودانيز أون لاين 26/6/2004م), قال فيه أنَّ العنف الذي يعصف بدارفور قد أدَّى إلى الإخلال بالتوازن الديموغرافي في هذه المنطقة بغرب السودان حيث أصبح عدد النساء أكبر من الرجال الذين قتلوا في الحرب إو إنضموا إلى الثوار أو ببساطة نزحوا بحثا عن الأمان. وأشار إلى تقرير أصدرته منظمة أطباء بلا حدود الفرنسية أنَّ الميليشيا الموالية للحكومة التي تهاجم القرى "تستهدف خصوصا الرجال الذين يشكلون ثلاثة أرباع الضحايا", كما أورد أيضاً ملاحظة وزير الدولة الفرنسي للشؤون الخارجية رونو موزولييه الذى طاف بتلك المعسكرات منتصف الشهر الماضى بأنَّه لاحظ وجود "كثير من النساء والأطفال وقليل من الرجال", ولذلك فإنَّ كثير من النساء أصبحنَّ الآن ربات أسر مسؤولات تماماً عن إعالة الأبناء, ويتعين عليهنَّ كذلك الإهتمام بالمواشي التي نجت من النهب وإستخدام الحمير في البحث عن الحطب من أجل إشعال النار وإيجاد المرعى للحيوانات, وإختتم الصحفى الأفريقى تقريره أنَّه حتى في حال تحسن الوضع مستقبلاً، فانَّ معظم النساء سيضطررنَّ إلى تعلم زراعة الأرض والإعتماد على أنفسهنَّ في إعادة بناء بيوتهنَّ التي هدمها الجنجويد.
مآسى المرأة فى دارفور كثيرة ومؤلمة, ومع ذلك فعليها أيضاً أن تتحمل ركناً أساسياً فى إعادة ترتيب وإستقرار مجتمع دارفور, ولذلك فإننا نقترح التفكير فى النقاط التالية من أجل مساعدتها فى الوفاء بذلك:
* إنشاء صندوق خاص لدفع تعويضات مالية وعينية للمتأثرين بأحداث دارفور, وغالبيتهم من النساء, تشمل دفع ديَّات للقتلى وتعويضات للقرى المحروقة والأموال المنهوبة والمزارع المدمرة, ويجب التركيز فى دفع المبالغ على النساء بصورة خاصة حيث سيساعد ذلك فى إستعادة تماسك أسرهنَّ وتوفير بعض المدخلات المطلوبة لمعاودة دخولهنَّ فى عجلة الإنتاج التى إشتهرت بها المرأة فى دارفور. ويمكن لهذا الصندوق أن يكون تحت رعاية الأمم المتحدة بتمويل داخلى وخارجى من الجهات الدولية المانحة.
* إعادة تطبيق دعم المواد التموينية (سكر, دقيق, وقود, ألخ) فى دارفور لمدة عام واحد, لتمكين الناس من إلتقاط أنفاسهم وبدء عملية دورانهم الطبيعى فى الحياة, وبالنظر إلى الأوضاع الأسرية بدارفور فإنَّ النساء العائلات لأسرهنَّ هنَّ أكثر المستفيدات من مثل هذا البرنامج.
* القيام بحملة قومية لجمع الملابس والبطانيات وأى معينات أخرى, خاصة ملابس النساء والأطفال, لمساعدة الأسر على العودة والإستقرار, كما يجب أن تكون هنالك حملة عالمية تتصدرها روابط أبناء دارفور المنتشرة حول العالم لإستقطاب ذلك من المجتمع العالمى والمنظمات الخيرية, خاصة من المساجد والمراكز الإسلامية التى تتوفر بها الكثير من هذه المساعدات.
* إعطاء دور أكبر للإدارات الأهلية فى تحديد المتأثرين من الأسر ومتابعة الحالات العاجلة, فكل زعيم قبيلة أو شيخ قرية يكون ملمَّاً بأحوال رعيته مما يُسهِّل عملية تطبيق أى برامج إجتماعية موجَّهة نحو الأسر.
* ضرورة قيام المسئولين بالولوج فى أعماق المجتمع والتفاعل مع قضاياه وذلك من خلال نشر ثقافة (إجتماعات المدن والقرى) لمناقشة الأوضاع والقضايا الماسَّة وأخذ رأىالمواطنين فى التعامل معها مباشرة من القواعد (Grassroots), بجانب تصعيد القرارات الخاصة بهم من القاعدة إلى القمَّة (Bottom up), أى سياسة منهم وإليهم.
* فى المدى المتوسط والطويل, أى بعد تحقيق الإستقرار والطمأنينة وعودة الحياة إلى مجراها كما كانت فى السابق, يمكن تشجيع تكوين منظمات المجتمع المدنى للمرأة وتمكينها من التعامل مع كل قضاياها بجانب برامج تنمية الأسر والأطفال.
* تمكين البنات والفتيات اللاتى أجبرنَّ على ترك التعليم من مواصلة تعليمهن, وإستنباط برامج ذكية للتعامل مع القضايا النوعية المعيقة لذلك, وربما يكون دور المعلمات ومدارس البنات المنتشرة على مستويات المدن والقرى دور هام فى متابعة ذلك.
نساء دارفور يستحقن أكثر من ذلك.
(3)
لجنة مولانا دفع الله الحاج يوسف ومغالطات غازى سليمان:
منذ تكوينها بقرار رئاسى لتقصى حقائق إنتهاكات حقوق الإنسان بدارفور ظلَّت لجنة مولانا دفع الله الحاج يوسف تحوم حولها غبار الشكوك والريبة من المجتمعين المحلى والعالمى على السواء, بل إنَّ بعض منظمات حقوق الإنسان العالمية, كهيومان رايتس ووتش, أبدت شكوكاً صريحة حول إمكانية تحقيق هذه اللجنة لأى نتائج ذات قيمة, وقد طاف هذا الظَّن أيضاً بعقول الكثير من أبناء دارفور حول العالم, لكن نسبة لوجود شخصية قانونية محترمة مثل المحامى غازى سليمان كعضو فى هذه اللجنَّة, بجانب كونه رئيس المجموعة السودانية لحقوق الإنسان, وأنَّ هذه المجموعة نفسها قد سبق لها, وبتكليف من غازى نفسه, أن تقصَّت حول إتهامات الإنتهاكات بدارفور, نشرنا جزءاً من إحصائيات تقريرها النهائى فى مقال لنا بهذا الموقع, فقد لجمت الألسنة من الإنتقاد وفضلت إعطاء مساحة رحبة للجنَّة عسى ولعلَّها تكذب الظَّن بها. وحتى تقطع اللجنة الشك لكل متقوِّل أو مصدر إشاعة فى تنفيذ مهمتها فقد حذَّرت, على لسان غازى سليمان نفسه, من عدم إصدار أحكام مسبقة بشأن قضية دارفور, وتعهد غازى، خلال لقائه مقررة حقوق الإنسان بالأمم المتحدة جهانقير بتمليك لجنة تقصي الحقائق بدارفور كل الحقائق المتعلقة بالقضية والتعامل بالشفافية الكاملة, بل وقال لها: "إذا أردنا حل قضية دارفور فعلينا أخذ المزيد من الوقت" (الصحافة 4/6/2004م). وقد أكَّد ذلك لاحقاً حين أشار إلى أنَّ إجتماعات اللجنَّة ستتحول إلى لجنًّة علنية لمناقشة المسائل بشفافية تامة و"عدم إرسال التقارير السرية للخارج" (أخبار اليوم 13/6/2004م).
حسناً, لكن لم يمر أكثر من أسبوعين إلاَّ بالقليل على تحذيره ذاك إلاَّ وهو هذا غازى نفسه يكسر تحذيره ويستبق التقرير النهائى للجنَّة التى هو عضواً فيها وهى ما تزال فى طور بدايات إنفاذ مهمتها (ويصدر أحكام مسبقة بشأن قضية دارفور)! فقد نفي - بشدة – (حسب الخبر الذى نشرته صحيفة الرأى العام فى عددها بتاريخ 30/6/2004م) "أن يكون هناك تطهير عرقي في دارفور, وقال هذا أمر مبالغ «فيه» ووصف ما يجري هناك بأنَّه نتاج طبيعي لحرب أهلية في دولة نامية", وجاءت تصريحاته هذه أثناء مرافقته للواء عبد الرحيم محمد حسين وزير الداخلية ممثل رئيس الجمهورية بولايات دارفور فى زيارته الأيام الماضية لدارفور. المحامى غازى سليمان يحذِّر من إستباق إصدار أى أحكام ثمَّ ها هو يغالط نفسه بنفسه ويستبق ذلك بإصدار نفى (مغلَّظ) لإتهامات تسوِّد حبرها كل صحف العالم ومن أجلها تحديداً تكونت اللجنَّة التى هو عضواً فيها. نخشى أن يكون اللبن قد إندلق!
ومن المفارقة أنَّه قد ورد فى نفس الخبر أعلاه أنَّ لجنَّة تقصي الحقائق في أحداث دارفور قد قدمت شرحا لسفراء الدول الأوروبية بالخرطوم لكل من هولندا - إيطاليا - اليونان - فرنسا والإتحاد الأوروبي عن مهام اللجنَّة ودورها في الإستقصاء حول إنتهاكات حقوق الإنسان المدعى بها والأسباب التي أدت إلى الأحداث بدارفور. وأكَّد مولانا دفع الله الحاج يوسف رئيس اللجنة لـ (أس . ام . سي) "أن اللجنَّة ستعد تقريراً متكاملا متوازناً مبيناً على الحقائق من خلال الإستماع للبينات لحل القضية هذا, وأنَّها ستعقد إجتماعاً مع مجلس العموم البريطاني لمناقشة العديد من الموضوعات في إطار قضية دارفور " (صحيفة الرأى العام 30/6/2004م). هنا يبدو أن اللجنَّة نفسها غير واثقة من نفسها وتنتابها الشك فيما تقوم به, أو أنَّها تدرك أنَّ شكوك كثيفة تحوم حول مصداقيتها الشيئ الذى جعلها تنفق الكثير من وقتها الثمين لإقناع الجهات الأجنبية تحديداً بأنَّها ليست لعبة من صنيعة الحكومة لخداع العالم وتمرير الضغوط الواقعة عليها.
هذا الخبر يطرح عدداً من التساؤلات الهامة, فمثلاً:
* على ماذا إستند غازى فى نفيه لعدم وجود حالات تطهير عرقى فى دارفور؟ وهل هذه هى النتيجة النهائية التى توصلَّت إليها اللجنة؟
* هل يمثل ذلك رأيه الخاص فيكون بذلك مثل القاضى الذى يصدر حكماً فى قضية دون إكتمال التحقيق؟ ولماذا صرَّح بذلك وهو فى صحبة وزير الداخلية؟ بل ولماذا يرافق وزير الداخلية بالأساس؟ هل لجنته هى لجنة حكومية أم لجنة مستقلة؟
* يقول الخبر أعلاه أنَّ اللجنَّة قد نوَّرت سفراء الدول الأوربية عن دورها في الإستقصاء حول إنتهاكات حقوق الإنسان المدعى بها, "ويؤكِّد مولانا دفع الله أنَّ اللجنَّة ستعد تقريراً متكاملا متوازناً مبيناً على الحقائق من خلال الإستماع للبينات لحل القضية هذه", فإذا كان هذا هو رأى رئيس اللجنة نفسه فكيف جاز لعضو فيها بإستباق التقرير النهائى وإصدار أحكام جزافية؟
* أوردت جريدة الصحافة الخبر التالى: "تعكف لجنة تقصي الحقائق على دراسة كافة الوثائق والنشرات الواردة من المنظمات الدولية حول إنتهاكات حقوق الإنسان بدارفور، وأعلنت عن زيارة مرتقبة لها خلال الأيام القليلة القادمة للمناطق المتأثرة بغرب البلاد. وقال الناطق الرسمي باسم اللجنة فؤاد عيد، للصحافيين أنَّ اللجنة وجهت سكرتاريتها بتصنيف الإدعاءات المتعلقة بالإنتهاكات وتحديد المناطق المتأثرة لتتم الزيارة على ضوئها، وأضاف إنَّ اللجنة شرعت في مباشرة أعمالها بالإستماع إلى نواب دارفور بالمجلس الوطني وبعض قيادات الإدارة الأهلية من ولايات دارفور الثلاث" أ.هـ. (الصحافة 24/6/2004م). هذا الخبر نُشر قبل أسبوع واحد فقط من كتابة هذا المقال, ولا ندرى إن قامت اللجنَّة بتنفيذ زياراتها المزمعة لدارفور, وهى زيارات عمل حسب الخبر أعلاه, فكيف تسنى للأخ غازى أن يتوصل لنتيجة دامغة فى قضيَّة بالغة الحساسيَّة ظلَّ كل هذا الحراك العالمى يدور بشأنها؟
* لا نشك مطلقاً فى نزاهة غازى, فمسلكه المهنى مشهود بوضوح على مسرح حقوق الإنسان السودانى, لكن ألاَّ يعلم, وهو القانونى الضليع الذى لا يشق له غبار, إنَّ تصريحه أعلاه قد هدم الركن الأساسى التى تستند عليها لجنته فى عملها, وهى المصداقيَّة؟ ثمَّ ألا يعلم بأنَّ الأقلام ما سكتت عن أنتقاد تلك اللجنَّة إلا بسبب وجوده هو ضمن أعضائها؟ نخشى أن يكون تصريحه ذلك قد تسبب فى كسر لن ينجبر, وأدخل الحكومة فى حلقة جهنمية جديدة من النفى والإنكار.
