رجل من بورجوازا في أمستردام "Fiction"

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-03-2024, 10:38 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الثالث للعام 2011م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
08-06-2011, 02:16 AM

محمد جمال الدين
<aمحمد جمال الدين
تاريخ التسجيل: 10-28-2007
مجموع المشاركات: 5342

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
رجل من بورجوازا في أمستردام "Fiction"

    القصة حقيقية والمدينة " بورجوازا " خيالية ... It is fiction

    "رواية"

    رجل من بورجوازا في أمستردام


    "الجزء الأول" ....... (((يأتي في مقتطفات))))...... ارجو أن يقرأ القارئون بهدوء فما في إستعجال!. (المشوار طويل)!.


    تحياتي

    محمد جمال
                  

08-06-2011, 02:20 AM

سفيان بشير نابرى
<aسفيان بشير نابرى
تاريخ التسجيل: 09-01-2004
مجموع المشاركات: 9574

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رجل من بورجوازا في أمستردام "Fiction" (Re: محمد جمال الدين)
                  

08-06-2011, 02:22 AM

محمد جمال الدين
<aمحمد جمال الدين
تاريخ التسجيل: 10-28-2007
مجموع المشاركات: 5342

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رجل من بورجوازا في أمستردام "Fiction" (Re: محمد جمال الدين)

    *** 1***

    1999 يوليو 23 ، صباح الجمعة الساعة السابعة والنصف. إذا قدر لك في ذلك اليوم وفي تلك اللحظة و ان كنت تسير لغرض ما في شارع فانمولنار الضيق الذي لا يتسع لأصغر سيارة فلوكسفاجن وتصادف مرورك في ذات الوقت بمحاذاة الشقة الأرضية الصغيرة رقم 24 ب ، لكنت حتماً قد سمعت بوضوح صرير المنبه الإلكتروني الموضوع على الحافة الداخلية للنافذة ذات الستارة الحمراء الداكنة ،حوالي نصف متر من رأس الشخص الذي كان قبل لحظة واحدة ينعم بنوم هانئ لم تكد تشوبه أي أحلام مزعجة طوال تلك الليلة التي خلت.

    خلع الشاب الصغير "مادي" رأسه أجعد الشعر من تحت الغطاء و أستل يده اليمنى ليوقف الصفير الذي ما عاد يلزم. ظل لبضع دقائق يرقد في مكانه كونه يحس بالثقل الطبيعي في جسد إنسان فتح عينيه لتوه من نوم عميق استمر لأكثر من سبع ساعات. لغير ما سبب موضوعي قضى حوالي ثلاث دقائق يجهد في استعادة هيئة رجل أبيض وقف على بابه مساء اليوم الفائت ـ الخميس ـ شخص طاعن في السن؛ أعتذر بلغة قاعدية صارمة لإخطائه العنوان وشاهده مادي بعد ذلك يقف على الباب المقابل ـ 26 ب ـ حيث تسكن الأرملة هاس، و قاده ذلك الي تذكر لقائه قبل ثلاث سنوات مضت برجل أسود طاعن في السن بدوره وكان مرحا وينطوي علي بعض الحكمة، و أحتفظ له مادي بصورة فوتوغرافية موجودة مذ ذاك الحين في ألبوم وضعه في أحد أدراج خزانته.

    ثم نهض مادي أخيراً بتثاقل واضح ولو بدأ الدم ينبض في عروقه بوتيرة أسرع، حينما تذكر أن ذلك اليوم هو اليوم الأخير للعمل بمصنع شموع أعياد الميلاد، حيث تعقبه الإجازة الصيفية التي عادةً ما تستمر لأكثر من شهر. لم تكن الإجازة شيئاً بهجاً بالنسبة لمادي بالنظر إلى تجربة إجازة العام الماضي، لقد أحس بالفراغ وقضى معظم تلك الليالي يشرب الخمر بلا توقف تقريباً، وكان أشبه بإنسان فاقد الهدف. إجازة هذا الصيف إلزامية وكان متوقعاً أن تستمر حتى ربما أكثر من شهرين بسبب أعمال صيانة شاملة لمباني وأدوات المصنع أعلنت عنها الإدارة في وقت سابق. الفكرة التي خطرت لمادي في البحث عن عمل مؤقت يناسبه خلال تلك المدة، أمر لم يكن ليعول عليه إذا ما وضع في الاعتبار المنافسة العالية في سوق العمل الصيفي على بساطة أنشطته، خصيصاً من طلبة المدارس والجامعات من هم في عمر مادي. إضافة إلى أن مادي لا يتمتع بخبرات في أعمال منوعة وربما تعوزه الكفاءة. لهذه الأسباب التي كان يضمرها عقله الباطن لزم شعوره شئ يشبه الحزن على مر الساعات الأولى من ذلك الصباح، (نفس تلك الأحاسيس غير المريحة عاودته ظهيرة يوم الأحد التالي لسبب آخر). أحتسى آخر جرعة من قهوة الصباح وارتدى ملابسه على عجل، بنطال جينز وقميص أزرق ذو أكمام فضفاضة تقوم في وسطه دائرة سوداء تقع أعلى البطن مكتوب عليها في لون أبيض عبارة: أحب موسيقى "الريقي". وقبل أن يهم بالخروج ألقى نظرة على المرآة وهو إذ ذاك ما يزال يصلح من شعر رأسه الذي لاحظ أنه استطال اكثر مما يحب له أن يكون.
    مادي ذو هيئة مستقيمة وحسنة طوله حوالي ست أقدام، عوده أقرب إلى الامتلاء، ولو بدت سواعده نحيفة ورشيقة، كسواعد النساء الجميلات بمقاييس هذا العصر. شعر رأسه كثيف وخشن الملمس، ذو وجه دائري يحفه عظمان بارزان مما جعل عينيه تبدوان غائرتان تحت حاجبين سميكين يكللهما شعر أملس شفيف لا يكاد يرقد على جهة. أنفه صغير بشكل مناقض للتوقعات وذو فتحتين بارزتين مما جعله في بعض تلك الملامح أقرب إلى هيئة رجل صيني. و لون بشرته على وجه العموم يبدو أسمرآ، لكن أحدهم لن يبلغ دقة الوصف إذا طلب منه ذلك إلا إذا استطاع بهبة عقل رفيع الخيال؛ أن يمزح الصبغات الوراثية لبشرة رجل أحمر من الصحراء بتلك التي لإمرأة رصينة الزنوجة.

    مادي بلغ من العمر -بحلول صيف عام 1999- أحدا وعشرين عاماً. والده هو المعلم نصر الدين مساعد الولي. وأمه هي فاتومة جمعة تونقا. كان والده مدرس لغة إنجليزية مرموق بمدارس الخرطوم القديمة الحكومية العلياء، وتصادف أن أصبح في بداية العهد العسكري الثاني سكرتيراً لنقابة المعلمين المركزية. ولأسباب قاهرة اضطر للهرب براً إلى بورجوازا.
    كان المعلم نصر الدين الولي رجلاً شديد المراس ومشاكس، يصف أعداءه بالطفيليين سارقي قوت الشعب. ويجاهر ببغضه لكل اليمين السياسي فى السودان. وهو برغم انه لم يعرف بكونه شاعراً؛ كتب القصيدة الملحمية الشهيرة المسماة بالحزن الشهيق؛ بمناسبة ذكرى اغتيال أحد أصدقاءه؛ من رموز اليسار السياسي فى السودان.

    قال عنه أعداءه الكثر ما قالوا ، حبسته أجهزة الأمن فى السجن، أطلقته ثم حبسته، وعانى فى سجن كوبر فى الخرطوم بحرى شتى صنوف العذاب، ثم بعث أخيراً إلى سجن شالا فى غرب السودان؛ ليقضي عقوبة السجن المؤبد. و تسنى له بعد حين الهرب من سجن شالا، ومن ثم الفرار إلى بورجوازا- متاهة العدم والخراب- وعاش هناك حياة مختلفة باسم مستعار والتقى فاتومة وعاشا معاً وانجبا الطفل مادي فى ظروف قل ما توصف به أنها كانت صعبة. أختفى نصر الدين الولي بعد حين فى ظل أوضاع غامضة أثناء الفوضى التى اجتاحت بورجوازا بعد مقتل الإله كورا -عمدة المدينة-. وما دل على سوء مآله تصادف أن وجدت فاتومة بعض قدمه اليسرى على مقربة من الجدار الخارجي للدار، وكان سبق وأن تشاور معها عده مرات حول إمكان إنقاذها والطفل مادي عبر الهرب إلى مكان آخر آمن، وقام بالفعل بخطوات عملية فى سبيل تحقيق تلك الخظة " الحلم". وكتب عدة أوراق روى فيها بعض ذكرياته فى مراحل مختلفة ، وكتب رسالة واحدة خص فيها الطفل مادي بما أراد قوله. ‎

    من سوء حظ نصر الدين الولي أن زملاءه فى اليسار السياسي بدءاً لم يعترفوا له بمبادرات صعبة قام بها لوحده، واعتبروها من قبيل التطرف السياسي. وكان وحده صمداً. غير أن ذلك ربما كان هو أحد أهم الأسباب التى دفعته إلى متاهة العدم و الخراب وجعلته من قبل هدفاً مباحاً لخصومه، شجبوا سلوكه الأخلاقى واتهموه بكل باطل. قالوا انه من حزب الشيطان، ضد الله، الباطل ضد الحق المطلق. كان يشرب الخمر يوم الجمعة ولا يستتر. قيل أن خصيته اليمنى فقدت بعد اعتقاله بواسطة البوليس السياسي أثناء التحضير للاحتجاج الجماهيري المعروف بثورة أكتوبر ، فاصبح فيما بعد يهزأ به خصومه؛ بان أكدوا على تلف خصيته اليمنى لكنهم زادوا على ذلك بأن قالوا ان عينه اليمنى أيضاً تالفة فهو لا يرى غير اليسار، واليسار يجانبه النور فى شرعهم.
    وعندما غضب يوماً من زملاءه فى اليسار أعلن شيئا يشبه التخلي عن صموده فى الخط الذى رسمه لنفسه وتحول إلى مجرد نقابي من الطراز المحترف، لكن لم يصدقه أحداً من خصومه، فالتهمة التى ألصقت به لا تذوب بسهوله .
    يروي بعض الناس الذين هم على عهد بالعائلة حكاية حول أصل فاتومة؛ لا يمكن تصديقها بالكامل، كما بنفس القدر لا يمكن تكذيبها؛ ذلك أنها - فاتومة - من آل تونقا تلك الأسرة التي حكمت جزر الفيجي وما جاورها في عهود تاريخية مختلفة. هاجر بعض أسلافها إلى جنوب أفريقيا في أول الأمر؛ لأسباب لخصها الرواة في الصراع الذي سبق موت الزعيم لاوفيلي تونقا -قبل عام 1865-، وتزوج تونقا -الوافد الأول- بإمرأة من أحد عشائر الزولو، كان والدها يعمل في أحد -إقطاعيات- مزارع قصب السكر في أقليم ناتال؛ يملكها مستعمر أبيض حاز عليها بقوة النار. ثم رحل آل تونقا إلى بوركينا فاسو عند بروز أسباب حرب جديدة -أيام عهد التوسعات الإمبريالية في جنوب القارة الأفريقية-، غير أن استقرار آل تونقا لم يدم طويلاً بعد الجفاف والقحط الذي أصاب معظم أرجاء أفريقيا الغربية وحط ثقله في بوركينا فاسو؛ في الربع الأخير من القرن التاسع عشر. ذلك ما دعى آل تونقا إلى استئناف ترحالهم إلى ارض أخرى توقعوا أن تسعهم برحابة، كانت تلك البلاد هي السودان؛ حيث استقروا لبعض الوقت في أحد أطراف مدينة أمدرمان التي أصبحت للتو عاصمة للدولة المهدية بقيادة الإمام الصوفي محمد أحمد المهدي. وقيل أن تونقا الكبير قاتل ببسالة ضمن صفوف جيش الإمام المهدي في مواجهة جيش الاحتلال التركو-إنجليزي؛ ومات برصاصة اخترقت صدره في معركة توشكي. ثم ما لبث أن أختلف أبناء تونقا الكبير مع خليفة الأمام فرحلوا إلى بورجوازا .كانت فاتومة ربة بيت ممتازة وعاملة صبورة، تهتم بمظهرها بشكل "ملوكي" ومعروف عنها في بورجوازا إنها امرأة جميلة، تحب النظافة والنظام.

    لم تؤثر على عقل فاتومة على الإطلاق حقيقة المعلم الهارب؛ الذي جمعها به ميدان العمل، و مكان السكن ثم اختارته واختارها؛ وعاشا معاً كل الوقت، حتى جرى ما جرى من أقدار، وضاعت فاتومة في عرض المحيط الواسع الموبوء بالحيتان؛ أسقطت من على ظهر الباخرة التجارية المبحرة إلى امستردام عبر ميناء روتردام. فلم يكن بوسعها الخلاص. غير أن مادي استطاع إكمال الرحلة. نعم، إن ثمة بذرة صغيرة من آل تونقا فوق أرض مدينة امستردام .
    وكثيرا ما تساءل مادي في دخيلته - عندما أكتشف الأوراق بحوزته و استطاع فهم بعض ما ورد فيها. لماذا يا ترى قرر نصر الدين الولي سلفاً -قبل اختفاءه- عدم الفرار من بورجوازا برفقه أسرته‍؟!. أصحيح أن المعضلة تكمن في المال اللازم؟! بمثل ما كتب في رسالته يخاطب طفله : (و لتعلم ان تكاليف الرحلة كبيرة و المال الذي بحوزتي لا يكفي لسفرنا سويا. سأبقى هنا ولن أغادر معكما سأفي بوعدي. سابقى في بورجوازا تتقمصني روح كورا؛ أحارب الفوضى و الجزام)!!.

    وحدث أن كتب نصر الدين الولي -في مذكراته-: أن صديقه مستر يوب على استعداد تام لفعل أي شيء مستطاع لمساعدته. ومستر يوب فيما يبدو كان: (شخصاً مقتدرا). ألا يبقى شك مادي لا تجانبه الموضوعية؛ اذا ما فكر في أن والده تخلف هناك -في بورجوازا- بقصد مدبر!. و أفاض في قصة نقص المال كي يقنع فاتومة كي تسعى الى تخيلص نفسها وإبنهما من بشاعة الواقع الماثل ليتفرغ هو للشيء الذي أراده، و الوعد الذي ارتضاه لنفسه أمام الإله كورا!. أم انه كره الفرار مرة ثانية؟ . لكن مادي لم يكن بوسعه القطع بهذا أو غيره. وفي الواقع فإن مثلتلك الأشياء لم تعد تشغله كثيرا بقدر المشاغل المفروضة من واقعه الجديد؛ في مدينة حديثة بالمعنى الأوروبي للكلمة: مصانع جبارة؛ تنفث الدخان الحارق بعيداً فيبدد غلاف الأرض، شركات عملاقة؛ تستثمر أموالها الفائضة في الخارج؛ في أفريقيا، آسياء، أميركا الجنوبية و في أوروبا نفسها. إزدهار إقتصادي و سوق حر. تكنولوجيا. نظام إجتماعي راسخ يعطي الحقوق لكل مواطن بقسطاط لا يخطىء المقام. مدينة، ضوضاء. مجتمع مدني. حرية، "فردانية مطلقة، قلق!، خوف! ". كل شيء -كما يبدو- موضوع بعناية عقل ألتزم الجمال وقصد الكفاءة: المباني، الشوارع، البيوت، الشواطىء، القطارات، المطبوعات، القانون، القلق والخوف وربما حبيبات المطر. نظام؛ ضبط. رضا سياسي: حتى أن رئيس الوزراء يستطيع التنقل بين بيته ومكان عمله معتمدا على الدراجة الهوائية في بعض الأحيان، ولا يحدث له مكروه؛ لا يعترض طريقه أحد، فقط بعض المارة يلوحون له بأيديهم، لا يلوون، ولا تكاد تكون في صدورهم ضغينة واحدة.

