دعواتكم لزميلنا المفكر د.الباقر العفيف بالشفاء العاجل
|
مبادرة هالة عبدالحليم بين الجماهير الخائبة والخلايا النائمة والأحزاب الإنتهازية (سيناريو) ..!!!
|
(**)
مدخل :
جبهة عريضة تضم قوى سياسية مختلفة , تتوافق على الحد الأدنى من مصلحة الوطن , وهو تفكيك دولة
الحزب الواحد من أجل تحول ديمقراطي صحي عبر صناديق الإقتراع , بالإنتخابات المقبلة , عنوان عريض
لمشروع , ظللنا نحلم به طوال (سبعة عشر عاماً ) مضت ..
دعوة ربما تكون أقرب إلى شكل من أشكال التحالفات البائسة التي ظلت عنواناً عريضاً لأغلب الجبهات
التي ضمت الأحزاب السودانية في مواجهة الحكم العسكري ودويلات الحزب الواحد , التي تكررت في تاريخنا
المعاصر , ( التجمع الديمقراطي ) , في نسخته الأولى ضد حكم الفريق (عبود) وفي نسخته الثانية ضد
النظام المايوى , وفي نسخته الثالثة ضد نظام الجبهة الإسلامية الراهن ..
وجميع هذه التجمعات لم تفلح في إقتلاع أنظمة الحكم الثلاث , النظامين البائدين جاء إقتلاعهما
نتاجاً لثورات شعبية (أكتوبر) و(أبريل) , و التجمعان اللذان نشئأ في مواجهة مايو والإنقاذ , كانت
نهايتهما , مشاركة في السلطة , عبر إتفاقية 1977 , التي دخل إثرها أغلب زعماء أحزاب التجمع مظلة
(الإتحاد الإشتراكي ) وتقاسموا (الحقائب الوزارية ) ..
والتجمع الأخير (طيب الزكر) , إنتهى أيضاً بمجموعة إتفاقيات منفردة , (نيفاشا) , (جيبوتي ) ,
(جدة ) , (القاهرة) , ومطارات هذه العواصم كانت طائراتها تنقل الجميع إلى وجهة واحدة , هي خرطوم
الجبهة الإسلامية , وبرلمانها , وشارع النيل حيث مقر وزارات النظام ..
وجميع هذه القوى الساسية الآن تتمتع بفضيلتي ( السلطة والمعارضة) ..
ليقبع الجميع هناك بإنتظار ثورة شعبية أخرى تقتلع النظام , لتعود هذه الأحزاب وقياداتها محمولة
على أكتاف الجماهير الوفية .. !!!
(عدل بواسطة كمال علي الزين on 03-25-2007, 01:01 PM)
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: مبادرة هالة عبدالحليم بين الجماهير الخائبة والخلايا النائمة والأحزاب الإنتهازية (سيناريو) . (Re: كمال علي الزين)
|
Quote: السبت 24 مارس 2007م - صحيفة الراى العام حاطب ليل عبد اللطيف البوني [email protected]
الدفع بعد.. في جولته الاقليمية الاخيرة أعاد السيد الصادق المهدي مقولة: «أكلو توركم وادوا زولكم» هـذه العبارة التي اصبحت من لوازم الانتخابات في السودان وهي سجعة شعبية تلخص قضية شائكة وتوضح العبقرية التقليدية السودانية على التعبير الفني الجزل، وقبل اسابيع من ذكر السيد الصادق لها وردت ذات العبارة وفي ندوة علمية بالخرطوم عن الانتخابات إذ قال أحد الأساتذة الاجلاء انه لابد من استصدار فتوى دينية تعطي المشروعية الدينية لعبارة «اكلو توركم وادوا زولكم» لانه وعلى حسب رأيه ان الظروف الحياتية الضاغطة تجعل الناس لايترددون في بيع اصواتهم، فالفتوى تبيح لهم ان يأخذوا تلك الاموال ولا يصوتون للذي دفعها، وهذا سيدخل في باب اذا اجتمع ضرران فليؤخذ بالاخف، والخفيف هنا اخذ الرشوة والضرر الاكبر هو اعطاء الصوت لمن لا يستحقه.. ولكن وكما ذكرنا سابقاً ان الذي فات على الناس ان التقنية الحديثة اوقفت هذا اللعب على الحبلين فالانتخابات المصرية وبعدها الكويتية بدرجة اكبر وعن طريق استخدام الهاتف الجوال الذي يحتوي على كاميرا جعلت الدفع بعد التصويت أي ان الناخب يدخل الضروة «الستارة» ويختار رمز مرشحه ويصور البطاقة وبرقمها قبل وضعها في الصندوق ويخرج ويعرض الصورة ثم يستلم بقية المبلغ ان كان هناك عربون أو المبلغ كاملاً على حسب الاتفاق، بل هناك وسائل اكثر حداثة تجعل المشتري يتابع البائع ويضبط حركته اذن عبارة «اكلو توركم» اصبحت خارج الشبكة. يتضح مما ذكر اعلاه ان هناك استسلاما كاملاً بان الانتخابات المقبلة - هـذا اذا قدمت- بأن اموالاً ضخمة سوف تضخ فيها وليس في هذا جديد فأي انتخابات في الدنيا واي انتخابات جرت في السودان من قبل مورست فيها تلك الاساليب الفاسدة بدليل عبارة «اكلو توركم» هذه، فهي ترجع لانتخابات جرت في السودان في الستينات على الاقل فأنا شخصياً سمعتها وانا صبيو ولكن المشكلة اليوم في سيد التور اي المشتري فيبدو انه «نازل على تقيل» بل سيلعب بطريقة «من دقنو وافتلوا».. ففي اول انتخابات ليبرالية في السودان العام 1953م جاءت الاموال من مصر، وفي انتخابات 1986م جاءت من الخليج، اما هذه المرة فالمكون المحلي كبير وانا ما بفسر وانت ما تقصر. فوبيا الانتخابات القادمة- هذا اذا قدمت- ليس في اكلو توركم فقط بل هناك رأي قوي بأن عمليات تزوير كبيرة سوف تحدث، فطالما ان الحاكمين الآن وهم المسيطرون على آليات الدولة سوف ينافسون في الانتخابات فإنهم سوف يطوعون تلك الآليات- حلوة آليات دي مش- لمصلحتهم لان كل مراحل الانتخابات من توزيع دوائر وتسجيل واقتراع وفرز واعلان نتيجة يقوم بها موظفو الدولة، والدكتور عبدالنبي من أكثر المروجين لحكاية التزوير هذه وقد لا يكون مجانباً للحقيقة ولكن الامر لا يخلو من «شوية رجفة» وهنا يأتي بيت القصيد، فالملاحظ ان جماعة المؤتمر الوطني يتبسمون وهم يسمعون خصومهم يرددون عبارات مثل «اكلو توركم» والتزوير وبقية الاساليب الفاسدة مما يدل على انهم اصيبوا بفوبيا الانتخابات واصبحوا في حالة رهبة ورجفة وهذا مردوده ايجابي بالنسبة للمؤتمر لان الحرب النفسية تلعب دوراً حاسماً في الانتخابات خاصة اذا كان الخصوم هم الذين يقومون بتحريك ادوات تلك الحرب على انفسهم، لقد تولد الآن احساس ان المؤتمر سوف يكسب الانتخابات المقبلة حتى ولو بطرق غير مشروعة وهذا سيجعل افئدة الطامعين في الخدمات، وفي الوجاهة «والحبرتجية» تهوى اليه بالاضافة لعضويته الحالية، عليه يكون من الاجدى ان يراهن الذين سوف ينافسونه على الوعي والخطاب السياسي الموضوعي مع المطالبة بالضـوابط التي تـؤدي الى انتخـابات نظيفة قادمة- هذا اذا قدمت-. |
| |
|
|
|
|
|
|
Re: مبادرة هالة عبدالحليم بين الجماهير الخائبة والخلايا النائمة والأحزاب الإنتهازية (سيناريو) . (Re: كمال علي الزين)
|
رؤية الحركة حول عملية التحول الديمقراطي , بإعتبارها دعوة لتشكيل تحالف عريض ضد المؤتمر الوطني , لإسقاطه ديمقراطياً خلال الإنتخابات القادمة :_
Quote: العَـدْ التنازلي للوطن 1800 يوم للسودان العد التنازلي للوطن – 1800 يوم للسودان
في إعدادنا لهذه الوثيقة كان المناضل الخاتم عدلان حاضراً ليس بروحه فقط ولا بإلهامه وفكره فحسب، وإنما بقلمه وبكلماته وبحروفه، فقد استندنا بصورة رئيسية على واقتبسنا فقرات بأكملها من مساهمات عدة له أبرزها ورقته التي أعدها في أبريل 2002 للمناقشة بين أعضاء اللجنة التنفيذية تمهيداً لصياغة برنامج جديد للحركة، نتمنى أن يكون هو هذا البرنامج، وتبعاً لذلك فإننا نرى أن يعتبر المؤتمر تلك الورقة جزءاً من وثائقه .
هزال المعارضة وانهيار التجمع الوطني الديمقراطي
ونحن نعد هذه الوثيقة أصدر التجمع الوطني الديمقراطي قراره بالمشاركة في السلطة على المستوى التشريعي، تاركاً أمر المشاركة في السلطة التنفيذية لكل جهة تقرر بشأنه ما تراه مناسباً لها. تبع ذلك خلاف تبودلت فيه الاتهامات غير الكريمة حول ما إذا كان ممثلو الجهات التي اختارت الدخول في السلطة التنفيذية هم ممثلين لتلك الجهات فحسب أم ممثلين للتجمع ككل، كما ذكر في القائمة التي قدمت. وحول ما إذا كانت بعض الأسماء التي حوتها القائمة كمرشحين لمقاعد الجهاز التشريعي هي الأسماء التي رشحتها الجهات المعنية فعلاً أم جرى استبدالها، وغير ذلك.
إن تبرير مشاركة التجمع في السلطة، تنفيذية أوتشريعية، بكون أحد أعضائه، الحركة الشعبية، مشارك فيها تبرير غير مقبول لعدة أسباب. أولاً، لإن الحركة الشعبية ملزمة بحكم الاتفاقية بالمشاركة في السلطة أما أحزاب التجمع فليست ملزمة بذلك. وثانياً، لأن الحركة الشعبية تشارك في السلطة على المستوى القومي بعد أن ضمنت سيطرتها على حكومة الجنوب حيث ستتمكن من تنفيذ برنامجها هناك، أما التجمع فليس متاحاً له أن يفرض برنامجه على أي مستوى أوفي أي موقع مما يعني أن مشاركته ستكون في إطار برنامج المؤتمر الوطني ودولته الدينية بفسادها وقمعها. لقد كان من الأصوب للتجمع الوطني الديمقراطي أن يختار موقع المعارضة، متفقاً مع شعاراته ولا نقول "مبادئه"، وأن ينتهز فرصة الفترة الانتقالية كي تعيد أحزابه تنظيم نفسها بناء على قراءة جديدة للواقع المختلف وأن تجدد دماءها وقياداتها وتطور برامجها وتعيد صلتها المنبتة بالجماهير وتستعد لموقعة الانتخابات القادمة. وكان بإمكان أحزاب التجمع أن تستغل المقاعد المعروضة عليها لفرض مزيد من عزلة المؤتمر الوطني بأن تمنح تلك المقاعد لمواطني مناطق الحرب في دارفور والشرق، ولكنها الخيارات الخاطئة .
وفي ذات الوقت فإن القبول بالمشاركة في الجهاز التشريعي ورفضها على المستوى التنفيذي هو موقف متناقض. فأجهزة السلطة كلها، تشريعية وتنفيذية، أجهزة قامت على التعيين وليس الانتخاب، كا حاول البعض أن يصور قبوله بالمشاركة في الجهاز التشريعي كأنما هي مشاركة جاءت عبر صناديق الاقتراع وبعد حملة انتخابية مثلت فرصة للعمل الجماهيري. وإذا كان سبب الخلاف حول المشاركة في الجهاز التنفيذي هو قلة عدد المقاعد المعروضة، فإن النسب التي استخدمت لتوزيع مقاعد الجهاز التنفيذي هي ذاتها التي اتبعت في توزيع المقاعد البرلمانية، فما الذي يجعل ذلك العدد القليل من المقاعد غير مؤثر على المستوى التنفيذي ولكنه فعال على المستوى التشريعي؟ بل، أوليس العكس هو الصحيح؟
سبق ذلك في قافلة التنازلات المواقف التي تعرض لها وفد التجمع في الخرطوم عند ذهابه للتفاوض مع النظام حول تنفيذ اتفاقية القاهرة، وكانت هناك اتفاقية القاهرة ذاتها التي لم يحصل فيها التجمع على قيد أنملة من التنازلات من النظام، وقبل ذلك كان اتفاق جدة (الميرغني-طه) والذي وقعه رئيس التجمع دون اتفاق مع أعضاء التجمع ثم أدعى أنه كان مفوضاً منهم فكذبوه ولكنه فرضه عليهم فرضاً. وافق رئيس التجمع في ذلك الاتفاق على بقاء الآليات القمعية للسلطة في القوات النظامية وأجهزة الأمن كما هي دون تغيير باعتبارها أجهزة قومية، كما وافق على السياسة الاقتصادية للنظام. أي وباختصار شديد، إذا قلنا أن جوهر سلطة الانقاذ هو القمع والنهب ، فإن السيد رئيس التجمع الوطني الديمقراطي قد وافق على كليهما . حدث ذلك في وقت كانت فيه بعض عناصر التجمع تتهم الحركة الشعبية بأنها بتوقيعها لبروتوكول مشاكوس قد خرقت اتفاقية أسمرا .
لقد اعتقل النظام قيادات التجمع الوطني الديمقراطي في الداخل، وكان قبل ذلك قد حظر سفرهم لحضور اجتماعات هيئة القيادة، وبدلاً من أن يحمل ذلك التجمع على اتخاذ موقف يحفظ به "هيبته" وأن يرفض الاجتماع بالنظام أو مفاوضته حتى يطلق سراح قياداته، طفق يبحث عن الوساطات والأجاويد لتحرير قياداته الرهينة، بينما اندفع دون حرج "للتفاوض" والذي هو في تلك الحالة لم يكن سوى استسلام مهين بغير شروط.
وقبل ذلك كان هناك المؤتمر الثاني للتجمع الذي ولد ميتا، لم يحل أية قضية من القضايا التي طرحت عليه، ولم يؤد إلى أي تفعيل لتلك المؤسسة العاطلة، بل لم يثبت وجوده كحدث سياسي على أية درجة من الأهمية، وإنما كان مثالاً لاختلاط الأمور، وغموض الرؤى وضياع الاتجاه، والتخلى عن المبادئ والشعارات، وتفادي المشاكل ودفن الرؤوس في الرمال.