* التحقيق السابق لإنتهاكات حقوق الإنسان فى دارفور التى أمر بها غازى فى مجموعته لحقوق الإنسان, وقام بالتحقيق حولها لجنة قانونية برئاسة ذو النون التجاني أحمد توصلت إلى إحصائيات دقيقة وكشفت عن إبادة (12,515) شخصاُ, وحرق(435) قرية, ونزوح أكثر من(1,3) مليون شخص فى الفترة من عام 1990 إلى مطلع نوفمبر 2003م فقط, ولا يشمل ذلك الهجمات التى تواصلت بعد ذلك والهجوم الحكومى الأخير فى شهر مارس من هذا العام, والتسيد التام للجنجويد فى مناطق القرى, ألاَّ يرقى كل ذلك إلى مستوى التطهير العرقى خاصة إذا علمنا أنَّ هذه الإنتهاكات تمت كلها فى مناطق وقرى القبائل الأفريقية؟ وأنَّ كل الذين قتلوا هم من أهل تلك المناطق؟
لدينا نسخة من ذلك التقرير الذى أصدره فريق التحقيق برئاسة ذوالنون التجانى وسنقوم بمقارنة ما جاء فيها من معلومات وإحصائيات مع محتويات التقرير النهائى الذى سيصدره لجنة مولانا دفع الله الحاج يوسف, وسيتبين لنا حينها الخيط الأبيض من الخيط الأسود, والمحرج للأخ غازى أنَّ التقريرين سيكونا صادرين من عنده! لقد أشار زهير السراج فى عموده مناظير بجريدة الصحافة أنَّ السيد ألن قولتي المبعوث البريطاني قد عبَّر عن رأيه في لجنة مولانا دفع الله الحاج يوسف خلال زيارته الاخيرة للسودان قائلاً, بأنه مع تقديره الشديد لمولانا دفع الله، إلاَّ أنَّه يرى أنَّ اللجنَّة «تحصيل حاصل» وليس لديها شيء تفعله، إذ سبقتها لجان دولية زارت دارفور ورأت الأوضاع على الطبيعة، وإستمعت إلى الناس، ورفعت تقاريرها إلى المنظمة الدولية، وإلى الجهات المختصة، وليس هنالك وقت لمزيد من لجان التحقيق، فالأوضاع معروفة، وما يحدث في دارفور لا يحتاج للجان جديدة, وعلى الحكومة أن تفعل ما يطلبه منها المجتمع الدولي لإيقاف المأساة الإنسانية في دارفور، وكبح جماح مليشيات الجنجويد، التي تقتل الناس، وتحرق قراهم، وتثير الرعب والهلع والفوضى والنعرات العرقية والعنصرية في الإقليم، وتنذر بنشوب حرب أهلية لا تبقي ولا تذر! (الصحافة 29/6/2004م), كان ذلك هو رأى السيد قولتى وهو الرأى السائد فى كل أنحاء العالم تقريباً, ولذلك فإنَّ نتائج تحقيقات لجنَّة مولانا دفع الله ستكون محل مقارنة ومساجلة واسعة من كل المنظمات وجمعيات حقوق الإنسان العالمية مع ما هو موجود مسبقاً فى سجلاتها من معلومات وإحصائيات وتقارير, وأى طعن فى مصداقية نتائج تحقيقات لجنة مولانا دفع الله ستتجاوزها فوراً لتطعن فى مصداقية ونزاهة الموقعين عليها بالأساس, وتلك هى مصدر الخطورة.
السؤال الأخير والمهم هو هل ستسمح الحكومة بنشر تقرير هذه اللجنة كاملاً, ومترجماً إلى اللغة الإنجليزية, حتى يقف كل العالم على الحقيقة؟ وحسب ما تتناقله أجهزة الإعلام العالمية عن قضية دارفور فإنَّنا يجب أن ننصحها بفعل ذلك بكل شفافية, ونتمنى ذلك, فقد سبق لوالى ولاية شمال دارفور أن أمر بتكوين لجنة برئاسة قاضى للتحقيق فى المجزرة التى قامت بها مليشيات الجنجويد بمدينة كتم مطلع شهر أغسطس من العام الماضى, وقام القاضى بمهمته كاملاً ورفع تقريره للوالى بصورة لوزير العدل بالخرطوم لكنَّ الحكومة أبقت عليه حبيس الأدراج حتى هذه اللحظة. ذلك مصدر تشاؤم.
ونواصل... ........................................... (1)...................................... هموم دارفورية؟ (2/3)
د. حسين آدم الحاج
الولايات المتحدة الأمريكية
[email protected]
نواصل التعبير عن همومنا الدارفورية سيداتى سادتى, وقد سبق أن قلنا أنَّه وبرغم الأزمة الناشبة اليوم فى ربوع الإقليم وتداعياتها السالبة على كل مناحى الحياة إلاَّ أنَّ هناك أزمات أخرى متشكلة, فى حالة كمون, نخشى أن تتفجر فى شكل حلقات جديدة من المعاناة لأهل دارفور إذا ما تجاوزوا هذه المرحلة العصيبة, ولذلك فإنَّنا, ومن خلال هذه الحلقات, نود أن ننبه لها ونحذر من تداعياتها ونتحسب لها من الآن ونحاول تفكيك مفاصلها أو تحييدها على أسوأ الفروض, فأهل دارفور ليسوا بحاجة أخرى لجبال جديدة من المعاناة والألم, ويجدر بهم أن يجدوا القدرة, والفرصة, للإبتسام, هم والأجيال الناشئة, فقد دفعوا ثمناً غالياً من جراء مظالم مقصودة فُرضت عليهم ولا بد من أن يكون المستقبل مشرقاً بخلاف ما كان عليه الحال.
(4)
الشيخ موسى هلال ودبلوماسية الجنجويد:
«لا توجد أسرار.. الأفراد الذين يفعلون هذا معروفون, لدينا أسماؤهم», هكذا تحدث الدكتور موكيش كابيلا منسق الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في السودان, وأضاف في مقابلة مع وكالة رويترز فى تعليق له عن المجازر الوحشيَّة بدارفور: «الأفراد الضالعون في هذه الجرائم يشغلون مناصب رفيعة» (الحياة 26/3/2004م), ودعا إلى تشكيل محاكم للنظر فى جرائم الحرب لمحاكمة المسؤولين عن حالات الإغتصاب والنهب والقتل في القرى الأفريقية في منطقة دارفور، متهماً الدولة بالتواطؤ في هذه الجرائم, وبالرغم من أنَّ مهمَّه الرجل الوظيفية فى السودان قد إنتهت بعد تصريحاته تلك, إلاَّ أنَّ الأسرار التى كان يعلمها يبدو أنَّها تسربت لجهات أخرى, وربما وجدت طريقها لألدَّ أعداء الحكومة السودانية بالكونغرس الأمريكى النائب فرانك وولف الذى لم يتردد لحظة فى كشف المستور بإتهامه النائب الأول صراحة بإشعال الصراع في دارفور, ويبدو أنَّ السيد على عثمان هو واحد من كثيرين داخل دائرة الحكومة السودانية فى قوائم الحكومة الأمريكية, لكن تشارلس سنايدر, مساعد وزير الخارجية للشؤون الأفريقية, دافع بدبلوماسيَّة عن النائب الأول، ونفى إتهام وولف له وأكدَّ عدم وجود أدلة قاطعة بضلوعه في الصراع (الصحافة 12/6/2004م), وعلى كل, يبقى ذلك, بجانب الإتهامات الموازية بشأن أمور أخرى, شيئ, وما يهمس به أهل دارفور ويعرفونه شيئ آخر. لكنَّ المسألة تطورت وصارت أكبر من السكوت عليها خاصة وأنَّ تداعيات الكارثة قد إنداحت على مستوى كل العالم, فقد كشف مسؤول أمريكي هو بيرير ريتشارد أمام جلسة إستماع أمام لجنة العلاقات الخارجية بالكونغرس عن قائمة تضم "7" أسماء لقيادات مليشيات الجنجويد المتورطة في ما أسماه العمليات المأساوية في دارفور(الحياة 27/6/2004م), وقد تم نشر مقال بمنبر سودانيز أون لاين (28/6/2004م) بعنوان "المطلوبون الأمريكيون" عرض فيه كاتبه معلومات تفصيلية عن "6" قيادات جنجويدية من تلك القائمة الأمريكية, وأشار إلى أنَّ تلك الأسماء قد وردت من قبل فى تقارير عدد من المنظمات الدولية, من بينها منظمة هيومان رايتس ووتش, وقد أوردتها تلك المصادر إضافة إلى ما يتناقله أهل دارفور على النحو التالي:
1- موسى هلال: وصفه التقرير الأمريكى بأنَّه منسق الجنجويد, ويصفه المقال المشار إليه أعلاه بأنَّه أمير لقبيلة المحاميد وجنرال في قوات الجنجويد يدير كتيبة تسمى كتيبة الجاموس (البافالو).,
2- حامد ضاوي: أمير من قبيلة البني هلبة وقائد لكتيبة من الجنجويد في مثلث تيربابا- أرارا- قوز بيضة, وتقول منظمة هيومان رايتس ووتش بأنَّه قتل أكثر من 470 شخصا من سكان القرى في هذا المثلث في الفترة من شهر 8/2003م إلي شهر 4/2004م.
3- عبد الله أبو شنيبات: أمير من قبيلة البني هلبة وقائد كتيبة للجنجويد في هبيلة ومورني. 4- عمدة عمر بابوش: عمدة من عمد المسيرية وقائد كتيبة للجنجويد في مورني. 5- العمدة سيف معادى: عمدة أولاد زيد وقائد لكتيبة من الجنجويد في المنطقة بين الجنينة ومستري.
6- أحمد دخيرى: عمدة وقائد اكتيبة من الجنجويد في مورني. 7- أحمد أبو كماشا.
كما ذُكرت أسماء أخرى لم ترد في القائمة الإمريكية. وقد أشار كاتب المقال إلى خطورة أنَّ بعض الأسماء الواردة أعلاه لا تنتمي فقط إلي قبائل معروفة في دارفور بل أنَّها تمثل إدارات أهلية في مناطق معينة بدارفور, أي أنَّهم لا يمثلون قبائلهم الكبيرة وإنَّما جماعاتهم المحدودة في تلك المناطق، وطالب فى المقال بضرورة أن تبادر الحكومة وتتعامل مع قضية دارفور بصورة أكثر شفافية وصدق حتى تستعيد الثقة التي فقدتها هناك وفى السودان أجمع, وأن تكشف عن كل صغيرة وكبيرة حدثت هناك, بل وتكشف الأسماء المتورطة في هذه الجريمة بتجرد ودون تعاطف مع أى قبيلة أو أشخاص حتى داخل طاقمها الحاكم. علي صعيد آخر قال آدم إيرلي نائب الناطق الرسمي بإسم الخارجية الأمريكية في تصريحات صحفية أنَّ واشنطون ستفرض عقوبات علي المتورطين في أحداث دارفور بصرف النظر عن التقييم القانوني الذي تقوم به الولايات المتحدة الآن حول المتورطين في تلك الإنتهاكات، وأضاف إيرلي إذا أسميناها مذابح أو تطهير عرقي هناك إنتهاكات فظيعة ترتكب في تلك المنطقة، و"نحن الآن بصدد تحديد هويَّات المتورطين في هذه المآسي من قيادات مليشيات الجنجويد لتطبيق عقوبات عليهم تستند علي نسبة مشاركتهم في الجرم"، ورداً علي سؤال حول إنزال عقوبات علي رسميين حكوميين قال إيريلي "نحن الآن ننظر حول هذا الأمر"! (أخبار اليوم 26/6/2004م), وكشف سنايدر عن نجاح واشنطن في إقناع الإتحاد الاوربي لتبني رأي حول مسألة دارفور بعد إدخالها كبند في مداولات مجلس الأمن، وتطوير حزمة من العقوبات ضد السودان في حال عدم تعاون الحكومة السودانية في وقف الحرب في دارفور, وقد صدر بالفعل مؤخراً قرار أمريكى يحظر بيع السلاح للجنجويد بجانب تطبيق حظر دولى لتحركاتهم وحجز أموالهم لكنَّ القرار لم يشمل الحكومة السودانية, لكن وزيرة التعاون والتنمية الألمانية هايدماري فيسوريك-زويل إعتبرت أنَّ مشروع القرار الأميركي هذا بفرض حظر على الأسلحة المرسلة إلى عناصر الميليشيات التي تجتاح دارفور يجب أن يشمل حكومة السودان أيضاً "لأن الميليشيات التي تحرم من الدعم اللوجستي والمالي من الحكومة، لا تستطيع الإستمرار في إرتكاب الفظائع" (أ.ف.ب. 7/7/2004م).
يحدث كل هذا الحراك الدولى وعلى مستوى مجلس الأمن والحكومة الأمريكية ومنظمة الإتحاد الأفريقى والمجتمع العالمى والشيخ موسى هلال (منسق الجنجويد حسب التصنيف الأمريكى) و(كراديتش دارفور حسب تصنيف الأهالى له هناك), يعرض ويسرح ويمرح وبحرسه الخاص فى شوارع الخرطوم, ويقابل سفراء الدول الكبرى والمسئولين الدوليين نهاراً جهاراً, بجانب حضور إعلامى كثيف وترحيب دافئ من قطاعات معينة فى الدولة. إنَّ هذه الظاهرة تستدعى عدد من الأسئلة والإستفسارات نجملها فى التالى:
* تحركات موسى هلال, والتحضير المسبق لها وبرمجتها, وتمكينه من مقابلة السفراء وضيوف البلاد, وبتلك الكثافة والتغطية الإعلامية, لا يمكن أن تتم دون تخطيط كامل من الحكومة ومن "أعلى" مستوياتها, فما هو هدف أولئك المتنفذين الحقيقى وراء ذلك؟
* ما يتم بشأن هذه التحركات هو عملية "تسويق" سياسى لموسى هلال يتمثل فى كونه يقوم بدور خط دفاع أمامى للحكومة, تتخفى خلفه ليدرأ عنها التهم المتراكمة عليها, لكنَّها تتورط أكثر بتأكيد الإتهامات المسبقة برعايتها للجنجويد, والسؤال إلى أى مدى ستذهب الحكومة فى متابعة هذه السياسة برغم إنكشافها لكل العالم؟
* هل يمثل موسى هلال نفسه فقط أم كل قيادات الجنجويد؟ إنَّ الأخبار المعلومة فى دارفور تشير إلى أنَّ العدد الكلى لأفراد هذه المليشيات يتجاوز العشرين ألفاً, وأنَّ هناك مكتب سياسى سرِّى فى الحكومة بقيادة وزير من أبناء الإقليم, بجانب مسئول عسكرى برتبة لواء, ومهمَّتهم الأساسية هى تجنيد المزيد من أفراد الجنجويد من الدول المجاورة للسودان الشيئ الذى يفرض التساؤل, بل والبحث, عن القيادة الفعلية (خاصة السياسية) لتلك المليشيات داخل الحكومة السودانية, فمن هم هؤلاء الأشخاص الممسكين بتلك الملفات؟ خاصة وأنَّ موسى هلال نفسه يُقال أنَّه قد صرَّح ذات مرة بأنَّه يستلم أوامره من الخرطوم وليس له أى طاعة لوالى شمال دارفور.
