دعواتكم لزميلنا المفكر د.الباقر العفيف بالشفاء العاجل
|
Re: في محبة (إحسان عباس )..!! (Re: كمال علي الزين)
|
(*)
يقول إحسان عباس: «ظللت حيث أقيم على هامش الحياة الشورية والممارسة الديمقراطية، بل الحق ظللت على أقصى هامش الهامش.. ضياع الوطن يفرض حالة التصعلك، وحالة التصعلك قد تنجب الجوع فما العمل؟».
| |
|
|
|
|
|
|
Re: في محبة (إحسان عباس )..!! (Re: كمال علي الزين)
|
الاخ كمال الزين
سلام و مودة و شكرا على اثارة هذا الموضوع الهام
Quote: تعرض لمضايقات لم يكن يستحقها .. ويرجح أنها كانت بسبب المنافسة الأكاديمية .. |
ارجو ان يتعرض هذا البوست لهذا الامر بالتفصيل لانه من المسكوت عنه فى حياتنا الثقافية حسب ما ورد فى مذكرات ب. احسان المنشورة فى التسعينات فانه كان راغبا فى البقاء فى السودان الا انه تعرض لمضايقات من العلامة البروفيسور عبد اللة الطيب (زميله فى شعبة اللغة العربية) مستغلا احداللوائح الادارية وقتها التى تجوز لرؤساء الاقسام انهاء تعاقدات الاجانب اذا وجد من السودانيين من يملا مكانهم(و لم يلجا اليهااولى الامر فى الجامعة وقتها الا فى حدود ضيقة). للاسف تمكن ب. الطيب من انهاء حدمة ب. احسان عباس. و قد بذل البعض امثال نصر الحاج على و جمال محمد احمد جهودا مضنية لاثناء الطيب من هذا القرار المءسف لكنه تمترس باللوائح الصماء التى كان من الممكن ان يتم تطبيقها ببعض المرونة فى زمن كان اكثر اساتيذ الجامعة من الاجانب رغم مرور خمس سنوات على السودنة. و قد نجح اصدقاؤه فى اقاع بعض النافذين فى حكومة عبود لمنحه الجنسية السوانية ليتسنى عودته للجامعة الا انه و لطيب معدنه رفض هذا الحل, ليس زهدا فى جنسية اهل السودان, انما حتى لا يقال انه اخرج من الجامعة بالباب و عاد اليها بالشباك. لا يخالجنى شك فى ان السبب وراء هذا القرار هو محض الغيرة الاكاديمية من قبل الطيب. فعباس وقتها كان نجم منتديات الخرطوم الثقافية و قد افتتن به الكثيرون من شباب الكتاب و الشعراء وقتها امثال صلاد احمد ابراهيم و على المك و قدمهم لدور النشر البيروتية لنشر انتاجهم الادبى. ترى ماذا كان سوف يكون حال المشهد الثقافى عندنا لو استمر د. احسان بين ظهرانينا؟
| |
|
|
|
|
|
|
Re: في محبة (إحسان عباس )..!! (Re: Al-Mansour Jaafar)
|
Quote: وإن كان كتاب «فن السيرة» يضع نفسه في سياق سلسلة أدبية قصد منها تعريف القارئ العربي بالفنون والأنواع الأدبية - فانه - وسائر كتب السلسلة - يتجاوز هذه المهمة، فهو كتاب «تأسيسي» في الثقافة العربية الحديثة، لا يقف عند حدود العرض والترجمة والتلخيص، وانما ينهض بجملة من النظرات النقدية، والتأملات الفلسفية العميقة، التي تجعل منه عملاً نقدياً مهماً حافلاً، على قدمه وريادته التاريخية، بالأفكار الجديدة، وأحسبه لا يقل أهمية عن الكتب النقدية الغربية في هذا الفن، ككتب موروا، وجورج ماي، وفيليب لوجون، وتزداد أهميته في التفاته المعمق إلى جذور «السيرة» و«السيرة الذاتية» في التراث العربي، وقفاته النقدية على أهم نتاج هذين الفنين في الأدب العربي المعاصر، ولا سيما كتب «الأيام» لطه حسين؛ و«عبقريات العقاد؛ و«جبران» لميخائيل نعيمة؛ و«حياتي لأحمد أمين؛ و«حياة الرافعي» لمحمد سعيد العريان.. وسواها |