    بغية الوصول إلى مصنع شموع أعياد الميلاد أخذ مادي كالعادة الباص رقم 76 -حافلة كبيرة تسع ربما أكثر من ثمانين راكباً وتعمل بالكهرباء- ذا خلفية زرقاء معتادة، وقد بدا سطحه الخارجي مثل أي جريدة تجارية مختصة، حوالي سبع إعلانات في كل جانب أهمها وأكبرها صورة ساندوتش هامبرقر . جلس مادي تلك المرة في أحد المقاعد وسط الباص قبالة امرأة نحيلة مصفرة الوجه، وبدا وكأنها غاضبة من شئ ما. في المقعد الخلفي مباشرة كان أحدهم يقرأ صحيفة ما، يقبضها ويبسطها بين لحظة وأخرى؛ محدثاً فرقعة ورقية غير محببة. كان زيادة علي ذلك يطلق ضحكات صغيرة بين الفينة والأخرى. مما جعل مادي يشك في أن هذه الصحيفة ربما كانت إصدارة خاصة بالطرائف. ولما كان مادي يحب الطرائف و يبرع بشكل معقول في حفظها و روايتها، فانه كان يجاهد فضوله أن لا يلتفت إلى الوراء، لأنه ظن في تلك اللحظة لغير ما مبررات كافية أن هذا السلوك قد لا يكون لائقاً؛ بمعنى انه ربما كان غير حضاري. وعلى العموم فان بعض الناس يدينون الفضول ويعتبرونه أحد الرذائل. غير أن ضحكة مدوية ملأت كل أركان البص الذى كان بقية ركابه في غاية الالتزام بالهدوء، ما جعل مادي بشكل خارج عن الإرادة يدور إلى الخلف صدراً ورقبة . هذه الحركة الفيزيائية أنتجت تمدداً لساقيه ، ما جعل ركبته اليمنى تحتك بالمرأة مصفرة الوجه دون أن يستدرك هذه الواقعة في أوانها وذلك ما دعى المرأة إلى القيام بمهمة إزاحة ساقه بطريقة غير ودية؛ بل تتسم بالعنف. ولم تنطق بكلمة واحدة، لكنها أطلقت هواءً كثيفا ذا صفير مسموع من بين أسنانها، وصار وجهها أكثر اصفراراً من ذي قبل، وبرزت عروق بنية داكنة تحت جلد عنقها الذي استطال وظهر كرقبة نعامة تهم بالفرار.
    "ليس هناك شئ لعمله اليوم، كل ما عليك هو الاستمتاع بحفل نهاية العام العملي".
    هكذا أوضح المدير المباشر بقسم التعبئة والتغليف لمادي بينما كان يرتقي السلالم إلى الطوابق العليا. في البهو المخصص عادة لإطعام أكثر من أربع مائة عامل وموظف؛ وجد مادي ستة أشخاص منهمكون في عمل الزينة وترتيب أرضية المسرح. تأكد من كونه قد جاء باكراً جداً على أي حال.

    من على المنضدة الكبيرة الملقاة على مقربة من بوابة البهو؛ استطاع مادي الحصول على نسخة من برنامج الحفل، وكان قد أنب نفسه قبل لحظة واحدة على عدم اهتمامه بمعرفة أحداث اليوم؛ إذ أنه لو كلف نفسه نهار الأمس وقرأ مثلاً لوحة إعلانات الإدارة لما حدث ما حدث له الآن ، إذ أنه على الأقل كان سيعرف ما ينبغي أن يفعل. عاين الورقة المستطيلة بإمعان؛ مدققا في تفاصيل برنامج الحفل.

    عند الساعة 15.30 إفتتاح ثم كلمة مدير المصنع...
    الساعة "..." كلمة ممثل العاملين... و نقاش مفتوح بين العاملين و ادارة المصنع. و فاصلة (قهوة، شاي).
    ثم موسيقي و رقصات من فرقة الفنون الشعبية... إلخ.
    لم يجد مادي في البرنامج شيئاً يروقه وكل ما كان يعنيه بشكل مباشر هو أخر جملة في تلك الورقة :
    "سوف تقوم الإدارة بإخباركم لاحقاً عبر البريد عن بداية العام العملي الجديد نسبة لأن أعمال الصيانة في المصنع قد تستمر لوقت لا يمكن تحديده الآن بشكل دقيق".
    أعاد ورقة البرنامج مرة ثانية إلى المنضدة. وضع يديه في جيوب بنطاله وحنى ظهره؛ بينما كان يعاين البالونات الكبيرة الملونة عند المدخل وعلى السقف؛ والشموع المختلفة الأشكال والألوان؛ في موائد دائرية موضوعة حول منصة المسرح، وكان بالقاعة حوالي مائة مائدة كبيرة تحيط بكل واحدة منها أربع مقاعد، وفوق كل مائدة أربع فوط صفراء تغطي سطحها العلوي، وفوق كل فوطة ثلاث مناديل ورقية بيضاء. كان كل ذلك وغيره من التفاصيل الصغيرة في القاعة شيئاً يؤكد لمادي أن الحفل سيكون مهيباً. غير أن مادي خرج في طريق العودة إلى بيته وقرر في دخيلته أن لا يعود مرة ثانية. ولأنه كان يعرف جيداً أن لديه من الوقت ما لا حاجة له به، قرر الوصول إلى بيته ماشياً على أقدامه تلك المرة.

    المسافة التي وجب عليه سيرها حوالي ستة كيلو مترات. سيمر أولاً على مركز المدينة والسوق الرئيس في أمستردام، الواقعة ثلاث كيلومترات ناحية الشمال من المصنع. عند مروره بمحطة البص رقم 76 توقف قليلاً، وأطرق ناظراً إلى الأرض وكأنه يتأمل دبيب حشرة صغيرة لا تكاد ترى بالعين المجردة، ثم أشعل سيجارة وواصل سيره في اتجاه الطريق السريع؛ حوالي نصف كيلومتر، ثم انعطف يميناً في اتجاه السوق الكبير دون أن يكون التسوق هدفاً معقولاً لديه. بطريقة لا مبالية صد الكرة الحمراء الصغيرة التي سقطت أمام قدميه إلى مجموعة من الأطفال؛ يلعبون على حافة الطريق ويثيرون ضوضاء محببة، فانزلق من جراء ذلك دون أن يلحظ سائراً في الشريط الضيق المخصص للدراجات الهوائية؛ قبل أن ينبهه رجل بدين ذو شوارب بنية داكنة بطريقة غير ودية؛ مشيراً إلى الطريق الأخر المخصص للمارة. لقت من على الأرض علبة سجائر مارلبورو، تبدو جديدة، وجدها فارغة مزقها بعناية فائقة إلى قطع صغيرة ، لاحظ أنها كانت تتساقط من يديه على الأرض، فقذف ما تبقى من الفتات في أحد صناديق القمامة الموضوعة على جانبي الطريق. على يمينه وشماله تمتد المنازل بشكل روتيني ومنظم كما هو الحال في كل المدن الهولندية الكبيرة مثل -أمستردام ، روتردام ، لاهاي وأوترخت- وترتفع رويداً رويداً كل ما اقترب من مركز المدينة حتى تخلص إلى عمارات يتراوح ارتفاعها بين أربع إلى أربعة عشر طابقاً ، تنقسم العمارة الواحدة إلى عدة شقق تخصص للسكن وغالباً ما يؤمها الفقراء من الناس، الأغنياء لديهم المقدرة على تجنب تلوث وضوضاء المدينة. في قلب مركز المدينة كما هو الحال في معظم دول العالم "الصناعي و الآخر"، تبقى مبانيه مخصصة في الغالب للأعمال التجارية المنوعة والمكاتب الحكومية. كانت على يساره طريق العربات التي تفصله عن الحزام الأخر من المباني المتلاصقة، تتخللها دوائر من الزهور ذات ألوان حمراء وبيضاء وبنفسجية ممتدة على طول الطريق. وكان بعض رزاز من المطر يتساقط بوتيرة منتظمة منذ الساعات الأولى من ذلك الصباح وحتى الظهيرة وكأنه مبرمج كمبيوتريا.

    عند مقدمه على طرف مركز المدينة مسح شعر رأسه بكلتي يديه وعبر الشارع إلى اليسار ليدخل أول مقهى يصادفه.
    طلب في بداية الآمر كوباً من الشاي لكنه غير رأيه في الحال وصاح في النادل:
    -" افضل لو سمحت عصير البرتقال".

    تذكر بعد ذلك أنه يستطيع الذهاب إلى مكتبة البلدية. لديه بطاقة عضوية تمكنه من استعارة المواد التي يبتغيها. تفحص ثلاث جرائد محليه بطريقة عجلي ومجلة "النيوزويك" الأمريكية. مادي يجيد اللغة الإنجليزية قراءة وكتابة. كان والده مهتماً بتعليمه ابان طفولته الباكرة فى بورجوازا. المواضيع الأهم في كل ما قرأه: حقائق جديدة حول علاقة الرئيس الأمريكي بيل كلينتون الجنسية بامرأة جميلة تدعي مونيكا لونيسكي، تقرير مفزع عن احتمال تفشي جنون البقر في بريطانيا، وشيء ما لفت انتباهه عرضاً: إعلان في قلب النيوزويك عن رواية جديدة تحت عنوان: "الفرح الكوني العظيم" . ثم تجول في قسم المواد السمعية والبصرية، ثم في قسم الكتب المترجمة. فاستعار "سي دي" لمجموعة مختارة من أغانى ال " روك آند رول"، شريط فيديو لفلم "التايتانك"، و أستعار أيضا كتابين أنتقى أحدها بعناية: رواية الكيميائي، لباولو كويلو، أبطالها أناس ظلوا ينقبون في غيابة الصحراء عن كنوزهم المدفونة في دواخلهم!.
    خرج من المكتبة وأخذ زقاق ضيق أفضى به إلى شارع السوق الرئيسية المزدحمة بالمارة، وضع قطعة معدنية من فئة (25) سنت في القبعة المتسخة الموضوعة أمام طفلة متدثرة بملامح الغجر؛ وتعزف علي آلة الكمان بطريقة ركيكة. دخل ثلاثة محال للملابس الجاهزة وخرج منها ليدخل محل مجاور للموبيليا، ليخرج في خلال ثلاث دقائق، ومن ثم ليدخل عدة محال للملابس الجاهزة ، الأحذية ، العطور ومعتمدية شركة التلفونات النقالة "الموبايل".

    ابتاع بطاقة تلفون ممغنطة و "ريموت كنترول" وضعهما في حقيبة بلاستيكية بجانب الأشياء المستعارة. عندما شعر بالتعب وعدم الرغبة في التجوال اكثر مما فعل، واصل سيره في طريق البيت. لكنه لم ينس وكما يفعل كل نهاية أسبوع أن يزور محال البرتهاين للمواد والأغذية الاستهلاكية. ابتاع كيس من شرائح الخبز، نصف كيلو من الجبن الهولندي التقليدي ، نصف رطل من الفستق و سبع زجاجات بيرة من ماركة هاينكن. تلبدت السماء فجأةً بغيوم سوداء، و أزدادت وتيرة تساقط المطر؛ حتى لقد صار النهار في ظلمة الليل، فشعر مادي بتدني درجة الحرارة بشكل غير متوقع في مثل ذاك الوقت؛ مما جعله يسرع الخطى.

    في غرفة الجلوس ذات الواجهة الزجاجية المطلة على الشارع الضيق استراح مادي علي الأريكة ذات اللون الأحمر الناصل لبضع دقائق، ثم نهض بعدها وفي عزمه ترتيب غرفة الجلوس، أزاح الستارة من علي الواجهة الأمامية الزجاجية؛ كانت مترعة بالرطوبة. نظف المنضدة البنية الداكنة بخرقة مخصصة، أصلح من وضع الأريكة التي ألفاها منحرفة قليلاً ناحية الركن الأيسر المقابل للنافذة الرئيسية ملتصقة بالخزانة الطافحة بالأوراق، أوقد المدفأة الغازية علي نار صغيرة هادئة، أشعل ثلاث شموع صغيرة ملونة فرقها علي ثلاثة أركان في البيت، وشمعة أخرى كبيرة نسبياً وضعها فوق المنضدة البنية ، أدار جهاز "التلفزيون" بطريقة تلقائية دون أن يهدف إلى مشاهدة برنامج محدد، ثم جلس كعادته وسط الأريكة، يغشاه شعور بالارتياح والرضا. يبدو أن مادي مهما كان إحساسه بالعزلة والفراغ يمكن أيضا أن يصيبه الارتياح والرضا؛ لمجرد انه قد نجح في عمل شيء ما كان قد خطط له ولو للحظة واحدة من الوقت؛ مهما كان هذا الشيء صغيراً أو ########اً في نظر الآخرين.