* بالتزامن مع تحركات موسى هلال نلاحظ تحركات موازية للشيخ إبن عمر وتصعيد صراعه الإعلامى والعسكرى ضد الحكومة التشادية, بجانب نزاع قائم بين مجموعات عربية فى قطاع التبستى شما تشاد ضد القوات الليبية, فهل هناك تنسيق ما بين هذه التحركات؟ ولصالح من يهدف؟
* جاء فى الأخبار أنَّ الرئيس البشير سيجتمع مع الرئيس التشادى بحر هذا الأسبوع فى مدينة الجنينة للبحث حول تكوين قوات مشتركة لقفل الحدود بين الدولتين, فهل كانت الهجمات الأخيرة التى قامت بها مليشيات الجنجويد داخل الأراضى التشادية هى من تخطيط الحكومة السودانية كجزء من سيناريو مرسوم لإجبار الجانب التشادى (رهبة أو رغبة) فى الإشتراك مع الحكومة السودانية لمقاتلة ثوار دارفور؟
* هل تخطط الحكومة من خلال تلميع موسى هلال الحصول على شرعية دولية لمليشيات الجنجويد ومن ثمَّ تحويلها لحقيقة واقعة يتعامل معها العالم وفق ذلك دون إعتبار ما إرتكبوها بحق الأبرياء من أهل دارفور؟
* فى مؤتمره الصحفى الذى عقده مؤخراً رفض وزير الداخلية الدعوات العالمية لتقديم زعماء الجنجويد للمحاكمة, فما هى الرسالة التى تنوى الحكومة إرسالها للعالم بهذا الإصرار, وبخاصة للمتضررين من أهل دارفور من التجاوزات الغير إنسانية لتلك المليشيات؟
لقد أكدنا فى مناسبات عديدة أنَّ الحكومة لن تحل قوات الجنجويد, بل وسوف لن تتخلى عنهم بالأساس وستسعى لجلب وتجنيد المزيد منهم, ولا نرجم بالغيب إذ أنَّ ذلك بات واضحاً الآن, والسبب ببساطة أنَّ تلك المليشيات قد تحولَّت إلى عمود فقرى فى إستراتيجية الحكومة للتعامل مع قضية دارفور وإنعكاساتها عبر الحدود لدولتى التشاد وأفريقيا الوسطى, والتى يمكن أن تتفاعل أكثر وبتداعيات أقوى, ولعدم قدرة الحكومة العسكرية فى التمدد بعيداً, وفى دارفور خاصة, فإنَّها قررت أن تعتمد على الجنجويد ليحاربوا عنها بالوكالة مقابل حصولهم على الأراضى وإستقرارهم فى الدارات الخصبة للقبائل من الجذور الأفريقية بعد طردهم منها أو حتى إهلاكهم إذا تطلب الأمر, طالما أنَّ ذلك سوف لن يمس سلطتها المركزية وقبضتها على دفة الحكم.
أساس المشكلة ما بين حكومة الإنقاذ وأهل دارفور يتمثل فى أنَّ هناك تداعيات باطنية يتعامل من خلالها المتنفذون من جماعة الإنقاذ مع قضايا دارفور بمداخل سالبة تحمل قدراً كبيراً من القصد الصريح, وتستبطن شعوراً عدائياً أشبه بجلد الحاضر بسياط الماضى, أى إعادة إجترار التاريخ وإستقراء أحداث بعينها شكَّلت مفاهيم تراثية لجماعات معيَّنة ظلَّت تؤثر على قدرة تصرفهم السلطوى وتدفعهم, بحيث يعلمون أو لا يعملون, لتناول قضايا دارفور من منطلقات خاطئة مما يجعلها تنتج نتائج خاطئة بالمثل كمحصل طبيعى لضعف المفاهيم الأساسية حول ذلك. إنَّ الحقيقة التى يعرفها كل أهل السودان هى أنَّ نظام الإنقاذ غير مستعدة مطلقاً للتنازل عن السلطة أو حتى التشارك معها على قدم المساواة, وحتى لو أدَّى ذلك إلى تقسيم السودان أو فصل الجنوب, وهو تحديداً ما يسعى له المتنفذون من جماعة السلطة بحسبان أنَّ الجنوب قد تحوَّل إلى مصدر عكننة وربما يتسبب فى نهاية حكمهم سواءاً أكان ذلك حرباً عن طريق القوة العسكرية أو سلماً عن طريق "منهجية السودان الجديد" وتصاعد مطلبيات المناطق المهمَّشة. إنَّ نظرتهم المبدئية هو فصل جنوب السودان وحمل لواءها بشأن ذلك الوزير الطيب مصطفى (خال البشير) بدعم ومناصرة أقلية علنيَّة وأكثرية سرِّية من جماعة السلطة المستعربة, ولما تحطمت أحلامهم تلك على صخرة الرفض الشعبى والمنطق العاقل زادوا من التعقيد إبالة وتدافعوا للمطالبة بفصل شمال السودان عن جنوبه من خلال منبر أقاموه بدعم ومناصرة صارخة من أكثرية غالبة منهم هذه المرَّة, وكل ذلك فى سبيل السيطرة والمحافظة المطلقة على السلطة, تلك هى النظرية الأساسية غير أنَّ الخطورة عليها هجمتها من حيث لا تحتسب, وإذا كان "لكل آفة آفة", حسب المثل الشعبى, فإنَّ آفة نظرية الأنفصاليين هذه قد واجهتها آفة الإحتجاج المسلَّح فى دارفور, إذ قالت لهم إنَّ الشمال الذى تودون فصله ليس "حتة واحدة", وإنما هناك شرق وغرب ومناطق ثلاث وأخرى مهمَّشة, وقد أدَّى ذلك إلى نسف نظرية الإنفصاليين من أساسها. بناءاً على ذلك يمكن تفسير الهجمة العسكرية العنيفة للحكومة على قرى دارفور, والتى لم تهدف فقط لإنهاء التمرد بل وحتى تدمير أى مقومات للحياة بتلك المناطق وإستبدال الأهالى المعارضين إن أمكن بغيرهم, ولو بإستجلابهم من دول أجنبية كمرتزقة الجنجويد مثلاً. مما يؤكد أن الإنقاذ غير مستعدة للمساومة فى هذا الأمر وبالأخَّص عندما يتعلق الأمر بأهل دارفور, ويتبدى خطورة ذلك فى ظنِّهم من حقيقة أنَّ أهل دارفور يشكلون اليوم ومستقبلاً غالبية أهل السودان, وإذا إتحدوا على كلمة سواء ورأى جامع فإنَّ السلطة التى يرضع أهل الحكم اليوم من شطورها ستؤول إليهم غداً سواء سلماً عن طريق صناديق الإقتراع أو حرباً عن طريق المقاومة العسكرية, وفى كلا الحالتين ليس لهم بحيلة حيال ذلك سوى الإستمرار فى إعتماد السياسات التى تستبطن المؤامرة لشق صفوف مجتمع دارفور وتطبيق نظريات فرق تسد, وللأسف فقد نجحوا فى ذلك حتى الآن, ووجدوا ضالتهم فى تجيير ولاء بعض القطاعات من أهل الإقليم بينما حكموا بالفناء على آخرين بإستخدام الجنجويد.
لذلك فقد تأكد لجماعة الإنقاذ أنَّه وبعد إستكمال فصل الجنوب فإنَّ القوة المعارضة الرئيسية ستتمثل فى دارفور ويجب عليهم أن "يُبَدِّرُوا" بها من خلال زرع بؤر دائمة وألغام غاطسة قابلة للتدمير والتفجر المستمر إعتماداً على مليشيات الجنجويد, ولعلَّ حقيقة أنَّ معظم هذه الجماعات أجنبية لا تحمل قيم التسامح السودانى الأصيل قد ساعدتهم فى الفتك بكل معارضة لأطماعهم, بل والتشنيع فى ذلك, كما هو مشاهد الآن. سياسة الإعتماد على الجنجويد تحمل فى طياتها سموماً قاتلة ليس لأهل دارفور فحسب وإنَّما لكل المحيط الجغرافى الإقليمى لدارفور وما حولها من الدول, وسوف لن تنجو من ذلك حتى الجماعة المستمتعة بالسلطة الآن فى السودان, لقد هدف أهل الإنقاذ إلى تحقيق الأهداف التالية من وراء إستخدام الجنجويد:
* خلق أقسى أنواع درجات الكراهية والبغضاء بين أهل الإقليم, أى بين القبائل الأفريقية والقبائل العربية, وشقِّ صفوفهم, وخلق ثارات الدم بينهم بحيث تحتاج لدهور لتجاوزها.
* تعميق الخلاف, ليس من خلال القتل الجائر فقط, بل وعن طريق الإستيلاء على الأرض أيضا وإبعاد الأهلين الأصليين منها على غرار ما حدث من إبعاد الإسرائيليين للفلسطينيين قبل أكثر من خمسين عاماً, وكلنا نعم أنَّ مسألة حق العودة للاجئين الفلسطينيين ظلَّت تمثل الصخرة التى تحطمت عليها كل جهود حل للقضية الفلسطينية.
* صرَّح وزير الداخلية قبل أيام أنَّ حكومته ستقوم بتدريب الأهالى اللاجئين فى المعسكرات على حمل السلاح, يحدث ذلك فى الوقت التى تتنادى فيه العديد من الجهات الداخلية والأجنبية بضرورة نزع السلاح وتقنين إمتلاكه, والهدف واضح هو تفشى ثقافة العنف برعاية الدولة نفسها, لماذا يحدث ذلك ولمصلحة من؟ كما لا ننسى الإشارات السالبة من بعض المسئولين فى الحكومة بعدم نزع سلاح الجنجويد إلاَّ بالتزامن مع نزع سلاح الثوار.
* كل الجماعات المتصارعة الآن, أهل دارفور, عربهم وزرقتهم, إضافة إلى الجنجويد, ليسوا فى مقام أى أهمية للمتنفذين فى حكومة الإنقاذ, لأنَّ هدفهم الأساسى هو جعل أولئك الناس يتحاربون إلى ما لا نهاية بينما يواصلوا هم السيطرة على الحكم ونهب خيرات المناطق المهمشة وإستخدام الجيش السودانى وسلاح الطيران لإخراس صوت كل من يحتج منهم.
إمعاناً فى كل ذلك تقول بعض التقارير السودانية والعالمية أنَّ الحكومة تقوم منذ بعض الوقت بتطبيق برنامج هائل لإخفاء الجنجويد فى داخل المجتمع السودانى الكبير إلى حين تمرير العاصفة, وذلك من خلال إبعاد المعروفين منهم إلى أماكن بعيدة فى أنحاء السودان, وإصدار شهادات وفاة وهمية لآخرين, إضافة لعمليات تجنيد واسعة لأفرادها فى قوات الشرطة والجيش السودانى وتجنيسهم, بل إنَّ قوات الشرطة الظاعنة التى يجرى إعدادها الآن برعاية وزير الداخلية نفسه, بجانب القوات التى ستنشرها الحكومة قريباً بين معسكرات اللاجئين, هم نفس أولئك الناس الذين تسببوا فى ذات المأساة, ما هى القيم الأخلاقية فى الحكم عند هذه الجماعة المتسلطة؟
ما هو الحل:
* على قادة الرأى والقوى السياسية والعسكرية والمثقفين وزعماء كل القبائل والإدارات الأهلية بدارفور أن تكون واعية بالمصير الكارثى المرسوم لهم وعلى مستقبل إقليمهم, وعليه, تبعاً لذلك, أن ينشطوا وفق ما تقتضيه الظروف, فإذا كان الكى جزء من العلاج فإنَّ العملية الجراحية والبتر أيضاً جزء آخر من العلاج, إذا قرر الأطباء ألاَّ مخرج إلاَّ به, وبتر الظواهر السلبية فى مجتمع الإقليم شيئ مطلوب لحياة صحى وتعايش معافى.
* أن تبدأ الحركات المسلَّحة فى تجميع قدرات المؤهلين والمثقفين من كل أبناء دارفور لترتيب ملفات التفاوض ووضع إستراتيجية لذلك بحيث لا تترك كبيرة أو صغيرة, إضافة إلى معالجة فتنة الجنجويد بما يؤدى إلى إستئصالها بصورة كاملة.
* أن تبادر القبائل العربية بدارفور بتبرئة أنفسها من ظاهرة الجنجويد وتنظيف الخلايا المنبثة بينها, فأهل دارفور جنس واحد لهؤلاء المتنفذين فى السلطة لا فرق عندهم بين عربهم وزرقتهم إلاَّ بما يصلح كل منهم لإستخدامه لفترة من الوقت لإنجاز مصلحة محددة عندهم, وربما يأتى اليوم الذى سيتضرر كافة أهل دارفور من سياساتهم.
* على المثقفين من أبناء القبائل العربية إصدار إستنكار عالمى لظاهرة الجنجويد ولكل ما يحدث لأهل دارفور وبعدة لغات حتى يقف كل العالم على ذلك, وأن ينصحوا أهليهم بالنأى عن إتباع سياسات الحكومة الظالمة, كما يجب على هذه القبائل المبادءة بتقديم الخطوة الأولى للصلح والتعايش الإجتماعى بدارفور من خلال تنفيذ برامج كبيرة ومؤثرة يتجاوز الإعلانات الصحفية والتصريحات الغير مسنودة بأية مضامين محسوسة, وسنفرد فى المستقبل القريب بمشيئة الله مقالاً كاملاً يتضمن أفكار وبرامج محددة من أجل ذلك كمساهمة فى رفد أسس التعايش السلمى فى مجتمع دارفور.