| |
|
|
|
|
|
|
Re: في محبة (إحسان عباس )..!! (Re: كمال علي الزين)
|
منصور خالد يكتب عن إحسان عباس (1)
Quote: مضى ما ينيف قليلاً على نصف العام منذ أن رحل عن عالمنا الزائل الأستاذ إحسان رشيد عباس سادن التراث العربي ـ الإسلامي وواحد من أنجب محققي وناقدي الأدب العربي في القرن الماضي. إحسان أيضاً هو المعلم الذي ألهم أجيالاً من طلاب العلم في السودان، وكان بمثابة الأب الروحي لثلة من النابغين منهم. ذلك الأديب المعلم لم يُخفِ هيامه بالسودان، بل جَهْوَر بالحديث عنه، قال إنه يعتبر السودان "بلداً مثالياً للعيش بسبب لطف أهله ودماثة أبنائه وصدق العلاقات بين الناس". تلك هى كلماته التي أوردها في سيرته الذاتية "غربة الراعي"، وقد خص بلادنا في تلك السيرة بجزء كبير. وكنت من القلة التي حُظيت بتلقي العلم من ذلك الرجل في مدرجات الدراسة، وأسعدها الله بالدنو منه في أندية المدينة فهو من الرجال الذين يختال المرء بمعرفتهم، ويزدهي بصحبتهم. تمنيت على النفس منذ أن جاءني نبأ رحيل شيخي أن أروي للناس أطرافاً ـ وإن كانت قصية ـ من سيرته، ولكن الكتابة عن أمثاله لا تتحقق على غير تهيئة. فالأستاذ المعلم الذي نتحدث عنه رجل تراخى عمره لثلاث وثمانين عاماً لم تحوج سمعه إلى ترجمان، ولم يَكِلّ فيها عَزمه على تحقيق ما تنوء به همم الرجال. فعبر تلك الفترة المديدة أثرى إحسان المكتبة العربية بما يربو على الثمانين مؤلفاً و تحقيقاً في الأدب، والسير، والفقه، والشعر، أى بمعدل كتاب لكل عام من ذلك العمر الحافل المنبسط. ولعل شيخنا قد قطع عهداً على نفسه أن يهب عمره كله للعلم مترهبناً في معبده وهو يتمثل قول إبراهيم بن سيار النَظَّام: "لا يعطيك العلمُ بعضَه إلا أن أعطيته كُلَك". هذا ما تمنته النفس ولكن أنِّى لنا تحقيق تلك المُنى واللهاث وراء السلام السوداني في ماشاكوس ونيفاشا وإخواتهن ما فتئ يلتهم كل وقتنا، لا يبقي برهة من زمان لأداء ما هو أدنى من ذلك الواجب الجليل. لم نهجر الفكرة بل أخذنا نتحين الفرص للعثور على فسحة مواتية من الزمن للاحتفال بالموضوع، ثم أصبح ذلك التمني إلزاماً عندما ألقت بنا عصا الترحال في عمان للمشاركة في الاجتماع الحَولي لمنتدى الفكر العربي. كانت تلك مناسبة لزيارة دار الفقيد الراحل لعزاء أرملته، أم اياس على فقدها العظيم. وحمداً للدكتور عز الدين عمر موسى الذي رافقني والأخ الدكتور مدثر عبد الرحيم لأداء واجب العزاء، وهو من الواجبات التي تُرضي النفس ولكنها لا تبعث على السعادة. وعلى كل، ثَلُجت نفسي واطمأنت عند ما علمت أن عز الدين قد ناب معنوياً عن جميع طلاب إحسان وصحابه من السودانيين في تشييع الراحل الكريم ومواساة أسرته، ولا غرو فقد اصطفى إحسان في أخريات عمره فتانا النجيب مع طلاب له آخرين يعينونه في البحث والتحقيق وهو يُعمِّل،على وجه الإصلاح، أداة الجرح والتعديل في تحقيق التراث بنفس الحرص الذي