لا يماري أحد في أن التجمع قد تراجع تراجعات جوهرية عن برنامجه, وتراجعات كلية عن الهدف وعن الأسلوب. فلماذا حدث كل ذلك؟ لا يمكننا قبول مثل هذه الإنهيارات الكبيرة دون تفسيرها واستخراج العبر التي تبرر ممارسة السياسة كنشاط عقلاني يخضع لقانون الاسباب والنتائج. لا يمكن لحركتنا أن تقدم كل الإجابات ولكنها يمكن ان تطرح الموضوع وأن تقدم رؤيتها حوله, ولكن القضية نفسها يجب أن تكون مطروحة على الشعب السوداني, لأنه من خلال مثل هذه الوقفات يمكن أن يتطور الوعي السياسي, ويمكن أن تصقل ملكات التحليل السياسي, وترتقي بالتالي الممارسة السياسية السودانية.
في هذا الإطار قدم أحد أحزاب التجمع ، حزب البعث ، مؤخرا تعليللاً لموقفهم الداعم لمشاركة التجمع الوطني الديمقراطي في السلطة التنفيذية، وهو طرح مبني على ورقة حزبية ظلت متداولة لفترة ثم نشرت مؤخراً وكان الأخ الخاتم قد تصدى لتحليلها في ورقته في أبريل 2002 ونقتطف من ذلك التحليل ونضيف كما يلي :-
*/ تستمد الورقة أهميتها من كونها تحاول أن تقدم مبررات فكرية وموضوعية لعدم إمكانية مواجهة نظام الإنقاذ وإسقاطه أصلاً، وبالتالي إعفاء المعارضة خاصة في التجمع الوطني الديمقراطي وأحزابه من المسئولية في الفشل، لإن الأهداف لم تكن واقعية أو قابلة للتحقيق موضوعياً، وذلك في سياق ابتداع إطار نظري لخط موجود في صفوف المعارضة, وهو خط الإستسلام للسلطة. ترجع الورقة محدودية فعالية التجمع إلى تدهور وزن القوى الحديثة الناجم من ذوبان الطبقة الوسطى، ترييف المدن، انهيار الهياكل الزراعية والتوسع الكبير في التعليم على حساب مضمونه ونوعيته والهجرة إلى الخارج. وبما أن كافة وسائل محاربة الأنظمة الشمولية السابقة وكذلك العمل العسكري تعتمد في زخمها، كما تذكر الورقة، على حيوية القوى الاجتماعية السياسية الحديثة غير الموجودة حالياً، فإن إسقاط نظام الإنقاذ غير وارد. ولذا لابد من الدخول في تسوية سياسية مع النظام، يتحسن محتواها بانضمام الترابي للمعارضة، وتتولى المعارضة بمقتضى هذه التسوية وزارات كالتعليم والإعلام لا تهدد النظام ولكنها تسمح تدريجيا وعلى المدى الطويل بتحسين التعليم بما يعيد إنتاج الطبقة الوسطى ويعزز من قدرات القوى الحديثة .
*/ بعيدا عن أن هذه الورقة إنما تعبر عن تراجع "فكر" وحزب البعث نفسه تراجعاً ربما لا يفيق منه في المستقبل المنظور وذلك لما آل إليه برنامجه من بوار، وعن الموقف العروبي الإسلامي المعبر عنه في مختلف أشكال التحالف بين التيارات القومية والإسلامية القائم على استسلام الأولى للثانية .
*/ سذاجة الورقة التي تتمثل في اعتقادها بقدرة المعارضة أن تقيم بديلا ديمقراطياً للنظام من خلال منازعته على مواقع ثانوية في السلطة ذاتها مثل وزارة التربية والتعليم ووزارة الإعلام ووكالات الوزارات الأخرى وأن إقامة البديل الديقراطي يمكن أن تتم بدون صدام حقيقي مع النظام الذي يفترض فيه أن يظل متفرجاً على قوى المعارضة وهي تبنى أسس مجتمعها الديمقراطي الذي سيتفرغ بعد ذلك إلى سحب البساط من تحت أقدامه.
فإن الوثيقة تخطئ منهجياً باعتمادها عاملاً واحداً هو ضعف الطبقة الوسطى, لتفسر ظواهر واقع معقد إلى أقصى مدى هو الواقع السياسي والإجتماعي السوداني. ومع أننا لا نختلف حول أهمية الطبقة الوسطى في التغيير الديمقراطي, إلا أننا مطالبون بأن نفسر لماذا فشل التجمع الوطني الديقراطي في استقطاب ما تبقى من جماهير هذه الطبقة في تنظيمات المجتمع المدني التي تمثلها في الداخل وفي الدياسبورا السودانية. وأن نتساءل عن تجاهل الورقة لوجود قوى اخرى لا تخضع لمنطق الطبقة الوسطى الشمالية مثل الحركة الشعبية لتحرير السودان وقوى الهامش السوداني الكبير. وعن تجاهل الورقة للأزمة الإقتصادية الخانقة والإنهيار الكامل في الخدمات والأثر المدمر مادياً ومعنوياً لإستمرار الحرب، وكلها تمثل عوامل تعبوية هائلة كان من الممكن أن تنهض على أساسها قوة جماهيرية جبارة إذا وجدت القيادة الملهمة والأسـاليب النضـالية الملائمة .
كما تظن الورقة البعثية أن بإمكان المعارضة أن تحقق من مواقع المشاركة في السلطة، والمشاركة في المسؤولية عن جرائم النظام على جميع الصعد, ما عجزت عن تحقيقه من مواقع التمايز التام عن النظام وإدانة جرائمه وتطوير بديل ديمقراطي مع الجماهير مباشرة بالإستناد على مظالمها الحقيقية في تعبئتها للمعارك، وذلك في رأينا عبث لا طائل من ورائه. إن السببين الأساسيين والحقيقين لتراجع المعارضة وانهيار التجمع هما، في تقديرنا:
تفاقم النقائص البنيوية للتجمع الوطني الديمقراطي، المتمثلة في طبيعة القوى المكونة له، والشخصيات القيادية فيه، وتركيبته المغلقة .
الفساد الجوهري في تركيبة الأحزاب السودانية الشمالية, تقليدية وحديثة, وخاصة في علاقتها بالجنوب وشعبه ومنظماته. فليس خافياً أن الحزبين الكبيرين وافقا على شعارات تمثل في الواقع نفياً لكل ما يمثلانه فكرياً وسياسياً, من مواقع النفاق المطلق والمخادعة. وهي الظاهرة التي التقطها المفكر السوداني أبيل ألير في كتابه الشهير عن خيانة العهود كديدن ثابت للساسيين الشماليين في علاقتهم بالجنوب. وليس صعباً على كل حال أن نثبت, أن هذا هو ديدن هذه الأحزاب نفسها مع جماهيرها في الشمال, ولكن هذه قضية اخرى.
تزامن مع انهيار التجمع الوطني الديمقراطي، ترسيخ الترابي لنفسه كقوة معارضة مقتدرة، يمارس تحدياً سافراً للسلطة ومتبعاً تكتيكات هجومية بلغت حد تدبير الانقلاب وشن الحرب في دارفور عن طريق "العدل والمساواة" مستفيداً إلى أقصى مدى من ضعف المعارضة، مما وضع السودان في الموقف البائس: حكومة أصولية ومعارضة اكثر أصولية منها. إنه خطر حقيقي، نبهنا وننبه له، وحذرنا ونحذر منه. وعلينا أن نتخذه مدخلاً مهماً في مهمة توجيه النضال الشعبي ضد السلطة كبرنامج وكآيديولوجية وليس فقط كهياكل وأشخاص.
وفي كتابه الأخير " السياسة والحكم: النظم السلطانية بين الاصول وسنن الواقع" أعلن الترابي إيمانه بالتعددية الحزبية وبحق الأحزاب "الكافرة" في الوجود الشرعي والعمل السياسي مكتشفاً لاول مرة أن القرآن يعطي الناس حق أن يؤمنوا وأن يكفروا وأن السلطان ليس من حقه أن يحاسبهم لأن شأنهم متروك لله. وقد اندفعت أغلب الأحزاب السياسية السودانية مستقبلة الترابي بالأحضان، ومطمئنة نفسها بأنه تاب وثاب إلى الديمقراطية. لقد فات على هؤلاء، أولربما كان ذلك استمراراً لنهجهم في تجهيل الناس وتغييب الوعي، أن الأحزاب الأخرى، والتي يتفضل عليها الترابي بحرية العمل السياسي هي في عرفه إما كافرة أو منافقة وهو هنا كما قال الخاتم "يقدمها إلى الشعب المسلم ككباش جاهزة للذبح، وليس كبدائل للحزب الإسلامي الذي يمثله هو دون سواه".
كما نسوا أو تناسوا أيضا أنه في الوقت الذي كان فيه الصادق المهدي يدعو الجبهة القومية الاسلامية إلى المشاركة في الحكم، كانت هي تناقش اجتثاث النظام الذي يجلس هو على قمته. وأن المناظرة الوحيدة بين قادة الجبهة في ذلك الوقت كانت بين "استراتيجية التمكن أو الأخذ العام، أو استرايتجية التدرج أو الأخذ على خوف" أي بين الذين يرون أن الأصوب هو تنصيب الجبهة بديلاً عن النظام الحزبي ككل ثم مجابهته وإجتثاثه جملة واحدة وتولي خلافته السياسية، والذين يرون بلوغ ذات النتيجة من خلال إدخال التحولات في السياق القائم شيئاً فشيئاً بما يربي الجماعة ويؤهلها تدرجاً على احتمال المسؤوليات الأكبر. ولكن بدلا من أن تزداد الأحزاب السياسية حكمة من كل ذلك، فإنها تخف لتحتضن الترابي وتكافئه على عودته الكذوب إلى ساحة الديمقراطية الموهومة مؤقتاً بمقتضيات فقه الضرورة ريثما يعود إلى السلطة عن طريق " الأخذ العام" جملة واحدة، بعد أن يكون قد حيد القوى السياسية كلها بالوعود الفارغة.
إذا كان هناك من منطلق صائب من وجهة نظرنا لتقييم ما سمي بالتحالف الوطني الذي أنشأه الصادق المهدي وحسن الترابي مؤخراً وفي أعقاب توقيع اتفاقية السلام الشامل فإنما هو ذلك المنطلق. إن الذي يجمع بين الصادق والترابي ليس موقفاً مبدئياً ضد هذه السلطة والتي يسعى كلاهما للضغط عليها للحصول على أكبر حصة من التنازلات، وليس موقفا أصيلاً من أجل الديمقراطية أو الوحدة أو السلام , وإنما بالعكس تماماً فإن تحالفهما قائم بالدرجة الأولى على العداء للحركة الشعبية لتحرير السودان وعلى آيديولوجية الاستعلاء العروبي الإسلامي .
تقييمنا للسلطة
لقد خلقت اتفاقية السلام الشامل واقعاً مختلفاً ومعقداً ، فبدخول الحركة الشعبية لتحرير السودان في حكومة الوحدة الوطنية كشريك للمؤتمر الوطني في اتفاقية السلام الشامل، ربما نحتاج لتعريف جديد لما نعنيه بالسلطة. لقد خلقت اتفاقية السلام الشامل حكومة على المستوى القومي وحكومات للشمال الغلبة فيهما للمؤتمر الوطني وحكومة للجنوب الغلبة فيها للحركة الشعبية. نسبة لغلبة المؤتمر الوطني في الحكومة القومية وحكومات الشمال، وفقاً للاتفاقية، وبصرف النظر عن وزن الحركة الشعبية داخل تلك الحكومات وعن تنفيذ المؤتمر الوطني الملتوي وغير الأمين لنصوص الاتفاقية وسيطرته على المفاصل الأساسية في السلطة قومياً وفي الشمال، وعن موقف أحزاب التجمع الوطني الديمقراطي من دخول السلطة التنفيذية، فإننا نعني ب "السلطة" هنا هذا الوجود الغالب للمؤتمر الوطني في الحكومة القومية وحكومات الشمال .
أكدنا في وثيقة المؤتمر الثاني أن السلطة قد قدمت بعض التنازلات ولكنها لم تغير طبيعتها القائمة على القمع سياسيا وعلى النهب اقتصاديا. أجملنا تلك التنازلات في الإزورار عن الإرهاب على المستوى الدولي والإقليمي لما ووجهت به السلطة من ردود فعل حاسمة ومزلزلة، وإجازة دستور يعترف بنوع ماكر من التعددية السياسية واحترام حقوق الانسان وإتاحة فرصة متزايدة لحرية التعبير في الصحف، والبحث عن الوفاق الوطني تحت ضغوط المقاومة العسكرية الحازمة خاصة من قبل الحركة الشعبية. وقلنا أن تلك تنازلات محسوبة وقابلة للتراجع عنها .
في إطار التفاوض مع الحركة الشعبية في مشاكوس ونيفاشا وتحت الرقابة والضغوط الدولية اضطرت السلطة لتقديم مزيد من التنازلات تمت ترجمتها في اتفاقية السلام الشامل وفي الدستور وتمثلت تلك التنازلات بصورة رئيسية في :-
*/ وقف الحرب في الجنوب والتي ظلت مسرحا لتأجيج ايديولوجية السلطة البغيضة القائمة على الاستعلاء الديني والعرقي والثقافي وميدانا للإبادة المستندة إليها ومحرقة ترهيبية للشباب والصبية من كل أرجاء الوطن ومصرفا للنهب من قبل سماسرة السلاح من تجار الجبهة ومافياتها.
*/ إقرار ممارسة شعب جنوب السودان لحق تقرير المصير في نهاية الفترة الانتقالية.
*/ طي ظل الدولة الدينية عن جنوب البلاد ومشاركة الحركة الشعبية في الحكم على المستوى القومي.
*/ قسمة الثروة البترولية مع حكومة جنوب السودان والولايات المنتجة.
*/ إلغاء حالة الطوارئ فيما عدا مناطق العمليات والمزيد من حريات العمل السياسي والتنظيم.
*/ إجراء انتخابات عامة تحت رقابة دولية بعد أربع سنوات من بداية الفترة الانتقالية.
*/ إجازة دستور جديد يتضمن كفالة أوسع لحقوق الانسان والحريات الأساسية والمدنية.
لقد تنازلت السلطة تنازلاً تاماً فيما يتعلق بالجنوب وتنازلات جزئية فيما يتعلق بالشمال، ونعدد في موقع آخر أسباب ذلك ، غير أن السبب الرئيسي في ذلك هو أن الانقاذ لو خيرت بين انفصال الجنوب أو بقاءها في السلطة فإن خيارها واضح لا لبس فيه وهو بقاؤها في السلطة، ولذلك فإن تنازلاتها في الشمال مقصورة على الفترة الانتقالية التي تعد فيها للانفصال ولفرض دولتها الأصولية الإقصائية القمعية من جديد على الشمال بعد ذلك .
لقد كان التعويل على التوجه الوحدوي للحركة الشعبية في توطيد تلك المكاسب شمالاً كما أنجزتها جنوباً، وعلى القوى السياسية في الشمال أن تسارع إلى تعزيز وجودها الجماهيري لتكرس تلك المكاسب بالممارسة والفعالية، ولكن الضربة العظيمة التي تلقاها التوجه الوحدوي للحركة برحيل قائده الدكتور جون قرنق، وانشغال القوي السياسية الشمالية خاصة في التجمع الوطني الديمقراطي بعظمة السلطة اليابسة التي ألقاها لهم المؤتمر الوطني، يجعل من تلك المكاسب الآن أمرا قابلاً للتساؤل، إن لم نقل قابلاً للنكوص عنه.