    خطرت له بعد كل ذلك فكرة صغيرة أشرقت في نفسه بالبهجة، فكتم صوت التلفزيون جاعلاً من الصور أشباح بكماء. كان ذلك تحديدا بعد استماعه -لماماً- لبعض عناوين أخبار الساعة الخامسة؛ بثلاث دقائق:
    " البرلمان يناقش مسودة قانون الأجانب الجديد، الإستنساخ البشرى يثير جدلاً كبيراً ولكنه حقيقة تلوح فى الأفق، متحدث من دائرة البوليس يعلن عن إلقاء القبض على عصابة محترفة إعتادت تهريب الحشيش الى دولتي ألمانيا وبلجيكا عبر حدود البلاد، ستة وخمسون رجلاً وامرأة يقضون؛ أثر غرق باخرة صغيرة كانت تعمل على تهريبهم من أفريقيا الى شاطئ أوروبى و... ". ومن ثم شرع مادي في الاستماع لاغاني "الروك آند رول" علي جهاز ال "دي في دي"، صب نصف زجاجة البيرة الأولى في الكأس الزجاجية المزركشة بعدد لا محدد من الخطوط البيضاء الرفيعة المتقاطعة، وهو برغم إعجابه بها فى تلك اللحظة، إلا انه لا يذكر من أين حصل عليها ولا متى، أزاح المنضدة البنية قليلاً من علي أرضية وسط الغرفة. ولبرهة من الوقت اخذ يرقص في حركات بطيئة، ملوحاً بيديه في الهواء جاعلاً رأسه يسقط علي صدره باسترخاء، وبرغم انه بدا كالمخمور فهو حتى ذلك الحين؛ لم يتعاط ولا حتى جرعة واحدة من الكأس التي صبها لنفسه. ثم عاود جلوسه وسط الأريكة بعد أن أعاد المنضدة إلى مكانها المعتاد، فك رباط حذاءه الجلدى السميك اسود اللون ، شرع في بسط ساقية في الفراغ القائم بين أرجل المنضدة البنية و جذب نفساً عميقاً استزفره بطريقة هادئة ومتقطعة؛ بينما كان يشاهد علي شاشة التلفزيون امرأة جميلة الوجه؛ ذات عينين خضراوين تنفثان بريقاً مثيراً للغرائز، فعمد في اللحظة إلى إيقاف جهاز ال "دي في دي" ورفع صوت التلفزيون عله يسمع ما تقوله تلك المرأة الجميلة:

    -"سيداتي آنساتى سادتي، مشاهدينا الكرام، بعد قليل سنلتقي مع الكاتب الأمريكى لاما دانيش مؤلف رواية الفرح الكوني العظيم ".
    ثم توارت المرأة خلف الضوء البلوري المتراقص مخلفة ورائها أطيافاً شفيفة من جنس ذلك البريق المثير للغرائز ، ورثته سحابة من الحبر الأحمر القاني اندلقت فجأةً في صدر الشاشة؛ لتعم جميع أركانها في جزء من الثانية فتحيلها إلى سماء حمراء، ويظهر خط ابيض دقيق؛ ورويداً رويداً، يتخلق بطريقة بديعة الفكرة عن فرج امرأة راشد، نما أخيراً في حجم مستطيل طوله عشر سنتمترات؛ كتبت بداخله في لون اخضر فاتح عبارة : إعلانات تجارية. ثم ما لبث أن انقشع ذاك الرسم العجيب من أمام وجه فتاة مبتسمة بطريقة مبتكره الاصطناع كاشفة عن أسنان براقة؛ ومجملة بشكل لا مثيل له في الواقع، في اللحظة التالية ظهر جسدها كله مكتمل النضج، وبديع التقاطيع وهي إذ ذاك ما تزال دائماً محتفظة بتلك الابتسامة البراقة لتقول بلهجة تبدي التنعم:

    -" كل الناس تقول لي: إن أسنانك ناصعة البياض، جميلة حقاً، صحية، وأنا امرأة صريحة، احب دائماً قول الحق ولهذا لا اخفى عليكم شي، إننى استعمل معجون الأسنان يانسوناين، لهذا أوصي كل الذين يشاهدونني الآن عليكم أن تنطقوا بالحقيقة في وجه الآخرين، الحقيقة يجب أن تملك للجميع، إنها: يانسوناين".
    ثم تتالت خمسة إعلانات تجارية بطرق مسلية وختمت بآخر سادس جاء بطريقة مختلفة وكأنه نبأ عاجل:

    -" فريق اياكس في مواجهة مانشستر يونايتد، قريباً، بإستاد "أرينا" ويتوقع أن تكون هذه المباراة معركة ضارية ، اكثر المباريات إثارة على كأس الأندية الأوروبية".
    بعد ذلك مباشرة خلا المجال لرجلين جلسا متقابلين يتحدثان إلي بعضهما البعض بطريقة تنم عن الجدية والصرامة الفائقتين، الأول مقدم برنامج حياة المشاهير وأعمالهم، والثاني ضيف برنامج الليلة، كما وصفه مضيفه:

    "الكاتب الأمريكى الكبير لاما دانيش مؤلف رواية الفرح الكوني العظيم".
                  

08-06-2011, 02:31 AM

محمد جمال الدين
<aمحمد جمال الدين
تاريخ التسجيل: 10-28-2007
مجموع المشاركات: 5342

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رجل من بورجوازا في أمستردام "Fiction" (Re: محمد جمال الدين)

    سفيان نابري أخانا الجميل ...

    ألف مرحبآ بك.

    نواصل... رجل من بورجوازا في أمستردام....

    محمد جمال

    (عدل بواسطة محمد جمال الدين on 08-06-2011, 02:39 AM)

                  

08-06-2011, 02:37 AM

محمد جمال الدين
<aمحمد جمال الدين
تاريخ التسجيل: 10-28-2007
مجموع المشاركات: 5342

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رجل من بورجوازا في أمستردام "Fiction" (Re: محمد جمال الدين)

    *** 2****


    "الفرح الكوني العظيم". ردد مادي هذه العبارة بانبهار حقيقي واظهر انتباه فائق. أنه بالفعل عنوان جذاب ومثير للاهتمام. بل أن المؤلف لامادانيش هو في حد ذاته رجل عجيب المظهر ذو لحية سوداء مرسلة تحيط بوجه صغير اصفر اللون في راحة الكف اليسرى لإمرأة شمطاء، وبطن منتفخ بشكل مناقض لحجمه الضئيل. ذلك لم يكن كل شيء، إن اكثر ما يثير الانتباه، عينا دانيش ، عينا قط بري صغيرتان دائريتان ملتهبتان كجمرتين متقدتين . اعتدل دانيش في قعدته تلك بينما ما هو مشغول بمداعبة لحيته بين لحظة وأخرى وبدا وكأنه غير عاب أو مكترث بالأسئلة التي طرحت عليه. لكنه علي أي حال كان يتحدث وهو في حالته تلك بطريقة لبقة وذكية، يطلق عبارات مثيرة للجدل ومستخدماً في كثير من أقواله كلمات غريبة أو معطياً معان جديدة لكلمات قديمة .
    -"نعم أنا أمريكى ".

    قال ذلك وهز رأسه بطريقة درامية ثم رفع رأسه إلى حافة السماء وأردف:

    -" لكنني افخر بأصولى الهندية وإننى......."
    وصمت لبرهة من الوقت ثم فتح فمه بحيث أصبحت المسافة الفارغة بين شفتيه حوالي بوصة ونصف، غير إنه لم يصدر أي صوت لبضع ثوان أخرى، فأنبعثت في الفراغ الزماني مقطوعة موسيقية صغيرة حزينة مصدرها آلة الكمان، حتى نطق دانيش:
    -"إننى اصبح سعيد أو اكثر سعادة ..."
    وصمت ثانية حتى كاد يكرر تجربة الصمت الأولى الطويلة نسبياً لكنه أكمل :
    -"عندما اذكر أسلافى الهنود ".
    و أبتدر بعد ذلك حديثه بعبارة :
    -"الإنسان عظيم ، نعم هذه حقيقة ".

    ثم تساءل :
    -" هل بالإمكان تصور الكون قانون فيزيائي محض، مجرد مادة؟".

    وأجاب من تلقاء نفسه :

    -" نعم، الأصل فى الكون هو النظام الفيزيائي، كما هو من البدهيات عند معظم الناس . المؤمنون بآلهة خالقة يقولون فى البدء كانت الأرض والسماء ولا شيء هنا على الأرض ولا هناك فى الآفاق التي يعتقد انها تحوي نفس مادة الأرض، وأن الإله يقيم خارج الأرض وخارج الآفاق. والآخرون يجزمون بالأمر نفسه لكنهم جعلوا من الأصل المادي جوهر مقيم بذاته فى ذاته، باعث لذاته من ذاته وباقً فى ذاته إلى الأبد".
    شرح دانيش كيف يكون الإنسان أي إنسان عظيماً :

    -" النظام الفيزيائى يعتمد وظيفته فى الحفاظ على نوع المادة. المادة المعينة لا تريد سوى ان تكون تلك المادة المعينة، لهذا تصنع لنفسها كينونة فيزيائية مختلفة فى المقدار عن المواد الأخريات.
    هذا الإحساس بالذات المتميزة فى جسد المادة هو الذى يخلق التحولات الفيزيائية والكيميائية فى الكون. كيف؟. من واقع عشق الذات، الإحساس داخل المادة بالتميز يخلق حالة من الخوف من الاندثار. هذا الخوف يجعل المادة المعينة تسعى الى تقوية نظامها الفيزيائي -قانونها الحاكم- يؤدي هذا الحراك الفيزيائي إلى توسع أفقي: تحالف أو اندماج مع مواد أخرى هى بدورها خائفة او يؤدي الي اغتيال أو انتحار فتبدل المادة المعينة قانونها في المقدار أو تفنى بشكل نهائي.

    مثل هذه التحولات تبقى مستمرة فى جسد المادة عبر مليارات السنين حتى تبلغ المادة المعينة دائرة منتهى الكمال النوعي . فتحدث طفرة فى النوع والمقدار، يبدل قانون المادة مساره فيتحول الى نمط حياة بدائية - قانون عقل غريزي-. عندما يبلغ قانون العقل الغريزي مرحلة منتهى الكمال النوعى عبر آلية الخوف من الألم و الطمع في اكتساب اللذة و "الأمن" يتغير القانون الغريزي نوعياً عبر ملايين أخرى من السنين، فيصبح عقل موضوعي-انسان العصر الحاضر . العقل الموضوعي يهدف الى السيطرة على الفيزيائي والغريزي - الوعى بهما - عبر آلية الخوف - الاحتياط الواعي- من الألم و الاكتساب المدبر للذة. وهذه مرحلة الوجود الإنسانى القائمة الآن. حتى اذا ما بلغ العقل الموضوعي مرحلة الكمال النوعي يتبدل فى المستقبل القريب الى قانون عقل كامل يعي قانون العقل الموضوعى ويسيطر عليه -يحتويه- عندها فقط تحل عقدة الذاتية والموضوعية- نسبية الوجود- ويتحقق الحياد المطلق حيث يتخلص الإنسان من الخوف والقلق ويعيش حياة سعيدة حقاً بمقاييس مطلقة. كيف يكون الإنسان عندئذ خائفاً وقد وعى مصادر الخوف وتجاوز مواقعها!، وكيف لا يكون سعيداً وقد وعى ذاته بذاته مذ كان قانونآ فيزائيآ محضآ!.. ففى الإنسان يتلخص الكون كله -تختصر قوانينه ذاتها فى الإنسان- إن الإنسان لعظيم !."
    مقدم البرنامج ينفعل ويتفاعل مع عيني القط:

    -"هذا عظيم، حدثنا أستاذ دانيش عن الفرح الكونى العظيم".

    فى تلك الأثناء بغتة رن جهاز الهاتف القابع فوق منضدة صغيرة موضوعة على الجانب الأيمن من الأريكة، ذلك حدث في نفس اللحظة التي رن عندها جرس الباب وبدا أن أحدهم ينتظر بالخارج!. رفع مادي سماعة التلفون والصقها علي أذنه اليمني ماشيا نحو الباب . كان كل ذلك متسقاً مع مصادفة حسنة لدورة جديدة من الإعلانات التجارية، إذ اندفق الحبر الأحمر القاني مرة ثانية ليتأجل حوار الرجلين المتقابلين إلى اكثر من خمس دقائق. حوالي خمس وأربعين ثانية ويصل مادي إلى الباب الخارجي . الرجل الهولندى العجوز مستر بيتر دافريز يخطئ العنوان الذي أراد للمرة الثانية، لا لأن أبواب البيوت متشابهة وهو فى وضع لا يحسن الرؤية بشكل جيد. الأمر لم يجز وأن يكون بتلك البساطة. زوج مستر دافريز مريضة، مصابة بداء السرطان وهى فى ذاك الأوان ترقد فى دار رعاية مرضى السرطان في حالة ميئوس منها كما اقر الأطباء . انه إذاً لشي طبيعي أن يكون الواحد منا إذا قدر له أن يكون في وضع مستر دافريز في حالة من الإرباك وعدم التركيز في الوقت الذى يكون فيه علي ثقة تامة انه لا محالة فاقد شخص عزيز في مقام شريكة مثل مسز أنكا دافريز.
    يستدرك مستر دافريز أنه قد اخطأ العنوان بالفعل لكن بعد فوات الأوان لقد ضغط علي الزر وعليه إذاً أن ينتظر ليقدم اعتذاره للمرة الثانية لذاك الشاب الأسود الذى اعتذر له بالأمس عن نفس الخطأ. حدث مستر دافريز نفسه:
    -"نعم هذه 24ب وليست 26 ب".
    ثم ابتسم لهذا القدر العجيب الذى جعله يخطئ العنوان الذي أراد مرتين ويكرر هذا الخطأ في غضون أمسيتين متتاليتين .بعض الأعراف والقيم الإنسانية تحتمان عليه أن ينتظر ليقدم اعتذاره قبل أن يهم بالمغادرة .
    فتح مادي الباب بيده اليمنى بعد ما حول سماعة التلفون المتحركة إلى أذنه اليسرى وأشار إلى الرجل المسن؛ الذى ألفاه عند عتبة الباب بالدخول، ثم أمسك بذراعه حتى جاوز به عتبة الباب. بدل مستر دافريز مشاعر الدهشة إلي ابتسامة ونطق بكلمات لم يستطع مادي سماعها. كان مادي في ذاك الأثناء مشغولاً جداً ومستنزف الانتباه بفعل محادثة هامة مع مم.
    من هي مم!؟.

    كل الناس الذين تصادف وجودهم لصيقين بمادي لسببٍ أو آخر؛ يسألون ذاك السؤال. مم مجرد امرأة متوحدة ليس لها زوج ولا أبناء، عاش معها مادي العام الأول من حياته بامستردام ، إذ كانت خريتا، و ذاك هو اسم مم الحقيقى قد أرادت في البداية تبنى الطفل مادي عند وصوله إلي امستردام. وأخذت منه عهداً أن يناديها دوماً مم أو ماما. كانت تظهر له حبا و كأنه طفلها وتعلق بها مادي . كان مادي صبياً طيب القلب ، مطيعاً وقد اجتهدت مم خريتا في تدريسه مبادئ اللغة الهولندية وعملت على تلقينه بعض تقاليد الحياة في ارض غريبة؛ سقط عليها كورقة شجر قذفتها الرياح من الغابة. إلى أن حان موعد مغادرة مم خريتا إلي البرازيل؛ حيث تحتم عليها العيش هناك كمديرة لدار رعاية الطفولة المعذبة فرع ريودي جانيرو. كانت فرحتها لا توصف إذ تم اختيارها لهذا المنصب الرفيع؛ بواسطة مركز المنظمة العالمية. سبق أن كانت مم خريتا عضواً نشطاً بهذه المنظمة منذ اكثر من عشر سنوات. سافرت في أعمال طوعيه إلي بنغلادش ، الكنغو ، رواندا ، جنوب السودان وأثيوبيا. وهى امرأة متمسكة حقاً بمبدأ رعاية الأطفال و عدم اذائهم.
    و منذ سفرها قبل تسع سنوات خلت لم تعد أبداً إلى امستردام ، فهي مشغولة دوماً بفعل الحروب التي يشعلها البشر والكوارث التي تثيرها الطبيعة فتخلف ورائها ضحايا لا حصر لهم من الأطفال مشردون، جائعون وأيضاً موتى. إلا أن مم خريتا ظلت تداوم على الاتصال بمادي بشكل دوري وفى كثير من المناسبات لا سيما أعياد الميلاد، و ترسل له كروت تهنئة وهدايا صغيرة رمزية من البرازيل؛ لها وقع لا يوصف على عقل مادي. مادي بدوره يحاول دائماً أن يحفظ صوره مم في عقله. يرسل لها هو أيضاً كروت تهنئه ورسائل صغيره ويخبرها بآخر التطورات في حياته. ويراها كإنسان ذا قيمة نادرة . لهذا كان الاتصال التلفوني بينهما ذو متعة فريدة لا يستشعرها غير أم وأبنها .

    في المسافة الزمنية الفاصلة بين انقشاع صورة الفتاة ذات الأسنان البراقة والإعلان عن مباراة كره القدم بين فريقي اياكس و مانشستر يونايتد، جلس مستر دافريز عاكفاً يديه فوق حجره موجهاً نظره الحسي إلى الجهة التى وضع عليها جهاز التلفزيون. ولبرهة صغيرة من الوقت مس بإبهامه المنضدة الخشبية بنية اللون و أجال بصره في التفاته دائرية متوسطة الفضول على أركان الغرفة الأربع. لم يكن أساس البيت جميلاً إلى حد يجذب النظر ويثير الإعجاب. ليس هناك شيئاً ثميناً في البيت بالمعنى المادي على الإطلاق. ثم نظر إلى ساعته فقدر أن ما تبقي لديه من الوقت حوالى ساعة ونصف؛ وهو زمن اكثر من كافى لتفقد العنوان الذى أراد؛ ومن ثم الرجوع مره ثانية خلال ذاك المساء؛ إلى دار رعاية مرضى السرطان.