يبديه المحُدِّثون وهم يضبطون الأحاديث. وعلى خلاف كثير من المحققين لم يكن شيخنا ينكر جهد أبنائه المساعدين، دعك عن نسبة ذلك الجهد لنفسه. ظل يعترف به وبهم يشيد في مذكراته: "وداد القاضي، عزالدين موسى، صالح أغا، محي الدين صبحي الخ" (غربة الراعي،243). سيرة إحسان هى سيرة رجل كُفَيك منه، فقليل هم نظائره. كان إحسان في سباق مع الزمن عندما كرس كل لحظة من حياته للدراسة والبحث، ولعله ثبت في يقينه أن الفترة الثرة في حياة الإنسان تنتهي في العقد الثالث من العمر، فاندفع في البحث والتحقيق منذ الصبا الباكر. سأل إحسان صديقه وزميله في جامعة الخرطوم استاذ التاريخ ساندرسون: "هل تعتقد يا ساندي أن العبقري يتسنى له أن يتجاوز الثلاثين؟" ذلك سؤال غريب من إحسان الذي كان قد بلغ لتوه الثانية والثلاثين، فما الذي يحمل شاباً في ميعة الصبا على مثل ذلك السؤال؟ يقول إحسان: " كنت كالبطل في بعض الروايات يحس بأزمته كلها تحتشد وهو يستشرف الثلاثين فكيف أكون وقد جاوزتها" (غربة الراعي، 208). أي أزمة هذه التي احتشدت في نفس فتى غض الإهاب وأفضت به إلى الشكوى و الأنان؟ إحسان الباحث نما حتى أصبح دوحة فكرية غلباء وراسية شامخة من رواسي الأدب العربي، ومع ذلك لم يكن راضياً عن نفسه كل الرضى. إذ تُفصِحُ سيرته الذاتية (غربة الراعي) عن حسرة بالغة لا تخامر إلا من فرّط في جنب الله، ومعاذ الله. تلك السيرة توحي أيضاً بإحساس بالقنوط لا يرتقبه المرء من رجل تضافرت قدراته، وتوالت ابداعاته، وذاع صيته. أو هل أصاب شيخنا ما أصاب ذا الرُمة، أحد شعرائه المفضلين؟ فمنذ شبابه هام إحسان بشعر ذلك الشاعر الأموي البدوي، رغم توعر لفظه وما في شعره من الصعب الغريب، وكان يردد غزليات ذي الرمة في مي وخرقاء حتى حفظ معظم الديوان وظنه أجود شعر العرب (غربة الراعي، 79). لقد قضى ذو الرُمة عمره القصير كله يتشكى من تباريح الحياة، رغم بساطة حياته وخلوها من التعقيد. فإلى جانب مي وخرقاء التي اقتصر الحياة كلها عليهما (وقيل إنهما اسمان لامرأة واحدة)، لم يشغل بال ذلك الشاعر أو يستهيم فؤاده في الحياة الدنيا غير رمال الصحراء وتعاشيبها وحيوانها. مع ذلك ما برح يقول أنيناً وشكوى بالنهار كثيرةً عليّ وما يأتي به الليل أبرح ثم مات الشاعر الأموي ميتة العباقرة، بحساب ما ينبغي أن يكون عليه عمر العبقري عند إحسان، إذ توفي ولمّا يجاوز الأربعين من عمره. بيد أن العباقرة الذين توهمهم إحسان ربما كانوا أيضاً هم أصفياؤه من الرومانسيين الإنجليز ممن سنأتي على ذكره. فمن هؤلاء قضت القاضية على بيرسي بيش شيلي وهو دون الثلاثين، وعلى جون كيتس في الواحدة والثلاثين، وعلى اللورد بايرون عن ستة وثلاثين. لعل الأمر ليس كذلك، فحسرة إحسان وقنوطه لا يعبران عما كان يجيش في نفس الأديب الكاتب أو الناقد المحقق فيه، فالأديب ذاع صيته وخلد اسمه، والمحقق تأكدت جدارته وعمت شهرته. الحسرة والقنوط، في حقيقة الأمر، يعبران أولاً عن خيبة أمل الفتى الفلسطيني في وطن أكبر توهمه، وثانياً عن خيبة ظنه في الناس إلا قليلاً. ففي مطلع صباه شهد الفتى