* بعد تحقيق السلام بدارفور, متى كان ذلك, يجب تنفيذ برنامج قومى كبير للمساعدة فى رتق الخروق القبلية ودعم التعايش السلمى بين كل مكوِّنات أهل الإقليم, ويجب أن يكون مثل هذا البرنامج شعبى تبتعد عنه الحكومة منعاً لأى إستغلال سياسى رخيص.
(5)
إعادة توطين النازحين أم توطين الجنجويد:
إحدى الأسباب الرئيسية التى قادت لحملات الإبادة والتصفية العرقية التى ضربت مناطق واسعة من دارفور خلال العقدين المنصرمين هى الرغبة المحمومة فى الحصول على الأرض, ومن أجل ذلك قامت بعض الجماعات بطرد بعض القبائل المستقرة من أراضيها وإنتزاع داراتها, وإستخدمت فى ذلك ما ظلَّ يُعرف بسياسة الأرض المحروقة, أى إزالة أى مقومات للحياة من خلال حرق القرى تماماً بجانب المزارع وتدمير مصادر المياه أو تسميمها, وقد مثلت هذه النزعة, والتى إنطلقت منذ العام 1986م, لب القضية فى هذا الصراع ومصدر تعقيدها, وبمراجعة سريعة للمناطق التى أصابها الخراب نجدها تتركز فى مناطق محددة من دارفور هى مواطن القبائل الزراعية المستقرة, وتحديداً قبائل الفور والمساليت والتاما وما جاورها من القبائل الصغيرة مثل البرقو والبرقد والبرنو, وقد ساهمت حكومة الإنقاذ بقسط وافر فى تصعيد وتائر هذه الفتنة وسعت, ومنذ وقت مبكر بعد إستيلائها على السلطة, لتمكين تلك المجموعات المعتدية من بلوغ ذلك الهدف من أجل تجيير الولاء والكسب السياسى بجانب دعم آيدلوجيتها العروبية, وما السياسة التى إتبعوها منذ العام 1994م لتفتيت دارات القبائل المستقرة الكبرى, وتحديداً دار المساليت ودار الفور (دار فيا), من خلال ما أسموه "نظام الأمارة", إلاَّ تنفيذاً فعلياً لتلك الأهداف, وإن تراجعت الحكومة اليوم عن المضى فى تثبيت تلك الخطة, ولو ظاهرياً, لإمتصاص الغضبة الدولية المريرة عليها, إلاَّ أنَّها ما إنفكَّت تحاول الإلتفاف والمرواغة لمواصلتها عبر نوافذ أخرى يتبدى فيها الجانب الإنسانى لكن تحمل فى طياتها رغبات خبيثة تتمثل فى إجلاء السكان الأصليين سلمياً وتهجيرهم نهائياً عن أراضيهم وداراتهم تحت دواعى إعادة توطينهم فى قرى نموذجية لتقديم خدمات أفضل لهم لكن دون الإشارة إلى مصير أراضيهم الأصلية التى أُجلوا منها.
لقد وردت بعض الكتابات مؤخراً فى صحف الخرطوم تشير إلى أنَّ القرى المتناثرة بكثافة على مستوى دارفور قد تكون أحد الأسباب المعوِّقة لمد الخدمات لها, وأنَّ معظمها صغيرة الحجم, ولا تزيد أحجام أغلبها عن عدد بسيط من القطاطى, يسير أهلها كل يوم أو يومين لمسافة بعيدة للحصول على المياه لهم ولحيواناتهم, أو للوصول إلى الأسواق والمستشفيات, ولذلك فقد إقترحت تلك الكتابات تجميع تلك القرى المتناثرة فى مجمعات أو قرى نموذجية كبيرة بحيث يسهل تقديم خدمات المياه والصحة والتعليم والأمن لساكنيها, وبالرغم من منطقية مثل هذه الأفكار, ولو على المستوى النظرى, إلاَّ أنَّها بالنسبة لأصحاب الغرض وحاملى الأجندة تمثل كلمة حق أريد بها باطل. هؤلاء الذين يتحاججون بهذا المنطق إمَّا أنَّهم يجهلون طبيعة علاقة الإنسان بالأرض فى دارفور وأنَّهم قد يقولون ما يقولون بحسن نية, أو أنَّهم يضمرون شيئاً ما فى نفوسهم ساكتين عن مصير تلك الأراضى عندما يتم تهجير سكانها منها وإعادة توطينهم فى مناطق جديدة غريبة عليهم وعلى تراثهم, والشيئ الطبيعى أنَّه إذا خلت أراضيهم منهم فلا بد من أنَّ هناك آخرون قد إستولوا عليها سلفاً أو أنَّهم على خط الإنتظار ينزحون إليها لإمتلاكها تحت وضع اليد, أولئك الآخرون الجدد هم الجنجويد الذين تريد الحكومة توطينهم فى أراضى ودارات هؤلاء المساكين البؤساء, وربما كانت هذه السياسة تمثل الثمن الذى وعدتهم الحكومة به لمساعدتها فى حربها ضد ثوار دارفور وعليها الوفاء بها بكل السبل الممكنة حتى وإن تمثل ذلك فى غض طرفها عن إبادة هؤلاء الناس. لقد دفع الجنجويد ب "20" ألف مقاتل مثلَّوا قوات المشاة فى هجوم الحكومة على مواقع الثوار خلال شهر مارس الماضى بينما إكتفت الحكومة بقصف سلاح الطيران, وطالما أنَّهم قد أدوا ما عليهم من واجبات فعلى الحكومة أن تفى بوعدها كذلك؟
لذلك, ونسبة لشكوك أهل دارفور المتعاظم تجاه كل ما يصدر من حكومة الإنقاذ نحوهم, فإنَّه يستوجب أن نتلقى مثل هذه الخطط بشأن إعادة التوطين بحذر شديد, فقد يكون السمُّ مدسوس فيها, وفى هذا السياق فقد صرَّح الفريق آدم حامد موسي والى ولاية جنوب دارفور المعزول في مؤتمر صحفي عقده بنيالا نهاية العام الماضى أنَّ ولايته ستضطر إلى إنشاء مستوطنات خاصة للنازحين, الذين يعتبرون 95% منهم من خارج الولاية, وذلك في حالة تعذر إعادتهم إلى مواطنهم الأصلية (أخبار اليوم 18/12/2003م), هؤلاء النازحين من خارح الولاية هم تحديداً الذين طُردوا من أراضيهم فى جبل مرة ووادى صالح ودار المساليت ووسط شمال دارفور, هم المزارعون المستقرون منذ وجودهم على أرض دارفور, والسؤال الذى يتبادر إلى الذهن فوراً هو لماذا وكيف ستتعذر إعادة أولئك النازحين إلى مواطنهم الأصلية؟ وإن كان سيادته سيتكفل ببناء مستوطنات خاصة لأولئك التعساء فلماذا لا يتم إنفاق تلك المبالغ ذاتها لإعادة تعمير قراهم التى طردوا منها ومد الخدمات إليها؟ إذاً لا بد أن يكون فى الأمر (إنَّ)! مثلاً تمليك تلك الأراضى والدارات لأولئك المجرمين الذين إرتكبوا الإبادة والتصفية العرقية ضد السكان الأصليين, أما الذين يعرفون حقيقة نوايا الفريق آدم حامد وسبب عزله من منصبه كوالى فلا بد أن يصيبهم شك فى كل ما يصرِّح به, وللأسف فقد صدَّقَت بعض التنظيمات الوطنية التى تعمل لمساعدة النازحين تلك الفرية وبدأت تخطط بدون وعى لتنفيذ خطة الحكومة الماكرة, فقد جاء فى الأخبار أنَّ منظمة شبكة دارفور, وبالتعاون مع الجهات المعنية في الدولة!, بدأت في عمليات إعمار وإعادة تأهيل «30» قرية بولايات دارفور الثلاث "لإعادة توطين" المتأثرين بالمنطقة، وقال حسن برقو الأمين العام لشبكة دارفور إنَّ الشبكة تستهدف إيواء «500» ألف نسمة في «15» قرية بشمال دارفور، و«8» قرى في غرب دارفور و«7» قرى بجنوب دارفور (الرأى العام 11/5/2004م).
وبذهاب الفريق آدم موسى, غير مأسوف عليه, يبدو أنَّ وزير الداخلية ممثل رئيس الجمهورية بدارفور اللواء عبدالرحيم محمد حسين قد إستلم الراية للمضى قدماً فى تنفيذ تلك الخطة, فقد ورد فى الأنباء أنَّ سيادته قد أعلن الشروع في إجراءات أمنية واسعة للتعامل مع كل أشكال الخارجين على القانون, وأنَّ خطة عمله بدارفور سينصب جلُّه في إعادة المواطنين إلى قراهم وتجميع القرى في مناطق من أجل توفير خدمات الصحة والتعليم والمياه وغيرها (الرأى العام 29/6/2004م), وقد فصَّل خطَّته تلك بأنَّه سيتم تجميع نازحي دارفور في "18" موقعا حتى يتسنى تقديم معونات غذائية ورعاية صحية لهم, وقال إنَّ ثمانية مجمَّعات ستقام فى ولاية جنوب دارفور وخمسة في كل من ولايتي شمال وغرب ردارفور, وأضاف أنَّه سيتم كذلك تدريب النازحين على حمل السلاح ليتمكنوا من الدفاع عن أنفسهم!, وأوضح أنَّ هذه التجمعات "ستسهل تقديم الخدمات والحماية للأهالى الذين يقيمون الآن في قرى مبعثرة" (الصحافة 2/7/2004م), لقد أشار حسن برقو فى الخبر المنشور أعلاه إلى إنشاء "30" موقعاً لكنَّ الوزير يخفض ذلك إلى "18" فقط, ونلاحظ أنَّ حسن برقو أشار إلى مجموع "23" مجمَّع بولايتى شمال وغرب دارفور مما يتسق نسبياً مع الأعداد الكبيرة من النازحين من هاتين الولايتين تحديداً, لكنَّ الوزير يخفض ذلك إلى أقلَّ من النصف إذ يشير إلى إنشاء "10" مجمعات فقط فى نفس الولايتين بينما يحدد مقابلها تقريباُ (8 مجمعات) بولاية جنوب دارفور وحدها, وإذا علمنا بأنَّ معظم النازحين هم من الولايتين الأخريتين, خاصة ولاية غرب دارفور, فما الذى يهدف إليه سيادة الوزير؟ هل يريد حجز أولئك النازحين فى جنوب دارفور إلى الأبد وعدم تمكينهم من العودة مرة أخرى لقراهم أو بالأحرى أراضيهم؟ ثمَّ إنَّ الخبرين لم يوضِّحان ما إذا كانت تلك المجمعات ستكون مؤقتة أم دائمة, لكن غالب الظن أنَّها ستكون دائمة, بمعنى آخر أنَّ هؤلاء النازحين سيُنقلون إلى بلاد جديدة يتم توطينهم فيها ولا يملكون فيها ناقة أو جمل, بل وسيفقدون فى نفس الوقت بلادهم وأراضيهم الأصلية التى ولدوا فيها ونشأوا وترعرعوا عليها من أجل تمليكها للجنجويد. تلك حيلة لا تنطلى على أى متابع لحيل الحكومة.
ومن الأخبار التى وصلتنى مؤخراً من داخل دارفور إشارة إلى أنَّ البشمرقة (قوات الدفاع الشعبى القبلية) قد إستولوا على بساتين الفواكه فى جبل مرة ووادى صالح بعد أن طردوا أصحابها منها وأحرقوا قراهم, وأنَّهم ظلُّوا يجنون تلك الفواكه ويبيعونها فى الأسواق المحلية, وفى سوق نيالا ذاتها, دون أن يستطيع أحد أن ينازعهم عليها, بل أنَّ بعضهم قد إستولى على عدة جنائن للفواكه دفعة واحدة وأعلنها صراحة بأنَّها ملكه الحر حتى وإن عاد أولئك النازحين يوماً يسألون عنها! إلى هذه الدرجة تغض الحكومة بصرها عن الظلم المحدق والتربص الدائم بإنسان دارفور المسكين وحقوقه المشروعة, ناهيك عن حقِّه فى الحياة, فما الحل؟ نعتقد أنَّه طالما أنَّ الحق أبلج فلن يضيع طالما وراءه طالب, وإنَّ تلك الأراضى والدارات هى حقوق لأناس وقبائل ظلُّوا يملكون حقوقها الشرعية قبل أن يتكون هذا السودان نفسه والذى يحاول حكامه اليوم تغيير مجرى نهر التاريخ لكنَّهم نسوا أنَّ المثل الدارفورى يقول "الوادى ما بخلى دربه", وبناءاً على ذلك نعتقد بضرورة التفكير فى الآتى:
* كل قبيلة فى دارفور تعرف حدود دارها تماماً ولذلك لا مجال لتغيير ذلك تحت أى قوى كانت, وسيتم مراجعة ذلك وفق الخرائط الأساسية التى رسمها الإنجليز عقب إحتلالهم لدارفور عام 1916م, فقد ظلوا لمدة ست سنوات يرسمون تلك الخرائط وفق ما كان سائداً فى تاريخ الإقليم وظلَّت كما هى وإلى مطلع التسعينات.
* بمجرد الوصول للسلام وإستتباب الأمن وتمكين الإدارات الأهلية من أداء واجباتها يجب مراجعة وإلغاء أى تغيير فى خريطة دارات القبائل, بجانب إلغاء خطة الحكومة التخريبية التى أسمته "نظام الأمارة".
* على الدولة أن تكون حاسمة مع المعتدين والمغامرين بشأن "الأرض", وأن تفهم أنَّ ذلك هو جزء صريح فى طبيعة النزاع الناشب الآن فى دارفور, كما إنَّ عليها وقف وحلِّ مليشيات البشمرقة والجنجويد الذين عاثوا فساداً فى الإقليم تحت رعايتها وبصرها.