    استنفذ مادى حوالى أربع دقائق وبضع ثوانى فى تلقى محادثة مم خريتا، قبل أن يتفرغ لقهوة الرجل المسن الجاثم على الأريكة. ويستمر فى متابعة الحوار الشيق مع المؤلف الأمريكى لامادانيش، ذاك الحوار الذى تقطع أربع مرات بفعل إندفاق الحبر الأحمر القانى. وخلال معظم ذاك الوقت كان الشاب وكذلك الرجل المسن مأخوذين تماماً مع تصورات دانيش الغريبة والمبهمة أحياناً. ولو أن الرجل المسن والمجرب تعمد فى بعض الأحيان التماهي مع دانيش بقصد الراحة النفسية متخذاً من مادي قدوة له فى تلك اللحظات العجيبة من وحشة اللقاء الأول وفى وقت حاسم من حياة مستر دافريز.
    بدا مستر دافريز هادئاً وهو ما يزال عاكفاً يديه فوق بعضهما البعض وكأنه غير عاب أو منخور بالقلق. فوق السبعين من العمر. لكنه ظهر قوياً، مديد القامة، متماسك الأطراف ومحتفظ بفراغ صغير بين ظهره والوسادة الخلفية للأريكة. ذو رأس اصلع بدا معتاد الحجم، يلفه حزام من الشعر الأبيض تراءى مع ضوء الشموع الأصفر الخافت وكأنه قطعة صخر حمراء ملقاة فوق بركة صغيرة من الجليد ، وذلك ربما لأن وجهه الأبيض الناصع يعطي مثل هذا التصور الظاهري دفقة إلى الأمام.
    خلع مستر دافريز نظارته السميكة وشرع فى الوقوف قبل أن يجلس ثانية فالتقت يد مادي بيده ، يدان تقبضان بعضهما البعض بغير وهن أو ارتباك قبضة كأنها الوعد بالسلام.
    -"أنا بيتر دافريز".
    -"مرحباً بك مستر دافريز ".
    -"وأنا مادي تونقا".
    اعتاد مادي منذ قدومه إلى أمستردام أن يسمي نفسه باسم عائلة أمه، برغم أن ذلك لم يكن اسمه الرسمي .
    -"شكراً لك مستر تونقا".
    لم يجد مستر دافريز أي مبرر للإعتذاز عن إخطائه العنوان. انه فى قلب الدار لا ينقصه الترحاب. حتى انه لربما نسي تماماً، وقوفه قبل خمس دقائق تقريباً، عند الباب الخارجي للدار، رجاء الاعتذار ثم المغادرة كونه قد اخطأ العنوان. ولم يجد مادي أي مبرر لسؤال الرجل الغريب الواقف لحظتها وسط داره عن ماهية مقصده. ليس ثمة شي يدعو لمثل هذا الأجراء الذى اصبح غير لائق بشكل مؤكد!. لقد فات أوانه بكل بساطه . مستر دافريز اصبح فى لحظة واحدة وكأنه أحد المعالم المعتادة في البيت. فى مقام الأريكة الحمراء ناصلة اللون ، أو قل المدفأة الغازية المسجاة بغبار شفيف يغطي سطحها العلوي. تلك المدفأة لم يبتاعها مادي لقد وجدها هكذا كأحد الثوابت فى البيت عندما استأجره قبل بضع سنوات خلت.
    وكان دانيش ما زال محدقاً فى طرف السماء. وبدا هذه المرة وكأنه يراقب سقوط نيزك يتلظى وهو يقول:

    -"كانت تلك قراءة عامة، أما من الناحية العملية، فإن قراءة رواية الفرح الكونى العظيم، تعالج الكآبة والأمراض الناجمة عن الوحدة والفراغ بشكل حاسم. ذلك أن كلمات الرواية - جملها وتراتب معانى سردها- تقوم باهدار طاقة الخوف المترسبة في قعر عقل الانسان الموضوعي و من ثمة تفتح أبواب الفرح الكونى العظيم الكامن فى بوادر العقل الكامل. قمت فى عملية تأليف هذه الرواية بالإفادة من وسائل التكنولوجيا الحديثة وتطور علم هندسة الوراثة للوصول إلى آلية معنوية تعمل على فرز و ازالة نوع محدد من الهواجس الانسانية الموروثة عبر أزمان سحيقة، حيث كان الإنسان فى مرحلة التكوين، إبان كان الجنس البشري في مراحله الأولية يرتقي فى مراتب النشوء والتطور في المسافة الزمنية القائمة ما بين القانون الفيزيائي والعقل الموضوعي. كانت طاقة من الخوف مهولة، أختزنت عبر مليارات السنين. كل تلك الطاقة لم يستطع العقل الموضوعي الخلاص من أسرها واثرها بعد، فأصبحت كالزائدة الدودية، و أضاف اليها مخاوفه الخاصة التي اقتضتها قوانينه الجديدة: "أعني الخوف اللازم للمرحلة"، ذاك الخوف الممزوج بالقلق. على هذا النحو أصبح الإنسان الخائف الأعظم على وجه الأرض، ومأزوماً نفسياً بلغة علم النفس. وبالتالي أصبحت حياته المعنوية أكثر معاناة من ذى قبلـ ، بما ينتجه العقل الموضوعي " ومع أزمته تلك" من مقدرات على التصور والتخيل والإدراك. فالإنسان الحاضر يستطيع تصور الألم قبل حدوثه. وتصور الألم في حد ذاته ألم. وحدوثه فى مثل هذه الحالة يصبح أكثر إيلاماً. كما يخطط الإنسان فى هذه الأزمان المتأخرة من وجوده على ظهر الأرض الى اكتساب أكبر قدر من اللذة. وأحياناً كثيرة أكثر مما يلزمه، والتخطيط لاكتساب شىء هو نفسه جهد يتطلب المعاناة النفسية والبدنية. إضافة إلى أن لذة متوقعة ومرتبة مع سبق الإصرار هى اقل إمتاعاً من ذي قبل حيث كان الإنسان الأول -في مرحلة الغريزي المحض- يسعى إلى اللذة بوحي الحاجة الفطرية ويقصدها للكفاية لا الإدخار".
    البريق الأخضر المثير، فالحبر الأحمر القانى، و الرسم العجيب يعاود الشاشة. ثم نشرة الأخبار؛ بعد قليل. كتم مادي الصوت فى تفاعل تلقائي مع مقتضيات اللحظة، ولأن على أي حال ذلك الحوار الباهر مع لاما دانيش قد انقضى.
    صب مادي قهوة الضيف . وقال بينما كان يفرغ نصف زجاجة البيرة المتبقية فى الكأس المزركشة:
    -" أظنني قابلتك مساء الأمس مستر دافريز، أليس كذلك؟ "
    -"نعم ، نعم ، لقد وقفت أنا بالأمس على باب دارك، كنت قد أخطأت العنوان".
    ثم ضحك مستر دافريز حتى اهتز جسده كله واهتز معه القماش الأحمر السميك الذى يغطى الأريكة. لكنه على أي حال حتى تلك اللحظة لم يعتذر صراحة عن إخطائه العنوان أيضاً هذا المساء، ولو انه قال شيئا بطريقة غير مباشرة بنفس المعنى.
    حك مادي انفه وسأل هذه المرة بفضول:
    -" أى جهة كنت تقصد مساء الأمس؟".
    ثم أضاف سؤال آخر بعد تردد واضح‍‍‍:
    -"وماذا عن مساء اليوم؟ ".
    أجاب مستر دافريز باقتضاب:
    -"المنزل رقم 26 ب".
    -"تعني الشقة المقابلة لهذه الشقة ؟".
    -"نعم ".
    عندها ضحك مادي ضحكة صغيرة صافية وكأنه يستمع إلى طرفه ظريفة لم تكتمل بعد. ونجح فى كتم فيضاً من الفضول. فالمرأة العجوز-هاس- التى تقيم فى الشقة المقابلة 26ب هى بالنسبة لمادي لغزاً لم يجد أي رغبة للتفكير فيه أو السعي لحله. فقط كان يفكر أحياناً أن حياتها لابد وأنها صعبة. فهى على الأقل تكاد تكون وحيدة، دائماً، لا يزورها أحد. فقط تربي ######ا و ثلاث قطط. أن الحياة أحياناً تجعل جوار الضرورة أمراً روتينياً حتى أن بعض الناس يشعرون بمأساة الناس الذين يشاهدونهم على القنوات التلفزيونية، ولا يشعرون بأي شيء تجاه ما يحيق بجيرانهم الذين يشاركونهم نفس البناية .

    لمادى فكرة ما سيئة عن هذه المرأة وبنفس القدر فأنه كثيراً ما يحس بأنها تحمل شعوراً غير طيب نحوه، ولو أن كليهما كان جيداً فى نفاقه تجاه الآخر. المرات القليلة التى اشتبكا فيها بالكلام تكاد تحصى على أصابع اليد الواحدة وكان مصدرها غالباً وضع أكياس القمامة وأحياناً فوضي القطط، زيارة قطط هاس الثلاث شقة مادي كل ما سنحت الفرصة، واحتفاظ مادي بها لبعض الوقت، الشيء الذي يثير غضب الأرملة هاس. لكن لا شيء غير ذلك يكاد يجمع بينهما بمعنى التفاعل إيجاباً أو سلباً برغم جوارهما الذى استمر بضع سنوات. كانا يتبادلان عبارات التحية أحياناً بشكل خجول ومقتضب، متى ما تصادفا، مثلاً فى الممر المؤدي إلى مدخل العمارة أو عندما يفتحا أبوابهما فى وقت واحد. وكثيراً ما ينطقا بتحية روتينية فى وجه بعضهما البعض، فى وقت واحد دون أن يسمع أحدهما ما قال الآخر على وجه الدقة. ذلك ربما عنى على أي حال أن شيئاً من العقد الاجتماعى يشبه العرف والعادة قد أخذ ينشأ بينهما بشكل تلقائي. بمعنى أن يعيشا جيراناً دون أن يحاول أياً منهما التعرف إلى الآخر أو أن ينتابه شيء من الفضول الفاعل تجاه حياته.
    فتح مستر دافريز صدره لمادي و شرح بتفصيل وافى لماذا هو الآن هنا. وكان يتحدث برنة حزن واضحة :

    -" المرأة التى تسكن جوارك كانت زميلة زوجتي فى المدرسة المتوسطة، كانت أحد سبع بنات فى ذلك الأوان كن صديقات حميمات لزوجتي أيام الصبا الباكر. وزوجتي الآن مريضة جداً ".
    وظهر وجه مستر دافريز أكثر حزناً وبدت جفونه مائلة إلى الصفرة:

    -"وقد أكد الأطباء أن حالتها ميئوس منها وأنها ربما تموت فى غضون أسابيع قليلة، أنها مصابة بداء السرطان".
    وصمت مستر دافريز لبرهة، ثم مسح وجهه بيده اليسرى وواصل:

    -" أنها تود أن ترى صديقات صباها يجتمعن حولها قبل موتها، تقول أن هذه أمنية عزيزة لديها".
    تلك قطعاً من الأنباء التى تثير الحزن فى قلب أى إنسان ناضج وسوي العقل. الشيء الذي يفسر تعاطف مادي و تماهيه مع المأساة. ذاك ما عبر عنه بقوله:
    -" أنه لأمر محزن وأنه لمن حقها أن تحاول رؤية صديقات طفولتها كل ما كان ذلك مستطاعاً ".
    ردد مستر دافريز عبارة: " كل ما كان ذلك مستطاعاً ".
    وواصل شارحاً:
    -"نعم ، منذ أسبوع تقريباً، أبحث عن عناوين عديدة، وأتصل تلفونياً، ولكنى لم افلح حتى الآن سوى فى الاتصال باثنتين، وافقت أحدهما، والأخرى صحتها معتلة، بحيث أنها ربما لا تستطيع المجيء إلى امستردام، فهي ما تزال تقيم فى ليمبورخ -فى جنوب هولندا- المكان الذى ولدت فيه زوجتي وعاشت طفولتها وصباها. حصلت بالأمس بعد جهد كبير على عنوان هذه السيدة، جارتك، ولم أجدها مساء الأمس، وأنا هنا الآن للمحاولة مرة ثانية".
    وبدا مستر دافريز فجأة متعباً ما دعى مادي ليقترح بتعجل:
    -"سوف أذهب لأرى إن كانت السيدة موجودة الآن أم لا، الا ترى أن هذه فكره جيدة ".
    لم يكن مستر دافريز مع هذه الفكرة بدايةً غير أن مادي نفذ فكرته بطريقة تعسفية دون أن ينتظر إجابة مستر دافريز أو يذعن إلى اعتراض قد يبديه. ترك الضيف فى البيت وقذف بنفسه كالصاروخ ليدق الباب المجاور .

    فتحت الأرملة هاس الباب. كان مادي متعرق اليدين:
    -"أيتها السيدة هناك ضيف جاء من أجلك رجل طاعن في السن يقول أن زوجته كانت صديقتك و..." .
    قاطعته هاس وفى عينيها ريبة وإستياء:
    -" ضيف!. ضيف من؟. أنا لا أري أحداً معك الآن ولا افهم ما تعني".
    وحاولت هاس إغلاق الباب في وجهه. لكن مادي ألح عليها بالرجاء وشرح لها أن هذا الضيف متعب جداً وتصادف أن دخل منزله:
    -" وهو الآن موجود هناك".
    فى تلك الأثناء كان مستر دافريز قد فتح الباب، وقف على العتبة ينظر ما ستسفر عنه المناقشة، مستسلماً للعزم الذى أبداه مضيفه. ولما كانت المسافة الفاصلة بين الشقتين لا تتعدى ثلاث أمتار فأن هاس قد تأكدت بعض الشيء من صحة ما قاله الشاب الذى اجتهد فى شرح المسالة و دعاها بإلحاح إلى دخول بيته لمقابلة ضيفها وكان يكرر مبرراً:
    -"انه متعب جداً ".
    تقدمت المرأة بتلكؤ واضح نحو مستر دافريز وحيته باستغراب وهو إذ ذاك ما يزال يقف على حافة عتبة الباب. نظر إليها مستر دافريز مبتسما:
    -" أنا دافريز زوج انكا فان كوك، ألست أنت السيدة هاس فان هارن؟."
    أجابت هاس بالإيجاب غير أنها قطبت حاجبيها مما احدث طيات إضافية على جبينها فبدت شمطاء أكثر مما هى عليه وقالت إنها لا تذكر هذا الاسم
    -"أنكا فان كوك! ".

    وقبل أن يجد مستر دافريز الفرصة ليشرح المسألة واصلت هاس:
    -"لكن قل لى ما الأمر؟".
    اتكأ مستر دافرايز على الزاوية الخارجية للباب وأخذ في بضع دقائق يشرح الخطوط العريضة للحكاية المؤسفة، قبل أن يفاجئهما مادى بطريقة هي الأخرى تعسفية حيث اقترح أن كانا يودان إكمال حديثهما بالداخل، وقد عنى بالداخل بيته، لكنه لم ينتظر الإجابة وأخذ السيد والسيدة من أيديهما ووجه الحديث إلى هاس :
    -" السيد متعب جداً، أرجوك أن تدخلي لتدعينه يكمل حديثه معك على الأريكة، أستطيع أن أحضر لكما القهوة إن كنت تحبين ".
    قبل أن يكمل مادي حديثه كان ثلاثتهم داخل البيت. علاقة مادي بمستر دافريز ربما كانت و حتى تلك اللحظة من الألغاز الباعثة لفضول هاس. أحيانا بعض العادات الاجتماعية الراسخة قد تخرق وتنهار كلية لمجرد فيض من المشاعر الوجدانية.

    تذكرت هاس كل شيء وأصبحت أكثر ليناً وعاطفة وبدت محزونة وآسفة على ما ألم بصديقة قديمة منسية.
    بعد أن ضرب مستر دافريز موعداً مع هاس عصفت لحظات من الصمت بالمكان. هاس استغرقت فجأة فى الذكريات البعيدة. مستر دافريز استسلم لأحزانه. ومثل تلك اللحظات الفريدة لا تتيح لشاب فى وضع مادى فرصة لقول الكثير. غير أن مستر دافريز أخيراً قطع رتابة الصمت، قائلا:
    -"لقد توجب على أن أذهب الآن ".
    و شكر هاس على تفهمها وقبولها الحضور مساء الأحد إلى دار رعاية مرضى السرطان وأخذ فى نهوض متعثر. فى تلك الأثناء شرع مادي فى لبس حذاؤه الجلدى السميك؛ وبينما كان لا يزال مشغولاً برباط حذاءه؛ طلب شيئاً بطريقة مفاجئة لم تخطر أبداً على بال مستر دافريز:
    -"سأذهب معك أيها السيد لزيارة السيدة المريضة، إننى أود أن أراها ".
    ثم واصل متسائلاً:
    -"هل السيدة ستوافق على زيارتي لها؟. وهل أنت موافق أيها السيد؟" .

                  

08-06-2011, 02:43 AM

سفيان بشير نابرى
<aسفيان بشير نابرى
تاريخ التسجيل: 09-01-2004
مجموع المشاركات: 9574

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رجل من بورجوازا في أمستردام "Fiction" (Re: محمد جمال الدين)

    up
    حرف حرف .
    ارح
                  

08-06-2011, 02:44 AM

محمد جمال الدين
<aمحمد جمال الدين
تاريخ التسجيل: 10-28-2007
مجموع المشاركات: 5342

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رجل من بورجوازا في أمستردام "Fiction" (Re: محمد جمال الدين)

    ***3***


    مستر دافريز مهندس آليات زراعية أحيل للمعاش منذ عدة سنوات، أرتبط بالسيدة أنكا فان كوك منذ ستة وثلاثين عاماً. وعاشا طوال هذا العمر حياة هادئة فى منزلهما التقليدى الذى اشترياه بالشراكة فى حي امستلفين في طرف امستردام وبقيا فيه معاً حتى مرض السيدة التى استشرى السرطان فى جسدها. فأجريت لها فى البداية عملية جراحية فاشلة فى الحلق فلم تعد تستطع الكلام، وسبق أن أستأصل ثدياها و كل ذلك لم يجد فى إسعافه!ا. وكان عليها أن تنتظر قدرها كما قال به الأطباء!. كما توجب على مستر دافريز أن يعيش المأساة كاملة. بعد خمس سنوات من رباطهما انجبا طفلتهما الوحيدة: آنا، وهي متزوجة منذ ست سنوات وتعيش مع زوجها منذ ذلك الوقت فى إندونيسيا حيث يملكان مصنعاً صغيراً للعب الأطفال فى جاكرتا؛ هناك توجد الأيدي العاملة غير المكلفة.

    فى ذلك المساء الذى مثل حدثاً جديداً فى حياة مادى اخبره مستر دافريز أن ابنته آنا ستعود مساء الغد السبت لمعاودة أمها المريضة و للمرة الأولى منذ مغادرتها إلى إندونيسيا.
    كان على مستر دافريز أن يستقبل الابنة العائدة فى المطار ومعها حفيديه يان البالغ من العمر أربعة أعوام و مارك عامين اضافة الى المربية سو.

    خلال ساعات قلائل اصبح الشاب اليافع مادي والرجل المسن مستر دافريز وكأنهما صديقان قديمان وحميمان. كانا يتحدثان فى الطريق إلى دار رعاية مرضى السرطان عن كل شى تقريباً يجوز الحديث فيه. يخوضان أحيانا فى تفاصيل صغيرة ودقيقة تخص الحياة الحقيقية للإنسان- هواجسه ومشاعره.

    سأل مستر دافريز رفيقه برفق إن كان يود أن يذهب معه إلى السوق صباح الغد، لشراء بعض الأشياء اللازمة بمناسبة الضيوف المتوقع قدومهم مساء الغد . وافق مادي، وزاد على ذلك بسؤال صديقه إن كان سيسمح له أيضا بمرافقته فى استقبال ابنته وأحفاده. يبدو أن لا شى يعترض إرادة الإنسان إذا عزم على خرق العرف والعادة حتي و ان كانا راسخين رسوخاً قوياً . لا فارق السن ولا الفوارق التى كثيراً ما تفرق. قلبان اشرعا أبوابهما للمشاعر الحقيقية في لحظة كالبرق الخاطف. الشاب اليافع مادي الولي الذى وفد منذ صباه الباكر من بورجوازا إلى امستردام ؛ منذ حوالى عشر سنوات خلت وعاش فى الهواء مفرغاً من الجذور وكأنه خيال لا حقيقة . و مستر دافريز الرجل الهولندى الطاعن فى السن عركته الحياة علي مر أكتر من سبعين ربيعاً. قاتل ضد الجيش النازي فى أحد المعارك الحاسمة؛ محاذاة نهر الراين. ذلك زمان قد انقضى؛ لكن مستر دافريز ظل يذكره. أحياناً كان يشيد ببسالته وعزمه أيام عنفوان شبابه، ولو أنه لا يفعل الفخر بقدر ما يظهر فى روايته؛ عن جده الفذ القبطان تاسمان، الذى جاب الكرة الأرضية - في القرون السالفة- على ظهر مركب شراعي؛ ينقب في جزر المحيطات الواحدة تلو والأخرى حتى تونقا تابو.

    نهضت مسز دافريز بإعياء. حياها مادي وقدم لها باقة الورد التى انتقاها علي عجل فى طريقة بمعاونة رفيقه. كما قدم لها الكلمات الصغيرة التى اجتهد فى كتابتها عند بوابة المبنى على كرت خاص بالمرضى. وضعت مسز دافريز باقة الورد على ثنية ذراعها الأيسر وأشارت إلى مادي كي يدنو منها. دنى بشكل لم يكن كافياً، جذبته من كمه بحيث اصبح ملاصقاً لها،ثم أزاحت رأسها الي الوراء و تأملت وجهه بحياد، فقبلها مادي على جبينها . قدم مستر دافريز مادي قائلاً:

    -" أنه مادي تونقا صديقي الجديد" .

    وقال شيئاً آخر وكأنه التبرير لذاك القرار العاجل :

    -" إنه شاب ودود " .

    أطلقت مسز دافريز عند ذلك ابتسامة رضا عريضة وشرعت فى الجلوس على الفراش المغلف بملاءة قطنية بيضاء، بدت متهالكة، كان شعرها الأبيض كثاً ومنكوشاً ، وتنمو على وجهها بثور صغيرة صفراء تميل إلى الاحمرار عند نهايتها.

    نظر إليها مستر دافريز بحنان وبدا وكأنه يتجاوز الواقع المؤلم وينطلق إلي آفاق المكنون من النفس، فيري: ظلالاً من الإشراق المفضى إلى الطمأنينة يعشش فى عينيها الصافيتين، وكأنهما ترفضان الحزن المخيم. تلك المرأة الهامدة لحظتها فوق الفراش، كانت يوماً ما جميلة، صحيحة الجسد مشرئبة الصدر، متناسقة الأطراف، لطيفة الروح، ومفعمة بوميض الأنوثة. ورأي مستر دافريز ألقاً بهياً يعلن حضوره، وأصنافا من زهوات الأزمان السالفة تحوم حول ذلك الجسد الذى تراء زابلاً ؛ قادمة من حقول الفراولة وحدائق الزهور العطرية فى ليمبورخ؛ على مدى اصياف كثيرة فى عهود من العمر زاهرة.


    استوت مسز دافريز جالسة على السرير، وطلبت من الشاب الذى اختار الوقوف فى موقع جعله ملاصقاً للحائط فى محاذاة الزاوية القصوى من السرير؛ أن يدنو منها ثانية بإيماءة شبه آمره ومستعجلة. استجاب مادي إلى طلبها. جذبت يده اليسرى برفق إلى تحت ففهم أن عليه أن يجلس بجانبها. تلمست شعر رأسه الأجعد بحنان ثم أراحت يدها بين كتفه وعنقه لبرهة من الوقت. ظل مادي فى تلك الأثناء مشغولاً بمشاعر مختلفة من الحزن، الارتباك، العرفان بالجميل، حرارة حضن الأم وشعور غامض كأنه الانتماء.

    جذب انتباه الشاب الغارق فى تلك الأحاسيس التى لا يمكن إستكناهها بالكامل ليجيب على سؤال جانبى أسقط عليه فجأة:
    -"من أين حصلت علي القميص! أعني أنها تقول انه جميل!".

    هكذا القى السيد دافريز السؤال نيابة عن السيدة. أجاب مادى بطريقة عجلى:

    -" إنه من محال "الفي آند دي"".

    ولكنه بعد لحظة واحدة تذكر أنه طوال عام كامل لم يبتاع أى شى من تلك المحال، وان ذاك القميص عمره شهرين فقط. غير انه لم يرى سوءاً فى الاكتفاء بما قال. لقد كان مشغولاً بما هو أهم عنده ، فيض من الأحاسيس الوجدانية، فى لحظة فريدة حقاً. لكنه وجد أن لزاماً عليه النطق بكلمة شكر:

    -" شكراً لك مدام ، هذا لطف منك ".
    وخيم صمت لحوالى دقيقتين. كان أثناء ذلك مستر دافريز جالس على كرسى ابيض صغير مطرقاً إلى الأرض. بينما السيدة المريضة تعبث بكتاب صغير أخذته من بين أربع كتب موضوعة فوق المنضدة المتحركة الملاصقة لسريرها.

    التفت مادى نحو النافذة الزجاجية نصف المفتوحة وكأنه يحاول عبثاً الهروب من حضور ثقيل أختاره هو بمحض إرادته. جاوز ببصره الحديقة الزهرية الواسعة ليذهب إلى ابعد ما يمكن رؤيته من الأشياء. كان هناك دخان كثيف ينطلق من مصنع قائم فى الخلاء الممتد خلف المكان حوالي ثلاثة كيلومترات ويخلص إلى سحب كبيرة سوداء ثقيلة الحركة. قطارات السكك الحديد، الطريق السريع ، الناس وسرب من الطيور الصغيرة تمرغ الأفق . وهناك على مدى التوقع الطبيعى لإملاءات التجربة ولو أصبح ذاك أعظم ما تتيح النافذة الصغيرة. رأي مادي الحياة تسير سيرها الطبيعي: الشمس تشرق وتغرب وتعيد الكرة تلو الكرة، خلاله تراوح الفصول مكانها، يتناسل الناس يزرعون النوع وكذلك تفعل الحيوانات وتتكاثر النباتات. الأرض بكل ما فيها من مناخ صالح للحياة تتوفر على سبلاً للكارثة ، الدمار وتفتح أبوابا و طرقاً معبدة للموت. وتحتم على الإنسان أن لا يستسلم بسهولة، أن يكافح من أجل البقاء والأمان منذ البداية وحتى النهاية. ورأي مادي الأشياء تسير سيرها المعتاد: حاويات البضائع تنتظم الطريق بين امستردام وميناء روتردام، المقاهي تفتح أبوابها مثل كل يوم ، القنوات التلفزيونية ،الصحف، الميادين العامة، البصات الزرقاء ، المآتم وأعياد الميلاد. الطريق الواقعة على مرمى حجر من مصنع شموع أعياد الميلاد تلك الطريق التى تتخللها الزهور الحمراء والصفراء والبنفسجية تفتح سبيلين للسيارات بنفس العدد. الطرق المقاطعة والطرق الأخرى الأصغر شأناً تنتظمها شارات المرور بنفس الوتيرة. كلمات الحب الحقيقية والأخرى المزيفة تردد بذات اللهجة بين العشيق وعشيقته قبل الجماع وبعده. مطار امستردام كسيرته الأولى معبأ بالإياب وبالذهاب .

    ولوهلة أخرى، حامت في خواطره ذكريات صغيرة مبعثرة اختزنتها ذاكرته من واقع الحياة اليومية في أمستردام و أخذت خصوصيتها فألتصقت بعقله دون سواها لكونها لمست شيئا عميقا في دخيلته؛ شيء وجداني؛ يختبىء في حوصيلات الحزن، المرارة، الغضب، الطمأنينة و الفرح: معلمة اللغة الهولندية تخاطبه: " أنت هاديء جدا مستر مادي، لا تكلم أحدا، أراك أغلب الوقت في الفصل شارد الذهن؛ لدرجة وجدتني مرة أحسبك تموت واقفا". سقطة عنيفة على جليد شتائه الأول بأمستردام. صبية يغرسون عمدا قطعة زجاج في فخذه الأيمن. تساؤلات قد تبدو صغيرة لكنها حادة كقطع الزجاج المكسور لتوه: لماذا لم يبقى مستر مادي في موطنه الأصلي ويعمل هناك؟. ما قصة هذا الرجل؟. بأي حق هو هنا -في أمستردام!. مم "خريتا" تضمه على صدرها أول مرة و تزيل عنه ملح البحر العالق بأهدابه.
    لحظة الصمت تلك انقضت مثل ما تنقشع أى لحظة رتيبة وتعقبها لحظات أخرى سعيدة أو ربما لحظات أخرى تالية تجدد الرتابة.

    عند التاسعة والنصف استسلمت مسز دافريز للنوم. مستر دافريز هبط بصديقة عبر الرافعة الكهربائية إلى المطعم القائم فى الدور الأرضى وجلسا على طاولة صغيرة عند أحد الأركان يخططان لليوم التالى : التسوق، معاودة السيدة المريضة، استقبال الابنة والأحفاد بالمطار، تفاصيل أخرى صغيرة ، وعده تساؤلات من نوع آخر وجهها الصديقان إلى بعضهما البعض من باب تعميق المعرفة والإدراك. غير أن مادي أسرف فى التفاصيل عندما سأله مستر دافريز عن أسرته وجذوره. ذكر الحقيقة التي ظنها كاملة فى حوالى نصف ساعة تقريباً. ضمن ذلك كانت هناك أشياء مبهمة أو غير موضوعية. القصة بكاملها مؤسفة ، وما حدث فى الباخرة التجارية كان له وقع خاص فى قلب مستر دافريز الذى أصغى بانتباه واضح، ونمت فى خاطره تساؤلات عديدة جديدة. و ذلك ربما جعله أشد إلحاحاً الى دعوة مادي إلى المبيت عنده تلك الأمسية، و كان أيضاً في خلد مستر دافريز نظافة البيت وإعادة ترتيب نظامه.