إن المؤتمر الوطني، في غيبة أي قوة سياسية كفء تتصدى له، قادر على الالتفاف على تلك التنازلات والتراجع عنها بل وتحويلها إلى مكاسب له. لقد استثمر المؤتمر الوطني وقف الحرب في الجنوب ليعمل مباشرة على تصعيدها في دارفور والشرق . كما يسعى لاستثمار وجود الحركة الشعبية كشريك في الحكم في تحسين صورته الخارجية ورفع العقوبات عنه وتسويق نفسه دولياً بتولية الحركة وزارة الخارجية وبإبعادها عن المفاصل الرئيسية لمصالح المؤتمر الوطني بتمسكه بأجهزة القمع والأمن في وزارتي الداخلية والدفاع ووكالات النهب والفساد في وزارات المالية والطاقة ، وفي ذات الوقت تكميم فم الحركة الشعبية وإسكاتها عن معارضة ممارساته القمعية والفاسدة.
بعد سنوات من التصفية العرقية الخفية وتصوير مظالم ضحاياها من أهل دارفور بأنها نهبٌ مسلحٌ ونزاعات قبلية تقليدية، وتحت الضغوط الدولية لإيقاف الحرب في الجنوب، صعد النظام بصورة تدريجية من وتيرة حربه الصامتة تلك في دارفور، لتصل إلى ذروتها عند إعلان قيام حركة تحرير السودان التي وضعت لأول مرة بصورة حاسمة وواضحة مظالم مواطني دارفور في إطارها الوطني الصحيح، باعتبارها جزءا من مظالم التهميش في الوطن كله، وصاغت مطالبها في تقاسم السلطة والثروة تبعا لذلك .
ومتابعة لنهجه في تأجيج النزاعات العرقية، كثف النظام من تسليحه ودعمه لمجموعات القبائل العربية لينتج فصيلة "الجنجويد" والتي انضمت لركب أفظع وأشنع منظمات التصفية والإبادة الجماعية في التاريخ كرصيفاتها النازية والفاشـية والرواندية والصـربية. وعن طريق القصف الجوي والعمليات العسكرية للجيش والهجمات الصاعقة الباطشة لجماعات الجنجويد تمت إبادة قرى بأكملها وقتل عشرات الآلاف وشرد الملايين إلى تشاد أو نزحوا إلى خيام اللاجئين البائسة ومورس اغتصاب نساء دارفور بصورة واسعة. لقد دفعت سياسات النظام وممارساته في دارفور بالولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي والمنظمات الدولية ومنظمات حقوق الإنسان وأجهزة الإعلام الكبرى إلى التدخل وكثفت من الضغوط الدولية عليه والتي تصاعدت حتى بلغت بالأمم المتحدة إلى اتخاذ القرار 1593 وتحويل الأمر للمحكمة الجنائية الدولية للتحقيق مع ومحاكمة قائمة من المتهمين بارتكاب جرائم ضد الانسانية بينهم مسئولين على قمة النظام. تحاول السلطة التحايل على ضغوط المجتمع الدولي باللجؤ إلى الاتحاد الأفريقي عديم الحيلة والنفاذ من خلال وجود قواته الهزيل لمواصلة خروقاتها لوقف إطلاق النار واستمرار ممارسات الميليشيات التابعة لها ضد المواطنين الأبرياء.
تتلكأ السلطة في إنفاذ نصوص اتفاقية السلام الشامل والدستور فيما يتعلق بحقوق الانسان والحريات العامة وتلتف عليها بترسانة القوانين الذميمة المقيدة للحريات والتي لاتزال سارية المفعول ولم تلغ أو تعدل حتى الآن. ومالم تلغ كل تلك القوانين أو تعدل لتتفق مع متطلبات اتفاقية السلام الشامل والدستور، وما لم يحدث تعديل جوهري في أجهزة الأمن والقمع ذاتها إجراءاتٍ وقياداتٍ وأفراد، لكفالة قوميتها وخضوعها لحكم القانون فإن الطبيعة القمعية للسلطة تظل كما هي .
مازال هامش الحريات في مجال التعبير موجودا ولكن الرقابة لا زالت تمارس ووجود السلطة وأجهزتها الأمنية لا يزال قويا وضاغطا. لقد شهدت الفترة منذ مؤتمرنا السابق إيقاف العديد من الصحف ولعدة مرات كما حدث مع "الصحافة"و"الحرية"و"خرطوم مونيتور"، كما استمرت تدخلات الرقابة والأمن في المواد والأخبار إلى الحد الذي أدى برئيس تحرير "الأيام" الأستاذ محجوب محمد صالح إلى القول بأنه يترك صحيفته بعد انتهاء طباعتها ليلا ليجدها قد صدرت في الصباح التالي بعناوين ومانشيتات مختلفة. وصدر قرار بمنع نشر أخبار المفاوضات في كينيا، وحوصرت أنباء وتقارير الحرب في دارفور وحذفت حتى بعض القصائد من النشر، كما استمرت حوادث اعتقال ومحاكمة الصحفيين كما حدث مع الأستاذ رئيس تحرير "خرطوم مونيتور". وتؤكد حالة صحيفة "السوداني" والمماطلة الممعنة في السماح بعودتها للصدور أن مجلس الصحافة بلا حول ولاقوة وإنما في حقيقة الأمر ما هو إلا قناع لممارسة الضغوط الحكومية. أما عن المكاسب وضمانات الحريات التي تحققت في الدستور فإنها في فهم المؤتمر الوطني مرتبطة باتفاقية السلام الشامل وباستمرار وحدة البلاد، ولذلك فإنها قابلة للنقض في حالة اختيار شعب الجنوب الانفصال، وذلك هو الاحتمال الراجح .
لقد كشف تصدي السلطة عن طريق أجهزتها الخفية لطلاب جامعة أم درمان الأهلية وقيامهم بضرب وترهيب الطلاب والأساتذة وإحراق مباني الجامعة ومكتبتها لمنع الطلبة من انتخاب اتحادهم، وكذلك اعتقال وتعذيب أعضاء اللجنة التمهيدية لتحالف طلاب أبناء مزارعي الجزيرة والمناقل مؤخرا، كشف عن أن هذه السلطة لاتزال تتمسك باستخدام كل ما بحوزتها من أدوات القمع والإرهاب في مواجهة أي خطر على وجودها في أي موقع كان. كما فضح من جديد أن قمع السلطة وجبروتها ليس مقصوراً على الأجهزة القمعية الرسمية وأنه في حالة شلت يد تلك الأجهزة الرسمية تحت الرقابة أو الضغوط الدولية، فإن السلطة لن تكف عن استخدام أقسى درجات القوة المنفلته من أي قانون أو وازع إما باستخدام منسوبي تلك الأجهزة الرسمية ذاتها بطرق مختلفة من التحايل والخداع أو بتوظيف ترسانتها من المليشيات غير النظامية.
لقد تأكد ذلك مرة أخرى في الأحداث الدامية التي شهدتها العاصمة القومية في أعقاب مقتل الدكتور جون قرنق. لقد استغلت السلطة الفترة بين علمها بمقتل قائد الحركة الشعبية وبين إعلانها ذلك رسمياً لتأمين نفسها وأفرادها ومواقعها بدلا من تأمين العاصمة والمواطنين من ردود الفعل، بل إنها وبتأخرها المحسوب في إعلان مقتل الدكتور جون قرنق أوحت للجنوبيين بالتحرك احتجاجاً وهي تعلم علم اليقين بما سيصاحب ذلك من اعتداءات، لتبرر لعناصرها في الأمن والمساجد الرد عليهم في اليوم التالي بأفظع أساليب التصفية الجسدية والسحل في الشوارع، لتؤجج من المشاعر المستعرة أصلاً وترفد دعوة الانفصال بدماء جديدة وتحطم جسور الوحدة والثقة والتفاهم والأمل التي شيدها الراحل دكتور جون قرنق في قلب الساحة الخضراء. ومن أبرز العلامات وأشدها فضحا لموقف السلطة التمييزي بين المواطنين أن جميع المعتقلين في تلك الأحداث هم من الجنوبيين وقاطني "الحزام الأسود" الذين كانوا ضحايا يوم الثلاثاء، بينما الذين سيتم تعويضهم عن الخسائر هم فقط من ضحايا يوم الأثنين.
يضطرد موقف الإنقاذ المهين والتحقيري والدوني للمرأة افتضاحاً وتتضح جذريته وثوابتيته في فكر وآيديولوجية السلطة خالية من أي مساحيق عارية من كل ثوب. يظل قرار والي الخرطوم في نهاية عام 2000 بمنع عمل النساء في محطات البترول والكافتيريات والفنادق وإصراره على تنفيذ ذلك القرار مسنوداً ببرلمانيي الولاية من الجبهويين والأصوليين رغم المظاهرات النسوية الاحتجاجية النسوية التي قمعت بوحشية ورغم حكم المحكمة الدستورية بإبطال ذلك القرار، يظل شاهداً فصيحاً على جوهر الموقف الإنقاذي الأصولى من المرأة، كما جاء في مرافعة الدفاع عن ذلك القرار أمام المحكمة وفيه "الأصل قرار المرأة في بيتها ويجوز أن تخرج إلى العمل إذا دعت الحاجة .... ولكن لابد من مراعاة الضوابط في خروج المرأة (1) ارتداء الزي الشرعي (2) عدم الاختلاط بالأجانب (3) عدم الخلوة بالأجانب (4) أن يناسب عملها طبيعتها (5) ألا يترتب على هذا العمل مفسدة ".
وبسياسات الإفقار والحرب ونتائجها الكارثية من تدمير للمجتمعات والأسر، يتضاعف القهر والإضطهاد على المرأة بالاغتصاب والطرد من المأوى وتدمير وسائل الحياة في مناطق العمليات. كما يتعزز بمزيد من القوانين القمعية والتعسفية وبممارسات شائنة ضد النسوة المسحوقات بمطاردتهن في سبل كسب الرزق البسيط لإطعام فلذات أكبادهن وبملاحقة بائعات الشاي والأطعمة والخمور البلدية وإيداعهن السجون بأطفالهن، وبفرض الغرامات والجبايات الفادحة عليهن لاستصدار رخص العمل في تلك المهن البائسة بينما ينعم أثرياء السلطة بالإعفاءات الضريبية وبغض البصر عن احتيالهم في نهب موارد البلاد.
تقرأ المادة 18 من دستور 1998 "يستصحب العاملون في الدولة والحياة العامة تسخيرها لعبادة الله، يلازم المسلمون فيها الكتاب والسنة، ويحفظ الجميع نيات التدين، ويراعون تلك الروح في الخطط والقوانين والسياسات والأعمال الرسمية، وذلك في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية." إذا كانت الانقلابات العسكرية السابقة تستولي على السلطة فإن انقلاب الجبهة القومية الإسلامية في يونيو 1989 لم يستولي على السلطة فحسب، وإنما استولى على الوطن وعلى البلاد والشعب في "غزوة" أصبح بفضلها السودان بشعبه وأرضه وموارده حميعا غنيمة لهم وبعضاً من مال الله الذي أفاء به على الجبهة القومية الإسلامية تتوزعه أنصبة بين قادتها وكوادرها وأفرادها كما شاءت. بهذا الفهم لم يعد الفساد المنفلت من كل قانون أو عرف عيباً أو شينة منكورة لدى السلطة بل ممارسة علنية معترف بها تتقاذف الاتهامات حولها وبها أجنحتها ومراكز قواهـا المختلفة، ومن خلال هذا الإعلان المتواصل وانعدام المحاسبة تسعى الإنقاذ إلى جعل الفساد ممارسة مقبولة وطبيعية معترف بها ويحسدهم الآخرون عليها. بدلاً من تلك المادة الطاهرة في دستور 1998 ، ألم يك أجدر بالإنقاذ أن تقتبس من القائمين على صياغة دستور نيجيريا عام 1976 والذين عرفوا النشاط السياسي بأنه "إمكانية اكتساب الثروة والمكانة والقدرة على توزيع المكاسب في شكل فرص عمل وعقود ومنح دراسية وهبات نقدية للأقارب والأنصار السياسيين " ؟!
نسبة لطبيعة السلطة الطفيلية القائمة على السمسرة والمضاربات فقد كانت المصارف هي قبلة الفساد العظمى، خاصة وهي القطاع الأول الذي تمت أسلمته، حيث بلغت أرقام النهب معدلات فلكية وأصبحت المصارف تنشأ لتنهب ثم تدمج في مصارف أخرى أو تصفى وتورط في ذلك مسئولون على ذروة الجهاز التنفيذي وعجز من ظنوا أن وجودهم في مراكز قيادية في الجبهة الإسلامية وفي لجان الحسبة أو على قمة وزارة العدل، رغم تصريحاتهم الطنانة، عن مجرد إجراء تحقيق بسيط حول الأمر. وبلغ الأمر حداً جعل حتى قاضياً خادماً للسلطان كجلال علي لطفي يذكر في حيثيات حكمه عن نهب بنك الثروة الحيوانية :
" وكل ما ذكرت المحكمة من من مخالفة قام بها بنك الثروة الحيوانية ومحافظ بنك السودان للشريعة الاسلامية يحدث في بنك له رقابته الشرعية التي لم تجد المحكمة لها رأيا في الموضوع الذي هو من صميم عملها وقد سكتت عن ذلك وكان واجبها إبداء الرأي في أمر يخالف شرع الله مخالفة صريحة إن لم يكن أداء لواجبها فليكن أمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر. لقد ثبت لهذه المحكمة أنه قد ارتكبت في هذه القضية الكثير مما يخالف القانون وما أمر الله به أن يتبع وما نهى عنه في المعاملات وهي عدم الإيفاء بالعهود والعقود والوعود وعدم آداء الأمانات لأهلها وظلم الناس وأكل أموالهم بالباطل ومماطلتهم في الحصول على ما يستحقونه والاحتيال عليهم بكل الطرق وعدم مساواتهم بالآخرين في حالات مطابقة لنفس حالات هذه القضية مما يحز في نفس كل مواطن ويؤلم كل من له ضمير وكل هذا يؤكد ضعف الإشراف وانعدام الرقابة ."
لم ينج قطاع من قطاعات الدولة أو مجال من مجالات العمل من الفساد والنهب، فبدلاً من أن تصبح أشكال الحكم الاتحادي من ولايات ومعتمديات أداة للمواطنين لممارسة السلطة على أقرب مستوى لهم، أصبحت أداة للنهب وامتصاص أموال الناس على أدنى مستوى. و أصبح ما يقتطعه المواطنون من لقمة عيشهم لقمة سائغة للصوص على أعلى مستويات السلطة كما حدث في فضيحة طريق الانقاذ الغربي والتي سكت عنها المؤتمر الوطني والمؤتمر الشعبي بعد أن أوضح كل طرف للآخر علناً قدرته علي فضح المستور. ذلك المستور لم يعد من الممكن الاستمرار في ستره في قطاع الاتصالات التي ما كان بمقدور خطوطها استيعاب ما يزيد على ال 150 مليون دولار دون أن يفشى الأمر. أما عوائد تصدير البترول وخفايا اتفاقيات إنتاجه وصفقات بيعه وعوائد تصدير الذهب وغيره من المعادن فتلك أمور طلاسمية، لينتهى المطاف بالسودان ليحتل المرتبة 144 في قائمة الدول الأكثر فسادا التي تصدرها منظمة الشفافية الدولية، ليس من بين الدول ال 143 التي تقدمته من تدعي قدر دعوى الإنقاذ في الطهر والأمانة والربانية .
