حكايات من زمن التايتنك والمشروع الحضارى (1) الفكرة الساذجة التي صدقها المليونير صاحب سفينة التايتنك تقول ان سفينته لن تغرق أبدا ! كانوا يطلقون عليها اسم ( السفينة التى لا تعرف الغرق). لكن صديقى (عارف) يعجبك ويدهشك بمقدرته فى ايجاد العلاقات بين الاشياء والأفكار، فيحدث متشابهات بعد أن يربط بينها ربطا عجيبا.(عارف) من ذلك النوع الذى يكاد يعرف كل شئ، يظل يبحث بين الجزئيات والعناصر حتى يجد العلاقات وأوجه الشبه، ثم يكرس وقته لحشد كل براهينه فيقنعك.قال لى (عارف) وهو يدردق الكلام دردقة هادئة ويصب لى الشاى بالطريقة التى تحرك غريزتى البرمكية قال: يوجد رمز آخر لحكاية تايتنك يكمن فى الطبقية، فهناك ركاب الطبقة الأولى والطبقة الثالثة. (وضع الكوب على التربيزة ) ثم قال: لكن الطبقية لم تسعف ركاب الدرجة الأولى من الغرق.. فغرقوا مع ركاب الدرجة الثالثة!! ثم قال وهو يبتسم ابتسامة جادة حتى يقنعني بعد أن تأكد من استدراج تركيزي واهتمامي: لكن مياه المحيط الأطلنطي الباردة وحيتان القرش كلها أشياء لم تقرأ كتاب الطبقات، فازدردت كونتيسات الطبقة الارستقراطية مثلما التهمت السكارى وحثالة البشر الذين تحصلوا على ثمن تذكرة التايتنك باليانصيب وحلقات القمار.كان (عارف) هو الابن الوحيد لأبيه ويدعى (وصفى) لم أر (وصفى) هذا طيلة عمري العامر، لكن عارف حدثنى عن أبيه فذكر ان حبوبته (عيشة ) وجده (السر ) قد ماتا فى حادث حركة مؤسف. وتزوج وصفى أم عارف من جهات حلايب وتدعى سنية، لكنها اختفت فى ظروف غامضة بعد أن تركت عارفاً وهو فى سن العاشرة. ومن حينها لم يتزوج وصفى وكرَّس حياته لتربية ابنه عارف الذى تخرج فى كلية الهندسة بجامعة الخرطوم. ولم يجد عارف طريقا للوظيفة، لأنه رفض الذهاب الى معسكرات الخدمة الالزامية فقبع داخل منزل أبيه وهو يردد ( أنا رافض عن مبدأ( consciousness Objector ومن زمن طويل ظل عارف وصفى صديقى ومحل سرى، فكما جاء عارف غريبا ململما أطرافه من جهات شمال السودان جنوب مصر كما يظهر اسمه (عارف وصفى) جئت أنا لهذه المدينة من جنوب غرب السودان شمال شرق تشاد وافريقيا الوسطى، فظللت غريب الوجه واليد واللسان. كان شكي يكبر وينمو حول هذه المدينة كل يوم. جلس عارف ثم واصل فى حكايته قائلا: يمكن لأى ناقد تافه أن يدرك ذروة عقدة تايتنك. قلت له : كيف؟ قال: (بعد أن انبسطت أساريره لأن سؤالى يعني تجاوبى مع القصة والخروج من حالة السأم والأكتئاب الصامت ) قال: تبدأ الذروة بانشطار السفينة أثر اصطدامها بجبل جليد ظهر بغتة لم يقو طاقم السفينة تجاوزه.وبدأت بالفعل أحس بأهمية الموضوع، لكن ما يهمني أكثر هو معرفة القصة حتى نهايتها. وهو الرابط الذي يبحث عنه عارف، كان عارف زول كيف. منذ أن عرفته، عرفت معه مكيفاته.. كان يشرب العرقى ويسميه الحندريس ، ويدخن السيجار ويسميه عصا ابليس. ويسف (التمباك) ويسميه التنقمطى، جلس عارف وقذف بسفة من التمباك داخل فمه تحدى بها معرفة الشيطان. رمى بها داخل حنكه فاختفت مثل الحقيقة، ثم عرك راحتيه قائلا: هذا الانشطار دفع بركاب السفينة الى البحث عن النجاة فى الجزء الأعلى من السفينة، بينما بدأ النصف الثانى مستمرا فى الغوص فى باطن المحيط، كلما غاصت السفينة ارتفعت مقدمتها، فصار الناس يبحثون عن النجاة بالصعود نحو أعلى فاختلط حابلهم بنابلهم. وبلغ ارتفاع المقدمة نحو ألف ونيف متر فوق سطح المحيط هذا، فتعذر إنزال قوارب النجاة .. ثم فجأة غاصت السفينة، فتغافز الركاب من بينهم بطلها الذى ظل ممسكا بلوح من خشب لينقذ محبوبته، فتجمد مثل بقية ركاب تايتنك. وعندما جاءت مراكب الإنقاذ كانت مجاديفها تصطدم بالجثث المتجمدة محدثة صوتا (كرك.. كرك) ظرت إليه ولم أقل شيئا، لكنه تأكد انه قد تمكن من انقاذى من حالة السأم. هذا هو طبع عارف. ثلاثون عاماً من التحايل على بمكائد الفرح.. ضحك وقال: تكتسب مأساة تايتنك رمزيتها واحتفالها الوجدانى لأنها تعبر عن الطموح الممتد للكائن البشرى. وهو يبحث عن الرفاهية فى فضاء الحياة العريض.