* على حركات دارفور المسلَّحة أن تتعامل بحسم مع هذه الخطط الماكرة وأن تدفع بموضوع التوطين وإعادة التوطين إلى ملف المفاوضات السياسية. إنَّ إعادة إعمار القرى المحروقة بدارفور يجب أن تتم عبر صندوق دولى من أجل توفير التمويل المطلوب, بالرغم من أنَّ ذلك لا يعفى الحكومة من تحمل القسط الأكبر منها طالما هى التى خططت بالأساس لتدمير تلك القرى.
* إذا كان للجنجويد حقوق على الحكومة فعليها أن تتصرف معهم حيال ذلك بعيداً عن الإخلال بحقوق أهل دارفور التاريخية, وعليها أن تعلم بأنَّ أبناء دارفور سوف لن يسكتون على أى ظلم بعد اليوم.
(6)
النائب دوسة والدكتور مضوى وثمن الكلمة الشريفة:
ظلَّ النائب البرلمانى على حسين دوسة, عضو المجلس الوطنى عن دائرة مدينة نيالا, يمثل أبرز نوَّاب دارفور وأكثرهم جرأة ووقوفاً مع حقِّ أهله وقاعدته الإنتخابية والتعبير عن قضاياهم العادلة بصدق وتجرد, وهل يجدر بالنائب البرلمانى ألاَّ يفعل غير ذلك؟ لكنَّ الأنظمة الشمولية دوماً وأبداً, حتى وإن تدثرت بثياب الديمقراطية زيفاً وبهتاناً, تظل عارية كالفرعون المختال, فهذه الأنظمة تخشى أكثر ما تخشى صدى الكلمة الشريفة وتعتبرها رصاصة مصوَّبة نحوها تعمل لتخطيها بكل السبل, وأقصر الطرق لذلك هو تكميم الأفواه, والنائب المحامى دوسة هو اليوم من سجناء الضمير يقبع فى الحراسة تحت تهم ملفقَّة القصد الوحيد منها هو إسكات صوته الأصيل فى قاعات البرلمان, وقد ظلَّ يُدخِل الحكومة مراراً وتكراراً فى حرج شديد فى العديد من القضايا الهامة, فإعتبرته شوكة فى جنبها وقررت إخراسه, وحسب مزاعم المسؤلين فى الأجهزة الأمنية أَّنَّه كان يعقد إجتماعات بمنزله بحضور شخصيات أجنبية لمجموعة من العناصر التي لها صلة بالخارجين على القانون بدارفور فضلاً عن أنشطة مشبوهة أخرى ظلَّت السلطات ترصدها وكان معظمها يتعلق بتقويض ومناوءة جهود الدولة لتحقيق السلام وإستغلال موقعه للتنسيق مع المتمردين ودعمهم بالمعلومات. من ناحيتنا نعلم وغيرنا ببطلان هذه وغيرها من التلفيقات والإتهامات المرفوعة بحق الرجل, فإذا إجتمع النائب دوسة بأهله فى دارفور فإنَّه قد فعل ذلك داخل مدينة نيالا, وهى ذات المدينة التى يمثلها فى البرلمان دستورياً, فلماذا لا يجتمع بهم؟ وإذا كانت الحكومة تعلم أنَّ الذين إجتمع بهم فى داره هم من الخارجين على القانون بدارفور, حسب زعمها, فلماذا لا تقبض عليهم بالأساس؟ وحتى إن إجتمع النائب دوسة بأجانب فقد كانوا فى الغالب أجانب غربيين من المهتمين بعمليات الإغاثة وحقوق الإنسان, سمحت لهم الدولة بدخول البلاد والتحرك حتى الوصول إلى نيالا, فما الخطأ فى ذلك؟ وإذا كان النائب البرلمانى يمثل الصوت الشرعى لممثليه فعلى ماذا يلام إن إجتمع مع كل من يستفسر عن أحوالهم ولا يبتغى إلا الخير لهم؟ لقد فعلوا نفس الشيئ مع النائب البرلمانى عبدالله جار النبى لقوله الحق فى وجه الحكومة, فشنَّعوا به بالرغم من أنَّه كان المبادر بسودنة قطاع البترول السودانى من شركة شيفرون الأمريكية.
مثل المحامى دوسة يقبع الدكتور مضوي إبراهيم قيد الحراسة بتهم موازية تزعم دعمه لمسلحي دارفور, الدكتور أستاذ فى كلية الهندسة بجامعة الخرطوم ويرعى منظمة طوعية لمساعدة الأبرياء المتأثرين بالحروب بعد أن فشلت كل المنظمات الأخرى التى تدَّعى الإسلامية فى مد يد العون لهم, فما الخطأ فى ذلك؟ وبالرغم من فشل ممثل الإتهام فى إثبات أى جرم إرتكبه هذا الرجل, حسب متابعتنا للتغطية الإعلامية المكثَّفة على القضية ومراقبة لصيقة من ممثلى العديد من جمعيات حقوق الإنسان العالمية, من بينها منظمة العفو الدولية, لها إلاَّ أنَّ القاضى مدَّ حبال التحقيق رغم فشل الإتهام فى إثبات أى إدعاء بصورة قطعية.
الرجال الثلاثة أعلاه كلهم من غرب السودان, دوسة من دارفور والآخران من كردفان, كل منهم يعمل فى نشاطه وما يتطلبه موقعه وجهده لخدمة مجتمعه, لم يطالبوا بفصل غرب السودان من الجنوب, أو ينشؤوا منبراً لفصله عن الشمال, وقدرهم الوحيد أنَّهم غرَّابة. وعندما نشاهد الصورة الكاملة لأبناء الغرب فى الخدمة الحكومية نشعر بأسى حقيقى إذ نجد أنَّ أغلبيتهم قد تمَّت تصفيتهم من وظائفهم عبر برنامج منظم, من كل القطاعات الهامة فى خدمة الدولة, خاصة فى الأجهزة الأمنية مثل الجيش والشرطة وجهاز الأمن والجمارك, وإذا كان التوظيف فى القطاع الحكومى قد ساد لبعض الوقت على أساس القبيلة والجهوية, خاصة قطاع البترول, وهو السبب الذى جرَّ على عبدالله جار النبى غضبة الحكومة المضرية بكشفه لها, فإنَّ الأقلية التى كانت موَّظفة من قبل قد تمَّ التخلص منها أيضاً, الشيئ الذى يعنى خسران من الناحيتين وتجفيف كامل لوجودهم فى أجهزة الخدمة الحكومية. نقول لهؤلاء الإخوة "البِعَيِّشْ الله", ولا بد أن ينبلج الفجر مهما طالت حلكة الليل.
التحية لتجمع روابط طلاب دارفور بالجامعات والمعاهد العليا.
ونواصل...
.......................................... (2)........................................ هموم دارفورية؟ (3/3) ..يتبع ..
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: هموم دارفورية ؟ ..(3،2،1) .. دكتور حسين أدم الحاج !! (Re: hamid hajer)
|
هموم دارفورية؟ (3/3)
د. حسين آدم الحاج
الولايات المتحدة الأمريكية
[email protected]
هذه هى الحلقة الثالثة والأخيرة فى سلسلة هذا المقال, ومع ذلك فقد أكتظ بريدى الإلكترونى بمناشدات عديدة من بعض أبناء وبنات دارفور يطالبوننى بشدة أن أستمر فى كتابة هذه الحلقات لتنبيه أهل دارفور, فى المقام الأول, بنوع وطبيعة التحديات والمشاكل التى تتناوم الآن تحت السطح تنتظر دورها لتفتك بهم مستقبلاً إن لم يهيؤا أنفسهم بعد ويتحسبوا لها بعد تجاوز هذه المحنة العصيبة. وبالرغم من إمكانية إستمرارى فى الكتابة, خاصة وأنَّ الأخبار المؤسفة ظلَّت تصلنا بإستمرار من داخل الإقليم ومن أناس مجهولين, إلاَّ أنَّنى ظللت دائم الإشفاق على مصير هذا الموقع الجميل (سودانايل) من جنجويد مسؤولى الإعلام الذين تعلموا من وكلائهم جنجويد الموت والخراب كيف يفتكون بكل شيئ جميل حتى ولو كان ذلك معلقاً فى خيوط شبكة الإنترنت, فأخوك كم زيَّنوه ...! وبالرغم من أنَّ الأخ طارق الجزولى يتسع صدره لكل ما نكتب, ونعلم أنَّه يتحمل فى ذلك أذىً كثيراً وصمتاً نبيلاً فيجدر بنا أن نراعى ذلك "وما نلحسو كلو"! وعلى العموم فإنَّ أكثر ما آلمنى من الرسائل التى إستلمتها مؤخراً تلك التى أرسلتها لى أخت من دارفور مقيمة الآن مع أسرتها فى ضواحى الخرطوم قالت فيها إنَّ جميع أفراد قريتها التى نشأت فيها قد لاقوا حتفهم على أيدى الجنجويد وأنَّها كانت محظوظة إذ لم تكن موجودة بالقرية فى تلك الليلة المشؤومة, وقالت إنَّها علمت من الذين تمكنوا من الهرب من جحيم ذلك الهجوم الصاعق أنَّه لم يستمر لأكثر من ساعة واحدة إختفت القرية على أثرها تماماً, بما فيها ومن فيها, إلاَّ المحظوظين الهاربين من مهلكة الموت. مثل هذه المناظر, التى عاشتها تلك القرية الوادعة, وعاشها أطفالنا ونساؤنا وإخواننا من الشباب والرجال, سوف لن تنمحى أبداً من ذاكراتهم وستظل عالقة بها ما بقوا على قيد الحياة, ولذلك تخطئ الحكومة خطأً كبيراً إذا إنحصر همَّها فقط فى تبرئة نفسها أمام المجتمع الدولى من الإتهامات الماثلة أمامها, فمثل هذه الأخت الكريمة وغيرها من الذين رأوا الحوادث بأمِّ أعينهم مَنِ الذى سيقنعهم ببراءة الحكومة وأعوانها خاصة بعد أن بدأت الحقائق تتكشف رويداً رويداً, ويتعرى المستور أمام مرآة المجتمع العالمى, وتتبدى الأسماء التى ظلَّت تحرك خيوط الفتنة من وراء ساترة المسرح, ثمَّ أى حكمة تلك التى تجعل الحكومة تهتم بمظهر جميل خادع أمام المجتمع الدولى بينما تطاردها اللعنات من شعبها داخل وخارج حدودها السياسية؟ إنَّ الكرة الآن فى ملعبها بجانب إستحقاقات واجبة ولن يجديها الإنكار فى شيئ.
7
وحدة أهل دارفور:
تظل كلمة السر فى سعادة أهل دارفور أو شقاؤهم تتمثل فى كلمة واحدة هى "الوحدة", هذه الكلمة السحرية هى المبتدأ والمنتهى لكل قضايا دارفور, إذا صلُحت صلُح بها حال الناس هناك وإن فسدت فستنقلب حياتهم جحيماً مثلما نرى, ولذلك ظلَّت وحدة أهل دارفور هى الجهة التى يأتى منها الحذر دائماً ومن نافذتها تهب عليها دائماً كل مشاكلها, وبمراجعة سريعة للتاريخ نجد أن معظم القوى الخارجية التى حاولت السيطرة على الأقليم بدأت بسياسات تهدف لشق وحدتها من خلال إستمالة بعض العناصر القبلية وتجييرها لمقاتلة قبائل أخرى, وحتى الثورة المهدية لم تتمكن من السيطرة على الأوضاع فى دارفور بصورة كاملة إلاَّ بعد حروبات كاسرة مع معظم القبائل الكبيرة حيث كانت قيادات جيوش الدولة المهدية هم من نفس أبناء الإقليم يقاتلون أهاليهم بدعوى الحفاظ على وحدة الدولة والدفاع عن الدين, ثمَّ نكتشف لاحقاً أن الإنجليز عندما تحركوا من كردفان صوب دارفور لإحتلالها عام 1916م فإنَّ أول ما بادروا به هو إستمالة بعض القبائل فى جنوب دارفور لمناوشة السلطان والخروج عن طوعه وفتح جبهة أخرى للحرب ضده من الجهة الجنوبية, بينما يتقدمون هم من الجهة الشرقية, وهى نفس الخطة التى نفذها قبلاً الإحتلال التركى المصرى لدارفور عام 1874م عندما تحرك الزبير باشا من الجنوب وتقدموا هم من جهة كردفان إلى دارفور عن طريق أم شنقة, وربما يكون ذلك هو نفس الخطة المطبقة الآن فى تفتيت الإقليم وأهله, إى إستمالة بعض أهل الإقليم ضد إخوانهم فى القسم الآخر, ويتبين ذلك من خلال مشاهدة تكالب متنفذى السلطة الحاكمة على ولاية جنوب دارفور, خاصة النائب الأول, ففى حين أنَّه ظلَّ يطلق لسانه فى حق أهالى شمال دارفور بما يشاء من طاعن القول فإنَّه فى نفس الوقت يغدق معسول الكلام والوعود البرَّاقة بالتنمية والتطور للأهالى بنيالا, غير أنَّ لسان حاله حقيقة يقول لهم "كونوا معانا وحقَّكم محفوظ"! والهدف واضح وهو تطبيق سياسة فرق تسد.