"كيف تستطيع حركة ولجت المجال السياسي في السودان, بدعاوى أخلاقية كبيرة, وبمفاهيم التقوى والامانة التي تعصم صاحبها من الخطأ والظلم وتورد أمثلة المسؤولية المطلقة للحاكم عن شعبه , بل عن كل دابة في امبراطوريته المترامية..... كيف يمكن لحركة كهذه أن تجلس على مناكب شعب بكامله بعد أن حولته إلى هياكل عظمية, وعلى أنقاض بلاد حولتها الى مقبرة كبرى؟ كيف تستطيع حركة ترفع الشعارات الدينية أن ترتكب هذه الجرائم المنكرة؟ الحركة السياسية في السودان تريح نفسها من عبء مثل هذه الأسئلة بقولها أن هذا لاعلاقة له بالاسلام, ولكن كيف نفسر أن هذه الحركة دون غيرها هي التي تتخذ من القرآن دستورا لها؟ هل يمكن أن تخلق الثقافة الدينية شخصاً شريراً؟ شخصاً قاسياً ومجرماً و أنانياً؟ ..... من الجانب الاخر, ألم تفرز الثقافة الدينية حركة أخرى على النقيض من الجبهة الاسلامية, وشخصية إسلامية على النقيض من الشخصية الجبهوية في صورة الحزب الجمهوري, والشخصية الجمهورية؟ هذا حدث بالفعل ونشهده أمامنا سواء في الساحة السياسية على وجه العموم أو في صفوف حركتنا على وجه التحديد." تلك الأسئلة التي تجول في أذهان الكثيرين، طرحها الأخ المناضل الخاتم في ورقة أبريل 2002 مجيباً عليها بالقول:
"لعل اخطر عناصر الظاهرة الدينية هو عنصر القداسة. ويخطيء فهم الظاهرة الدينية من يعتقد ان القداسة خاصية الهية بحتة. ربما تكون المسالة هكذا في البداية, ولكن بمجرد تكوين حركة منظمة سواء كانت دينية او فكرية او سياسية, يتشأ نزاع حول اقتسام القداسة بين الناس انفسهم. والتوزيع غير المتساوي للقداسة, اذا كان مشروعاً ان نتحدث هكذا, هو الذي يكوّن التراتبية الدينية التي تتحول في جميع الحالات تقريباً الى تراتبية سياسية. ولذلك يمكن ان نقول ونحن مطمئنون أن الزعامة الدينية قابلة قابلية مطلقة لتتحول الى زعامة سياسية, بل ليست هي في واقع الامر سوى زعامة سياسية تتخذ هيئة الانصراف عن الدنيا في نفس الوقت الذي تقبل عليها اقبالاً بالغ الشراهة. وربما نقترب من موضوعنا أكثر، إذا قلنا ان في اقتصـادٍ يقوم اساسـاً على النـدرة الشديدة, كما هو حال الاقتصاد السوداني, فان القداسة فيه ستوظف على وجه العموم من أجل الاستحواذ على الخيرات المادية. وعلى خلفية الندرة الشديدة فان تحقيق الرخاء لا بد أن يحدث على حساب إملاق مئات الالاف من الاتباع."
مع بدء تصدير البترول وتوقعات الناس ، التي عززها النطام نفسه بوعوده التخديرية، بقرب حل مشاكلهم الأساسية بعد المعاناة الهائلة والإفقار المدقع، طرأ تغيير ملحوظ على خطاب السلطة، إذ أخذت تتحدث عن التنمية، وعن رفع المعاناة عن الناس، وعن القسمة العادلة للثروة. إن البترول ، مثله مثل غيره من الموارد لن يحل أي من المشاكل إلا من خلال سياسات حكيمة تستثمر الموارد وتسخرها لمصلحة المواطنين، وطالما أن تلك السياسات لم تستخدم مع الموارد الأخرى فليس هناك ما يدفعنا للظن بأن النظام سيستخدمها في البترول. لقد أهدرت الموارد البترولية العظيمة لعديد من دول القارة الأفريقية عن طريق الفساد وأسباب وقنوات أخرى، وجميع تلك الأسباب والقنوات متوافرة بكثافة في نظام الإنقاذ .
نحن نعرف أن السلطة لا تستطيع السير في طريق التنمية والرخاء، وذلك بحكم تركيبتها ذاتها. فإذا كانت الحرب هي مصدر الإهدار الأساسي للثروات الوطنية منذ الاستقلال وحتى الآن، فان السلطة الحالية قد جعلت من الحرب تبريراً لوجودها، وليس منتظرا أن تنتهي الحروب وهذه السلطة قائمة، ولذلك سيبقى الاقتصاد السوداني اقتصاد حرب في الأساس. وإذا كانت الطبيعة الطفيلية للعناصر الحاكمة هي المصدر الثاني لإهدار الثروة الوطنية، فإن التكوين الطفيلي لهذه السلطة اكثر نقاءً وكثافة من أية سلطة سبقتها. ولا تتوقف الطفيلية على أشخاص الحكام ومؤسسات الحكم، بل تمتد إلى أجهزة القمع والدعاية والبذخ والتفاخر، وأساليب التهريب والفساد، المصاحبة لهم كظلهم.
لكل ما تقدم فإن طبيعة السلطة والتي جوهرها النهب وحارسها القمع لم تتغير، وإذا كان هناك من تغيير محتمل فسيكون في اتجاه تكثيف تلك الممارسات وتصاعد وتائرها بحكم انحسار الرقعة الجغرافية بعد الانفصال المحتوم في تخطيطهم وبحكم تضاؤل الموارد بذهاب معظم البترول والذي هو أصلاً مورد ناضب غير متجدد بطبيعته .
الحركة الشعبية
نتناول هنا موقف الحركة الشعبية، كشريك للمؤتمر الوطني في اتفاقية السلام الشامل وفي الحكومة على المستوى القومي، من مآلات تنفيذ اتفاقية السلام الشامل فيما يتعلق بحق تقرير المصير. نعلم أن الحركة كانت ومازالت تحتوي تيارين، تيار الوحدة القائمة على أسس جديدة (السودان الجديد) وتيار الآنفصال. تيار الانفصال ظل على الدوام تياراً قوياً ولكن تيار الوحدة ظل يستمد نفوذه وغلبته من وجود الدكتور جون قرنق. في سنوات الحرب كان من الممكن لجون قرنق أن يؤجل الصراع بين التيارين باعتبار أن العدو للهدفين، الوحدة والانفصال، هو عدو واحد، وبالتالي ظلت الحركة موحدة ضد العدو بصرف النظر عن الهدف النهائي .
بوضع الحرب أوزارها وتوقيع اتفاقية السلام الشامل وما أمنته لشعب الجنوب من ممارسة لحقه في تقرير المصير بما في ذلك الانفصال، زال العدو المشترك الذي كان سبباً لوحدة التيارين، كما اقتربت اللحظة الحاسمة التي يتم فيها الاختيار بين الوحدة أو الانفصال، لذلك لم يعد من الممكن، حتى لو كان الدكتور جون قرنق موجوداً ، تأجيل الصراع وأصبح من الضروري حسمه لصالح أحد التيارين. كان دكتور جون قرنق يأمل أنه من خلال التطبيق الصارم لاتفاقية السلام الشامل ومن خلال وجوده في السلطة في الفترة الانتقالية ومن خلال تعزيز وجود الحركة في الشمال يستطيع أن يجعل الوحدة خياراً جذاباً لشعب الجنوب وأن يهزم بالتالي تيار الانفصال.
برحيل الدكتور قرنق فقد التيار الوحدوي داخل الحركة منعته ونفوذه وتحققت الغلبة لتيار الانفصال الذي ليست لديه مصلحة في جعل الوحدة خيارا مطروحاً، دع عنك أن تكون خياراً جذاباً، وليس له مصلحة في تمدد الحركة الشعبية شمالاً أو تحولها لتنظيم سياسي قومي كما كان يؤمل الدكتور قرنق. بهذه التوجهات تلتقي مصالح التيار الانفصاليفي الجنوب داخل الحركة وخارجها مع مصالح التيار الانفصالي في الشمال في المؤتمر الوطني وخارجه في استئثار الأول نهائياً بالجنوب والثاني نهائياً بالشمال، وبهذا تتحول شراكة الطرفين من شراكة في إطار تطبيق الاتفاقية، إلى شراكة من أجل الانفصال. في إطار هذه الشراكة الجديدة يمكننا فهم استئساد المؤتمر الوطني المتغطرس في انتهاك اتفاقية السلام الشامل وتغاضي الحركة الشعبية عن تلك الانتهاكات والاكتفاء بالاحتجاج على عدم جدية المؤتمر الوطني، والذي يعامله التيار الانفصالي ويصوره باعتباره ممثلاً للشمال كله، في تنفيذ الاتفاقية. كما يمكننا أيضا قراءة وفهم علو صوت الانفصاليين الشماليين من كوادر المؤتمر الوطني القيادية وكذلك ورقة عبدالرحيم حمدي عن مستقبل الاستثمار في السودان، وهي ورقة تكشف، للمفارقة، كيف أن مشروعاً حضارياً جاء لغزو العالم كله وبناء امبراطوريته الجديدة على أنقاض دول الاستكبار العالمي قد تراجعت مطامحه حتى انحصرت في مثلث دنقلا- سنار- كردفان.
في ظل هذا الوضع وفي ظل توازن القوى الحالي، يصبح الانفصال ليس خياراً مطروحاً فقط، وإنما الخيار الراجح بقوة. تلك هي الحقيقة المؤسفة والقاسية والمرة. هذا الوضع السئ لا يمكننا أن نحمل مسئوليته للحـركة الشـعبية، سواء تيارها الانفصالي أو الوحدوي ، والمؤتمر الوطني وحدهما، وإنما تلك مسئولية تتحملها القوى السياسية في السودان كافة. تتحملها الجبهة القومية الاسلامية بمؤتمريها الوطني والشعبي بمشروعها القائم على الاستعلاء العنصري والديني والثقافي وبتآمرها على وحدة الوطن منذ اللحظة الأولى، تلك الوحدة التي ظلت عائقاً أمام تنفيذ ذلك المشروع وبتسعيرها لإوار الحرب وبانقضاضها على النظام الديمقراطي. تتحملها القوى السياسية التقليدية الكبيرة بتخاذلها وانكسارها وتفريطها في النضال ضد الانقاذ وتفويتها الفرص التي لم تتح لمعارضة من قبل لإسقاط نظام دكتاتوري. تتحملها القوى الجديدة، ونحن منها، وقوى السودان الجديد بما فيها الحركة الشعبية والتي ظلت تناور حول قضية التوحيد وبناء حركة واسعة قادرة على تعديل موازين القوى وتغليب برنامج السودان الجديد وظلت تغلب مصالحها واعتباراتها التكتيكية والذاتية على القضايا الاستراتيجية. وللمفارقة ، فإنه لو كانت هناك قوة سياسية واحدة لا تتحمل المسئولية عن هذا الوضع، وإنما تستحق الإشادة رغماً عنه ، فإنما هي التيار الانفصالي داخل الحركة الشعبية، والذي ظل يحارب ببسالة، يدفع بالشهداء ويرى أرضه تتحول محرقة لشعبه، مناصراً من يتشدقون بالوحدة ويستنكفون أن يدفعوا أدنى ثمن لها، في قضية كان بإمكانه حسمها سلماً منذ عقد أويزيد.
نحن مؤمنون بوحدة السودان على أسس جديدة، أسس دولة المواطنة القائمة على فصل الدين عن الدولة والمساواة في الحقوق والواجبات والمساواة بين جميع السودانيين بصرف النظر عن الدين والعنصر والثقافة والنوع وأمام القانون وعلى الديمقراطية والتعددية السياسية والعدالة الاجتماعية. ونحن نعلم أن تيار الوحدة داخل الحركة الشعبية يشاطرنا الإيمان بهذا الطرح الذي قاتل وحارب من أجله وقدم في سبيله من التضحيات ما لم يقدمه أحد . لذلك فإننا نرى أنه ليس أمام هذا التيار الآن في سبيل الانتصار للمبادئ والقضايا التي حارب من أجلها سوى الانخراط في التحالف الواسع الذي نطرحه من أجل هزيمة المؤتمر الوطني، ولكن ليس فقط من أجل هزيمة المؤتمر الوطني وإنما من أجل بناء جبهة راسخة وقوية من أجل الوحدة وقيام السودان الجديد. قيام تلك الجبهة هو الأمل الأخير والفرصة التي لن تعود مرى أخرى أمام أي من قوانا لتحقيق أهدافها.
ولكن ولأننا نؤمن أيضا أن الوطن الموحد على حساب شعوبه هو سجن، وأن الأرض الموحدة على حساب أهلها هي قبر، ولإننا أيدنا حق شعب الجنوب في تقرير مصيره من موقع الفهم والقبول الكامل لمعنى ونتائج ممارسة ذلك الحق، فإننا لن نعادي شعب الجنوب إذا ما اختار الانفصال بل سنحترم تماما اختياره ذلك ووندعو لأن يكون ذلك انفصالاً ودياً ومتحضراً، متمنين للجنوبيين وطناً أفضل مما قدمناه لهم ينعمون فيه بالحياة والأمن والاستقرار والتنمية والتقدم. وسنعمل ما في وسعنا من جانبنا ومعهم لكي تكتمل عملية الانفصال دونما مرارة وبأقل الآلام، وسننادي بأن نسعى سوياً لقيام دولتين متجاورتين بينهما أقوى درجات العلاقة بما يسمح بنموهما وتطورهما وتقدمهما معاً في إطار من السلام وحسن الجوار والحدود المفتوحة وحقوق التنقل والإقامة والعمل والتملك المتبادلة عل هذا يعزز الثقة ويفتح الباب من جديد لامكانية الوحدة مستقبلاً . وذلك مستحيل بالطبع في حالة استمرار وجود دولة قائمة على الحرب والتوسع والغزو في الشمال.
برنامج ال 1800 يوم والعد التنازلي للسودان
الإطار الزمني للبرنامج هو خمس سنوات هذا ليس اختياراً من جانبنا إنما حددته اتفاقية السلام الشامل. لايمكن لحركة سياسية سودانية جادة أن تتجاهل ضرورة أن يكون لها برنامجاً واضحاً محدد القسمات لتحديد دورها ومهامها وأهدافها خلال الفترة الإنتقالية التي حددتها اتفاقية السلام والتي تنتهي بممارسة الجنوبيين لحق تقرير المصير تبعاً لحق تقرير المصير الذي ظل يمارسه الشماليون وسيستمرون في ممارسته خلال الأيام المتبقية من الفترة الإنتقالية, وهي قد لاتزيد كثيرا عن 1800 يوم عندما نفتتح مؤتمرنا في ديسمبر القادم.