قلت فى نفسى لابد انه اقترب من البعد والرابط الذى يكمن خلف القصة.. لكن عارف مثل كاتب درامى مقتدر لا يفك ثيمات تشويق القصة بعجالة. يظل يلف ويدور هنا وهناك . يضحك ضحكات ويغمز غمزات ثم يقول: كلنا تايتنك. قلت كيف ؟ قال: طموحات الناس وتطلعهم لمستقبل ناجح و الرفاهية وحب التفوق. ولكن يظل القدر هناك كامنا مثل جبل الجليد ليداهمهم فجأة فيدمرهم أ و يفجعهم. تتجاوز رمزية تايتنك الكائن البشرى الى الايديولوجيا والمؤسسة والدولة. قلت لروحى الحكاية نجضت .. كنت متأكدا ان للقصة رابطاً لكن لم يخطر على بالى ان عارف سوف يذهب الى ايجاد رابط بين التاتينك والايديولوجيا .. أشعل سيجارة دون أن يبصق السفة.. ربما بصقها لكننى لم أر ذلك.قال: فكرة التايتنك فكرة طموحة لكنها شمولية. من يصدق أن يختفى الدب الروسى الى الأبد خلف سهول سيبيريا.عرفت انه أقترب من الرابط، فقال لى وبسرعة خاطفة معها بسمة مقنعة لأنها تحاصرك و لا تجد مفرا غير الموافقة. هذا ما قمت به بعد أن هززت رأسى.. قال: حكاية تايتنك تشبه حكاية الإسلاميين والسلطة فى السودان، فما أشبه كل ذلك بقصة تايتنك.(فغرت فمى بينما ظل عارف يحشد براهينه) فقال: بدأ المشروع الحضارى تاتيتنكياً ! أنا شخصيا وجدت تعبا شديدا فى حكاية المشروع الحضارى.. كنت أبحث عن تعريف للمشروع الحضارى فكثر خصومى.. كانت عبارة (المشروع الحضارى) عبارة تايتنكية.. كنت جادا .. لم أكن وحدى تايتنكيا لكنى سأظل جميلا كما الحقيقة والمأساة . . أنا الفضيحة.واصل عارف قائلا: أكثر وجهات الشبه بين السفينة التايتنك والحركة الاسلامية فى السودان نقطة الانشطار. الانشطار الى نصفين نصف غرق والنصف الثانى يدير عملية انزال قوارب النجاة، لكن مياه المحيط الأطلسى بارده جدا 30 درجة تحت الصفر. ويمكننا اليوم البحث عن رمزية جبل الجليد الذى ظهر بغتة فتسبب فى الانشطار .قلت له: نيوتن ذاته لا يستطيع أن يوجد رمزية جبل الجليد الذى تسبب فى انشطار التايتنك وأسباب انشطار الحركة الاسلامية فى السودان خرجت من منزل عارف وبى دندنة تقول :الجبال التي خلعت ظلالها على المدينة رسمت رمسا للرجال الجوف.أما الدوريات الجيش وتمارينها الصباحية لقد مشطتنا حتى علمنا أن اليوم هو يوم الرجال فهربت النساء.عندما القى عارف وصفى نظرة على المجندين من النافذة ارتعدت فرائصه خوفا فخر ساقطا بلا أعصاب.زعم أحد المنافقين انه يجمع المال والتبرعات لتحسين حالة الفغمات الصحراوية.ليته قال السلاحف . . . كانت السلاحف تركض و تصهل مثل الخيول.وكانت الصراصير تزغرد!فى ذلك العام زادت المؤامرة داخل المنتدى الثقافي فتم إعفاء الفنان التشكيلي زاهر من منصبه كأمين عام للمنتدى الثقافي ومن يومها أجادت كل السلاحف قراءة تشيخوف وكارلو قلدونى .تمترس زاهر داخل منزله معلنا عن إحباطه إزاء المشروع الثقافي.ثم بدأ عدد كبير من مثقفي المدينة والكتّاب والمسرحيين والشعراء بالفرار وهم يرددون : بلاد الله واسعة والله ما شق حنكا ضيعه. بعد أسبوع عدت الى منزل عارف عندما دخلت غرفة عارف بمنزلهم ذو الحوش الواسع وجدته منطويا يقاوم حالة الخوف والذعر لكن ما أن رآنى حتى انفرجت أساريره ثم قام بنشاط مغاير لحالته. كعادته وضع البراد على السخّان ثم عاد وبحث بين كومة الكتب التى تبعثرت على سريره فأخرج كتيباً وبدأ فى تلاوة بعض الأشعار المترجمة التافهة. لاحظ عارف عدم تجاوبى مع الموضوع فقال : ألم أقل لك . تلك حيلة من حيل عارف الاستدراكية للدخول فى إحدى القصص أو الحكاوي فقلت : ماذا؟ قال : جبل الجليد . قلت مستدركا) نعم جبل الجليد الذى شطر التايتنك لنصفين فغرقت. لم أكن متوقعا أن أجده بهذا الحماس لمواصلة قصته الرمزية التى بدأ سردها منذ أسبوع . فقلت له بتحدٍ : نيوتن ذاته سوف لن يكتشف رمزية جبل الجليدقام عارف ثم صب الشاي
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة