|
صدى الصهيل، جمال محمد ابراهيم
|
قراء القصة بالمنبر يسعدني أن أقدم لكم القاص جمال محمد ابراهيم (سفير سوداني سابق، شاب في الخمسين، و شقيق المهندس القاص أيضا عبدالله م ابراهيم الملقب ب بيكاسو) في هذا العمل. مصطفى مدثر
صدي الصهيل
كان لقائي بها محض صدفة ، رتبتها أقدار عشوائية .. ضمتنا جلسة دافئة في شقة صديقي مصطفى، ذات ليلة من ليالي نيروبي المضمخة بروائح الشاي ونكهة النعناع . كانت أنثى في لون النحاس البراق . ذهبية الخدود، عمانية الأبدان ، نجدية المقل .. قالت لي جدها من أطراف ممبسا، عربي الملامح ، جذوره هو الآخر تمتد إلى سنوات بعمق سواحل جزيرة العرب. يا لغنجها و دلالها . إنها محظية عربية ضاعت من امريء القيس ، هذا الذي ضيع كل شيء . قلت لنفسي : فلتكن هذه الفاتنة المجنونة بطلة لقصتي .. فقد لا أجد أنسب منها ..أفريقية ، نصفها ضائع في الجزيرة العربية ونصفها الآخر منسي في فضاء الغابات . أما بطلها ، فهو الآخر مشطور ، نصفه ألأول غابة و نصفه الثاني صحارى الشمال ، يلتقيان حيث يكون النيل حلما في أحشاء الأرض ، عند بحيرة فيكتوريا ، يخرج ثعبانا لينا ، أنثى تتمايل ،مثل النيل تماما .. هذه البنت المزعجة . انتفضت من مجلسها ، وراحت في غيبوبة راقصة مع لحن أفريقي صاخب ، ملاء أرجاء المكان و ارتجت له جنبات الصالة .. تكاد الشقة الصغيرة من فرط دقات الطبول أن تنفجر . أما هذه الصبية .. آه ، ما كنت أريدها أن تكون هكذا ، بركانا هائجا ، يرتج جسمها انفعالا ، تتدافع يداها في تمايل و تثني ، تشد إليها دقات الطبل شدا ، وتكاد مسام جسدها تتفتح عناقا و توحدا .. حاصرها تصفيق الحاضرين في الشقة الصغيرة ، و تضاعفت الضجة ...آه من هذه الصبية .. . كنت أريدها فكرة تعربد في أوراقي ، لا جسدا يفوح بالرغبة و الفسق ، تتربص به أعين حرقتها الفحولة و الاشتياق ... هل كان لا بد أن أخطو خطوة لإنقاذ بطلة قصتي من هذه المحاصرة المحمومة ؟ هرعت إلى جهاز الموسيقى ، أسكته في إصرار ، برغم ضجيج الاحتجاج .. سقطت ليلاي في خيلاء على أريكة قريبة ، و اتكأت على كتف صديقي مصطفى ، لكنها ظلت تحدق باتجاهي في نظرة خالية من أي معنى . هدأت تماما الآن ، كأنما خرج الشيطان من جسدها بعد هذا الرقص العنيف . أحسست بزهو وهمي ، إذ خيل إلي أنني نجحت في كبح جماح بطلتي . هي الآن عجينة طيعة - قلت لنفسي- لي الآن أن أقوم بتشكيلها كيفما أشاء.. قلت لها بلا مقدمات : كفاك رقصا ..أنت فكرتي و مشروع روايتي التي وضعت خطوطها منذ أزمان سحيقة ، و لن تفلتي مني هذه المرة .. رمقتني بنظرة فاحصة ، خالية من الإندهاش ، مليئة بالترقب و الإستفسار ، لكأنها كانت تنتظر مني هذه المواجهة الفجائية . أما مصطفى ، فقد تملكه ضيق بين ، إذ أن أحلاما كانت تراوده ، يرى الآن ، أن مخططاتي ستذروها أدراج الرياح .. أو أنني ، في تقديره ، أتدخل فيما لا يعنيني، بل أنا ضيف ثقيل الظل، لا يحق له التدخل بين ذكر وأنثاه . قال مصطفى كلمات تتأجج نارا : إني أراك تتمادى و تتقتحم أراضي الغير ..هلا احتفظت بمشاريعك الفكرية لنفسك . لقد أفسدت علينا السهرة ..! كنت أعرف أن بطلة روايتي ، تدرك أن شيئا ما يمتد بيني و بينها . لم أكن في حاجة هذه المرة لإنقاذها ، إذ قامت من مجلسها ، متحدية كل الأعين المشدودة إليها ، وأخذتني من يدي و اندفعنا الى خارج الصالة .. ثم إلى الشارع العريض..حينما خرجنا إلى فضاء المساء ، إحتوتنا لفحة من نسيم استوائي جفف الندى العالق بجبينها .. - ولكن صديقي مصطفى لن يغفر لك ما تفعلين..! - ليذهب إلى أي جحيم يختار ..إني اخترت أن أذهب معك ..هل أنت من ممبسا ؟ سألت في عفوية ، و امتدت يدها اليمنى، ممسكة بأصابعي في مودة ملأتني تيها ... - كلا ..أنا من الخرطوم... - أوه.. تقصد من السودان ؟ أنا اسمي ليلى أومارو ... و لمعت عيناها ببريق أخاذ ، ثم واصلت مستفسرة.. - لا بد ، إذن ، أن يكون جدك من العرب الذين نزحوا الى سواحل او مداخل افريقيا.. كيف وقع المؤلف هكذا في دائرة التحقيق ؟ هل أبوح لها بأني قادم من وراء المدارات و صقيع الشمس و براري الأكاسيا ووديان الجدب و تخوم النخيل الجاف قبالة النيل القادم ، متئدا فوق الجسد المخضر بالليونة و الخصب ؟ هل أقول لها أني تجشمت مشوارا بداء من وراء أسوار السلطنة الزرقاء ، مرورا بتيه بني أمية .. منذ ائتلاف النهر مع الجبل ، انصهارا في بؤرة الزمن السحيق ..؟ نعم يا بطلتي ..الخيل هنالك راكض في كثبان نجد، و أنا صدى الصهيل في الغابات... اجتزنا شارع كينياتا العريض ، عرض ميادين السباق ، و أقترحت عليها أن نلجأ إلى باحة فندق هيلتون نيروبي ، هروبا من الزحام و الأعين المتطفلة و حملقة البغايا المتسكعات .. قالت : على الأقل لن يتعرف أحد علي هنا ..لا ريتشارد و لا موكابي اليوغندي و لا صديقك مصطفى ...! * * * * طلبت لها كأسا ممتلئا بالجعة .. وانطلق لسانها بعد ذلك . لقد كنت أتطلع لمعرفة كل التفاصيل التاريخية عن بطلتي .. حكت لي عن أمها أمينة ، و عن أبيها أومارو ، و رحلة البحث عن الذات و الإنتماء ، منذ نزوح الأجداد إلى سواحل القارة السوداء .. حكت لي عن خلافها مع شقيقها ، وعراكها معه ، ثم هروبها إلى نيروبي .. - جئت إلى هذه المدنة أبحث عن تاريخي و ذاتي ... لم أسلم من أمثال ريتشارد ولا موكابي ولا مصطفى صديقك ، وكل قبيل المشاكسين الذين تعج بهم شوارع و حانات نيروبي ..كان الخواء يحاصرني أنى اتجهت.. - يا لك من متمردة مجنونة ..! - لا أعرف في حقيقة الأمر مم أهرب ، أو إلى أين أتجه .. لكن لم أنس العجوز أومارو ، لحظة ... و أخرجت من جيب سترتها مظروفا عليه طابع بريدي و عنوان في ممبسا ... * * * * دلفت إلى حجرتي ، ولملمت أوراقي أراجعها من جديد .. فالبطلة التي أخترت ، بدأت تتسرب من بين أصابعي ، كلما هممت بالتحكم في مسارها .. مزقت الذي كتبته عنها في الأيام الماضية ، إذ لم أر فيما