مع توقيع اتفاقية السلام الشامل ووضعها موضع التنفيذ بدأت المرحلة الانتقالية، وهي مرحلة بقدر ما تختتم بتقرير شعب الجنوب لمصيره بقدر ما يتحدد فيها وبشكل حاسم مصير السودان ككل. إنها في حقيقة الأمر مرحلة العد التنازلي للسودان. السؤال الذي طرحناه من قبل "السودان يكون أو لا يكون" لم يعد سؤالاً نظرياً أو افتراضيا كما ظلت بعض القوى السياسية تظن، سادرة في غيها، غارقة في شقاقاتها، لاهثة خلف مطامعها الضيقة. لقد أصبح السؤال اليوم مطروحاً كحقيقة ملموسة وواقع صلد لا مجال للفكاك أو الهروب منه. لأول مرة في تاريخ السودان الحديث تجد الحركة السياسية السودانية في الشمال نفسها في مواجهة امتحان لا مهرب منه، ولا تجدي معه أساليب اللف والدوران أو التأجيل والتسويف والتعطيل، فاتفاقية السلام الشامل ليست عهدا وطنيا فحسب وإنما عقد مسيج بضمانات إقليمية ودولية تجبر من شاء أو لم يشاء على تنفيذها راغم الأنف. أمام هذه الحركة السياسية الآن أقل من 260 اسبوعاً لتختار بين سودان موحد تعترك وتتفق وتختلف حوله وفيه، أو لاسودان على الإطلاق، إذ أن انفصال الجنوب لن يكون إلا الخطوة الكبرى في مسيرة التشظي الأخير واللانهائي للوطن.
برنامج الحركة إذن سيكون هو برنامج ال 1800 يوم، برنامج العد التنازلي للوطن، نحدد قضاياه ومهامه، والتي هي مهام الفترة الإنتقالية من وجهة نظرنا، ونطرحها على أنفسنا وللشعب وقواه السياسية ومنظمات مجتمعه المدني كافة، هادفين ليس فقط إلى كسب الجنوبيين إلى صف الوحدة وجعل الوحدة الطوعية خياراً جذاباً لهم عند ممارستهم حقهم في تقريرالمصير، وإنما إلى تطوير حركة جماهيرية واسعة فاعلة قادرة على هزيمة الإنقاذ وبناء نظام ديمقراطي سليم ومعافى ودولة الحقوق والمواطنة الحقة.
المعلم البارز في مسيرة ال 1800 يوم هو الانتخابات القادمة في نهاية السنة الرابعة من الفترة الانتقالية، أي بعد حوالي 1100 يوم عند انعقاد مؤتمرنا. إن المهمة الأعظم التي تنتظر كافة القوي السياسية الحريصة على وجود السودان هي هزيمة المؤتمر الوطني هزيمة ساحقة في تلك الانتخابات وبدون إلحاق ضربة قوية بالمؤتمر الوطني فلا مجال للحديث عن الوحدة أو الديمقراطية أو دولة المواطنة أو عن السودان. إن الخيار هو إما دولة السودان أو دولة المؤتمر الوطني. الانتخابات القادمة هي فرصة القوى السياسية كلها لإثبات أن المؤتمر الوطني ليس سوى أقلية ضئيلة مرفوضة ومنبوذة، وفرصتها لإلغاء ثنائية اتفاقية السلام الشامل وتعميدها من جديد عهداً وطنياً قومياً شكلاً ومضموناً ، تعبيرا وتمثيلا ، وتعزيز تلك الاتفاقية بما عجزت الحركة الشعبية عن فرضه وحدها .
لهزيمة المؤتمر الوطني هزيمة ساحقة في الانتخابات القادمة، فإننا ندعو لتشكيل وبناء أوسع تحالف سياسي يعدل موازين القوة بصورة حاسمة، ويخوض الانتخابات ككتلة سياسية موحدة، ببرنامج يعيد للجماهير ثقتها بنفسها، ويستجيب لطموحاتها، ويستقطب أوسع قطاعاتها، ويدفعها دفعا للإسهام في الحفاظ على وطنها وانتزاع مستقبله ومستقبلها من ظلامية الإنقاذ وكواسرها الشرهة. وبصرف النظر عن الضرورات الوطنية لقيام هذا لتحالف والمتمثلة في تكريس هدف إسقط المؤتمر الوطني في الانتخابات كمهمة وطنية تعلو على كل المهام، فإن قيام هذا التحالف كضرورة لا غنى عنها لهزيمة المؤتمر الوطني تقتضيها حقائق:
أن المؤتمر الوطني ليس حزباً فحسب وإنما حزب ودولة، وهو سيخوض الانتخابات هكذا، بل وسيخوضها كدولة وسلطة أكثر من كونه حزباً منافساً، وسيستخدم كل موارد الدولة في حملته الانتخابية، مما يستدعي تكاتف أكبر قوة شعبية ممكنة في وجهه.
إن الواقع السياسي والاجتماعي الذي خلقته الانقاذ، وعجز الأحزاب الرئيسية عن مجابهته، من جانب، والتحولات الإيجابية في وعي قطاعات واسعة من المواطنين، من الجانب الآخر، قد أضعف من مقدرات هذه الأحزاب جميعها، وخلخل قواعدها القديمة، ومزق الكثير من العلاقات التي كانت تربطها بجماهيرها. وهو ما يعني أن الركون لموازين القوى القديمة وحجم الأحزاب التاريخي في خوض المعركة الانتخابية القادمة سيكون خطأً كبيراً وقاتلاً.
تكوين وقيام ذلك التحالف، دع عنك نجاحه في مهمته، ليس بالأمر السهل أو البسيط. هناك العديد من القضايا المعقدة والشائكة التي ستواجهنا في العمل والتحرك لقيام ذلك التحالف ليس أقلها الإرث التاريخي لأحزابنا الرئيسية والثانوية، الكبيرة والصغيرة، التقليدية والحديثة، القومية والجهوية، في تغليب قضاياها الصغيرة وخلافاتها غير المبدئية ومصالحها الذاتية على القضايا الكبرى ومصالح الشعب والوطن العظمى. سيثار السؤال عن التجمع الوطني الديمقراطي، هل من إمكانية لإعادة الروح إلى هذه الجثة الهامدة لتستوعب هذا التحالف الواسع؟ إذا كانت هناك إمكانية لذلك، ما هي شروط إعادة الفعالية لجسد التجمع وهيئاته وهياكله؟ هل سيسمو التجمع عن الصغائر ليفتح أبوابه لكل القوى السياسية الساعية لهزيمة المؤتمر الوطني؟ هل سيتخلى عن أساليبه الفاشلة وهل سيغير من عقليته ووسائله العتيقة المتهالكة؟ هل سيقبل حزب الأمة بالعودة للتجمع وما هي شروطه؟ ما هو موقف الحركة الشعبية لتحرير السودان؟ هل هي حريصة على هزيمة المؤتمر الوطني أم ستغلب شراكتها معه في السلطة؟ هل هي راغبة في الدخول في هذا التحالف الواسع أم تفضل العمل بمفردها؟ هل سيكون المؤتمر الشعبي جزأً من هذا التحالف أم لا؟ كيف سيستوعب هذا التحالف الأقسام الواسعة من الجماهير غير المنتمية إلى أحزاب سياسية؟ كيف سيكون وجود ودور منظمات المجتمع المدني داخله؟هذا فقط بعض من الأسئلة والقضايا التي لابد لنا ولكل القوى السياسية الأخرى التصدي لها ونحن نناقش قيام ذلك التحالف. ليس على برنامجنا في الوقت الحاضر أن يقدم إجابات مسبقة على كل تلك الأسئلة، بل ولا ينبغي له ذلك فبعضها إجاباته لدى جهات أخرى لن نتطوع بالحديث نيابة عنها. ولكن سيكون من المفيد أن نتناول هذه الأسئلة الآن، نضيف إليها ونعدل فيها ثم نقدم تصوراتنا حول ما نراه مناسباً للآخرين، وأن نتعامل مع كل الاحتمالات بذهن مفتوح وبعين وبصيرة لا تزوغان عن الهدف.
هزيمة المؤتمر الوطني قضية وجود
إن القوى السياسية في الشمال مدعوة للانخراط في التحالف الواسع الذي ندعو له ليس فقط دفاعا عن وحدة البلاد ولا للحفاظ عليها من مصير التشرذم والتشظي فحسب، وإنما أيضا للدفاع عن وجودها هي ذاتها . فإذا كانت هذه القوى مستعدة للتضحية بوحدة البلاد في سبيل مصالحها هي وإذا كانت مستعدة للتخلي عن الوطن من أجل التمسك بالمقاعد، فإن تلك المصالح وتلك المقاعد تقتضي منها الانخراط في ذلك التحالف لهزيمة المؤتمر الوطني، لأن المؤتمر ما أن يستأثر بالشمال فإنه لن يترك مصلحة ولا مقعد لأحـد خارجه.
حالما انقضت الجبهة القومية الاسلامية على السلطة في 30 يونيو 1989 اتضح لكل ذي بصيرة أو بصر أنها لن تسمح لأحد بمشاركتها في غنيمتها. لقد رأت تلك القوى السياسية شبابها وكهولها تئن بهم السجون والمعتقلات وبيوت الأشباح ورأت بأم أعينها موظفيها في القطاعين العام والخاص يفصلون من الخدمة بالآلاف ورأت مزارعيها يجردون من الأرض إعساراً وعسفاً ورأت تجارها ورأسمالييها يطردون من السوق وتغنم أموالهم وتسبى أو تخرب مصانعهم ومتاجرهم. إن الذي يقبل بمشاركة الآخرين له هو من يمتلك برنامجاً قابلاً لتجميع الناس حوله وبالتالي يمكنه أن يتنازل للآخرين عن طرف من السلطة في سبيل تطبيقه، ولكن برنامج الجبهة القومية الإسلامية بركيزته الآيديولوجية وبطبيعته السياسية والاقتصادية برنامج لا يقبل القسمة، بل هو برنامج إقصائي حتى النخاع وهو إن تطور فإنما يتطور في هذا الاتجاه بالذات، لذلك فإنه يوماً بعد يوم يضيق حتى عن أهله أنفسهم.
إذا كانت تلك القوى السياسية قد نسيت ذلك الدرس الذي قدمته الجبهة القومية الاسلامية في مطلع سلطتها، فقد جربت بعد ذلك منفردة أو مجتمعة مساومة المؤتمر الوطني فماذا كان حصادها؟ لقد ساومت تلك القوى المؤتمر الوطني وهو مشغول بحرب مستعرة في الجنوب، وهو بين أسوار حصار دولي وإقليمي ضاغط، وهو في إسار أزمات اقتصادية طاحنة، وساومته وهي في أوج قوتها وعنفوانها متحالفة مع الحركة الشعبية، مسنودة بالمجتمع الدولي والجيران الأصدقاء في جولات وجولات كان آخرها وأبلغ مثال لها حزب الأمة بقيادة الصادق المهدي فقسمته، كما تنبأنا بذلك في وثائقنا السابقة، وأنجبت منه الإصلاح والتجديد بقيادة مبارك الفاضل، صنيعتها ووزير داخليتها في حكومات الصادق المهدي الأخيرة، فاشترت كوادره بالفتات ثم لفطته لفظ النواة وتركته في العراء حينما حاول أن يمد يديه ل "بيت الكلاوي". إذا كان ذلك هو ما جنته تلك القوى من محاولات التحالف مع المؤتمر الوطني في ظروف كان هو في أمس الحاجة فيها لمن يستقوى بهم وكانت هي في أفضل حال لفرض شروطها، فما سيفعل بها المؤتمر الوطني الآن وهي ممزقة الأوصال منقطعة الصلة بالناس ضعيفة مشرذمة لا يؤبه لها، سوى توجيه الضربة القاضية؟
في ورقته الأخيرة عن مستقبل الاستثمار في السودان، يتحدث مهندس السياسة الاقتصادية للجبهة القومية الإسلامية والمؤتمر الوطني عبد الرحيم حمدي، ليس عن الانفصال كحقيقة واقعة ولا عن دولة دنقلا - سنار - كردفان فقط، وإنما عن دولة المؤتمر الوطني. وهو لا يتحدث عن المؤتمر الوطني كحزب حاكم وإنما كحزب مالك للبلاد سواء كانت في إطار مثلثه الذي اختطه أو أي حدود أخرى. إن ورقة حمدي، والتي هي ليست سوى خطة المؤتمر الوطني، هي استراتيجية مكتملة وواضحة للسيطرة الشاملة والمنفردة على كل مقدرات البلاد وعلى كل مواردها. إن الورقة – الخطة ترسم الطريق للمؤتمر الوطني لا ليسخر موارد البلاد لصالح دولته الجديدة وإنما لصالحه كحزب وكمجموعة ضيقة ومنغلقة وكعصابة ضد أهل البلاد حتى ولو كانوا من أبناء المثلث الذهبي، وهي لا تستثني مواطني هذه الدولة الجديدة من ثمار الاستثمار في بلادهم فقط بل وتستثنيهم حتى من العمل لتنفيذ تلك الخطة ذاتها التي لا يؤتمن على تنفيذها إلا من يؤمنون بها إيماناً كاملاً.
نخلص فنقول أن دولة المؤتمر الوطني القادمة، إن تمكن من إنشائها وترسيخها، فإنما تقوم على أنقاض الوطن وعلى جثث جميع القوى السياسية في الشمال. وهي دولة لن يكون فيها مكان لحزب الأمة، أي جناح كان، ولا الاتحادي الديمقراطي، أي قيادة كانت ، ولا الحزب الشيوعي السوداني، بأي اسم يستقر عليه، ولا لأي من تجمعات القوى الجديدة أو الحديثة، تحالفت أم انفضت، إلا على الجدران كلوحات يعلوها الغبار معلقة على جدران الدولة الأصولية، وليس فيها من موقع لأي من تنظيمات المجتمع المدني الأخرى من اتحادات ونقابات وهيئات وجمعيات إلا تحت أحذيته وهيمنته.
