|
أوراق أكتوبرية
|
[U]أوراق أكتوبرية
حلت في الأيام الماضية الذكرى الثالثة والأربعين لثورة أكتوبر المجيدة . وكلما حلت هذه الذكرى العطرة يستبد بنا نحن أبناء الجيل الذي عايشها وشارك فيها حنين غامر لاستعادة أجواء تلك الفترة المشرقة من تاريخ بلادنا ، والتي ترسبت أحداثها في دواخلنا ، وتعمقت في وجداننا كالنقش في الحجر. فعلى الرغم من مضي ما يزيد على الأربعة عقود من الزمان لا تزال تتردد في أذهاننا ، داوية ومنغمة ، أصداء أناشيدها الخالدة ذات المعاني السامية ، والمعبرة عن " فرحة نابعة من كل قلب .." ، وهدير هتافاتها وشعاراتها المنتقاة بعفوية ( رغم ما في ذلك التعبير من تناقض) ، إذ أنها شعارات صاغتها العبقرية الشعبية التي رسمت للثورة خطاها وأبدعت لها مسارها . غير أننا نلاحظ بأسف أن ذكرى ثورة أكتوبر بدأت تتعرض لقدر من التعتيم وعدم الاحتفاء ؛ وكأنها تثير حساسية عند البعض من الذين يخشون انطلاق مارد الحرية والوعي والتحديث من قمقمه مجدداً كما حدث في تلك الهبة التاريخية.
لقد توحدت في أكتوبر جماهير الشعب وبادرت وأخذت زمام أمرها وفقاً لأسلوب حضاري بديع أرسى تقاليد وسوابق إيجابية للثورات البرتقالية اللاحقة . ويذكرنا المناخ العام للثورة والروح الأكتوبرية التي فجرتها - بدون مبالغة - بأجواء الثورة العالمية التي سرت وسط الشباب على امتداد العالم في نهاية عقد الستينيات من القرن الماضي، تغذيها أجواء التحرر الوطني في إفريقيا وآسيا، وحركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة، ومقاومة الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، ورفض الحرب في فيتنام، وحركة المطالبة بالحريات في دول شرق أوروبا . إن تلك الهبة الوطنية الجسورة والرائعة تستدعي قدراً من التوقف للتقييم والتعلم واستقاء الدروس ، بهدف تصحيح مسارنا الوطني .
كثيراً ما يثير لنا أبناء الجيل الحديث التساؤلات حول كيف نجحت الثورة ذلك النجاح الباهر، ومن أين لجماهير أكتوبر تلك الإمكانية التنظيمية الخلاقة ، والقدرة على الوصول إلى الأهداف بتلك الكفاءة المشهودة وفي ذلك الزمن القياسي ؟ ومن وراء تلك التساؤلات يلوح شغف هؤلاء الشباب وتطلعهم إلى تحقيق طموحات الوطن في الوحدة الوطنية والتنمية والتقدم من خلال هبة شعبية يتوفر لها مثل ذلك الدفع والعنفوان الأكتوبري.
بكل تأكيد سيظل التقييم العلمي لثورة أكتوبر مطلوباً ؛ ويقع عبء الاضطلاع بتلك المهمة على عاتق المؤرخين الوطنيين من الذين يتمتعون بالمعرفة والمقدرة ، ويتميزون بقدر عال من الموضوعية والتجرد ، خاصة وأنه - وللمفارقة- أن من عملوا على تفريغ ثورة أكتوبر من مضامينها ، أصبحوا هم أكثر الناس ادعاء لبطولاتها ، وأكثرهم ترويجاً للزعم الزائف أنهم من صناعها !
في محاولتي تقديم إضاءة حول تساؤلات جيل الشباب تلك ، لا أدعي شمولاً أو مؤسسية في التناول ؛ بل ما أقدمه يمثل رؤية وانطباعات واحد من أبناء جيل أكتوبر الذين عايشوا الثورة في أوجها واصطلوا بوهجها ، وتسنت لهم المشاركة الفاعلة في مؤسسات المجتمع المدني التي أدت تراكمات نضالها المنظم والمستمر إلى النتيجة الباهرة المتمثلة في تلك الهبة الشعبية العظيمة ، وأعني بذلك تمتعي بشرف عضوية لجنة اتحاد طلاب جامعة الخرطوم خلال السنوات الثلاث الحافلة التي سبقت أكتوبر( 1961-1963 ) ( ترأس الاتحاد خلالها كل من : علي محمود حسنين - علي نور الجليل - يوسف حسين ). ولعل في انطلاق شرارة الثورة من جامعة الخرطوم تتويجاً منطقياً للدور الريادي الذي ظلت تضطلع به اتحادات طلاب الجامعات والمعاهد العليا والمدارس الثانوية في العمل المعارض للحكم العسكري الأول- بالإضافة لدور الأحزاب السياسية والنقابات المهنية.
أخرج قليلاً من السياق لتناول موضوع ذي صلة بالتوثيق لتلك الثورة الخالدة . فقد زارني قبل عشرين عاماً الأخ الصحافي محمد سعيد محمد الحسن ، وعرفني بأنه يرغب في التوثيق لثورة أكتوبر ، وطلب مني إلقاء الضوء ، بأكبر قدر من التفصيل الذي تسمح به الذاكرة ، على المذكرة السياسية التاريخية التي قدمها اتحاد طلاب جامعة الخرطوم واتحاد طلاب المعهد الفني ( جامعة السودان ) للحكومة في الثامن من نوفمبر 1961م مطالبين فيها ، باسم الطلاب وباسم شعب السودان ، برجوع الجيش إلى الثكنات وإعادة الديمقراطية والبرلمان وإطلاق الحريات العامة . أحدثت المذكرة تأثيراً إيجابياً عظيماً على معنويات الشعب ، ومن الناحية الأخرى أصابت هيبة الحكم وقبضته الحديدية في مقتل ، خاصة مع قرب تاريخ الاحتفال بذكرى الانقلاب العسكري في 17 نوفمبر ، إذ أن ما احتوت عليه المذكرة من مطالب ما كان قادة الحكم يتوقعوا أن يجدوه مكتوباً حتى في المنشورات السرية للمعارضة ، ناهيك عن أن يضمن في مذكرة مكتوبة ، وباسم شعب السودان ، وتسلم إلى ممثلي السلطة في رئاسة مجلس الوزراء ! لذا فقد كان تجاوب السلطات معها بإرسالنا نحن أعضاء لجنتي اتحادي طلاب جامعة الخرطوم والمعهد الفني (حاملي المذكرة) إلى سجن كوبر لنقضي فيه عدة أشهر ، لم نخرج منه إلا عندما تم تصفية جميع المعتقلات إثر الإضراب عن الطعام الذي امتد لعدة أيام وانتظم فيه المعتقلون من فصائل المعارضة من طلاب ونقابيين وأحزاب ، وشارك فيه المعتقلون في مختلف سجون السودان ، ومن بينهم زعماء الأحزاب الذين كانوا معتقلين في ناقشوط ؛ وكان الإضراب عن الطعام في حد ذاته عملاً سياسياً كبيراً من أنشطة المعارضة تم تنظيمه بدقة وكفاءة ؛ وظل المواطنون يتابعون أخباره متابعة لصيقة ومتواصلة ، ويعبرون بمختلف الوسائل عن تعاطفهم مع المعتقلين المضربين ومؤازرتهم لهم ، خاصة وأنهم كانوا يخشون من تأثير الإضراب على صحة زعماء المعارضة ممن هم في مرحلة عمرية متقدمة وأحوال صحية هشة. وشاركتهم السلطات أيضاً تلك المخاوف ! وذلك حيث أن العواقب السياسية لم تكن لتحمد في حالة حدوث مكروه لأي منهم .
شكرت الأخ محمد سعيد على مبادرته وحرصه على التوثيق لثورة أكتوبر ، وحمدت لهه نهجه السليم المتمثل في الرجوع بالتوثيق لها إلى رصد مختلف أوجه النضال من أجل استعادة الديمقراطية منذ الاعتداء عليها في نوفمبر 1958م ، أو على الأقل تسجيل المعالم الرئيسية لذلك النضال ، والتي تمثل تلك المذكرة التاريخية واحدة من أبرزها . وذكرت له أن ذلك النهج في تقديري تصحيح للفهم القاصر الذي يعتبر أن التوثيق لأكتوبر يبدأ من ليلة الحادي والعشرين من أكتوبر 1964م . ( حيث جرت مياه كثيرة تحت الجسر منذ تلك المقابلة ، لا أعرف ما آلت إليه جهود الأخ محمد سعيد محمد الحسن في التوثيق لثورة أكتوبر؛ آمل أن تكون قد كللت بالنجاح، وقد عرفت أنه وثق لاتفاقية الميرغني قرنق).
آمل أن أتعرض في حلقات قادمة من هذه الأوراق الأكتوبرية لتفاصيل موضوع المذكرة هذا وما أعقبه من شهور قضيناها في زنازين البحريات ؛ وللحديث عن اتحاد طلاب جامعة الخرطوم في تلك الفترة ودوره المبادر في القضايا القومية الذي أكسبه ثقة واحترام جميع فئات الشعب ، وبشكل خاص دوره في تدعيم الوحدة الوطنية بين الشمال والجنوب . كما آمل أن أتعرض أيضاً لبعض الأحداث الهامة المرتبطة بتلك الثورة الخالدة التي مهرها الشهداء بدمائهم الزكية ؛ وبعض المواقف الطريفة أيضاً ( والتي يدور معظمها حول زميلنا في لجنة اتحاد طلاب جامعة الخرطوم / صديقنا العزيز خوجلي عبد الرحيم أبوبكر (عليه رحمة الله) والذي كان يتمتع بروح الفكاهة الراقية Refined sense of humor، وهو الذي حزن لمصادرة قلمه ضمن إجراءات الاعتقال في اليوم الأول، إذ أنه كان ينوي أن يكتب به تاريخ الإنسانية في أثناء فترة السجن الطويل المرتقب ! وظل "تاريخ الإنسانية" موضوعا للدعابة وإثارة الذكريات كلما جمعتنا مناسبات اجتماعات مؤسسات التمويل العربية مع العزيز خوجلي بعد سنوات عديدة من تلك الوقائع والأحداث - رغم أننا حقيقة نثق في أن الخلفية الثقافية العريضة التي يتمتع بها الأخ (أبو الجاز) كانت تؤهله لتنفيذ ذلك المشروع الطموح !).. ونعود إلى السياق .
إن الفهم السليم لثورة أكتوبر ولمبادئها التي ترسبت بعمق في وجدان شعبنا يتم باستيعاب الخلفيات التاريخية لتلك الحقبة الزمنية . ونستطيع أن نوجز أبرز مكونات المناخ الفكري والسياسي العام المصاحب لتلك الفترة سودانياً وإقليمياً وعالمياً في النقاط التالية :
- فجر الاستقلال الوليد آمالاً عريضة وألهب تطلعات مشروعة نحو تحقيق نهضة اقتصادية واجتماعية طموحة . - بروز جيل جديد في قيادة العمل الوطني بدأ في حمل الراية بعد جيل مؤتمر الخريجين متميز بالوعي وله الرغبة والمصلحة في إحداث تغييرات إيجابية في حياة المواطنين من خلال تنظيم الجماهير وتزويدها بالثقة . - تبلور الوعي بوحدة البلاد ، ومعالجة قضية جنوب الوطن حلاً سياسياً . - نشأة التنظيمات الإقليمية المطالبة بالتنمية المتوازنة . - بروز الحركة النسوية والدور الإيجابي للمرأة في المجتمع . - انخراط الفئات الحديثة ( العمال والمزارعين والمهنيين ) في التنظيمات النقابية . - ازدهار الحركة الثقافية والانفتاح على الفكر العالمي . - انتشار الوعي السياسي بأهمية استدامة الديمقراطية كنظام للحكم قادر على تحقيق أهداف النهضة المنشودة ، خاصة وأن تجربة الحكم الديمقراطي قد وئدت بعد عامين فقط من الاستقلال.
وعلى المستويين الإقليمي والعالمي تميزت تلك الفترة ببلوغ حركة التحرر الوطني أوجها، وتحقيق استقلال معظم الدول الإفريقية؛ وبروز حركة عدم الانحياز بقياداتها التاريخية ( تيتو - نهرو - جمال عبد الناصر) إثر مؤتمر باندونج؛ وتضامن السودانيين مع ثورة التحرير الجزائرية ، ومع الشعب الفلسطيني ، ومع الشعوب الإفريقية والآسيوية وقادتها الوطنيين من أمثال جومو كنياتا - باتريس لوممبا - نلسون مانديلا - كوامي نكروما - أحمد سيكوتوري - سيمورا ميشيل - هوشي منة - أحمد سوكارنو .
ولكي نسترجع بعضاً من وهج تلك الفترة الزاهية ونستنشق أريجها ونعيش مجدداً في أجواء المجد والبطولة ، ننعش نفوسنا بهذه الكلمات المضيئة والمتفائلة من قصيدة الشاعر المبدع تاج السر الحسن " آسيا وإفريقيا "،
عندما أعزف يا قلبى الأناشيد القديمة
ويطل الفجر في قلبي على أجنح غيمة
سأغنى.. آخر المقطع للأرض الحبيبة
للظلال الزرق في غابات كينيا والملايو
لرفاقي في البلاد الآسيوية
للملايو ولباندونق الفتية..
أو بهذه الأبيات من الفولكلور السوداني النابضة بالتضامن الصادق مع قضايا الشعوب :
( يا جنى الماو ماو بحبك حبي يعلم بيه ربك ! ) و ( الله لي كوريا يا شباب كوريا ) !
عبد المنعم خليفة
|
|
|
|
|
|