    لم يستطع مادى الإجابة الوافية على اكثر الأسئلة بداهةً في الأحوال الطبيعية :
    من أين جاء هو أصلاً!.
    -"يبدو أنك في الأصل من الصين أو إندونيسيا ؟".
    -" أجاب مادي :
    -" لا لا لا ، أنا من بورجوازا".
    ردد مستر دافريز الكلمة وظهر كأنه يفكر بلا جدوى ثم اقر بعدم إدراكه بموقع بورجوازا من الخريطة.
    -"فى إفريقيا ". أجاب مادي.
    تساءل مستر دافريز بحذر هذه المرة :
    -" أين تقع بورجوازا فى إفريقيا؟ ".
    قبل أن يجيب مادي علي السؤال استشعر مستر دافريز شيئاً جعله يعتذر:
    -" فى الحقيقة أنا لا اعرف الكثير عن إفريقيا فمعذرة على مثل هذا السؤال ، كان على أن أكون مثقفاً قليلاً واطلع نفسي مرة واحدة على خرائط إفريقيا فاعرف أين تكون بورجوازا ".
    غير أن مادي كرر عبارة:
    -"مدينة فى إفريقيا " مرتين إجابه على السؤال ولم يزد.
    وبدا مادي لوهلة وكأنه يفكر فى أمر ما جلل، كأنه يريد ان يدافع عن عجزه فيقول: "نعم، أنا لا أستطع وصف بورجوازا علي الخريطة ، لكنني استشعرها في كل خلية من جسدي. أحملها في لون بشرتي، في ملامح وجهي، وفي تعابير غضبي و حزني، في طبيعة خوفي وقلقي. تركت سكنتها لكنها ما تزال تسكنني. و كأن الهرب منها عبثا و هزياناً لا حقيقة. وكأن خروجي من بابها يعني دخولها من بابي".

    (عدل بواسطة محمد جمال الدين on 08-07-2011, 02:29 AM)

                  

08-06-2011, 02:50 AM

محمد جمال الدين
<aمحمد جمال الدين
تاريخ التسجيل: 10-28-2007
مجموع المشاركات: 5342

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رجل من بورجوازا في أمستردام "Fiction" (Re: محمد جمال الدين)

    ***4***


    الساعة العاشرة صباح السبت... الابنة آنا دافريز تتصل تلفونياً:

    -" أنا والأولاد سنصل إلى مطار امستردام عند الساعة الخامسة من مساء اليوم بتوقيت امستردام بدلاً من الساعة الرابعة والنصف، وستكون بصحبتنا الآنسة سو، سو مساعدتى فى تربية الأولاد " .
    أكد مستر دافريز انه سيكون فى استقبالهم بالمطار وذكر لها أن أحدهم سيكون برفقته وشرح لها بصعوبة :

    -" إنه مادي؛ هو أحد معارفى، شاب فى مقتبل العمر، جذوره في بورجوازا؛ ويمكنك أن تعتبرينه صديقاً للأسرة" .

    وضع مستر دافريز سماعة التلفون وجذب نفساً عميقاً وظهر أن رعدة خفيفة قد أصابته من جراء لهفة ألمت به. بدا بشكل واضح اكثر من ذي قبل انه رجل عجوز لكنه سعيد علي أي حال.و ألتفت وهو فى حالته تلك إلى مادي الذى كان يجلس قبالة التلفزيون يتابع نشرة أخبار الطقس لأ‎مسية اليوم، وحدثه قائلا:
    -"الطائرة ستصل عند الخامسة بدلاً من الرابعة والنصف!".

    اصلح مادي من وضع ساقيه المستريحين علي الأريكة وهدأ من روع صديقه:
    -"هذا لا يختلف كثيراً أليس كذلك؟ ".
    أجاب مستر دافريز بنعم كبيرة. وكانت الرعدة التى ألمت به قد تحولت فجأة إلى طاقة أرق تهز وجدانه. وظهر مرتبكاً ما دعى مادي لأن يسأله إن كان يريد فنجاناُ أخراً من القهوة. تلك القهوة التى قام بأعدادها مادي ذاك الصباح لأول مرة فى بيت صديقة الجديد بينما ساعده مستر دافريز فى إخراج أدواتها من أحد خزائن المطبخ العتيق .
    لكن الرجل المسن والمجرب كان قادراً على التجلد وقهر الأحزان التى تعض قلبه؛ خصوصاً فى ظل عوامل التوقع الجديدة : الإبنة والأحفاد .

    عند حوالى الساعة الحادية عشر انقشعت غيمة صغيرة ثقيلة الحركة عن وجه الشمس فصبت على الصديقين فى طريقهما إلى التبضع فيضاً من الإشعاع الذهبى الدافئ، فأسهبا فى الحديث عن الأشياء التى يودان جلبها بمناسبة الحدث السعيد : أنواع مختلفة من الخضار والفاكهة ، لحوم وهارنج ، أرغفة، أربع باقات ورد، عده شموع ملونة ، دميتان مختلفتي الحجم وألعاب نارية خاصة بالأطفال. ثلاث زجاجات نبيذ أحمر، صندوق من البيرة سعة أربعا وعشرين وحدة، وحلويات.

    عندما ابتاعا كل شى ظناه مناسبا، وأسرفا فى جلب حاجيات زائدة ، وقف مادي يفكر للحظة. خطر على باله حل لشيء كان يقلق حياله. هناك شيء يقلق مادي... أحوال –شقته- بيته الذي تركه بغتة!. حك أنفه وكلم صديقه الجديد فاقترح أن يغشيا بنفس عربة التاكسى شقة مادي. أراد مادي التأكد من أن الأبواب والنوافذ مغلقة بشكل جيد وأن توصيلات الكهرباء والغاز مؤمنة بصورة لائقة. ذاك على حد اعتقاد مادي أمر ضروري ، سيؤهله لأداء المهام التى رأى أنها واجب عليه أداءها مع صديقه، ببال مرتاح: توضيب البيت ونظافته ما عدا غرفة آنا في الطابق العلوي، تجهيز مواد الطبخ، معاودة المرأة المريضة، استقبال الضيوف، وربما المبيت ليوم أخر. و حمل مادي معه رزمة صغيرة من الاوراق -المذكرات- التي خلفها والده ، حشرها بتلقائية في الحقيبة التي خصصها لأمتعته الضرورية. وروى أو قرأ منها مباشرة علي مستر دافريز كل ما سنحت الفرصة طوال ذاك اليوم. حوالي ستا و خمسين صفحة من الحجم المعتاد.

    أرتدى مستر دافريز بدلة بيضاء مشغولة بخطوط رفيعة حمراء وربطة عنق حمراء. و برر لصديقه الذى أقترح غيرها بأنها ربما تعجب الأولاد. فظهر بهذه الهيئة مع نفحة النشاط التى هب بها أشبه بأحد مشجعى فريق اياكس عند حصوله على كأس الأندية الأوربية منه إلى رجل محتشم وطاعن فى السن . كان يتبادل الحديث مع مادي بينما ينظر إلى ساعته من حين إلى آخر. ولما كانت الصالة المخصصة للمستقبلين بمطار امستردام مزدحمة فقد اقترح على مادي أن ينتظرا في الخارج عند زاوية تتيح المعاينة الي داخل القاعة .

    ظهر الحفيد الأكبر يان هناك فى الداخل، يدور حول أمه على عادة الأطفال، رافعا فى الهواء حقيبة صغيرة برتقالية من هدايا الخطوط الجوية الملكية الهولندية؛ للأطفال المسافرين. كانت آنا تقود الطفل الأصغر بيدها اليسرى وتجر حقيبة سوداء متوسطة الحجم ذات عجلات بيدها اليمنى. بينما بدت الآنسة سو خلفها مباشرة تحمل بعض الحقائب الصغيرة ولوحة زيتية من إندونيسيا . الآنسة سو شابة زاهية، فى هيئة مضيفات الطيران أو قل السكرتيرات الجميلات : جسد أسمر لميس، عيون زرقاء واسعة، شعر أسود فاحم يتموج فوق كتفيها، خصر نحيل، كفل مكتنز و محكم التكور، وعندما نطقت بالتحية كان صوتها سماوياً.
    مر يان بجانب مستر دافريز دون أن يعبأ بندائه. ثم دار إلى الخلف فسقطت حقيبته، عندما هم بالتقاطها أمسكه مستر دافريز من يده وأخبره:
    -" أنا جدك ".

    فى هذا الأثناء كانت آنا على أهبة العناق.

    قدمت آنا الآنسة سو لمستقبليها على أساس أنها مساعدتها في تربية الأطفال وذكرت أنها أيضا بمثابة صديقة. وقدم مستر دافريز مادي باعتباره صديق العائلة الجديد‍‍.
    حيت آنا مادي بالطريقة المعتادة عند الناس لإبداء الترحاب والاحترام . آنا إمرأة براغماتية: شيء ما في عينيها اللامعتين يذكر الملاحظ المحترف بعيون القراصنة العائدين لتوهم بالغنائم من خلف البحار، لكنها تبدو للوهلة الأولى مرحة ومتفهمة .

    بعد انقضاء مراسيم الاستقبال، كان مستر دافريز وأبنته آنا وأحفاده يان و مارك قد سبقوا مادي والآنسة سو إلى السلم الكهربائى الهابط إلى محطة القطارات الواقعة تحت مباني المطار مباشرة فى باطن الأرض. الآنسة سو ومادي كانا متلاصقين بطريقة غير متعمدة. كان مادي يشرح لرفيقته شيئا ما غير مهم علي الاطلاق، بينما صعد يان خمس درجات ومرر ناظريه على وجه مادي بطريقة سريعة ثم ضرب الآنسة سو فى دلال الأطفال بقبضة يده اليمنى فى صميم فخذها الأيسر، فأصدر صدره همهمة حميدة فى ردة فعل تشبه التصرف الناجم عن الشعور الذى يسمونه الغيرة لدي البالغين، ثم جرها من يدها بحيث أصبح ساقها الأيمن فى الفراغ، فتخلخل توازنها الجسمانى شيئاً ما من جرائه، فالتحمت مؤخرتها المكتنزة بدائرة المواقع الأمامية الأكثر حساسية واستثارة من مادي، فى لحظة كالرعد المضئ، فأدى ذلك إلى سقوط خفيف لظهرها إلى الخلف، بحيث أصبح عنقها فى عنق مادي ، خدها الأيمن فى خده الأيسر ، و بعض شعرها الأسود غليظ الخصلات انحشر فى فتحتي أنفه، وكان ذو رائحة شرقية من قبيل المسك. يبدو أن الآنسة سو إمرأة مثيرة للرغبات والمشاعر فى تجربة مادي النفسية والجمالية؛ مما جعله يهتز في مكانه دون أن يسقط إلى الوراء. كان حدثاً صغيرا لكنه يشبه الرجة العنيفة التى تزلزل لكنها بطريقة أو أخرى تخلق نوعاً من التوازن بفعل تساوى فعلها الدافع الجاذب فى آن واحد .

    عملت آنا علي أخذ والدتها إلى البيت فى نفس الليلة -ليلة السبت- :
    -" ذلك هو الشيء اللائق ".

    نجحت بسهوله فى إقناع الطبيب المناوب، وكذلك رضخ مستر دافريز :

    -" أنها أمى وأستطيع رعايتها بالكامل، إن إقامتها فى البيت بقية أيامها اكرم لها ولضيوفها".

    قبل الساعة الثامنة بقليل أعيدت مسز دافريز إلى البيت وكانت مبتسمة برغم كل شي وبدت سعيدة برغم المنغصة. أمرت الجميع بلغة مستر دافريز ان لا يأخذوا الأمر مأخذ الحزن. وسألت مجدداً عن أسماء صديقاتها القدامى المأمول حضورهن ظهيرة اليوم التالى الأحد. أجابها مستر دافريز بأنه يأمل أن يكون كل شيء على ما يرام، أكد لها أنه قد أتصل بالفعل لتوه ليخبرهن بأن السيدة فى بيتها، ما عادت ترقد بالمستشفى وشدد عليهن بكتابة العنوان بصورة واضحة.

    عند حوالي العاشرة استسلمت مسز دافريز للنوم على ذراع ابنتها العائدة وفى أذنيها بقايا ضجيج باعث على الحياة؛ من أثار الأحفاد الصغار. وكانا قد سقطا على الفراش بجانبها فى غرفة النوم الرئيسية وأخذا فى النوم قبلها بقليل؛ حينما كانت هي تراقبهم بعين حنون .

    بعد نوم مسز دافريز مباشرة طفت على غرفة الجلوس لمسة احتفالية لأكثر من ساعتين. مادى يسعى بين المطبخ، الثلاجة- حيث وضعت زجاجات البيرة- ، الآنسة سو، و صديقه مستر دافريز . وبين لحظة وأخرى يدندن بصوت منخفض أغنية لبوب مارلي أو لأركيلي. وما أثار فيه مشاعر لا توصف من البهجة قول الآنسة سو شيئاً لطيفاً، بمعنى أنت ذكي، وقولها شي آخر فسره مادي أيضا لصالحه. مادي قص علي الآنسة سو حكاية خرافية حفظها من عهد الطفولة فى بورجوازا، وروى أيضا لصديقه وقائع جديدة حول رحلته بالباخرة التجارية إلى امستردام قبل نحو عشر سنوات خلت ، و تحين اللحظة المناسبة فروى حدثاً يخشى الذكور الأسوياء عادة الافصاح به . وعندما تصادف أن أصبحا في المطبخ لوحدهما لبعض الوقت مرة ثانية، طلب مستر دافريز من مادي شرح بعض الأشياء الغامضة في المذكرات التي كتبها أبيه نصر الدين الولي. انفراط ذاكرة مادي كان ناصع المأساة ، ولكنه كوخز الإبر الصينية يؤلم ويداوي.

    عند الثانية عشر والربع، آوى مستر دافريز إلى مرتبة هوائية وضعها على الأرض بجانب سرير السيدة المريضة و أحفاده؛ فى غرفة النوم الرئيسية. وآوت أيضاً من بعده آنا إلى غرفتها الصغيرة فى الطابق العلوي. تلك الغرفة المحببة التى أنفقت فيها عمر طويل من الطفولة إلى الصبا فالشباب وحتى قبل سنوات قليلة خلت، قبل رحيلها إلي إندونيسيا حيث عاشت حياة أخرى مختلفة الطعم والذاكرة.
    وجدت آنا غرفتها بنفس نظام الأشياء. غير أن الألوان أصبحت باهتة وورق الحائط أخذت أركانه فى الإهتراء ، غبار أسود دقيق يغطى تقريباً اسطح جميع الأشياء ، هناك ثلاث أوراق شجر متيبسة حمراء اللون ملتصقة بالحافة الخارجية للنافذة، والدمية الصغيرة المتكئة على القاعدة الداخلية للنافذة عمرها الآن خمساً وعشرين عاماً باهتة الألوان ومضمخة بالغبار .

    تخلف مادي والآنسة سو فى غرفة الجلوس. جلسا متلاصقين بشكل لا ينحو إلى العادية يتحدثان فى أشياء مختلفة، يتلذذان بفرصة استكشاف عوالم بعضهما البعض. كادا يستنزفان اللحظة كلها ، تأمل مادي العينين الزرقاوين الواسعتين و استنشق عطراً من قبيل المسك لمرات عديدة؛ سهواً وعمداً . تحسست الآنسة سو بنظراتها الدهشة السليطة فى الوجه الدائرى مستوفي الشروط كلها، داهمها شعور لم تقو على صده فلمست بسبابتها الأنف الصغير المناقض للتوقعات.

    تجول مادي و الآنسة سو بخطوات هادئة بين المطبخ حيث الثلاجة وغرفة الجلوس حيث الأريكة الوثيرة ولم يأويا إلى الفراش حتى الثالثة صباحاً.كان صعبا عليهما الافتراق كما وجدا أيضاً مستحيلاً خرق كل التقاليد، أو بالأحرى نقصتهما معاً الجرأة كي يرقدا -مثل ما كان مادي أكثر عزماً- رأسين على ذراع واحد ولا فرق أهي ذراع مادي أم الآنسة سو.