ديناميات التحالف
ونحن إذ ندعو لقيام هذا التحالف الواسع، لا يمكننا إلا نعود بالدراسة والتحليل لتجربة أوسع معارضة في تاريخ السودان، وهي التي مثلها التجمع الوطني الديمقراطي، لنحدد أسباب فشل ذلك التحالف في تحقيق أي من أهدافه وبرامجه، وتخليه التدريجي وتراجعه غير المنظم وانسحابه الاستراتيجي عنها، ولنتلمس عوامل انتصار فئة صغيرة معزولة عليه. وفي هذا المجال قدم المناضل الخاتم عدلان مساهمة نيرة في ورقته في أبريل 2002 لابد لنا من الرجوع إليها، ولأهميتها نوردها كاملة. يقول الخاتم : "الإتفاق الظاهري حول القضايا المصيرية كان يخفي وراءه خلافات جوهرية حول القضايا نفسها التي زعمت الأطراف أن هناك اتفاقاً حولها. وهنا يمكننا أن نتبين حقيقة ما يسمى اتفاق الحد الأدنى. ونحن نزعم أنه لم يتم مطلقا مثل هذا الإتفاق. فما نفهمه نحن بهذا المصطلح هو أن تتفق قوى مختلفة اختلافات جوهرية حول قضايا معينة, على تاجيل أو تخفيف خلافاتها حول تلك القضايا, لأن هناك قضية أو عدة قضايا تتفق حولها كلياً. ولنضرب على ذلك مثلاً محدداً كنا قد اوردناه في العدد الثاني من مجلة (حق), وهو مثال قوى الحلفاء في الحرب العالمية الثانية. فقد كانت تلك القوى مختلفة اختلافات تناحرية حول كل شيء تقريباً. ولكنها اتفقت على شيء واحد فقط هو مواجهة ودحر النازية والفاشية, باعتبارها تمثل تهديداً ماحقاً لهذه القوى جمعاء. كان اتفاق هذه القوى على هزيمة النازية, هو الحد الأدنى الذي توصلت إليه, أي أن خلافاتها حول النظم الاقتصادية والسياسية والفكرية وحول الهيمنة العالمية.. الخ الخ, بقيت كما هي. ولكن اتفاقها حول هزيمة النازية كان اتفاقا بنسبة 100%, وعملها من أجل تحقيق هذا الهدف كان يستغرق كل جهدها ويستنفد كل طاقاتها. ومن هنا توفرت الثقة, وحسن النوايا, وتم التنسيق, وبذلت المساعدات المختلفة من هذه الدول لبعضها البعض, واستطاعت خلال أقل من أربع سنوات من هذا التحالف أن تحقق الهدف وتهزم النازية.
التجمع الوطني الديمقراطي قام على مفهوم مغلوط لمفهوم الحد الأدنى, وفسره على أساس أنه يعني الإتفاق على جميع القضايا, ولكن بنسبة 10% بالنسبة لها جميعاً. وهذا يعني أن أياً من هذه الأطراف لن يبذل كل الجهد لخدمة اية قضية من القضايا موضوع الإتفاق, بل سيكون السائد وسط قواه هو التآمر وسؤ النية. وهذا لا يمكن أن يكون أساساً سليماً لأي عمل مشترك. ونحن نلمح في الحقيقة هذا المنحى السطحي في التعامل مع جميع القضايا السياسية من قبل الساسة السودانيين. فهم يستعيرون شعارات من سوق الشعارات العالمي دون هضم لها ودون استبانة لأبعادها جميعاً, ويطبقونها بهذه الطريقة الفاسدة, فيفسدون الوعي ويشيعون الأمية السياسية التي تساعدهم, في اعتقادهم, على تسهيل مهمتهم في قيادة الشعب, غير عابئين بأنهم إنما يقودونه إلى التيه والكارثة. وإذا بحثنا عن تلك القضية التي اتفقت عليها قوى التجمع بنسبة 100% فاننا لن نجدها مطلقاً. وهذا يعني ببساطة أن التجمع قام على أساس مختل وما كان بإمكانه أن يحقق نتائج ذات شأن وخطر.
العمل العسكري كان يمكن, من الناحية الفنية البحتة, ومن ناحية القوة البشرية والسند الإقليمي أن يسقط السلطة. وقد حدث أن اطلعنا على خطط كانت كفيلة بتوصيل المعارضة إلى السلطة في ظرف وجيز الى أقصى مدى. ولا ننسى أن السلطة كانت وما تزال محدودة الإمكانيات العسكرية ومعزولة سياسياً داخلياً وإقليمياً وعالمياً, وكانت كل الرياح تهب في أشرعة التجمع الوطني الديمقراطي. ولكن عندما حانت لحظة الحقيقة, تقاعس بعض القادة وخرج آخرون من التجمع كلية. وهناك الكثيرون الذين كانوا يقولون أن العمل العسكري ما كان من الممكن مطلقاً أن يصل إلى الخرطوم, وقد كان هؤلاء مخطئين تماما. ونحن نتحدث هنا من الناحية الفنية البحتة. ولكن ما هزم العمل العسكري لم يكن هو استحالة بلوغه الخرطوم من حيث المبدأ، ولكن ما هزمه كان هو أن القوى الأساسية في التجمع لم تكن جادة في الوصول بهذه الاستراتيجية الى نهاياتها المنطقية لأنها لم توافق عليها إلا مضطرة, ولم توافق عليها إلا في حدود معينة كما أسلفنا.
لم يكن التجمع قادراً على تعبئة جماهير الشعب لعدة أسباب. منها أسباب تكوينية باعتماده على صيغة التمثيل الحزبي كصيغة وحيدة. وإذا كانت أغلب الجماهير إما غير حزبية وإما فقدت ثقتها بقيادات هذه الأحزاب, فإننا يمكن أن نفهم لماذا ظل التجمع مغلقاً بصورة اساسية أمام الجماهير ومغترباً عنها غربة ظلت تتعمق مع كل صبح جديد, حتى وصلت الى درجة القطيعة الكلية, والإعراض الكريم, أو المتقزز. ولا تتوقف المسألة عند حدود أن أغلبية الجماهير كانت خارج هذه الأحزاب, بل تمتد إلى أن قيادات هذه الأحزاب كانت هي سبب الأزمة التي يعاني منها السودان اليوم, وكانت قيادات مفلسة وغير أهل للثقة. وقد أهدرت الثقة المشروطة التي أعطاها الناس لها في الأيام الأولى واهدرتها إهداراً كاملاً. ونستطيع أن نقول كذلك أن هذه الأحزاب لم تكن ترغب أساساً في تعبئة الجماهير, لإنها إن عبأت السودانيين فإنما تعبئهم حول برنامج القضايا المصيرية, وهي التي لا تؤمن بذلك البرنامج كما أسلفنا القول. واذا تمت تعبئة الجماهير حول تلك القضايا فإنما تكون هذه الأحزاب قد ساعدت على أن تفلت الأشياء من يدها عن طريق تجذير تمسك الناس بهذا البرنامج الجديد الذي يمثل نقضاً ونفياً لوجودها. ومن الجانب الآخر فإن القوى التي كانت تؤمن بهذا البرنامج لم تكن لديها القدرة على التعبئة, ولم يكن لديها الخيال لتعرف أن اعتراف هذه القوى بذلك البرنامج كان قصارى ما يمكن أن تصل إليه وأن على القوى المؤمنة به أن تعمد مباشرة الى اللجؤ الى هذه الجماهير وابتداع الأساليب التي تعبئها متخطية الشكل العقيم للتجمع الوطني الديمقراطي.
الجهة الوحيدة التي كانت قادرة على لعب هذا الدور هي الحركة الشعبية لتحرير السودان ولكنها اختارت التحالفات التكتيكية على حساب أية علاقة مباشرة مع القوى التي كانت مؤمنة حقاً بالأهداف التي أجازها مؤتمر أسمرا 95, وحتى عندما حاولت أن تمد يدها الى هذه القوى فإنما فعلت ذلك من مواقع الهيمنة ومن خلال الصيغ العسكرية وحدها دون سواها. وهكذا تتضح مقاتل " أوسع معارضة في تاريخ السودان" التي كان أفضل منها معارضة أضيق قاعدة ولكنها منسجمة ومتفقة اتفاقاً صادقاً على القضايا الأساسية. والواقع أن تلك المعارضة لو كانت في السلطة, وكانت تقف في مواجهتها قوة صغيرة مثل الجبهة الإسلامية القومية, ولكنها قوة متماسكة ومصممة على القتال من أجل الأهداف التي تؤمن بها, مثلما كان عليه الأمر بالنسبة للجبهة الإسلامية , فإن تلك القوة كانت كفيلة بهزيمتها. ولماذا نلجأ هنا إلى الإستنتاجات, فهذا هو ما حدث بالفعل في يونيو 1989, اذ كانت كل هذه القوى حاضرة ومشاركة في السلطة ما عدا الحركة الشعبية. ولعله ينبغي لنا, وقد سقنا هذه النقاط, أن نوضح نقطة ربما تؤدي الى بعض التشويش. وهي النقطة المتعلقة بتكوين التجمع الوطني نفسه, هل كان صحيحا أم لا؟ أعتقد أنّ توحيد كل القوى المعارضة للنظام, ومهما كانت درجة معارضة تلك القوى للنظام, كان موقفاً صحيحاً. ولكن القوى الأكثر جذرية في معارضتها للنظام ما كان ينبغي أن تسمح لنفسها بالغفلة عن حدود معارضة تلك القوى, وما كان لها أن تضحي بوحدة القوى الجذرية في عدائها للنظام, من أجل إقامة تحالفات تكتيكية ومنافقة, طال أجلها أم قصر. وما كان ينبغي كذلك أن تضحى هذه القوى بعلاقاتها المباشرة بالجماهير للمحافظة على الصيغة العجفاء والعقيمة, والوحيدة الجانب, المتمثلة في التركيبة الحزبية البحتة للتجمع. وانطلاقاً من هذه المفاهيم والاعتبارات ذاتها رفعنا نحن شعار وحدة القوى الجديدة, وفشلنا في تحقيقه لأسباب شرحناها من قبل وسنتعرض لها باختصار لاحقاً."
النقاط الرئيسية والجوهرية في حديث الأخ الخاتم هي:
*/ أن ما سمي بأوسع معارضة في تاريخ السودان أخفقت في تحديد مفهوم الحد الأدنى والذي يعني القضية أو القضايا التي يتفق عليها جميع الحلفاء إتفاقاً كاملاً وبنسبة 100% ، وتبنت بدلاً من ذلك مفهوماً يعني الإتفاق على عدد أكبر من القضايا ولكن بنسبة اتفاق ضئيلة جدا، مما أدى في النهاية إلى أنه لم يكن هناك اتفاقاً أصلاً حول أي من القضايا .
*/ أن عدم اقتناع المعارضة بأي من الأهداف التي زعمت أنها برنامجها وأنها متفقة عليها، هو الذي منعها من تعبئة الجماهير حول تلك الأهداف وأدى إلى إخفاقها الكامل في نهاية الأمر، وهو الذي سمح لعصابة صغيرة متفقة تماماً حول أهدافها ومصممة على القتال في سبيل تحقيقها بالانتصار على أوسع معارضة.
*/ أن القوى المؤمنة تماماً بالقضايا المصيرية والتي كان مناطاً بها أن تبني، داخل إطار المعارضة الواسعة، تحالفاً استراتيجياً أوثق وأعمق حول تلك القضايا وتعبئ الجماهير حولها، اختارت أن تغلب تحالفاتها التكتيكية العابرة على التحالف الاستراتيجي، أو تناقضاتها الثانوية على اتفاقاتها الجوهرية، مما جعلها أضعف من أن تكتسب ثقة الجماهير وأوهن من أن تتمكن من تعبئتها وقيادتها .
ما يمكننا أن نضيفه لحديث الأخ الخاتم ولو على سبيل التوضيح هو أنه لو كان قد تأتى لتلك القوى الأكثر جذرية في معارضة النظام والمتفقة تماماً حول برنامج أسمرا 1995 أن تطور تحالفاً استراتيجياً حول تلك القضايا وتعبئ الجماهير حولها وتخلق بالتالي وتعزز صيغاً جديدة ومتعددة لاستيعاب الطاقات اللامحدودة للجماهير فلربما كان من شأن ذلك أن يدفع التجمع الوطني الديمقراطي دفعاً، رغماً عن قياداته، لاكتساب المزيد من الفعالية والكفاءة لإنه كان سيؤدي إلى :
*/ إنقشاع الخداع و إلغاء الشعارات الطنانة والضبابية حول حقيقة القضايا التي يتفق حولها الحلفاء، فالقوى الأكثر جذرية في المعارضة ما كانت ستكون في حاجة لدفع القوى التقليدية ولا هذه الأخيرة كانت ستضطر لتبني مواقف لا تؤمن بها حقيقة، وكان التجمع سيصبح وعاء صالحاً لبرنامج الحد الأدنى، بينما ستكون للقضايا الأخرى أوعيتها وأجهزتها المناسبة.
*/ رفع سقف برنامج الحد الأدنى ذاته شيئاً فشيئاُ باضطراد انخراط أعداد متزايدة من الجماهير المستقلة عن الأحزاب في النضال ومشاركتها الفاعلة في النشاط، مما كان سيمنح القوى الإصلاحية والأكثر تقدماً داخل الأحزاب التقليدية وزناً أثقل وقدرة أكبر على فرض أجندتها ونيل تنازلات مؤثرة من قبل قيادات تلك الأحزاب والتي ستدرك أيضا شيئاً فشيئاً أن مراكزها قد تهتز بالتمسك الأصم بمصالحها الشخصية والضيقة.
*/ إن فهم واستيعاب تلك المتغيرات هو الذي يعيننا على تكوين التحالف الواسع الذي ندعو له وعلى تعزيز فعاليته وترقية مضمونه وأهدافه وبرامجه، أي أن ننظر إليه من منظور دينامي متحرك لا من جلمود صخر "ثابت" عل.
*/ إن التحالف الواسع يقوم على اتفاق الحد الأدنى وهو هزيمة المؤتمر الوطني في الانتخابات القادمة، هزيمة المؤتمر الوطني لا أكثر ولكن أيضا لا أقل بما في ذلك أن المؤتمر الوطني لن يفلت بجرائمه، فمحاسبة المتورطين في الجرائم ضد الانسانية وانتهاك حقوق الانسان والفساد ونهب أموال الشعب هي المعيار بين من يرغبون في هزيمة المؤتمر الوطني ومن يسعون إلى الضغط عليه. إننا نعتقد أن أي سقف أعلى من هذا الهدف لن يسمح بخلق تحالف واسع متفق بصورة كاملة حول قضيته، إتفاقاً قوياً وحازماً يمنحه الفعالية اللازمة لإنجاز مهمته ، وسيعيد سيرة اتفاق التجمع الأولى التي أوفى الأخ الخاتم في شرح مثالبها ، فلا حزب الأمة سيكون صادقاً إن وافق على فصل الدين عن الدولة، ولا الإتحادي الديمقراطي سيكون أميناً لو وافق على فصل الطائفة عن الحزب. وفي نفس الوقت فإن أي هدف أدنى من هزيمة المؤتمر الوطني في الانتخابات هزيمة تقصيه عن السلطة هو هدف بلا معنى ولا يحتاج إلى من يناضل من أجله. ولكي نكون واضحين تماماً، فإن من يسعون إلى مشاركة المؤتمر الوطني في السلطة أو من يسعون إلى وراثته لا مكان لهم في هذا التحالف.
يضاف إلى شرط الاتفاق على الحد الأدنى الواضح والذي يجمع عليه الكل ظاهراً وباطناً، ضرورة تخطي التحالف وتجاوزه للنقائص المرتبطة بالصيغة وحيدة الجانب القائمة أساساً على الأحزاب، بابتداع صيغ تكفل مشاركة الغالبية العظمى من قطاعات الشعب والغير منظمة حزبياً. في هذا الإطار تشكل تجربة تحالف أبناء مزارعي الجزيرة والمناقل تجربة جديرة بالاهتمام والدراسة. أيضاً هناك العديد من المبادرات التي طرحت في سياق النضال ضد نظام الإنقاذ مثل مبادرة لجان الانتفاضة والتي طرحها بعض المنضلين في بدايات العمل لإسقاط نظام الإنقاذ ولكنها أهملت لمصلحة الصيغة الحزبية.