وطالما أنَّ الأمر كذلك يكون من أوجب الواجبات على أهل دارفور الإهتمام بهذا الجانب المصيرى فى حياتهم, جانب الوحدة, ولقد وجدتُ من خلال دراسة أقوم بها قبل فترة عن الإدارة الأهلية فى دارفور, لم تكتمل بعد, أنَّ أهل دارفور ومنذ وجودهم على أرض الإقليم, ورغماً عن تقلب الممالك والسلطنات التى حكمتها خلال أكثر من الألف سنَّة لم يحدث بينهم حروبات حملت أى طابع عنصرى أو رغبة فى إنهاء الآخر وما يحدث الآن شيئ مستغرب, وأنَّ معظم الخلافات والإحتكاكات القبلية ظلَّت تحت سيطرة أجاويد الإدارة الأهلية الذين تمكنوا من المحافظة على تراث خالد فى ضبط نسيج المجتمع وحركة القبائل, ولما إنفرط حبل تلك الإدارة, بفعل التدخل الخارجى أيضاً, تفرقَّت قبائل الإقليم فى إتجاهات شتى كما حبات المسحبة المبهولة, فكانت هذه المآسى. ولعلَّ الخروج من هذه الأزمة يستدعى أول ما يستدعى العودة للجذور, متمثلاً فى الوحدة, ليس من باب الحديث السائب والتمنيات المعسولة وإنَّما من خلال برامج نافذة تكون مباشرة وواقعية ومستمدة من جذور ثقافة أهل الإقليم وتراثهم الخالد فى التعايش السلمى, وربما يكون من المفيد هنا أن نطرح شيئاً من هذه المداخل علَّها تساهم فى الولوج مباشرة فى تحقيق هذا الهدف:
* يجب على المثقفين والواعين من أهل الإقليم أن يعلموا جيداً أنَّ إطالة التفكير والإستغراق فى صلب المشكلة القائمة الآن سوف لن تساعد على توفير أى حل مناسب, لكن ذلك لا يعنى بأى حال من الأحوال تجاوز المظالم والآلام التى تسببت فى هذه الكارثة التى هم فيها اليوم, إنَّ متنفذى الحكومة عندما يطالبون بتناسى مرارات الماضى قد لا يفهمون أنَّ ذلك شيئ شبه مستحيل تحت هذه الأجواء المكهربة إن لم يبادروا هم بأنفسهم تقديم طلبهم ذاك فى شكل مقبول. إنَّ حل مليشيات الجنجويد, ومحاكمة قياداتهم والعصاة منهم, والسماح بإجراء تحقيق دولى فى طبيعة المجازر التى إنتهكت أرواح الآلاف من الناس, وتقديم المتورطين من مسؤولى الدولة, أياً كانوا, إلى محاكم عادلة ثم تعويض المتأثرين بهذه الأحداث لهو الوعاء المناسب التى يمكن أن تدس فيها الحكومة رجاءاتها بضرورة تجاوز المرارات, وعليها أن تعلم أنَّه بدون ذلك فسوف لن يجد صوتها وقعاً فى وعى الأهالى, ثمَّ إنَّ محاولة إخفاء الجنجويد فى أى صور وأشكال جديدة سوف لن تنطلى على أحد, فالناس فى دارفور يعرفون بعضهم جيداً, وجملة واحدة من حديث أى شخص قد يكون كافياً لتحديد قبيلته ومنطقته فى دارفور. وبناءاً على كل ذلك يجدر بأهل الإقليم, خاصة الواعين والمثقفين, حمل لواء الوحدة على أن يبدأوا بقبائلهم ومناطقهم أولاً, ثمَّ تجتمع قبائل كل منطقة لتمتين العلاقات بينها, ثمَّ ينداح ذلك تدريجياً ليشمل كل مكوِّنات الإقليم وبشرط أن يكون ذلك بعيداً عن هيمنة الحكومة ومؤامراتها.
* تظل الإدارة الأهلية العامل الرئيسى الحاسم فى مسألة وحدة أهل الإقليم, ومما يفسر أهمية الإدار الأهلية فى حياة أهل دارفور هو أنَّهم, وطوال فترات تاريخهم الطويل, ظلَّوا حريصين وبوجه خاص على عدم المساس بهياكل هذه الإدارة, وحتى عندما إنتهى عهد السلطنة ظلَّت الإدارة الأهلية راسخة بل وتصاعد دورها بعد العناية الكبيرة التى أسبغتها عليها الإدارة الإنجليزية, ومن أجل ذلك يجب أن تعود الإدارة الأهلية وبصورة أكثر قوة وكفاءة وأن تكون مبرأة من الغرض السياسى, والذى يمثل السبب فى كل ما يحدث الآن. إضافة إلى ذلك يجب أن تتطور الإدارة الأهلية أيضاً بما يتناسب مع تطور عامل الزمن, وأن يتم ضخ بعض الأفكار الذكية كقيام البرلمان الأهلى كوعاء إستشارى لكل قبائل الإقليم, كل قبيلة ممثلة بزعيمها فقط, وتكون لها أمانة دائمة مقرها مدينة الفاشر, العاصمة التاريخية لدارفور, وتجتمع مرتان فى السنة على الأقل لمناقشة القضايا الخاصة بالقبائل وتمتين وشائج التعايش السلمى بينها. قيام مثل هذا المجلس أو البرلمان يجب أن يتم بمبادرة من أهل الإقليم ويمكن الإتفاق على لجان أهلية محايدة لوضع تصورات مختلفة يتم نقاشها فى مؤتمرات قاعدية ثمَّ تُستخلص منها التصور الذى يحظى بإتفاق غالبية القبائل.
* يجب الإعتراف بأنَّ القبائل والجهويات فى السودان, ومعظم الدول الأفريقية, هى من الحقائق الإجتماعية التى يجب إستصحابها فى إدارة المجتمع وضبط حركته, ومن المفيد مساعدة القبائل فى تفجير طاقاتها الكامنة وتوجيه ذلك بطريقة سليمة مع مراعاة ضبطها بما يخدم المجتمع العريض وتقريب الناس بمختلف قبائلهم بعضهم ببعض, ولعلَّ تطويرالجانب الإقتصادى فى تفكير وحركة القبائل يأتى فى أولوية الأفكار التى يمكن أن تشكل محوراً هاماً فى تأليف قطاعات المجتمع بدارفور, وقد سبق لى أن تحدثت مع بعض الأصدقاء من أبناء الزغاوة, وهم بيوت وبطون وممالك شتى فى دار الزغاوة بشمال دارفور, عن مدى إمكانية قيام مؤتمر جامع لأبناء هذه القبيلة الكبيرة يكون هدفه رفد الجانب التنموى بمناطقهم من خلال تنشيط المبادرات والمشاريع الإقتصادية المتوافرة هناك, أو إستحداثها إن لم تكن موجودة, مثل هذه الأفكار التطبيقية تجمع الناس بمختلف إنتماءاتهم القبلية لأنَّ فيها منافع ومصالح لهم, ومع تطور مثل هذه الأفكار وتزايد نسبة التعليم والإعلام الإيجابى والتداخل المحلى والخارجى, خاصة وأنَّ المنطقة تجاور دولتين وليست ببعيدة عن مصر, فإنَّ درجة الحساسية القبلية تتراجع تدريجياً مفسحة المجال للتنافس الشخصى وتأكيد الذات كما نعيشه الآن فى العالم المتحضر. مثل هذه الأفكار يمكن أن تنطبق على قبائل البقارة فى جنوب دارفور خاصة وأنَّ ثرواتهم الحيوانية أصبحت لها موقعاً مميزاً ضمن الصادرات القومية, لكنها ومع ذلك تحتاج لتطوير فى مجالات عديدة, وينطبق نفس الشيئ على قبيلة الفور ومحيطها فى, و حول, جبل مرة ووادى صالح واللتان بإمكاناتهما الطبيعية الهائلة يمكن أن تكونا أكبر منتجتين للفواكه بأفريقيا, وكذلك ينطبق الحال على المساليت والتاما والقمر فى غرب دارفور, وعلى البرتى والزيادية والميدوب فى شمال وشرق دارفور, خاصة وأن بلدات مثل مليط واللعيت صارتا منذ فترة السبعينات من القرن الماضى من أهَّم المدن التجارية بالإقليم. خلاصة الأمر هى أنَّ دارفور بحاجة فى المرحلة القادمة إلى "الأفكار الذكية" فى مجال التنمية الإجتماعية والتنموية والإقتصادية, ولا بد أن يتم ذلك بإندفاع وقوة يتلاقى فيها الجهد الحكومى بالجهد الأهلى, والتدفقات المالية الدولية بالتغطيات المالية المحلية, وعندما يتنافس المتنافسون حول ذلك فسينبلج واقع جديد مختلف, نأمل أن يكون صحيَّاً ومعافى, لأنَّ لكل وضع أزماته ومشاكله لكن تتوقف درجة ذلك على كيفية تخطيط الأسس المبدئية التى ترتكز عليها مثل هذه الأوضاع الجديدة.
* وأخيراً, أصبح أبناء دارفور المنتشرين حول العالم يمثلون تياراً مؤثراً فى تحديد مسار ومستقبل الإقليم ولا يمكن تجاوزهم فى ذلك بأى حال من الأحوال, وقد لا نبالغ إن قلنا أنَّ إمكانية خروج الإقليم من أزماته الحالية يتوقف عليهم بدرجة كبيرة, فبجانب الوعى والتعليم والخبرات التى إكتسبوها فى منافيهم المختلفة ظلَّوا قريبين رغماً عن بعدهم من معاناة أهاليهم بدارفور, بل وساهموا مباشرة فى تصعيد قضية دارفور إلى أعلى المستويات العالمية كما هو مشاهد. ومن الإيجابيات الهادفة لوحدة أهل دارفور فإنَّ أبناء دارفور بالخارج ظلوا, ومنذ وقت مبكر قبل تصاعد هذا النزاع بالإقليم, يكوِّنون روابط وإتحادات قطرية جامعة بإسم "أبناء دارفور", محققين بذلك وحدة وجودهم بالخارج, بجانب جهود موازية لتكوين رابطة عالمية جامعة تتناول المسألة الدارفورية بطريقة منهجية وتضعها فى قالب إستراتيجى أساسى وشامل. قيام مثل هذه الرابطة العالمية, بجانب تجمع روابط طلاب دارفور بالجامعات والمعاهد العليا السودانية, وتجمع شبكة دارفور للعمل والنشاط الإنسانى, وتجمع اللجان الشعبية لتنمية دارفور, ثمَّ إعادة نظام الإدارة الأهلية على أساس وحدوى كلها سمات إيجابية لتحقيق الوحدة المنشودة, وبإستكمال بناء مثل هذه الكيانات, بجانب قيام الحكومات الولائية النزيهة والمنتخبة ديموقراطياً, يمكن التعامل بينها بسلاسة وثقة لفائدة إنسان الإقليم ومستقبله ولترسيخ مفاهيم الوحدة وتأمينها من أى محاولات إختراق خارجى.
8
إعادة تأهيل بيئة دارفور:
تشير معظم التقارير المتعلقة بالنزاع فى دارفور إلى أنَّ أساس المشكلة القائمة الآن يتمثل فى الصراع على الموارد الطبيعية المحدودة والتى نتجت بفعل التدهور البيئى الذى ضرب الجزء الشمالى من الإقليم نتيجة لموجات الجفاف والتصحر فى العقود الثلاثة الأخيرة, وبالرغم من صحة هذه المقولة إلاَّ أن أسباب أخرى موازية لا تقل خطورة عنها قد ساهمت بدرجات مختلفة فى تفجير النزاع بصورة أشد عنفاً كما هو مشاهد وقد فصَّلنا ذلك فى مناسبات أخرى, لكن ما يهمنا هنا هو ضرورة التنبيه لمعالجة الخطر البيئى بالإقليم, وسيظل جزء كبير من المشكلة بدارفور قائماً طالما ظلَّ التدهور البيئى على ما عليه من إستمرار. ومن المؤسف أنَّه عندما تتحجج الحكومة بأنَّ أسباب الصراع هى الإحتكاكات المستمرة بين الرعاة والمزارعين فإنَّها فى ذات الوقت لا تفعل شيئاً إيجابياً لمعالجة تلك الأسباب وتجفيف بؤر الصراع الذى ينتج منها, إنَّ مجرد إنشاء مشروعات قليلة لتوفير للمياه كحل لتلك النزاعات لا تكفى ولا تعالج القضية من أساسها, وإنَّما المطلوب وضع وتنفيذ إستراتيجية طويلة المدى لمعالجة كافة الإختلالات والتشوهات البيئية ليس فى إقليم دارفور فحسب وإنَّما فى بقية الأقاليم الأخرى بالسودان. إنَّ المدخل السليم فى هذه الناحية يتمثل فى محاولة إعادة تأهيل البيئة عبر طرق وخطط علمية مدروسة وتوفير بدائل مناسبة للطاقة تغنى المواطنين عن الإعتماد على الحطب والفحم النباتى كوقود أساسى للطبخ والتدفئة والإنارة فى كثير من المنازل والخلاوى والفرقان. ولذلك فإنَّ برامج إصلاح البيئة وإعادة تأهيلها تنطلق دائماً من جملة مفاهيم مجربَّة يتمثل أهمِّها فى الآتى:
(1) إنَّ عملية تأهيل البيئة والحفاظ على تجددها تعتمد بدرجة كبيرة على الإستمرارية والمتابعة والعامل الزمنى, ولذلك فهى ليست مشروعات محدودة بمدى زمنى معيَّن بل على العكس تظلُّ مشروعات إستراتيجية طويلة المدى يقع مراعاة تنفيذها على كل قطاعات المجتمع والدولة بجانب التخطيط العلمى السليم.
(2) عمليات التأهيل لا تشتمل على تطوير الموارد الطبيعية فحسب, مثل التشجير وتوفير مصادر المياه, بل تعتمد على جملة من السياسات والتشاريع القانونية التى تحد من التعامل الجائر مع الطبيعة, بجانب الوعى الشعبى من خلال وسائل الإعلام والتثقيف البيئى ومناهج التعليم المدرسى.
(3) فى البلدان النامية, والسودان فى قعر قائمتها, يجب أن يكون الحد أو التقليل من الإعتماد على الإشجار كمصدر أساسى للحصول على الطاقة هو الهدف الرئيسى فى برامج تأهيل البيئة, والسبب منطقى هو أنَّ تقليل إستخدام الفحم والحطب سيعطى الطبيعة فرصة لإلتقاط أنفاسها وإعادة نمو الأشجار وتجدد الغطاء النباتى الأخضر.
(4) إنَّ الدمار غير المنظور الذى يحدثه التدهور البيئى هو دمار هائل بحيث يستحيل تقديره مادياً, فعملية التصحر مثلاً إن لم يتم التعامل معها بطريقة علمية وعملية فإنَّها ستلتهم الأراضى الزراعية الخصبة فى مساحات شاسعة بلا رحمة وتحيلها إلى خراب, بجانب أنَّ إنحسار الموارد الزرعية وتناقص معدلات إنتاج الحبوب يؤدى إلى المجاعات وتُمزِّق النسيج الإجتماعي بالهجرات والفرار من المناطق المتأثرة, إضافة إلى خلق إشكالات جديدة فى مناطق النزوح نتيجة لإكتظاظها بالسكان وتنافسهم على الموارد المحدودة, ثمَّ إنَّ إختفاء الأشجار أو الغطاء الأخضر يؤدى مباشرة إلى تفكك التربة وتعريتها من العناصر المعدنية الخصبة للزراعة فتتحول الأراضى إلى بلاقع جرداء فقير القدرة على الإنتاج الزراعى, ومن المعلوم أيضاً أنَّ توفر الغطاء النباتى يساعد على هطول الأمطار ويؤثر فى سيكلوجية المجتمع بما توفره من راحة للنفس وإطمئنان بأنَّ الحياة تسير على مايرام.