    أخيراً فى ركن من الربع الأخير من الليل تحتم على مادي أن يبقى وحده مره أخرى؛ يرقد فوق الأريكة فى غرفة الجلوس فى بيت صديقه مستر دافريز. ولو أنه هذه المرة (و للوهلة) كان معبأً بالأحاسيس الملونة، السعيدة، شيء من الأرق، وقليل من الخوف لكنه علي أي حال فوق ذاك الحد الثابت لدى الإنسان أي انسان طبيعي.

    نظرت آنا من خلال النافذة التى عمدت إلى فتحها على مصرعيها ،كان الليل قد أمسى اقرب إلى السكون المعتاد. الشارع العرضي والشارع الآخر الذى يصب فيه عمودياً كانا فارغين من الأحياء أو الآلات المتحركة. هنا وهناك أضواء صغيرة خافتة. استطاعت آنا أن تسمع من على البعد بعض أزيز الطائرات تهم بالهبوط أو تقلع لتوها من مطار أمستردام. تأملت آنا الميدان الصغير فى الركن الأيمن للشارع العمودي فخطرت على عقلها ذكريات قديمة محببة ، أغمضت عينيها لبرهة فارتسمت فى خلجات وجهها الأحلام. ابتسمت بشهية إذ تذكرت القبلة الأولى الخجولة و ما تلاها بعد شهور ومن ثم ثلاث سنوات من الحب الكامل. فى اللحظة التالية لامت نفسها على توق نفسي وغريزي، لامت نفسها فى ذاتها عليه؛ مراعاة للتقليد الاجتماعى؛ كونها إمرأة متزوجة؛ إذ انه لم يكن ذلك فحسب، ففى لحظة ما تمنت لو كان بالإمكان لقاء ذاك الشاب الذي أصبح محامي معروف الآن فى مدينة لاهاي، طالما سمعت عنه من على البعد من صديقات مغرمات :" أنه وسيم، مرح، سهل المعشر وأصبح ناجحاً بل متفوقاً ".

    نفضت الملاءة وابتسمت بعدها ثانية، عندما وصلت إلى أسماعها وشوشة أصوات خافتة وضحكات صغيرة بهجة من تحت، فكرت في أن الآنسة سو ومادي لابد أنهما سعيدان ،كان شيئاً جيداً فى تقديرها ، فهي على الأقل تحب للآنسة سو أن تكون سعيدة .

    التفتت الآنسة سو إلى مادي بينما وضعت أول خطواتها فى السلم الخشبي الصاعد وتظاهر هو بالعادية لبعض اللحظة. وودعته للمرة الثانية:
    -" نوم هانئ مادي ".

    كانت قد قبلته فى المرة الأولى وعلق مادي ساعديه فوق كتفيها نصف العاريين لحوالي نصف دقيقة؛ لكنه لم يستطع قول أي شي فى تلك اللحظة، ثم خلع ساعديه وظهر مرتبكاً. فحاولت تهدئه روعه، فقالت بصوتها السماوي :
    -"حكاية سلحفاة بورجوازا رائعة حقاً.

    مادى إذ وجد الآنسة سو مستمع شغوف بالحكايات الأسطورية اختار لها حكاية شيقة من مخلفات ماضيه بطلها حيوان خرافى صغير اسماه سلحفاء بورجوازا أنقذ مجموعة من البنات الصغيرات الجميلات من وحش شرير.وقد وفق بالفعل فى تأليب خيال الآنسة سو بإبداعه فى السرد .

    استرقت الآنسة سو النظر قبل عروجها الأخير مع التفاف "السلم"، بينما مادي في اللحظة منبطحاً -على بطنه- موسداً رأسه حافة الأريكة فى الاتجاه العكسي تغمره تلك المشاعر المختلطة، ويحس فى جزء من الثانية بأنه مجرد قوقعة صغيرة ملونه تؤطرها النتوءات البلورية، و يتحرك فى أحشائها البروتين الغض؛ لفظها الموج لتوه على شاطئه الرملي.
                  

08-06-2011, 03:01 AM

محمد جمال الدين
<aمحمد جمال الدين
تاريخ التسجيل: 10-28-2007
مجموع المشاركات: 5342

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رجل من بورجوازا في أمستردام "Fiction" (Re: محمد جمال الدين)

    ***5***



    -"............ تفضلى من هنا أيتها الحسناء ، بهدوء ، أرجو ألا يثير هذا الصبى أي ضوضاء ، عليك أن تذكري دائما أن وجودك على ظهر هذه الباخرة غير شرعي؛ لذا عليك أن تحذري كل الحذر، وأن تجدي طريقة حكيمة للتعامل مع هذا الصبي؛ لكي لا يثير لك ولي المتاعب؛ فأن القبطان إذا علم بوجودكما هنا ربما تكون العواقب وخيمة".
    هكذا أطلق الطباخ البدين تحذيره الأول.
    طأطأت فاتومة رأسها:
    -" سألتزم قطعاً بالهدوء، سألزم به ابني أيضاً، وسيكون دائماً تحت ناظري".

    فاتومة و الطفل مادي، كانا يختبئان فى الغرفة الصغيرة، ذات السرير الخشبى الصغير وهى الغرفة المخصصة أصلاً للطباخ . كانت عينا فاتومة دامعتين عندما أصيب الطفل بدوار البحر وأخرج كل ما فى أحشاءه: قطعة موز، شريحة مانجو وحوالى ربع رطل من خبز الدخن المقدد.
    مسحت فاتومة أرضية المكان بفستانها الأزرق الذى استبدلته لتوها بآخر أكثر رونقاً. كانت تحب أن تكون جميلة حتى فى مثل تلك الظروف .
    كان الرجل البدين ثملاً عندما كرر تحذيره السابع عشر والأخير بلهجة لا تشى بالخير:
    -" لقد كاد القبطان أمسية البارحة فضح أمرك وأبنك.. كنت تشخرين بصوت مسموع. أنت تشخرين!.. أنا أخشى على نفسي. المال الذى دفعتين لي لا يعنى شيئا.. سأفقد وظيفتي بكل بساطة.. عليك أن تجدي وسيلة.. لا تنامي.. تصرفي!". ثم لاطفها زيفاً ومارس معها الحب قسرا. قال لها أن كل ذلك ربما ساعدها على عدم النوم حتى الوصول إلى بر الأمان.
    استطاعت فاتومة أن تصمد صحواً ثمان وأربعين ساعة لا أكثر. ثم ما لبث أن صدرت من حلقها أصوات مسموعة، تصادمت بأركان عديدة فى جوانب الباخرة ، اختلطت بموج البحر؛ ملح البحر و حتى القاع. كان الطفل مادي هادئاً فى نومته تلك كصحوه، عندما ألقى الطباخ البدين بجسد أمه فى قاع المحيط ، ليحتفظ بوظيفته طباخا بدينا. فقد مادي أمه بمثل تلك البساطة. غير أن الطباخ كان كريماً مع الطفل في ظاهر الأمر، فهدأ من روعه، فعل به ما فعل ولاطفه وكذب عليه:
    -"أمك نزلت فى جذر الكناري! عندما كنت أنت نائماً ، قالت إنها ستلحق بنا بالباخرة القادمة، أظنها نزلت للتبضع ، هل أنت جائع؟ ".
    -" لا!".
    -"أتريد أن تشرب قليلا من الماء ؟".
    -" نعم !".
    انتحب الطفل في صمت، لكنه صدق رواية الطباخ، صدقها لأنها الرواية الوحيدة التى سمعها عن اختفاء أمه، ولأنه لا يستطيع أن يتصور موتها. لكن فاتومة لم تلحق بهم فى أي من البواخر العابرة. لم تلحق بمادي فى عنوانه الأخير بامستردام. و لن تلحق به أبداً بهيئتها المعتادة لان الحوت نال منها وأكل من وجهها الملامح. ولما وجدوا بعض فاتومة طافياً بعد ثلاث أيام فى نقطة ما من وجه الماء واروا ذلك البعض فى بقعة ما من وجه الأرض .

    في اللحظة التالية بينما تهيأ مادي لرفع رأسه في اتجاه السلم الخشبي كي يلقي نظرة وداع علي مؤخرة الآنسة سو المكتنزة، شعر بوخز عنيف في رأسه لكنه عابر. انفجرت محتويات ذاكرته و كأنها بالون صغير شك بدبوس حاد. فلم يقوى علي رفع رأسه لمدة خمس عشرة ثانية. استكان آنها لهول الانفجار، وكأنه يحاول عبثا غسل جرح متقيح لكن لا يدري مكانه على وجه الدقة، مما يستدعي غسل الجسد كله، فانفتح عقله فى كل إتجاه يستحضر الماضي ويعرضه بقدر المدى الذي تتيحه الذاكرة في زمن قياسي كلمح البرق. أشياء رآها بعينيه ساطعة تارة ، مشوشة تارة أخرى، رواها أبيه عن نفسه أو كتبها من مثل مشاكله مع السلطات اليمينية في السودان وفراره إلى بورجوازا؛ (الأوراق التى قرأها على مستر دافريز) ، أشياء أخرى عديدة، أشياء سمعها من أمه وأشياء سمعها من آخرين أو جربها بنفسه.

    الأب أختفى، لكنه ترك وصية تؤكد حدسه فى قدر اختفائه، وخلف ثلاث أصابع من قدمه اليسرى؛ مبعثرة على مقربة من سور الدار الخارجي تعرفت عليها فاتومة؛ فى نفس اللحظة التى تصادف وأن نظرت اليها، فأصابها ذهول؛ لم تستطع الحراك لبعض الوقت، وامتلأ وجدانها بالحزن لكل الوقت.
    قرأ مادي علي صديقه مما كتب والده المعلم نصر الدين الولي:

    "............". "كنت اعمل بكل ما أملك من مقدرة على محاولة تغيير الواقع الإجتماعي والاقتصادي فى السودان بشكل حاسم بكل الوسائل الممكنة بدءً بتغيير السلطات اليمينية المتشددة.........". "...............". "وكان لزاما علينا.........". " الصراع......الطبقي...... الفقراء......هزيمة......الطفيلية......الثورة."
    كتب نصر الدين الولي أشياء لم تعد مقروءة، طمسها الماء ، حوالى سبع صفحات لم يظهر منها بشكل جلي غير عبارة واحدة مكررة ومكتوبة بخط مركز وفي لون مختلف، هى عبارة:
    "كان لزاماً علينا النهوض بالمشروع التقدمي.... التنويري" .
    وقرأ مادي مواصلاً :

    "المهم فى الأمر حكم علي بالسجن المؤبد مع الأشغال الشاقة وسأكمل القصة : تظاهر الجنود وكأنهم قد اختلفوا فى قيمة أمر إعدامي ، جاءني أحدهم وقال لي :
    -"كلام أخير أتقبل التعاون أم لا، أجب، أعلم انك لن تجد بعد ذلك فرصة للندم ".

    كنت حينها أود أن أتخلص بالموت وعاجلاً!.
    فأجبته بلا كبيرة. لطمني على وجهي بقوة حتى أغمي علي لبضع دقائق، كنت اعلم أن التعاون المعني شيء لا أطيقه؛ أن أكون عضواً فى جهاز الأمن السياسي؛ وأن أمارس القهر ضد الثوار التقدميين من زملائي وضد كل مختلف عن ما يدعونه حكومة الثورة المقدسة.
    أوثقوني على شجرة كبيرة بحبل من حول البطن تاركين يدي حرتين، جعلوني على هذا الحال حوالي ساعتين ثم جاءوني مره أخيرة ، فقالوا:
    -"بماذا توصي قبل موتك؟".
    قلت:
    -"لا شيء!".
    قالوا:
    -"أتريد أن تصلي!".
    قلت:
    -"لا".
    فغرز أحدهم قبضته في بطني قائلا:

    -"ستموت على سوء الخاتمة ..وحتى لو صليت فإن الله لن يغفر لكائن مثلك!".

    ثم أطلق ثلاث عيارات وهمية ذات دوي عال، كنت أتصور أنها عيارات حقيقية قد اخترقت جسدي، فالقتل ليس شيئا مستغرباً أو مدهشاً فى عالم هؤلاء القوم رأيته في الحقيقة كما يراه البعض في الأفلام السينمائية. لدقيقة كان وجوم. حسبت أنني مت!. لكن وجدتني اسمع أصواتاً ما ،و أستطيع أن أحرك أصابع يدي. كنت أترقب بفظاعة كيف أن روحي ستنفصل عن جسدي ،و بشكل لا إرادي انتفضت بقوة ، خلعت العصابة عن عيني، أخذت أتحسس صدري ، أترقب ثمة دم ما كثيف قد ينهمر من منطقة ما فى جسدي ، ربما كان الرأس تلمسته، لكن لا دم وأنا ما أزال حي برغم العيارات التى أطلقت على جسدي.
    عندما أخذ الجنود يقهقهون ويهزءون بي، عندها أدركت أن فى الأمر معنى آخر ، لم يكن المقصود فصل الروح عن الجسد بالمعنى التقليدي المعروف ، كان محاولة لفرز الإرادة عن الروح بشكل مبتكر فى سبيل أن يتحول الإنسان إلى حيوان داجن حيث تسلب الإرادة علة التمرد والثورة".