الفلسطيني قريته أم غزال (قرب حيفا) تهدم على أيدي الصهاينة وتداس حرماتها فتعزى إلى وطن أكبر تخايل له. لهذا، لم يحسب الفتى نفسه شريداً بلا وطن رغم الأمر الشديد الذي اهتال أهله. على النقيض، وقع في نفسه أنه ينتمي إلى مهاد أكبر من حيفا، وأرحب من فلسطين، وبذلك الوطن استنجد وتعزى عِزوة لم يتبعها مُغيث. لقد توهم إحسان أن أهل المفَزَع هؤلاء سيهبون لاسترداد كرامته / كرامتهم متى أدركوا معنى النكبة، ولكن "هيهات هيهات لما توعدون" إذ توالت من بعد نكباتهم، وتعددت كبواتهم، وتواترت انكساراتهم. أولى الصدمات في أهل العِزوة تلقاها إحسان عندما خرج من بلده يحمل جواز سفر أصدرته حكومة عموم فلسطين واتجه إلى مصر باحثاً أولاً عن العلم ثم العمل. لم تبخل مصر على إحسان بالعلم إذ احتضنه الثقاة من أساتيذها في الجامعات: أحمد أمين، شوقي ضيف، سهير القلماوي، كما فتح له ولصاحبيه محمد نجم وناصر الدين الأسد قلبه ومكتبته السادن الأكبر للتراث، محمود محمد شاكر. قال عنه إحسان " لقد غرفت من علمه الغزير أضعاف ما قرأته وسمعته قبل لقائه" (غربة الراعي، 212). هذا ما كان من شأن العلم أما العمل فشأنه شأن. لأجل العمل توجه إحسان، أول ما توجه، إلى الجامعة العربية للالتحاق بإدارتها الثقافية بدعم من أستاذه أحمد أمين، والذي كان في ذات الوقت رئيساً لتلك الإدارة. ولكن، رغم ذلك السند رُفض طلبه لأن فلسطين كما قيل له "ليست عضواً في الجامعة العربية وحكومتها لا تسهم في ميزانية الجامعة". وعندما سأله عما هو صانع صديقه وزميله الدكتور شوقي ضيف أو (الرجل النبيل كما وصفه إحسان) قال إحسان "كان القرار في يد الجيوش العربية التي دخلت فلسطين فسلمتها وعادت سالمة إلى قواعدها". ذلك الإحساس لم يفارق نفس إحسان أبداً حتى أخريات عمره، ففي لقاء مع الكاتب السعودي العميم نشرته جريدة الشرق الأوسط في عام 1995 في حلقات متتابعات سأل الكاتب إحسان عما إذا كان انهماكه في التأليف والعمل محاولة لنسيان الوطن. قال "أبداً أبداً.... الوطن في قلبي لا يغيب وبيني وبين نفسي أعيش كل الذكريات. لكن ما علاقة الآخرين في أن أندب أمامهم هذه المأساة.. يجب أن يعرف أولادي أنني صاحب قضية، وأن وطني ضاع بدون وجه حق. ... وأن الفلاح الفلسطيني الذي يمثله أبي لم يبع أرضه". يضيف الكاتب "لم يستطع إحسان عباس أن يكمل الإجابة فلقد اختنق صوته بالبكاء وطفحت عيناه بالدموع ... وقال: لا تؤاخذني يا بُني، فعلى الرغم من أني أبدو قاسياً كأستاذ، إلا أني ضعيف أمام ذكريات الوطن" (نشر الحديث فيما بعد في كتاب علي العميم (العلمانية والممانعة الإسلامية، دار الساقي وسيشار اليه لاحقاً باسم العميم). الوطن الأكبر الذي توهمه إحسان في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي أصبح اسمه في عام 1995 "الآخرين". أما خيبة الظن في الناس فمردها، في تقديرنا، إلى توهم إحسان الكمال في البشر، وما في أغلبهم إلا النقصان والخسران. الكمال المثالي وهم وتخيل إذ ليس هو في الوجود، ولذا فلا عجب إن ظل إحسان لا يستحضره إلا في التهويمات الشعرية، وفي أدبه الإبداعي الحافل بالفلسفة والتأملات الأخلاقية. لقد ولج إحسان ميدان الشعر وهو فتى يافع ثم هجره إلى التحقيق والنقد. وعندما أقدم على نشر أشعاره في ديوانه الوحيد "أزهار برية" أخضع ذلك الشعر لانتقاء دقيق. قال في مقدمة الديوان " أن مجموع الشعر الذي إستبقيته وأعدمت ماعداه يمكن أن يعد من بعض نواحيه "سيرة حياة" أو "لقطات من سيرة حياة". وفي عام 1995 نُشر الديوان متضمناً قصائد تعود كلها إلى الفترة 1940ـ 1948، أي أن القصائد نشرت من بعد نصف قرن من إنشائها. ينشر بالتزامن مع صحيفة البيان الاماراتية
|
| |
|
|
|
|
|
|
Re: في محبة (إحسان عباس )..!! (Re: الصادق اسماعيل)
|
منصور خالد يكتب عن إحسان عباس (2)
Quote: في جُل ذلك الشعر لم يتناول الشاعر المناسبات الاجتماعية إلا في النادر القليل، بل اتجه بكليته إلى التعبير عن أوجاعه ومواجده بصورة تغلب عليها الرومانسية. طغى أيضاً على ذلك الشعر المُنتقى إعجاب سافر بالرعاة والحياة الرعوية ولذلك حفل الجزء الأول من الديوان بقصائد أدرجها الشاعر تحت عنوان: "في مسارح الرعاة". ويرد إحسان إعجابه بالرعاة إلى "عين غزال وموقعها الجميل على ربوة من جبل الكرمل تطل على سهل ساحلي يمتد حتى البحر" ... وإلى طبيعة "الترحيب والإكرام والحفاوة" التي كان يجدها من أهلها الرعاة كلما عاد من المدينة في اجازاته السنوية" (أزهار برية، 11ـ12). على أن الشاعر يقر في تلك المقدمة بأثر الشعر الرعوي (pastoral) الروماني (فيرجيل)، والانجليزي (ملتون)، إلى جانب أثر الرومانسيين الإنجليز (كيتس، شيلي، كولردج، وردز ويرث، بايرون) في الاتجاه به إلى الوجهة الرعوية الرومنطيقية في الشعر. قد يقول قائل أن إحسانَ العليم بأسرار الديانات واللُغى لم يلجأ للوهم والتجريد إلا ليفتعل له عالماً مثالياً يُقدر الرعاة على مثله، ويصرف عن غيرهم هواه رعاتي سأصرف عن غيركم هواي وأمنحكم خالصه فما الذي تلقاه إحسان في الرعاة من كمال موهوم؟ قال: " مثلما توشح نيسان (بداية الربيع) بالكمال في نظري، بلغ الرعاة لديَّ المستوى المثالي وكان ذلك كله استحضاراً لبيئة مثالية على الرغم من معرفتي بأن "الرعاة" الذين أحببتهم ينطوون على نقائص كثيرة وأنه ليس في الآدميين مثاليون، لا أنا ولا غيري، وأن الفقر وخشونة العيش وخشونة المعاملة هى التي تسيطر على حياتهم، وأن سذاجتهم هى وحدها التي تلتبس بطبيعة القلب ولكنها إن زادت على حدها تحولت إلى بله أو "عباطة". لكني كنت في حاجة نفسية إلى العثور على مجتمع مثالي يريحني من الخداع والغش والنفاق لدى الآخرين" (أزهار برية، 12). من الجلي أن الشاعر ـ في المستوى الوجداني على الأقل ـ كان يُغَلِّب أفضال الريف، رغم سذاجة أهله، لطهره ولبيئته الحرة الطليقة، على الحاضرة المتمدينة لضلالها وعماياتها ونفاق أهلها. وتلك السذاجة ياليتني جَبَلتُ بطينتها خاطري وعشت لحريتي والجمال ومتعة قلبيَ والناظر ولم يُصْبِ قلبيَ جُو الضلال ووحل العمايات في الحاضر هل هذه أوهام وخيالات اصطنعها الشاعر؟ أم هى، كما اعترف تجارب مستحيلة يصدق عليها وصف القرآن الكريم للشعراء "أنهم يقولون ما لا يفعلون"، وأضاف ساخراً أن ذلك الوصف القرآني قد يكون هو نصيبه الوحيد مما يتميز به الشعراء". لا نظن، فما أكثر ما يبتدعه الشعراء المجيدون من خيالات هي، في واقع الأمر، كشف لإبعاد خفية مستترة في حياة الناس. ü إحسان في السودان عَجْزُ احسان عن الإاتحاق بالجامعة العربية قاده إلى السودان، وكان ذلك بمحض الصدفة عندما قرر الأستاذ أحمد أمين ترشيح طالبه النجيب إحسان للالتحاق بقسم اللغة العربية بكلية غردون التذكارية (جامعة الخرطوم)، لينضم إلى طالب له آخر (محمد النويهي) كان قد رشحه ليكون رئيساً لذلك القسم. ويروي إحسان في سخرية لا تغيب على القارئ كيف تعامل وكيل السودان (مندوب حكومة السودان) بالقاهرة، الإداري البريطاني المستر بيل ( السير قوين بيل لاحقاً) مع جواز السفر الذي كان يحمله، وهو الجواز الذي استنكرت الجامعة العربية شرعية الحكومة التي أصدرته. أمر المستر بيل بقبول تلك الوثيقة كجواز للسفر للسودان ريثما يصل صاحبها إلى الخرطوم وتستبدل بأخرى سودانية. لم يكن أستاذنا الراحل يعرف السودان ولكنه رغم ذلك استبشر به خيراً، قال "خُيل إلىَّ أن السودانيين صنف مختلف عن سائر العرب الذين قست قلوبهم حتى عادت أشد قسوة من الحجارة. وأحمد الله أنني وجدت مصداق ما خُيل إلىَّ حين استوطنت السودان" (غربة الراعي،192). وعبر عقد كامل من الزمان قضاه في السودان خلف إحسان بصمات واضحات في الساحة الأدبية، وتمهرت على يديه أعداد غفيرة من طلاب العلم، وأجلى على العالم فيوضاً من الأدب السوداني كانت ستظل، لولا جهده، حبيسة الدفاتر. يقول إحسان " وجدت في السودان أدباً غزيراً، وبخاصة في الشعر، وأن الدراسات حوله قليلة أو بدائية فشرعت أُعّرِّف بالأدب السوداني في الكتب والمجلات" (غربة الراعي، 203). أضاف "أخذت أشجع نشر الشعر السوداني والقصة القصيرة السودانية في بيروت. وكان من ثمرة هذا الجهد ظهور ديوان "غابة الآبنوس" لصلاح أحمد إبراهيم ومجموعة قصص لصلاح وصديقه علي المك، ثم "غضبة الهبباي" لصلاح و"ديوان الصمت والرماد لكجراي". وكان إحسان يولي صلاحاً اهتماماً بالغاً ويقول فيه "معزته في معزة أولادي". لا عجب فقد كان صلاح أمير شعراء زمانه في السودان بلا منازع. كان لإحسان أيضاً الفضل في دعم وتطوير الجانب العربي من مكتبة الجامعة والتي كانت تعرف باسم جامعة نيوبولد لأنها قامت في الأساس على المكتبة الخاصة التي أهداها السير دوقلاس نيوبولد لكلية غردون التذكارية. تلك المكتبة، كما أورد إحسان في مذكراته، كانت تنقصها مكتبة في الأدب العربي تليق بجامعة مما جعله ينبه أمين المكتبة المستر جوليف بهذا الضعف فكلفه بالقيام بشراء الضروري لدعم المكتبة. تلك مهمة أقبل عليها إحسان بهمة ونشاط. علاقة إحسان بالسودان، في وجه من وجوهها، كانت ذات نفع متبادل، فكما ابتنى المعلم إحسان صروحاً من الأدب والعلم في السودان بَلَغ بها بعضُ طلابه الأسباب، أسهم السودان أيضاً في تشكيل اهتمامات العالم الراحل. روى إحسان، مثلاً، في تواضع العالم الرصين وأمانته كيف فجر