كتبت حبكة و لا بدءا ولا انتهاء...! ما كنت أريد لها أن تلتقي بنمازج بشرية ، لا تضيف أبعادا جديدة لتركيبتها المعقدة ، رجال مثل موكابي و ريتشارد و مصطفى .. هم كالصخور الصماء ، لا تجرفهم مياه النهر المندفع ، ولا تحتويهم أمواجه المتلاطمة ، بل تمسهم نعومة الماء مسا ، ولا تلامس شيئا من دواخلهم ، أو تذيب "الأنا" القابعة هنالك في قلب الصخر ، تنداح دوائر ، دوائر ، تتسع كلما أوغلت حراب الإنسان الأول الصدئة في جسد الماء الطافح بالأنوثة النفاذة ...حتى ينفلق الصباح... * * * * قالت لي : أريدها معركة فاصلة معك ..! و علا صدى الصهيل . خرجت إليها ، مغسولا ، إلا من ورقة التوت .. رأيت صحرائي الممتدة حول الغيب ، تتكور شجرا له سيقان ، يبلغ طولها حتى سماء الحاضر .. وأنا ممتلئا بالندى ، غابة صرت ، وتكوينا من صحراء . وامتدت يدي إليها . كيف لا أراها و هي متلفعة بأوراق الشاي و بهارات الشرق و قرنفل الساحل ..؟ من موكابي هذا ..؟ أي نبت شوكي تعلق بليلاي ؟ لا هو من رمل الصحارى ، ولا هو من عبق الغابات ..! و من يكون مصطفى ، هذ ا الذي لا يرقى لأن يكون بطلا شهما ..؟ إنه طالب ماجستير في جامعة نيروبي و طالب أشياء أخرى ، تدخل فيها علاقاته الأبنوسية الخاسرة ... لذا أسقطته من حسابات روايتي . و أسفت أيما أسف ، إذ رأيت ليلاي و قد تعثرت خطاها في طريق مصطفى .. لقد كان خروجها معي تلك الليلة ، حدثا مأساويا ، كما يراه مصطفى ، أما هي فقد أدركت أن علاقتها به، هي ملهاة لا يتعدى عمرها ، سويعات الرغبة في سرير طلابي خشن ، ضمهما في السكن الجامعي عند أطراف نيروبي . كان إحساسها بالامتنان عارما ، حين خرجنا من شقة مصطفى تلك الليلة ، بينما كان غاية مسعاي و قتها ، أن أطوعها بطلة لقصة أرقتني أياما طويلة ... هاهي الآن ، ممتلئة عنفوانا و تحد ، و بعد لقاءات محمومة جمعتنا ، تريدها معركة ، و تريدني غريما لها ... * * * * - قررت أن أقاطع أومارو ، و لن أكتب له رسالة بعد الآن....! فاجأتني بحديثها عن أبيها على هذا النحو.. و نحن نلج فندق نيو ستانلي ، الصغير في قلب المدينة النابض بالحياة و الصخب .. - و أرجو أن لا تطلب مني تفسيرا.. أضافت في ثقة . بدت لي رصينة الآن ، و لكن بريق عينيها النجديتين يشي بأن المعركة أكبر مما تصورت . لست أنا الغريم الوحيد ، إذن ، هنالك أومارو .. هنالك ممبسا بأكملها ..! كنت أحس أنها تضيق الخناق علي ، بطريقة ما .. بعد الضحك و اللهو والرقص العنيف في علبة الفندق ، شملنا هدوء عاصف . لم تعد تتحمل ، وسقطت على كتفي في استسلام طفولي .. وهمست : - هاأنذا قد قطعت صلاتي بممبسا .. هل أنت قادر على الارتباط بي ..؟ كان همسها أقرب إلى ضجيج الإنفجارات والزوابع .. هاهي تتأملني و كأنها تحملق في مرايا التاريخ .. تريدني أن أنسلخ عن غاباتي و صحاري ، و أتحدر نهرا كاسرا مقطوع الأصل لألتقيها ، بل لأصير بطلا في رواية الخسران هذي.. التي و ضعت أنا خطوطها من ذاكرة القمقم .. لكنها الآن فاجأتني وقد استوت ماردا جبارا ، سد علي منافذ السماء ، و زلزل الأرض من تحت قدمي .. وأفلتت شخوصي من بيت أصابعي .. تسلل موكابي من عرينه متربصا بي ، و أطلق مصطفى ساقيه يعدو ورائي .. و هاهي ليلاي تلهث من تحتي . لم يعد في من زخم الغابات شيء ، ولا من أحلام الصحارى . جردتني ليلاي من أسلحتي ، و لم يبق إلا أن تجهز علي في آخر المطاف . إنها معركتها الفاصلة كما قالت ، و لن يزعها وازع . تريد أن تعلقني ، كما علقت نفسها في الفضاء الواقع بين غابات الرمل و صحارى الأشجار ، هروبا مني ، فرارا إلي... * * * * خرجنا من الفندق الصغير و سؤالها ملقى على كتفي ، دون جواب . فاجأني وجه موكابي مبتسما قبالتي ، و كأنه كان في انتظارنا ، أو كنا معه على موعد . مد موكابي يده و أخذ ليلاي من خصرها ، و اتسع الفضاء الواقع بين غابات الرمل و صحارى الأشجار ، اتساعا كبيرا . تسمرت قدماي حيث كنت ، ودارت ليلاي حول نفسها . رأيت عينيها النجديتين تتوسلان بلا بريق ، رأيت ماردا ينكمش إلى قمقمه ، وسماءا تفلت من أرضها . وعبق المكان برائحة الشاي و العنبر و القرنفل و نكهة النعناع من جديد .. ثم خفت .
نقلا عن سودانايل
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: صدى الصهيل، جمال محمد ابراهيم (Re: sari_alail)
|
ساري الليل كيف حالك ؟ اسمك دا ذكرني نسلسل اذاعي قديم كنا نحنا وكنت بخاف عديل من أصوات الممثلين. أكيد كانوا ممثلين جيدين لكن أنا كان مالي. كنت صغير!!! سلم لي على بيكاسو وبالمناسبة عندو موضوع جيد عن الراحل جمعة جابر في سودانايل اقراهو وبعدين سلم عليهو وعلى من معك. عاطف! تعجبني غيرتك على الاعمال الابداعية التي يجرفها كلام الغلاط والمطاعنات الفارغة لكن مافي حل الا أخونا بكري يقوم يعمل ملحق ثقافي اسبوعي من خمسة مواد مثلا قصيدتين وقصتين ودراسة. بحيث لا تغطس بهم المداخلات و لاشنو؟ عاطر التحايا لك ومن حولك مصطفى مدثر
| |
|
|
|
|
|
|
Re: صدى الصهيل، جمال محمد ابراهيم (Re: mustafa mudathir)
|
نسيت أقول و الكلام لزوار البوست و لجمال نفسه و لخالد عويس: هنالك تناص غريب بين صدى الصهيل و أستير القصة الفائزة لخالد عويس أتمنى أن يعود له من يعود له بس ما عايزين الاخ الطايح فينا الايام دي. عايزين ناقد جيد و بس. مصطفى مدثر
| |
|
|
|
|
|
|
Re: صدى الصهيل، جمال محمد ابراهيم (Re: abuguta)
|
الأصدقاء رحمابي وأبقوتة أشكركما على اقتطاع زمنكم لقراءة أدب رفيع خال من الاسفاف و الشتيمة و التطاول على شخص عظيم مثل محمود طه و أكيد تجدان المكان الارحب في الاجواء النقية في مثل هذه الاعمال الابداعية أستير وصدى الصهيل. كان قصدي أن نسبر معا ما قاله جمال و خالد عن سؤال الهوية والانتماء وكيف حدث هذا التناص المدهش. لكن الادباء لم يشاءوا المساهمة. لكما عاطر الثناء ولعاطف الرقيق. مصطفى مدثر
| |
|
|
|
|
|
|
|