(5) تظل عملية التشجير وإستزراع الأشجار والنباتات الخلوية هى محور عملية التأهيل البيئى ويحتاج ذلك إلى تفريغ علماء وباحثين للقيام بذلك, بجانب تخصيص ميزانيات مالية كافية لتنفيذ البرامج المختلفة, ومهما بلغت قيمة هذه المتطلبات المالية فإنَّها سوف لن تساوى قطرة فى بحر الخسائر الكارثية التى ستصيب المجتمع فى حال عدم توفيرها لمعالجة الكارثة المتشكلة.
ولذلك فإنَّه بسبب دورات الجفاف والتصحر التى ضربت أجزاء واسعة من إقليم دارفور فقد تدنت إنتاجية الأراضى الزراعية فيها بحيث أصبحت لا تلبي معه الإحتياجات الأساسية للسكان من الغذاء والمراعى، وقد إنعكس ذلك ليس على معيشة الأسر في الريف فحسب، بل وعلى القدرات المالية لمؤسسات الحكم أيضاً، مما إنعكس سلباً على مقدراتها في إدارة شؤون المواطنين من توفير للخدمات الضرورية ودفع المرتبات وغير ذلك, والمحصلة النهائية فى مجملها هى ضمور فى الموارد المتاحة وإهتزاز في الأوضاع المحلية وإختلال فى المجالات الأمنية تجسد في عدم الإستقرار والبطالة وإفرازات النهب المسلَّح، إضافة إلى معدلات الهجرة العالية خاصة في المناطق التي تعاني من حدة الظاهرة مثل شمال دارفور، ونتيجة لذلك فقد توجهت معظم الهجرات إلى المدن والبلدات الكبيرة وأدت إلى ظاهرة ترييف البيئة الحضرية بكل ما في ذلك من معطيات سالبة, وعليه فإنَّ الحاجة تفرض النظرة المستحدثة والتفكير الإيجابى للتعامل العلمى والمنطقى مع كارثتى الجفاف والتصحر فى دارفور بتصميم ووعى كاملين بمخاطرهما على أوضاع الإنسان والحيوان معاً, ومعالجة التفاعلات المختلفة التي يحدثها على مختلف الأصعدة الأجتماعية والحكومية مما يتطلب وضع إصلاح البيئة كأسبقية في السياسات الموجَّهة نحو حل الأزمة فى دارفور وجعلها أكثر إستدامة.
ولعلَّنا نجد فى تراث الحكم الإنجليزى بدارفور فى فترة الإستعمار ما يفيد بجدوى التخطيط الإدارى الذكى الذى قد يستفيد من حركة المجتمع فى تأهيل بيئته والحفاظ على تجدد موارده الخضراء, فقد كان المفتشون الإنجليز بنيالا, مركز جنوب دارفور فى ذلك الوقت, يحرصون على جمع أكبر قدر من بذور الأشجار والنباتات الخلوية ويقومون بتخزين الأطنان منها إنتظاراً لفترة نزوح قبائل البقارة جنوباً عقب إنتهاء فصل الخريف, هؤلاء يسيرون ببطء مع أبقارهم يتبعون المراعى ومصادر المياه ويتوغلون بسبب ذلك, وما يزالون, إلى داخل أدغال جنوب السودان وأفريقيا الوسطى, هذه المسيرة الهادئة الضخمة تأخذ شهوراً للبلوغ إلى نهاياتها وبإقتراب فصل الخريف من العام التالى تبدأ تلك القبائل فى النزوح تدريجياً فى الإتجاه العكسى إلى الشمال هرباً من الأمطار الغزيرة والحشرات المؤذية. وعلينا أن نتخيل كيف إستفاد المفتشون الإنجليز من إستغلال تلك التحركات السنوية جيئة وذهاباً وتسخيرها لصالح إصلاح البيئة, فقد كانوا يوزعون على الرعاة من أفراد تلك القبائل كميات كبيرة من البذور مع إرشادات محددة فى كيفية نثرها أثناء غدوهم ورواحهم, لقد أخبرنى شيخ من جنوب دارفور أنَّ تلك السياسة التى إتبعها الإنجليز كانت هى السبب الرئيسى فى منع التصحر من التمدد إلى جنوب دارفور بسبب كثافة الغطاء النباتى, وإذا كان ذلك قد حدث قبل أكثر من ستين أو سبعين عاماً فما المانع من أن يحدث الآن أيضاً وبصورة أكثر تطوراً مثل نثر البذور بالطائرات مثلاً؟
لقد أثار عضو الجمعية التأسيسية فى عهد الديمقراطية الثالثة النائب محمد إبراهيم نقد مسألة نثر البذور بإستخدام طائرات الرش فى أرجاء مناطق شمال السودان المتصحرة, أو التى باتت عرضة للتصحر, وذلك أثناء خريف وفيضانات عام 1988م الشهيرة, والتى سالت خلالها الأودية حتى داخل جمهورية مصر, ولكن نسبة لإنشعال السياسيون بسفاسف الأمور إضافة لعدم تنامى الوعى الرسمى والشعبى بأهمية البيئة فقد فاتت على البلد فرصة نادرة لإعادة تأهيل مصادرها البيئية. لقد كانت الأرض فى ذلك الموسم المطير مبتلة ومشبعة بالرطوبة أعلى بكثير من المعدلات الطبيعية الشيئ الذى كان من الممكن معه تشجير, أو "تنبيت", مساحات كبيرة من الصحراء, وعلى الرغم من مرور عدة مواسم مطيرة منذ ذلك العام إلاَّ أنَّ الدولة ما زالت عاجزة عن القيام بالتخطيط السليم لرعاية البيئة بالرغم من إنشاء وزارة للبيئة وقيام عدة كليات ومعاهد جامعية وجمعيات بيئية تهدف كلها لمعالجة قضايا البيئة السودانية. لقد أوردت صحيفة الرأى العام تقريراً أشارت فيه عن أنَّ 13 ولاية فى شمال السودان تعانى من الزحف الصحراوى (الرأى العام 10/8/2003م), وأبرزت فيها جملة من الإفرازات الخطيرة التى تستصحب ذلك خاصة في المجالات الإنتاجية، والإقتصادية، والإجتماعية، والجغرافية, وخلص التقرير إلى أنَّ مشكلة التصحر تمثل كارثة حقيقية, خاصةً وأنَّ السودان لا يزال بلداً زراعياً ترتبط نظم إقتصاده المحلي بما تنتجه الأرض، سواء أكان ذلك في مجال الزراعة، وتربية الحيوان، أو الأنماط الأخرى المصاحبة, وتركزت إقتراحات الحلول التى وردت فى ذلك التقرير إلى ضرورة إحداث تنمية تلبي على المدى المتوسط الإحتياجات الأساسية للسكان، وأنَّ تفصيل مثل هذه السياسات يحتاج إلى مقومات منها إنتهاج الأسلوب العلمي في تقييم الأوضاع الراهنة للولايات المتأثرة بالتصحر، وتحديد المعالجات في الجانبين البيئي والتنموي لإنفاذ السياسات على المستويات المحلية والولائية والقومية, بجانب الإلتزام بالتمويل, والتنسيق الأمثل ما بين السياسات القطاعية لوزارات الموارد الطبيعية المختلفة كالزراعة، والغابات، والثروة الحيوانية، والري، والبيئة والتنمية العمرانية، والتعاون الدولي، وسياسات منظمات الأمم المتحدة التي تشمل برنامج الأمم المتحدة الإنمائى، ومنظمة الزراعة والأغذية العالمية، والآلية العالمية للبيئة، ومنظمة إيقاد، والمنظمة العربية للتنمية الزراعية والصناديق المانحة ومنها البنك الدولي، وبنك التنمية الاسلامي، وبنك التنمية الافريقي، والمنظمات الطوعية العاملة بالقطر، الأجنبية منها والوطنية، فكل هذه الجهات يجب التنسيق بين سياساتها المطروحة عن طريق إستحداث آليات يتحقق بواسطتها قدر من توحيد الجهود نحو أداء أفضل لمكافحة التصحر, كما أكد التقرير أيضاً على ضرورة الإهتمام بالعنصر البشري كعامل أساسي وراء التصحر بتأكيد شراكته في إستنباط الحلول، وصياغة البرامج، وتنفيذها، بتنظيمه وتقوية مؤسساته المجتمعية, وتحويل السياسات إلى برامج تقوم على نسق يربط بين التنمية وصيانة الموارد الطبيعية ويتطلب ذلك أن يكون للحكومة دور ريادي في إدارة النشاطات ببلورة سياسات عملية وهيكلة الأجهزة التنسيقية وتقييم ورصد ومتابعة أداء السياسات بما يحقق الأهداف المطروحة, وعن طريق ذلك يتحقق التكامل بين سياسات مكافحة التصحر وبرامج التنمية الكلية من صيانة الموارد وتنميتها بصورة مستدامة، وتلبية إحتياجات السكان بتوفير الغذاء، وتحسين الدخول، وتحقيق معدلات إنتاجية أعلى، وبناء المصادر المالية لمؤسسات الحكم القاعدية من محليات وولايات، وتوفير الصرف على الخدمات مما يرفع من أدائها.. وكل ذلك فى النهاية سيؤدي إلى إستقرار المجتمعات، ومكافحة الفقر، وتحقيق معدلات أعلى من الرفاهية.
ومن الإيجابيات التى لا بد أن نوردها فى مسألة الوعى البيئى بالسودان ومحاولة إعادة تأهيلها تتمثل فى الرغبة العارمة لبعض المهتمين والعارفين بأهمية أمر البيئة على فعل شيئ, فقد نشرت الصحف قبل أكثر من عام مضى قيام منظمة بيئية بإسم "كردفور" (إختصاراً لكردفان دارفور) تبنَّت برنامجاً لتشجير مساحة 20 ألف ميل مربع, فى قطاع بطول ألف ميل وعرض عشرين ميل, يمتد من شمال دارفور مروراً بشمال كردفان ومناطق شمال الخرطوم إلى أواسط كسلا وتخوم جبال البحر الأحمر, وقد عقدت تلك المنظمة مؤتمراً صحافياً بقاعة الشارقة بجامعة الخرطوم لكن لم نسمع عنها شيئاً بعد ذلك, ونخشى أن تكون قد إنهارت مثلها ككل الأحلام الجميلة فى سودان اليوم.
وحتى يمكننا إستثمار كل هذه المداخل والأفكار للتصدى لكارثة الجفاف والتصحر بدارفور فإنَّه ينبغى تطبيق برامج عملية محددة لتأهيل البيئة فى تلك المناطق نجمل بعضها فى النقاط التالية:
* تكثيف إستخدام البوتجاز والكيروسين (الجاز الأبيض) لمقابلة الإستخدام المنزلى فى مدن وقرى دارفور, ومن المناسب إستخدام مواقد الجاز الأبيض فى عمليات الطبخ بجانب الإنارة خاصة فى المناطق الريفية, فمعظم مثل هذه المناطق فى دول الخليج مثلاً تستخدم هذه المواقد, وهى ذات أحجام مختلفة يتناسب كل حجم مع طبيعة الأستخدام المطلوب, ويمكن للحكومة تشجيع إستيراد مثل هذه المواقد بإلغاء الجمارك عليها ودعم وقود الكيروسين إضافة إلى زيادة إنتاجها فى المصافى السودانية, إذ أنَّ إنتاجها بكميات كبيرة ليست مجدية إقتصادياً للمصافى البترولية ولكن يمكن تلافى ذلك عن طريق تقديم بعض المغريات والتحفيزات (incentives) الإقتصادية الهادفة.
* تشجيع عدم إستخدام الفحم النباتى والحطب فى الإستخدام المنزلى والمطاعم وإصدار قوانين يحظر كلياً إستخدام "جدول" الأشجار فى حرق الطوب الحرارى, ويمكن إدخال أفران الطوب الحرارى الحديث التى تعتمد على البوتجاز أو الجازولين فى عملية الحرق, بجانب تشجيع إستخدام بلوكات الأسمنت.
* وضع برنامج طموح للتشجير (forestation), وإستحداث التشجير فى المناطق غير المشجرة من قبل (afforestation), وإقامة المحميات الطبيعية, ونثر البذور, وإنشاء إدارة إقليمية متخصصة لتنفيذ ذلك تكون مجهَّزة ولو بطائرة صغيرة واحدة لنثر البذور من الجو وعلى مساحات واسعة من الأراضى المتصحرة والهشَّة على السواء على أن يكون ذلك قبل بدء مواسم الخريف.
* إصدار التشريعات البيئية المختلفة التى لها قوة القانون لحماية البيئة وتطبيق مجموعة من السياسات الزراعية تتضمن قيام أى مزارع بتشجير ما لا يقل من 5% من مساحة مزرعته بالأشجار الدائمة. للأسف نحن نعلم أنَّ مثل هذه التشريعات وغيرها موجودة فى أضابير وملفات وزارات الزراعة والغابات فى كل ولايات السودان لكنَّ العبرة بالتطبيق والمتابعة.
* إعادة الإحتفال السنوى بأسبوع الشجرة ونفر الأهالى للقيام بعمليات التشجير ليس على مستوى المناطق الحضرية فقط بل وفى المناطق الريفية والخلاء أساساً, وكمثال على ذلك ماذا لو توقف العمل الحكومى لمدة أسبوع واحد فى كل عام مع بدء فصل الخريف وإنتظم العاملون فى معسكرات بعيدة فى المناطق الجرداء لتنفيذ أنشطة التشجير ونثر البذور؟ لو تمَّ تنفيذ مثل هذه الفكرة ضمن برنامج منظَّم, بجانب متابعة تأهيل البيئة, لتغيرت أوضاعها تماماً فى فترة زمنية وجيزة نسبياً قد لا تتعدى العقد الواحد.