في سياق صياغة برنامجنا الإقتصادي طرحنا فكرة تكوين لجان الحقوق الشعبية وهي تقوم أساساً على حقيقة أن اهتمام منظمات حقوق الانسان السودانية وغيرها بقضايا الحقوق السياسية والمدنية قد أدى إلى غض الطرف عن الحقوق الاجتماعية والاقتصادية للمواطنين. وحيث أن حقوق التعبير والتنظيم في مجتمع كمجتمنا، حيث تسود الأمية والجهل وتحتقر الحياة وتنتشر الأوبئة والأمراض والمجاعات ويقبع الملايين من النازحين في الخيام أو بلا غطاء أو مأوى ويروح مئات الآلاف من الأطفال ضحية التشرد، تصبح في نظر أولئك الملايين من المسحوقين والمحرومين ترفاً لاغير، فإننا نسعى لإنشاء وتطوير لجان الحقوق الشعبية، جهازاً للنضال من أجل توفير تلك الحقوق ولممارسة الرقابة الشعبية على مستوى القرية والحي السكني وكبديل ديمقراطي للجان الشعبية التي أنشأتها الانقاذ أداة لممارسة القمع والفساد على أدنى مستوى. إننا لانستطيع وأيضاً لا نرغب في حصر وتحديد الصيغ التي تبتدعها الجماهير، ولكن المطلوب أن نكون مفتوحي الذهن تجاه كل الصيغ والتي ستمتحن وتبرهن جدواها من خلال التجربة العملية والنضال دون أن نقطع مسبقاً بفشل أو نجاح أي منها.
وإذا كان من الضروري دراسة تجربة التجمع الوطني الديمقراطي دراسة وافية وأمينة موضوعية، كما أشرنا من قبل، واستخلاص كل الدروس والعبر، فمن الضروري أيضاً أن ندرس بعناية تجارب الحركة الجماهيرية في معاركها المطلبية المختلفة وغيرها ضد النظام وفي هذا الإطار تشكل تجارب انتخابات المحامين وإتحاد مزراعي الجزيرة والمناقل والنقابات الأخرى تجارباً مهمة لابد من تمحيصها بدقة واستكناه إيجابياتها للبناء عليها وسلبياتها لتفاديها. بالتأكيد هناك أسباب عديدة لفشل الحركة الجماهيرية في هزيمة المؤتمر الوطني في تلك المعارك، ولكن من بين كل تلك الأسباب تبرز حقيقة جوهرية وهي أن قناعة الجماهير بفشل المؤتمر الوطني وفساده وإجماعها على بغضه وكراهيته ليسا كافيين لتحريكها إيجابياً ضده، بل لابد من حافز إيجابي يقود تلك الجماهير ويدفعها لمواقع العمل الجاد للتخلص من وطأة الإنقاذ.
هزيمة المؤتمر الوطني لن تتحقق بمجرد تكوين ذلك التحالف ولن تكون خبط عشواء، إنما ستكون نتيجة تخطيط علمي دقيق يقوم على المعلومات والاحصاءات الممحصة والتي لا تترك شاردة أو واردة، وتنظيم محكم يقوم على تحديد المهام والواجبات وتوزيع الأدوار والمسئوليات وتوفير التمويل وبناء الأطر والهياكل وإعداد الوسائل واختيار وتطوير القيادات، ورقابة ومراجعة لصيقة ومستمرة ورصداً دقيقاً وصادقاً للنجاحات والاخفاقات واستكشافاً لمواقع الخلل ومواطن القصور لتصحيحها من خلال المحاسبة والشفافية. هذه العملية هي مجال للامتحان المستمر لقوى هذا التحالف ومدى جديتها والتزامها بهدف التحالف وصدقها وحرصها على ونجاحها في القيام بواجباتها. و من خلالها أيضا ستكون النتائج في كل موقع، وليس الإسم أو الحجم أو النسب، هي التي تحدد الجدارة بالقيادة .
في داخل ذلك التحالف الواسع تبني القوى الأكثر جذرية، القوى الجديدة وقوى السودان الجديد، تحالفها الأوثق والأعمق والاستراتيجي. برنامج هذا التحالف وصيغته، أو صيغه المتعددة، سنتعرض لها في حديثنا عن تطورات عملنا على صعيد توحيد القوى الجديدة. ما يهمنا هنا هو علاقة هذا التحالف الأوثق بالتحالف الواسع ودوره داخله. لقد كان من أبرز الحجج التي تذرع بها بعض تنظيمات اليسار والقوى الجديدة ممن كانوا أعضاء في التجمع الوطني الديمقراطي في معارضتهم نشؤ أي تحالف جذري ضد السلطة هو أن مثل هذا التحالف سيثير ضدهم القوى التقليدية داخل التجمع وقد يؤدي إلى انهيار التجمع ذاته وهو الوعاء الأهم. لقد كنا دواما ضد تلك الحجة وقمنا بتفنيدها في كل مرة طرحت وقد أثبتت الأحداث التالية كلها صواب رأينا إذ أن التجمع الوطني الديمقراطي انهار تماماً لوحده ولأسباب أخرى دون أن يكون في حاجة لقيام ذلك التحالف الاستراتيجي الذي كنا ندعو له، بل وبالعكس تماما، وكما كنا نرى فإن أحد أهم عوامل انهيار التجمع كانت هي غياب ذلك التحالف الاستراتيجي. لقد كان رأينا على الدوام أن تلك الحجة ليست سوى ذريعة واهية وبائسة ، بل هي حجة مردودة تفتقر إلى الصدقية تماماً. إننا إذ نعاود دعوتنا لبناء تحالف القوي الجديدة وقوى السودان الجديد ليلعب دوراً مركزياً في التحالف الواسع، نفعل ذلك بشفافية تامة، لا تآمراً أوغدراً، إن أهدافنا ومصالحنا طويلة الأمد هي غير أهداف وبرامج القوى التقليدية طويلة الأمد، بل هي في واقع الأمر مناقضة لها. وإن تحالفنا الواسع معها هو لهدف آني محدد ولفترة زمنية محددة، إلا إن اختارت هي أو أجزاء منها المضي معنا لتحقيق أهداف مشتركة أبعد مدى وأكثر عمقاً. لو قلنا غير ذلك ولو حاولنا أن نقنع تلك القوى بأن تحالفنا معها سرمدي ومصيرى فإنما نحاول خداعها وهي أكثر ذكاء في فهم مصالحها من أن تصدقنا.
إننا نعتقد أن وجود الحركة الشعبية بقوامها الكامل أو من خلال تنظيمها في الشمال في هذا التحالف الاستراتيجي له أهمية جوهرية لاعتبارات عدة تتجاوز مسألة الحجم والوزن، المهمتان أيضا، إلى ما يعنيه ذلك من مواصلة لنضالها من أجل وحدة السودان على أسس جديدة .
في إطار التحالف الواسع لهزيمة المؤتمر الوطني سيتمثل دور هذا الحلف الاستراتيجي بصورة رئيسية في:
*/ الاتفاق على مرشح قوى السودان الجديد لرئاسة الجمهورية والمرشحين للمناصب الأخرى وممثليه للهيئة التشريعية.
*/ جعل هدف هزيمة المؤتمر الوطني أملاً محفزاً وهدفاً مجدياً ومقنعاً وجذاباً للجماهير باعتباره بداية لهزيمة دولة الجبهة القومية الاسلامية.
*/ فضح مؤامرات المؤتمر الوطني الانفصالية بانتهاكاته اتفاقية السلام الشامل وإبراز وتعزيز موقف شمالي قوي رافض لتلك الانتهاكات.
*/استقطاب الجماهير العريضة غير المنتمية للأحزاب من خلال ابتداع صيغ كفيلة باجتذابها لمواقع النشاط وأشكال متجددة للعمل تستثمر طاقاتها وامكاناتها وتسخر فعاليتها .
*/ ترسيخ الوجود الفعال والملموس للتحالف على المستوى القاعدي وهو المستوى الذي يستوعب مبادرات الجماهير ويطلق إسار فعاليتها في العمل اليومي المباشر ويكون خزانا لتراكم الخبرة النضالية.
*/ دفع قيادة التحالف لترقية مستويات الأداء باستمرار وإلى تبني الروح الوطنية وأساليب العمل الجماعي وتغليب المصلحة الوطنية وإلى النأي عن الروح الحزبية الضيقة والتناحر حول الزعامة الفردية .
*/ التنسيق لأقصى مدى مع قوى السودان الجديد في جبهات نضالها في دارفور والشرق، وتوفير الأطر الكفيلة بمساهمتها في العمل السلمي لإسقاط وهزيمة المؤتمر الوطني في الانتخابات.
أخيراً، فإن ديناميات هذا التحالف ستدعم بعوامل عدة جزء منها مرتبط بمنهجنا وتكتيكاتنا في العمل وجزء سيفرض علينا من خلال المعركة مع المؤتمر الوطني وتشمل تلك العوامل :
أولاً، الدعوة لتكوين التحالف الواسع لهزيمة المؤتمر الوطني يجب ألا تكون دعوة بالبطاقات للزعامات السياسية والأحزاب والمنظمات ولا حواراً ونقاشاً داخل الغرف المغلقة، وإنما دعوة شعبية عارمة ننشرها على أوسع نطاق مستخدمين في ذلك كل ما نصل إليه من أجهزة ووسائل إعلام . يجب أن تكون الدعوة في حد ذاتها محوراً لنشاط سياسي فوار وفعال ينتشر في كل مكان وكل موقع، بالكتابة في الصحف وعبر الانترنت، في أروقة الجامعات والمعاهد والمدارس الثانوية، بإصدار المنشورات وإقامة الندوات، ثم بدعوة الأحزاب والتنظيمات السياسية وتنظيمات المجتمع المدني. إن الدعوة في حد ذاتها تمكّن في إطار ذلك التحرك الشعبي الواسع من بناء إطار تنظيمي قادر على دفعها وإحداث الضغوط المطلوبة للاستجابة لها وفي المساعدة على صياغة الحد الأدنى المقبول لبرنامج التحالف ذاته .
ثانيا ، النشاط والعمل لهزيمة المؤتمر الوطني لا ينتظر قيام ذلك التحالف، بل هو عملية تبدأ فوراً مهما كان صغر حجم القوى المستعدة للمبادرة، ثم تتطور وتتوسع وتتصاعد، وفي ثنايا ذلك تفصح المبادرة الشعبية عن مكنونها الغني والثري فتخلق منظماتها وهيئاتها المستقلة، وتنجب وتفرز قياداتها وتنظم نفسها بمختلف الأشكال حول مختلف القضايا وفي كل الصعد والمحاور ذات الصلة بالهدف. ويجب أن ننظر لوحدة القوى الجديدة، بما في ذلك الحركة الشعبية وقوى الهامش، كخطوة أولى في هذا التحالف.
ثالثاً، يشكل النشاط والعمل لهزيمة المؤتمر الوطني فرصة ليس فقط لاستعادة أمجاد نضال الشعب السوداني ضد الدكتاتوريات، وإنما أيضا لتمجيد شهداء وأبطال النضال ضد الإنقاذ، كل الشـهداء في مختلف الجبـهات ومن مختلف القوى، كل ضحايا التعذيب وبيوت الأشباح، آلاف المعتقلين والمفصولين، كل الذين ضاعت أسماؤهم وانمحت صورهم نعيدهم للحياة من خلال هذا النشاط ليس فقط تذكيرا بجرائم الإنقاذ ولا دعوة للقصاص، وإنما تثبيـتاً لكون الشعب لا ينسى أبطاله وشهدائه وتعظيما لقيم التضحية والفداء.
رابعاً، النشاط والعمل لهزيمة المؤتمر الوطني يتم في ظل دولة لا زالت تحتفظ بطبيعتها القمعية، ولا زالت رغم اتفاقية السلام الشامل والدستور تحتفظ بذات أجهزتها ووسائلها وممارساتها القهرية، لا زالت ترتجف عند أدنى تحرك شعبي فتكشر عن أنيابها لتواجهه بأعتى الأسلحة، لا زالت تمنع التجمعات حتى لإفطار رمضان كما حدث مع طلاب دارفور. لذلك فإن ذلك النشاط سيكون ساحة صدام عنيف ومتواصل مع المؤتمر الوطني، سيستخدم فيها أجهزة أمنه ومليشياته. لذا يصبح من الضروري جدا أن يتمتع ذلك النشاط بصلابة نضالية وعزيمة بطولية ولابد من أن يبتكر أساليب ووسائل ناجعة وفعالة في مواجهة القمع تفضحه وتحاصره، بحيث يتحول القمع سلاحاً ضد ممارسيه وحبلاً حول عنقهم. لابد من تطوير وإنشاء المنظمات القانونية والاعلامية وغيرها التي تساند المناضلين وتؤمن لهم الحماية، كما لابد لهذا النشاط من مساندة دولية فعالة ليس فقط من طرف المنظمات الدولية وإنما أولا من قبل السودانيين في الخارج بتكوين الروابط لمساندة أبطال ذلك النشاط في الداخل.
خامساً، المؤتمر الوطني لن ينتظر هزيمته مكتوف الأيدي، بل سيفعل كل ما في وسعه لإفساد العملية الإنتخابية بالتزوير والغش والضغوط والعنف وغير ذلك. مهم جدا أن يتضمن النشاط والعمل لهزيمة المؤتمر الوطني محاصرته وإفشال مخططاته ووسائله تلك، وحماية العملية الإنتخابية وضمان نزاهتها، وذلك لا يكون بالاعتماد على المنظمات وهيئات الرقابة الدولية والإقليمية فقط، وإنما بتطوير نشاط وهيئات شعبية تتدرب منذ الآن على كيفية الرقابة والحماية. التدريب على رقابة وحماية الممارسة الديمقراطية، والعمـلية الانتخـابية من أهمها، هو تدريب على الممارسة الديمقراطية نفسها.
من خلال مثل ذلك النشاط المتشابك والمتنوع تتصاعد حملتنا لتكوين التحالف الواسع لهزيمة المؤتمر الوطني، وتكثف من ضغوطها على القوى السياسية للمشاركة في ذلك التحالف، كما تتمكن من تحسين برنامج ذلك التحالف وترقيته ليلبي طموحات الجماهير.
برنامج التحالف
إذا كان تشكيل ذلك التحالف الواسع يثير ذلك القدر من الأسئلة فإن برنامجه سيطرح أسئلة أكثر وأعمق وقضايا أعقد وأخطر. أعتقد أن علينا التصدي لهذا الموضوع بقدر أكبر من الوضوح. كلما اتسع التحالف
(1) قلت القضايا التي يجمع عليها المتحالفون و
(2) قلت نسبة الإتفاق حول القضايا التي أجمع عليها المتحالفون.