الطلاب السودانيون اهتمامه بالشعر الحديث، وكيف قاده التحضير لبعض واجباته التعليمية في السودان إلى استكشاف الأدب الأندلسي، وكيف أثرت مناهج التدريس في جامعة الخرطوم في إقباله على النقد الأدبي مما قاده إلى قراءة جديدة للنصوص وإنتاج مستحدث للمعرفة النقدية. من ذلك ما رواه عن كيف أن إلحاف طلابه في جامعة الخرطوم ليحاضرهم حول الشعر الحديث اضطره لطرق باب لم يطرقه من قبل فأعد للمرة الأولى بحثاً عن ذلك الشعر ابتناه على ديوان واحد لشاعر واحد: "أباريق مهشمة" لعبد الوهاب البياتي. ذلك البحث ـ وهو أول ما كتب إحسان عن الشعر الحديث ـ بعث به لصديقه الدكتور محمد يوسف نجم في بيروت، ورأى نجم ـ بحكمته ـ إصدار البحث رغم ما شاب تأليفه من عجلة، بل اختار له عنواناً غلبت على اختياره الرغبة في ترويج الكتاب: "عبد الوهاب البياتي والشعر العراقي الحديث". ومن الطريف أن لم يكن في البحث حرف واحد عن الشعر العراقي الحديث، إلا إذا اختزلنا ذلك الشعر كله في شاعر واحد هو البياتي، وفي ديوان واحد من دواوينه. وكان البياتي يومذاك شاعراً غير معروف على نطاق واسع، وهكذا قُدر لكتاب إحسان عنه، من غير تخطيط وبالصدفة المحضة، أن يكون الكتاب الرائد عن الشعر الحديث. ولا شك في أن البياتي كان سعيداً بذلك الاهتمام ولهذا كتب يقول "إنني مدين لهذا العالم الكبير الذي كانت لكتابته عني فعل السحر أو فعل الحجاب بلغة الصوفية. فلقد منحني وأنا في مقتبل العمر وفي بداية المضمار قوة هائلة لتحدي المستحيل ولمواصلة رحلتي الشعرية". إحسان نفسه لم يكن راضياً بأي درجة من الرضى عن الملابسات التي أحاطت بكتابه الذي صدر في عجل في عام 1955 ولهذا ألحقه في عام 1969 بدراسته المتأنية عن بدر شاكر السياب الذي أطلق عليه شيخ الرواد في الشعر الحديث. تلك الدراسة استغرق إعدادها خمس سنوات تمكن فيها الناقد العالم، حسبما روى، من الإحاطة بدواوين شعر السياب الكثيرة. وفي مقارنة له بين الشاعرين قال إحسان " كتابي عن البياتي يرصد عناصر ظاهرة جديدة فهو على هذا ذو منهج ثبوتي(static) ) وكتابي عن السياب يرصد نمو القصيدة الحديثة عند واحد من الشعراء الرواد، فهو دينامي المنهج dynamic)) العميم، 315". الخرطوم لم تشحذ فقط اهتمام إحسان بالشعر الحديث بل أيضاً بالأدب الأندلسي الذي أصبح فيما بعد من أكبر مجالات تحقيقه وتأمله الذاتي، كما صار واحداً من خبرائه الثقاة، ونقاده ذوي الفهامة. في ذلك الموضوع نرصد لإحسان قرابة العشرة مؤلفات بعد فترته الخرطومية ( تاريخ الأدب الأندلسي، رسائل ابن حزم الأندلسي، جوامع السيرة لابن حزم الأندلسي، التقريب لحد المنطق والمدخل إليه لابن حزم، ديوان الرصافي البلسني، ديوان الأعمى التُطيلي من مدينة تُطيلة (Todela)، نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب). ولم يكن قد نشر لإحسان خلال إقامته في الخرطوم غير كتاب واحد: "تحقيق فصل المقال لأبي عبيد البكري" الذي اشترك معه في تحقيقه الدكتور عبد المجيد عابدين، وبسبب طباعته الرديئة أعيد طبع ذلك الكتاب في بيروت.
|
| |
|
|
|
|
|
|
|