* إستغلال العطلات الصيفية لطلاب الجامعات والمعاهد العليا والمدارس المحلية فى متابعة عمليات تشجير المدن وإنشاء الحدائق وميادين الترفيه الإجتماعى داخل الأحياء ومنتجعات الرحلات الخلوية على أطراف المدن.
* الإهتمام بتكثيف الوعى الشعبى بالبيئة كعنصر حاسم لنجاح أى برنامج تأهيلى وتسخير الأجهزة الإعلامية فى مد الوعى الشعبى, بجانب تبنى مواد البيئة فى المناهج الدراسية منذ السنوات المدرسية الأولى, وتشجيع قيام جمعيات طوعية بيئية للتشجير ومكافحة الزحف الصحراوى ومساعدتها بالمدخلات اللازمة والتوجيهات العلمية لإنجاح برامجها.
* تطبيق مفهوم الغابات الإقتصادية (economic forests), وهى الغابات التى تُستزرع من أجل الحصول على مواد معيَّنة, كالأخشاب مثلاً, وعلى هذا المبدأ يمكن تشجيع إستزراع غابات الهشاب لإنتاج الصمغ العربى خاصة وأنَّ دارفور أحد الولايات المنتجة لمادة الصمغ, وهو كما هو معلوم فقد أصبحت هذه المادة من أهمِّ الصادرات الوطنية, ويمكن تشجيع القبائل فى تطبيق ذلك من خلال إستغلال أجزاء من داراتها لإستزراع غابات الهشاب تكون تحت رعاية أفراد القبائل نفسها, إنَّ مثل هذه البرامج ستساعد القبائل على إنتهاج سياسات جديدة لإستغلال مواردها الطبيعية دون تدخل كبير من الدولة.
* مع تصاعد الإهتمام الدولى بحل قضية دارفور حلاً ناجزاً يجدر التخطيط لقيام مؤتمر عالمى لتأهيل البيئة فى دارفور على أن يخرج بتوصيات وبرامج تطبيقية محددة لإصلاح وتأهيل البيئة تلتزم بها الحكومة الإقليمية القادمة المنتخبة جماهيرياً مع إنشاء صندوق دولى للمساعدة فى تمويل ذلك.
المرحلة القادمة فى دارفور هى مرحلة تعمير وتأهيل فى كافة مناحى الحياة, والبيئة جزء لا يتجزأ من ذلك.
9
معاناة أبناء دارفور بالخارج:
مثلما يعانى أهلونا فى دارفور من إستمرار هذه الأوضاع المشينة والشائنة يعانى بعض من إخوتنا فى المهاجر من أوضاع بئيسة بالمثل, مع فارق واحد هو أنَّ حياتهم حيث يوجدون ليس فى خطر, فالدول التى تحترم مواطنيها والمقيمين على أرضها تحرص على ألاَّ يمسَّهم أذى من أى جهة كانت. ولعلَّ تفاقم الأمور وقسوة الحياة بإقليم دارفور, ماضياً وحاضراً, قد دفعت بأعداد كبيرة من الشباب الواعد بالهجرة إلى الخارج وأقرب منفذ لذلك هو الجماهيرية الليبية, حيث يعيش هناك أكثر من مائة ألف من أبناء دارفور فى معاناة دائمة بسبب العطالة المتفشية والتفرقة العنصرية التى يتحملونها بصبر أليم, وإذا كانت الأوضاع الإقتصادية بليبيا جيدة خلال عقود السبعينات والثمانينات من القرن الماضى إلاَّ أنَّه, وبسبب تزايد قبضة المقاطعة الإقتصادية والسياسية الدولية بتلابيب الإقتصاد الليبى, تدهورت الأوضاع فيها بصورة سالبة كان أكثر القطاعات المتضررة منها هو سوق العمالة, وبطبيعة الحال قطاع العمالة غير المدربة والتى تحتضن نسبة كبيرة من أبناء دارفور. لقد ظللت أستلم رسائل منتظمة من بعض هؤلاء الإخوة يجأرون فيها بالشكوى من أوضاعهم بل وناشدوا السلطات الليبية, من خلال القنوات الممكنة, مرات عديدة بتحسينها, ونأمل أن يتم ذلك فى القريب العاجل خاصة وأنَّ ليبيا فى طريقها لتطبيع أوضاعها مع المجتمع العالمى والخروج من عنق الزجاجة التى ظلَّت تعيش فيه خلال الثلث قرن الماضية, ولذلك, ومن خلال التشاور والتنسيق المستمر بيننا نحن أبناء دارفور بالخارج, فقد نصحتهم بتكوين رابطة جامعة لهم, بالرغم من صعوبة ذلك مع القوانين الليبية, لكن الأهم فى تلك الفكرة هو أنَّها ستمثل لهم صوتاً معبراً وتشكل لهم منبراً يمكنهم من خلالها طرح قضاياهم بتأثير أكبر, والحمدلله, برغم الخلافات والعراقيل المتوقعة فى إنشاء مثل هذه التجمعات, بجانب تشجيعنا الدائم لهم فقد تمكنوا من تنظيم أنفسهم فى رابطة جامعة مانعة هى "رابطة أبناء دارفور بالجماهيرية الليبية" كأكبر رابطة لأبناء دارفور بالخارج, وأكثرهم قرباً إليها, ومن هذا المنبر أزف إليهم تهنئتى وأمنياتى السعيدة كإضافة قوية مطلوبة بشدة لدعم جهود أبناء دارفور بالخارج نحو قضية أهلهم.
وبالرغم من سعادتنا بالأخبار القادمة من ليبيا إلاَّ أنَّ نفوسنا إنقبضت فجأة عندما شاهدنا من على أخبار البى بى سى بضع وثلاثين شاباً من إخوتنا أبناء دارفور يهيمون على سفينة فى البحر تتقاذفهم شواطئ الدول وترفض موانئ القدوم دخولهم إليها, وبرغم تفاعل الإعلام العالمى والمنظمات الكبرى بهذه القضية إلاَّ أننا لم نسمع شيئاً من حكومتنا الرشيدة عن ذلك بالرغم من التأكيد المتكرر للأنباء أنَّ أولئك الأشخاص هم سودانيون من إقليم دارفور, وبالرغم من أنَّ ذلك شيئ مؤسف إلاَّ أنَّه ليس بشيئ جديد فى علاقة الحكومة بالمغتربين السودانيين, فهناك تاريخ طويل من عدم الثقة المتبادل بينهم يتمثل فى حقيقة لا بد من الإعتراف بها وهى عدم إهتمام حكومتنا, وسفاراتها بالخارج, بمواطنيها فى الغربة ومنافى الشتات إلاَّ بمقدار ما تحصلها منهم من ضرائب وجبايات باطلة, والأمثلة كثيرة على ذلك فإخواننا أبناء دارفور بليبيا ظلُّوا يتذمرون بإستمرار من تجاهل السفارة هناك لحل قضاياهم بل ومعاكستهم فى بعض الأحيان, وقد خصص موقع سودانيز أون لاين بشبكة الإنترنت (فكَّ الله أسره فى داخل السودان) قبل أشهر قليلة مساحة رحبة فى ركنها الحر وفتحت نقاشاً للفت الإنتباه لمشاكل السودانيين بلبنان, وبالرغم من وجود سفارة سودانية هناك إلاَّ أنَّ أوضاع السودانيين, خاصة داخل السجون اللبنانية, وكثير منهم إخوة لنا من أبناء دارفور, بجانب السب العنصرى اللئيم تجاههم من قبل اللبنانيين, إلاَّ أنَّه يبدو أنَّ لأفراد السفارة مهمَّات أخرى خارجة عن إطار رعاية أولئك اللاجئين البؤساء, وقد كتب أحد المشاركين فى ذلك النقاش, وهو من أبناء دارفور بلبنان, أن القنصل السودانى نظر إليهم شذراً عندما عرضوا عليه بعض ما يعانونه من مشاكل وسألهم بضجر: "إنتو الجابكم البلد دى شنو"!! هكذا تتعامل الحكومة مع شعبها فى الخارج, كما لا ننسى تعاملها مع القضية التى تتفجر مع نهاية كل عام دراسى حول قبول أبناء المغتربين فى الجامعات السودانية برغم تفوق الكثير منهم بدرجات ممتازة خاصة فى مدارس الخليج.
إنَّ موضوع ركَّاب السفينة التائهة فى أعالى البحار قد وجدت تعاطفاً دولياً من جانبها الإنسانى لكنَّها دخلت فى متاهة التفسيرات القانونية التى تحكم أوضاعهم كلاجئين, وزادت تعقيداتها أيضاً بسبب الصراع حول ذلك بين إثنين من أهم الدول الأوربية, إيطاليا وألمانيا. فقد أوردت قناة الجزيرة أنَّ إيطاليا سمحت بتردد بنزول 37 أفريقياً, غالبيتهم سودانيون, فروا من دارفور, وتحطمت سفينتهم في البحر المتوسط وأنقذتهم سفينة معونة ألمانية ونقلتهم إلى ميناء بورتو أمبيدوكلي في جزيرة صقلية, بعد مفاوضات إستمرت حوالي ثلاثة أسابيع (الجزيرة نت 12/7/2004م), وكانت إيطاليا قد تعرضت لضغوط من المفوضية العليا لشؤون اللاجئين للسماح بنزول أولئك اللاجئين إلى صقلية ودعا الفاتيكان لمساعدتهم, وبالرغم من أنَّها فعلت ذلك فقد رفضت فى نفس الوقت إعطاءهم حق اللجؤ السياسى بحجة انَّ السودانيين كانوا أقرب إلى مالطا منهم إلى إيطاليا, حين تم إنتشالهم, ومن ثمَّ ينبغي أن يتقدموا بطلب لجوء إلى مالطا. ونتيجة لذلك طالب حزب الخضر الألماني باعطاء السودانيين ال37 حق اللجوء السياسي بألمانيا (سودانيز أون لاين 12/7/2004م) بعد الرفض الإيطالى, وبالرغم من أنَّ جريدة الشرق الأوسط أوردت فى عددها يوم (13/7/2004م) أنَّ السلطات الألمانية قد وافقت على منح اللجوء السياسي لهؤلاء السودانيين إلاَّ أنَّه قد تأكد لاحقاً غير ذلك وأنَّ السلطات هناك قد رفضت بشدة قبولهم. وفي هذا الصدد فقد صرَّح مسؤول في وزارة الداخلية الألمانية إنَّ القانون الأوروبي الذي أقر في دبلن عام 2003م يؤكد وجوب رعاية اللاجئ السياسي والسماح بتقديمه طلب حق اللجوء في البلد الذي نزل فيه في البداية، بعدها تتخذ السلطات المختصة كل الإجراءات القانونية مثل رفع بصمات أصابعه مع منعه من التجول في أوروبا لتفادي تقديمه طلبات لجوء في بلدان أخرى، وقال إنَّه يجب على اللاجئين السودانيين تقديم طلباتهم في إيطاليا وليس في مالطا أو ألمانيا لأنه ثبت تواجدهم منذ البداية في المياه الإقليمية الإيطالية (المشاهير 14/7/2004م), لكنَّ بعض المراقبين يرون أنَّ تشدد الحكومة الإيطالية يعود إلى رغبتها فى إستغلال هذه القضية بالتعامل معها بالشدة وإرسال إشارات تخيف الراغبين في عبور البحر الي شواطئها من مواطني المغرب العربي وغرب أفريقيا, لكن من وجهة نظر منظمات حماية اللاجئين السياسيين فإنَّهم يطالبون بالنظر إلى قضية اللاجئين السودانيين بمنظار آخر قانوني وإنساني ويقولون بأنَّ على الحكومة الألمانية البحث مع روما حول حلِّ للقضية بعيداً عن التمسك الصارم بالقوانين. ومن جانب آخر فقد أوردت صحيفة نيو برس الألمانية فى عددها بتاريخ (13/7/2004م) أنَّ قضية اللاجئين السودانيين قد دفعت بالعديد من البرلمانيين الألمان ومدير مكتب غوث اللاجئين فرع ألمانيا شتيفن تلكون للمطالبة بتطوير قانون اللجوء الأوروبي، وما حصل مقابل السواحل الإيطالية دلَّ على غياب فقرة مهمة في قانون حق منح اللجوء تدعو إلى تقاسم المسؤوليات بين الدول الأوروبية وتوفير إمكانية تقديم طلب لجوء سياسي أوروبي، لكن وقبل كل شيء تحمل كل بلد عدد من اللاجئين لأن معظمهم يدخل إلى أوروبا ويتوجه في النهاية إلى ألمانيا. وما تزال القضية عالقةً بلا حل لكنَّ الجديد فيها ورود أنباء بالإعلام الألمانى يوم أمس تشير إلى أنَّ السلطات الإيطالية قالت أنَّ ال 37 شخصاُ من أولئك اللاجئين ليس بينهم أى سوداني وأنَّهم من نيجيريا ومالي والنيجر, ولذلك فقد تمَّ نقلهم من سجن الترحيل بإيطاليا إلي المكان الذى سوف تنظر الجهات المختصة في أمرهم للتعجيل بترحيلهم إلي دولهم.
مهما تكن من مآلات لهذه القضية فقد كان من الواجب أن تشكل الحكومة السودانية حضوراً ولو بإصدار بيان ينفى أو يثبت أنَّ من بين أولئك اللاجئين سودانيين طالما إمتلأت وكالات إعلام العالم بذلك, يحدث كل ذلك بينما توجد سفارات وقنصليات سودانية بكل من إيطاليا وألمانيا, لكن إلى من تدق الأجراس! وقد ظللنا نشاهد صور أولئك المشردين فى نشرات أخبار البى بى سى والسى إن إن فنتألم زيادة على تألمنا لحال أهلنا فى دارفور ومنافى الشتات, ولا بد من أن ينبلج الفجر.
التحية لأبناء دارفور بالجماهيرية الليبية.
| |
|
|
|
|
|
|