هل نسعى لتوسيع التحالف خصما على شمول البرنامج وجاذبيته وتلبيته لمصالح الجماهير، أم سنطرح وننادي ببرنامج جذري شامل خصما على اتساع التحالف ؟ إن الوصول للمعادلة السليمة والصائبة التي تمكننا من تكوين أوسع تحالف سياسي ببرنامج يحدث تغييرا حقيقيا وإيجابيا في حياة الناس، يستنهض عزيمتهم ويحفزهم للنضال في سبيل إنجازه وتحقيقه، أمر صعب وعسير. إننا بحاجة إلى قدر كبير من الخيال والإبداع والابتكار لحل تلك المعادلة، وفي ظني أن الحل لن يكون عبر مدخل واحد وإنما عبر مداخل وأقنية وأصعدة مختلفة نعمل فيها وعبرها كلها في تناسق وانسجام لبلوغ ذلك الهدف .
إن ملامح برنامج هذا التحالف ترسمها مهام الفترة الانتقالية التي حددتها اتفاقية السلام الشامل CPA و التي تحاول الحكومة إفراغها من محتواها، وتسويف وتعويق تنفيذها، كما اتضح من مسألة استحواذ المؤتمر الوطني على أهم الوزارات وتقطيعه لأوصال الوزارات الأخرى التي تنازلت عنها للحركة الشعبية. ستتنصل الحكومة من التزاماتها، وعلى ذلك فإن من أهم أجندة البرنامج هو مراقبتها و فضحها وكشف تآمرها، والتأليب عليها.
هزيمة المؤتمر الوطني ليست هدفاً سلبياً كما يبدو من صياغتها. إنها هدف ذاخر بالمعاني الإيجابية فشعبنا الذي ظل طيلة ستة عشر عاماً يتجرع الهزائم من الإنقاذ يستحق فرصته في أن يرد الصاع صاعين ويستحق فرصته أن يتذوق طعم الانتصار أخيرا. هزيمة المؤتمر الوطني هي شعاع الأمل الذي "يعطي للشعب معنى أن يعيش وينتصر"، ويفتح الأبواب لمزيد من الانتصارات، ولإزالة كل قوانين وممارسات وسياسات الإنقاذ. هزيمة المؤتمر الوطني هي شارة وبشارة استعادة الإنسان السوداني كرامته الإنسانية التي سحقتها الإنقاذ وجردته منها ومن حقوقه كافة وأذلته وامتهنته واحتقرته وقمعته وأفقرته وجوعته وأجهلته وأمرضته و شردته .
هزيمة المؤتمر الوطني كحزب في الانتخابات تترسخ بهزيمة الانقاذ كدولة من خلال تنفيذ برنامج التحالف الذي يقدمه للشعب، ويلتزم بتنفيذه تحت الرقابة المستمرة والضاغطة والفاعلة من الهيئات والتنظيمات الشعبية التي خلقت أثناء الحملة لهزيمة المؤتمر الوطني. هذا البرنامج يجب أن يتضمن في حده الأدنى من وجهة نظرنا :
ايقاف النزاع المسلح في دارفور والشرق وتعميم السلام ليشمل كل أرجاء البلاد بتضمين المطالب العادلة لمواطني دارفور والشرق في صلب برنامج التحالف.
التعاون الكامل مع المجتمع الدولي وهيئاته في التحقيق مع وتسليم المطلوبين في الجرائم ضد الإنسانية في دارفور.
تطوير اتفاقية السلام الشامل بتصحيح نقائصها التي فرضها وجود المؤتمر الوطني كطرف مفاوض وشريك في السلطة وبمحو ما يكرس الإنفصال، كاختلاف مصادر التشريع، وتعزيز ما يرسخ خيار الوحدة، وبإزالة مظهرها الثنائي لتصبح اتفاقية قومية مظهرا ومضمونا.
إلغاء حالة الطوارئ في كل أرجاء الوطن، وإلغاء جميع القوانين المقيدة للحريات والمهينة للكرامة البشرية وتمهيد الطريق للتحول الديمقراطي الحقيقي.
التحقيق في كل جرائم التعدي على حقوق الإنسان والتعذيب وتقديم كل المتهمين فيها للمحاكمة العادلة.
إعادة تكوين القوات النظامية وأجهزة الأمن بما يضمن ويكفل قوميتها وإعادة صياغة اختصاصاتها ودورها لتكون مسئولة عن الدفاع عن الوطن وسيادته ضد التغولات الخارجية فقط.
إعادة تكوين أجهزة الخدمة العامة لكفالة قوميتها وحيدتها ونزاهتها وشفافيتها وإعادة المفصولين عن العمل أو تعويضهم التعويض العادل.
التحقيق في كل جرائم الفساد والثراء غير المشروع وتبديد ونهب أموال الشعب وأصول الدولة وتقديم كل المتهمين للمحاكمة العادلة واستصدار القوانين الضرورية لكفالة شفافية الآداء الاقتصادي والمالي لجهاز الدولة.
ضمان قومية وحيدة أجهزة الإعلام القومية وديمقراطية قانون الصحف.
توفير شروط الكرامة الإنسانية للنازحين وتوطينهم أوإعادة توطينهم طوعياً وتحسين نوعية معيشتهم بتوفير الخدمات الصحية والبيئية والتعليمية لهم.
تخفيض الضرائب وإلغاء التعسفي منها وربطها بالخدمات وسد ثغرات تهرب الأثرياء منها.
توفير الرعاية والخدمات الصحية للمواطنين وفق نظام تكافلي يضمن مجانيتها للمحتاج والرسوم الرمزية أو المعقولة لمن يستطيع.
تطبيق مجانية التعليم الإلزامي وتحسين نوعية التعليم وترقيته مناهجاً وخبرات وإدارة وتوجيهه وطنياً وإنسانياً.
إتخاذ إجراءات جادة وفعالة لدعم السلع ولمحاربة الفقر وتوطين النازحين.
هل سيقبل المؤتمر الوطني هزيمته في الانتخابات؟
كما ذكرنا من قبل فإن المؤتمر الوطني لن ينتظر هزيمته مكتوف اليدين. لذا ونحن ندعو لتحالف واسع وعمل منظم وجـاد لمنازلة المؤتمر الوطني وهزيمته في الانتخابات القـادمة، لابد أن نضع في حساباتنا رد فعل المؤتمر الوطني في مرحلتين، المرحلة الأولى هي رد فعل المؤتمر الوطني أثناء الحملة لإسقاطه، كيف سيتعامل مع القوى السياسية الساعية لهزيمته في الانتخابات؟ كيف سيواجه خططها وحملاتها وعملها؟ وكيف سيحصن نفسه ضد الهزيمة؟ والمرحلة الثانية هي كيف سيكون رد فعل المؤتمر الوطني في حالة هزيمته في الانتخابات؟ هل سيقبل بالهزيمة ويسلم السلطة وفق القواعد الديمقراطية؟ هل سيرفض نتائج الانتخابات ويرفض تسليم السلطة وكيف سيفعل ذلك وماهي أدواته ووسائله للحفاظ على السلطة في حالة هزيمته في الانتخابات؟ وأخيراً ما هي السيناريوهات المحتملة لتحرك المؤتمر الوطني في حالة هزيمته في الانتخابات ونتائج وانعكاسات تلك السيناريوهات؟ إننا نعتقد جازمين بأن العمل لهزيمة المؤتمر الوطني دون الإجابة الشافية والمكتملة على تلك الأسئلة هو نوع من الاستهتار السياسي الشائن ذي النتائج الكارثية.
إن أهمية الإجابة على تلك الأسئلة لاتقتصر على كونها تحدد إلى حد كبير صيغ التحالف الذي نسعى له ووسائل وتكتيكات وأساليب وخطة عمله فقط، وإنما لكونها تحدد مدى الاستعداد الذي نحتاج إليه في التصدي لهذه المهمة. حزب المؤتمر الوطني لم يصل إلى السلطة بوسيلة ديمقراطية ليتركها عن طريق صناديق الاقتراع. قد يقول قائل أن هناك أنظمة شمولية وديكتاتورية انقلابية كثيرة سلمت السلطة وتركتها سلماً ، وذلك صحيح، غير أن طبيعة السلطة التي أوضحناها سابقا والمستندة إلى أحقيتها الإلهية في الاحتفاظ بالسلطة هي غير طبيعة تلك الأنظمة التي سلمت الحكم سلماً. إن جماعة الانقاذ تعتقد تماماً أنها استولت على السلطة تنفيذاً لواجب شرعي ولذا فإن معارضيها ليسوا سوى كفرة واجب قتالهم، وأن استمرارها في السطة هو امتثال لذلك الواجب الشرعي. إنها كما يقول المناضل الخاتم عدلان في ورقته في أبريل 2002 محللاً:
" هل تنطبق ظاهرة القداسة وجدلياتها على الجبهة الاسلامية؟ اعتقد انها تنطبق من عدة نواح, وخاصة في اطار العلاقة بين الحركة ككل والمجتمع الذي تعيش فيه, والذي تراه مجتمعاً جاهلياً, او مفتقراً للقداسة افتقاراً كلياً. ونجد انفسنا هنا امام احتكار كلي للمقدس. وبقدر ما تكون هذه الظاهرة متجذرة في الحركة السياسية المحددة بقدر ما يكون عداؤها للمجتمع, وبقدر ما تكون قسوتها النازعة نحو التنكيل والسحق والاهانة. وإذا كان هناك تقسيم للقداسة اقرب الى "العدالة" في داخل الجبهة, فانما ليعينها على مواجهة مجتمع جردته تماما من ذلك وجعلته موضوعاً مرشحا للسحق."
بذلك الفهم سيقاتل المؤتمر الوطني حملة هزيمته في الانتخابات وإزاحته من السلطة وسيفعل ذلك من خلال :
- الاتفاق مع الحركة الشعبية لتحرير السودان، في ظل سيادة وتمكن التيار الانفصالي داخلها، على تعديل الدستور ذاته وإلغاء الانتخابات تحت أي ذريعة، علماً بأن الشريكين يملكان الأغلبية التي تمكنهما من تعديل الدستور.
- ضرب الحملة في مهدها وذلك بشهر سيوف الإرهاب والقمع من اعتقالات وسجون وتعذيب على المبادرين بها وعلى البؤر القادرة على الدفع بها ونشر جو من الرعب بهدف تخويف وتهديد الجماهير لمنعهم من الالتحاق بها.
- التركيز على منعة نظام الانقاذ وعصيانه على الهزيمة باستعراضات القوة وشن حرب نفسية لإقناع الجماهير باستحالة تحقيق الهدف.
- بذل بعض التنازلات لقيادات الأحزاب التقليدية بإقناعها أن عصفوراً في اليد خير من ألف طائر واللعب على التناقضات بين أطراف التحالف ومحاولة فركشته وهدم الثقة بينها عن طريق الاختراق .
- شن حملة اعلامية شرسة تدمغ المعارضين بالعمالة لقوى الاستكبار العالمي، التي ستراقب الانتخابات، وأن هناك مؤامرة لهزيمة التوجه الحضاري واقتلاع الإسلام.
- وضع قواعد وصياغة إجراءات العملية الانتخابية ذاتها بما في ذلك تحديد الدوائر وشروط الترشيح والانتخاب والتمويل والدعاية وفقاً لمصلحتهم وبما يؤمن لهم التفوق.
- الممارسات الفاسدة بشراء الأصوات وتزوير التسجيل والتصويت وتعويق العملية الانتخابية في المواقع التي يتوقعون هزيمتهم فيها.
- محاولة رشوة قطاعات واسعة من المواطنين وخداعها بأن المؤتمر الوطني سيوفر لهم خدمات أفضل في مناطقهم.
وبعد ذلك، وإن لم ينجح كل ذلك في الحيلولة ضد هزيمتهم في الانتخابات، فإنهم سيعمدون إلى حرمان الشعب من حصاد نتيجة انتصاره عن طريق الادعاء بأن الانتخابات كانت مزورة، وأن المؤامرة الدولية على السودان والاسلام قد اكتملت، وإشاعة جو من الفوضى والإرهاب ينذر بالحرب الأهلية، ومن ثم تتدخل القوات المسلحة منفذة انقلاب المؤتمر الوطني تحت ستار إعادة الأمور إلى نصابها، معلنة في ذات الوقت التزامها بتنفيذ اتفاقية السلام الشامل فيما يتعلق بحق الجنوبيين في تقرير المصير في نهاية الفترة الانتقالية.
لا ندعي أننا قد حصرنا كل وسائل وأساليب المؤتمر الوطني في محاربة الحملة لهزيمته وفي الانقضاض على نتائجها، وإنما تلك بعض من السيناريوهات المحتملة، دون أن نستبعد ما ظلت عبقرية الجبهة القومية الإسلامية تتفتق عنه باستمرار من وسائل الخداع والتضليل والتآمر. خلاصة الأمر أن الانقاذ ستقاتل بالمعنى الحرفي للكلمة كل من تشعر بجدية سعيه لإزاحتها عن السلطة، وستقاتل بشراسة وبلا هوادة و لا رحمة وحتى آخر نفس، وبالتالي، إن كنا جادون حقا في دعوتنا لهزيمة المرتمر الوطني وإزاحته من السلطة فعلينا استقراء باستمرار ما يعد له المؤتمر الوطني وإعداد التكتيكات المناسبة للتصدي له وإعداد العدة التامة لمعركة شرسة وعنيفة بقدر ما تملك الإنقاذ من شراسة وعنف .
ذلك هو برنامجنا للفترة الانتقالية والذي سنناضل بكل ماأوتينا من طاقة وقدرة لتنفيذه وإنجازه، وإذ نطرحه واجباً على أنفسنا فإننا نطرحه بذات القدر على كل القوى الجديدة وكل قوى السودان الجديد وعلى كل القوى السياسية وعلى جماهير الشعب السوداني في مختلف مواقعها وتنظيماتها لـِتَـبـنـِّـيه والعمل على تنفيذه، وإذ نطرحه على كل هذه القوى فنحن ندرك تماماً أنه قابل للتحسين والتجويد والتعديل والإضافة من أي طرف منها.
|
نقلاً عن موقع الحركة .
| |
|
|
|
|
|
|
Re: مبادرة هالة عبدالحليم بين الجماهير الخائبة والخلايا النائمة والأحزاب الإنتهازية (سيناريو) . (Re: كمال علي الزين)
|
هنالك أربعة مهددات قد تجعل من هذه المبادرة , متسلقاً للإنتهازية والإبتزاز السياسي :
1/ الجماهيير الخائبة وهي جماهير دائماً ما تنتظر نتائج الصراع لترتمي في أحضان الفئة الغالبة ,
وهي هنا تمثلها جماهير الحركة الشعبية في شمال السودان , التي بدأت تتوالد وتتكاثر بعد (نيفاشا) .
2/ الإنتهازية السياسية متمثملة في الأحزاب التقليدية التي إنقسمت على أنفسها بمسميات , مشابهة
للكيان الأم ..
3/ مجموعات الإبتزاز السياسي وهي الحركات ذات الأجندة الجهوية والإثنية , التي إمتدت عبر جهات
البوصلة الأربعة ..
4/ ثم الخلايا النائمة وهي الفئة الأكثر تأثيراً في الإنتخابات ولكنها الأقل مشاركةً وتفاعلاً وربما تشكل
80 % من الشعب السوداني ..
| |
|
|
|
|
|
|
|