    "تمكنت أخيرا من تخليص نفسي من السجان، كان الحظ ولو لمرة واحد حليفي. كنا نعمل فى شق طريق صخري فى أعالي جبل مرة فى غرب السودان؛ حوالي مائتي سجين. استأذنت من أحد الجنود الأغبياء وكان ثملا:
    _"سأذهب لأقضي حاجتي تحت تلك الشجيرات".
    ضربني بعصاه على ظهري موافقاً وحذرني بصوت غليظ:
    -" سأراقبك من هنا ، عندك دقيقة واحدة للعودة إلى عملك".
    لم نلزم ذلك اليوم بارتداء الزي الخاص بالسجناء بمناسبة عيد التحرير الوطني. كان الحراس يحتفلون بطريقتهم الخاصة؛ باحتساء العرقي _كحول محلي- من قناني يدسونها في جيوب بزاتهم ويرددون أناشيد تمجد انتصارات وطنية زائفة. دحرجت جسدي فى لمح البصر إلى اسفل التل ، هرعت إلى طريق الشاحنات القريب حوالي كيلومتر واحد جهة منطقة زالنجي ، لم أوفق طوال وقت كبير من القلق فى إقناع أحدهم لحملى بعيداً عن ذاك المكان المشبوه، صعدت شجرة هجليج كبيرة وغزيرة؛ حشرت نفسى بين أغصانها، كانت تربض فوق رأسي أسراب من العصافير تشقشق بتوحش، وكل ما أحست بوجودي تصمت مجفلة. ظللت حتى منتصف الليل، ثم سلكت -راجلاً- طريقاً مختلفاً، ضد اتجاه السكنى، مشيت ومشيت حتى مطلع الفجر ، وصلت صباحاً قهوة صغيرة، كان حراسها نائمين، تمكنت بعد قليل انتظار من إقناع سائق شاحنة قال انه ذاهب إلى منطقة منواشي :
    -" ليس بعيداً ."
    وضعت هدفاً واحد فى رأسي هو حريتي الشخصية. لقد تعبت من السجن، الملاحقة والتعذيب ، أريد أن أعيش حياة هادئة وآمنة لمرة واحدة . كنت اعرف جيدا أن مثل هذه الحياة لن تكون إلا بالفرار عن قبضة السلطة المركزية، والانزواء بعيداً فى مكان مختلف أستطيع العيش فيه دون أن يتعرف على هويتي أحد . كان هذا الخيار مؤلماً لي، لكن حسبته اقل إيلاما من عذاب السجن وغباء حراسه . إلى أين اذهب ؟ كيف؟

    كانت تلك هى الأسئلة الصعبة. وتلوح فى خاطري بورجوازا كالحلم المضيء ، برغم سوء ما قرأت وسمعت عن أمرها . ذلك وحده هو المكان الذى ظننته يناسب واقعى المؤسف . تقمصت شخصية معلم مدرسة ابتدائية مبعوث إلى مدرسة بلدية الجنينة -أقصى غرب السودان-؛ بواسطة وزارة التعليم المركزية في الخرطوم؛ كي أنال تعاطف الناس الذين أتوقع مساعدتهم لي فى طريقي -الصعب- مجهول النهايات. وصلت مدينة الجنينة فى نهاية نهار الخميس، استقبلني الدملج بحر الدين الدملج زقل إبن عمدة المدينة السابق. عمدت بقصد مرتب إلي طرق بابه. قلت له فى البدء ما يخالف الحقيقة:
    -" أنا مدرس مرحلة ابتدائية مبعوث من الخرطوم لأعلم أولادكم ".
    ولأنى بالطبع لا أملك ما يؤكد صحة هذا الزعم، تذرعت بطريقة ناجحة أمام الدملج:

    -" كل أوراقى الخاصة بالبعثة وبطاقتي الشخصية سرقت مع بعض المال الذى كان يلزمني للوصول إلى هنا؛ ومن ثم تسوية الأمور مع بلدية المدينة".
    رد الدملج بأسي حقيقى :
    -" يا لهؤلاء اللصوص المجرمون كيف يسرقون معلم أبناءنا ، لكن لا عليك سأقوم باللازم ، أنت ضيفي ولن يصيبك البأس طوال إقامتك عندي".
    فى المساء نحر الدملج خروفاَ على شرف ضيفه المدرس وأحضر "العرقي". شربت بشراهة رجل اعتاد الشرب كلما سنحت له الفرصة، وأصبحت ثملاً بدرجة لم تتح لي الإمساك بذمام التستر على حقيقة أمري. أعلنت بطريقة فاضحة :
    -" أنا هارب من السجن ولا أريد العودة إليه".
    قلت للدملج كل شيء:
    -" هدفي هو الفرار إلى بورجوازا، إلى مكان غريب وزمان مختلف! ".

    طلبت منه أن يغفر لي تضليلي له، بالتستر على الحقيقة الواقعة ورجوت مساعدته . أذكر أن الدملج ابتسم ثم تنهد وقال لي :
    -" أتظن أنني لم أحس بغرابة وضعك! ."
    وطمأنني:
    - " لكن لا عليك أنت رجل صاحب مبدأ ولست مجرماً، سأساعدك بما أستطيع، وأظنك تعرف أن بقاءك هنا فى هذه المدينة ليس حلاً ، أنا اتفق معك، بورجوازا هى الحل لشخص مثلك ملاحق و يريد الاختباء إلى أمد غير معلوم ".
    فى صباح اليوم التالي شرح لي الدملج أشياء مهمة من قبيل حكاية الشابة مهرة ومعرفة والده قديماً بشخص مهم قد يساعدني عند وصولي إلى بورجوازا، هو مستر يوب مدير شركة تسمى "شاكونيل".
    أشار الدملج بيده قائلا :
    -" أتعرف من تكون هذه المرأة ".
    أجبت:
    - " نعم ، نعم إنها .....".
    أكمل هو:
    - " المرأة التى استضافتك أمسية الأمس ".
    قلت:
    -"إنها امرأة طيبة و... وجميلة ، أشكرها على أنها احتفت بى وخففت من متاعبى أمسية الأمس ".

    مهرة شابة جميلة بالفعل. فى العشرينات من العمر. صادفتني مع الدملج أمسية قدومي إلى مدينة الجنينة ، أنفقت معي قسطآ من ليلتي تلك وحبتني برعايتها. فظلت شيئاً جميلاً فى خاطري كل الوقت.
    أكمل الدملج حديثة حول حكاية مهرة:

    -" قتلوا جميع أفراد أسرتها فى أحد غارتهم المنظمة على قبيلة المساليت وسبوها ثلاث سنوات، حتى استطاع فرساني أخيرا تخليصها من العبودية، واختارت العيش بجانبنا، وهي حرة الآن فيما تريد أن تفعل بنفسها".
    قلت بتعجل:
    -" من هؤلاء؟!".
    فأجاب بأكثر من عجلتي:
    -" العرب ".
    قلت أستدركه:
    -" أتعني بعض القبائل العرببية في غرب السودان؟".

    فأكمل الدملج حديثه برنة الأسى!:
    -" القبائل العربية المجاورة تغير علي القبائل الأخرى غير العربية بالسلاح الناري وتنازعها على مناطق رعيها ، على مواشيها ، تقتل رجالها و تسبي نسائها".
    وشرح لى بمرارة كبيرة:

    " القبائل العربية فى الغرب تجد العون من السلطة المركزية _في الخرطوم- على عدوانها على الآخرين يمدونهم بالسلاح والمال . الأمر فادح في هذا الزمان، الناس تكدح فى مجابهة أخطار كبيرة فى هذه المنطقة، العرب ينهبون أبقار الناس كى يقللوا من شأنهم اجتماعياً ويجففوا اصل رزقهم ، يقتلون كل من يقف فى طريقهم دفاعاً عن حقه كى يتخلصوا من أي معارضة لخططهم فى القضاء على القبائل الأخرى وطردها نهائياً من البلاد. ويسبون النساء كى يعملن خدماً عندهم ومتعة لفتيانهم. الأمر في الماضي القريب لم يكن بمثل هذا السوء، كان الناس يعيشون في سلام، نحن والعرب".
    ثم رفع صوته وكأنه كشف سر الداء فوجد الدواء:

    "الخرطوم هي التي تشعل الحرب بيننا، أنت تعلم!".

    الدملج يعرف أنني أيضاَ عربي، لكنه يعرف أيضاَ أنني لست من السلطة التي تشعل الحرب.

    عند المساء كان كل شيء قد رتب جيداً لمغادرتي إلى بورجوازا بمصاحبة ثلاثة من فرسان الدملج ، كانت تلك أول مرة أستخدم فيها حصاناً للسفر كما إنها المرة الأولى والأخيرة التى امتطى فيها ظهر دابة. انطلقنا في محاذاة وادي مورني ثم جعلناه خلفنا، نتبع اثر النجوم فى اتجاه بورجوازا .
    حملني والد الدملج رسالة قصيرة مكتوبة بتروٍ إلى مستر يوب ، يقول فيها:

    " السيد يوب .. تحية طيبة ، منذ وقت طويل لا اعرف شيء عن أخبارك فى بلاد صعبة ، الحياة فيها قاسية، أرجو أن تكون بخير على أى حال ، حامل هذه الرسالة من طرفنا، سأعتبره أمانة عندك ، أرجو أن تعاونه فى بداية حياته فى بورجوازا ، له بالطبع أن يروى أسباب قدومه إليكم وتقبلوا منا الاحترام. صديقكم القديم الدملج زقل بحر الدين" .

    قدرت أن والد الدملج استخدم كلمة صديقكم فى الرسالة من باب اللطف الطبيعي فى مثل هذه الأحوال، فقد أكد لى من باب أدراك الأمور أن لا شيء مهم يربطه بمستر يوب غير تبادلات تجارية صغيرة كان يقوم بها عبر وسطاء وزال أوانها منذ وقت طويل ، لكن للضرورات أحكامها . للدملج ووالده منى كل معزة؛ أكرماني ، وعملا جهدهما وبلا مقابل أسديته لهم على إنقاذي وبقائي حراً بحسب الطريقة التى اخترتها أنا لنفسي و نوع الحرية الذى رأيته .
    عندما وصلت إلى مشارف بورجوازا بعد مسير مضني، قفل فرسان الدملج راجعين، لوحوا لي بأيديهم ، وابتسموا فى وجهي لطفاً ######رية من قدري، فهم حتماً يعرفون بورجوازا مثل ما يعرفون الطريق إليها .
    و ها أنا علي مشارف بورجوازا حصانى يخب فراراً ، بدأت كفارس هزم فى آخر المعارك ، عاد منكسر الكبرياء، ترك سيفه من وراءه وجاء يطلب العيش فى بورجوازا. فهل يعيش مثله و حيوان أليف‍‍‍‍‍ !
    تبدت مظاهر بورجوازا على بعد أميال ، حصانى يسير فوق الحصى و الرمال، يشق خلاءً وعراً لا كائن حي إلا بالكاد، بعض طيور القطا والقمري. من على سطح الرمال تبرز بين حين وآخر بقايا حيوانية ، عظام وجلود وأسنان وأظافر وجماجم آدمية وسلاسل فقرية لأناس بالغين وهنا وهناك أشجار منخفضة كالحة الخضرة . كلما تقدمت شبراً من بوابة بورجوازا الشمالية تختبئ ملامح الحياة أكثر فأكثر ويتحول الحصى إلى لون احمر فاقع تأطره خطوط رمادية داكنة . أركز ناظري إلى الأمام ، أحث حصانى على المسير، و كأني أخشى من نفسي أن تحدثني بالتراجع، يلطم وجهي هواء يميل إلى السخونة و أشتم روائح نتنة كلما عملت على تبين مصدرها تجددت بلون لم أسعف بإدراكه .

    بورجوازا فى ذاكرتي منذ الطفولة، سمعت عنها حكايات كثيرة متناقضة من جدتي و قرأت عنها أشياء عديدة فى فترات مختلفة من عمرى . بورجوازا فى ذاكرة المجتمع الذى عشت فيه طفولتي وصباي: مكاناً للحق و متحفاً للرذيلة والشر. مأوى الدجالين والكذابين. يقولون ضده: يسكنها أناس طيبون ، أمناء، رجالاً ونساء وكأنهم الأنبياء. يقولون: أهلها من أكلة لحوم البشر. ذكروا قديماً أسطورة لامرأة شديدة المراس من أحفاد بنى هلال سافرت إلى بورجوازا ومن ضمن ما روي عنها أنها شهدت بأم عينها ثلاث من أهل بورجوازا يأكلون مخ آدمي فى مطعم على قارعة الطريق. حكوا عن ثلاثة أطفال ضلوا الطريق ووقعوا فى يد امرأة من بورجوازا حبستهم فى دارها وكانت تعلق كل يوم واحداً منهم حياً على شجرة فى فناء دارها؛ وتثقب شريانه وتشرب من دمه وتمصمص شفتيها . قالوا : أهلها عبيداً فقراء لا شرف ولا كرامة لهم. قالوا غيره: جبالها من ذهب و مساكن أهلها من فضة وأوانيهم من الماس. و عدوا أسماء أناس اصبحو اثرياءا لمجرد انهم زاروا بورجوازا لمرة واحدة أو صادقوا أحداً من أهلها .
    بورجوازا كالغول والعنقاء فى ذاكرة الناس الذين قدر وأن ولدت وعشت بينهم حتى عصفت بي الأقدار إلى الشهادة؛ فجئت فاتحاً صدري إلى غولي و عنقائي.و ها أنا ادخل الي بورجوازا من أوسع أبوابها .
    ترجلت من على حصانى فوطأت قدماي أرض بورجوازا فاجتاحنى فرح لا اعرف له مبرراً ، سرى فى عقلى شعور بالأمان لا تفسره قواعد المنطق التى أعتدتها و دمعت عيناي من وقع مشاعر لا أعرف نوعها. فسألت أول كائن قابلته عن موقع شركة شاكونيل، فأشار بيده اليسرى فى الاتجاه الصحيح مرتين ، لم يزد على ذلك ، لم ينطق بحرف واحد ، لم يراقبني مستغرباً ، لم يتفحص هيأتي ومضى فى شأنه. تركني أتلذذ فى مكاني بترحاب أهل بورجوازا فى سلوك أحد أبناءها، فهو لم يسألني عن هوية لا املكها وفسر لى ملتبس الطريق إلى مقصدي الأول فى بورجوازا .

    تعرفت إلى مستر يوب بغير جزم قبل التحدث إليه. لمحته داخل سور صغير من السلك الشائك يحوم حول عدة أقفاص صغيرة محشوة بحشرات لم استطع التعرف كنهها فى تلك اللحظة . فى الستين من العمر، ابيض اللون، ربع القامة، وذو لحية بيضاء مرسلة مثلثة الشكل تنتهي بذنب صغير يلامس القفص الصدري، ولم يكن بوسعي (تلك الأثناء) التنبؤ بملامحه الأسكتلندية. استوقفني قبل الوصول إليه مشيراً علي بالجلوس علي أريكة فى فناء الدار منحوتة من الصخر. بينما أنا لا أزال فى ذلك الوضع خرجت ثلاث نساء من أحد مبنيين صغيرين يقومان فى منتصف السور، كنّ نساء عاديات، لكن ما لفت انتباهي أن جميعهن يغطين سواعدهن بقفازات من المطاط وكان مستر يوب يفعل نفس الشي . وضعن الأقفاص المحشوة بالحشرات فى عربة صغيرة بالية من ماركة لاندروفر بمساعدة مستر يوب، ثم انكببن في إصلاح شي ما ،لم استطع تبينه لصغر حجمه. فى تلك الأثناء تقدم نحوي الرجل الذي قدرت سلفا أنه مستر يوب، حياني بطريقة عادية، لم ألحظ أي ملامح اندهاش أو استغراب فى وجهه كما توقعت. دعاني إلى دخول مجلسه الخاص . قال لى انه ذاهب فى أمر ما وسيعود فى خلال ساعة. حاولت عبثاً أن اشرح له فى الحال من أكون، لماذا أنا هنا، و رجوت اطلاعه علي الرسالة بحوزتى ، لكنه قال لى بطريقة ودودة:
    " لا داعي لكل هذا، أنا اعرف الأمر جيداً، دعنى اذهب وسأعود حالاً ".

    لكن تحت وطأة قلقي لم أستطع الصبر والإستكانة لأمره فألححت عليه اكثر ، فبدا وكأنه غضب من سلوكي، حسب تقديرى للأمر فى تلك اللحظة. فأشار إلى نازوزة طالباً منها بشكل متعجل :
    -" عليك أن تقومي باللازم مع هذا الرجل ."
    وذهب إلى حاله.
    هل يعمل مستر يوب فى تجارة اليورانيوم يا ترى؟. خطر على بالى هذا السؤال قبل أن أطلع على حقيقة الأمر، وعذري أننى سمعت وقرأت أن تجارة اليورانيوم الخام رابحة فى مثل هذه المناطق وقيل أن قوافل من الجمال تسافر عبر الصحراء إلى صعيد مصر يخاط فى أحشائها اليورانيوم الخام ويباع فى باكستان وإسرائيل والهند بأثمان باهظة . وتحتكر تجارة اليورانيوم عصابات من أوروبا وأمريكا.
    حيتنى نازوزة بطريقة عملية وعرفتني بنفسها:
    -"أنا رئيس العمال هنا ".

    كدت اشبع فضولي فى الحال فأقول: عمال ماذا!. لكني لحسن الحظ لم أفعل. فقلت بدلاً من ذلك:
    -" عندى وصية لمستر يوب".
    فأجابت :
    -"هذا شى إذاً لا يعنيني. أنا هنا لأسلمك أدوات العمل وفاتومة ستدربك عليه".
    فتعجبت :
    -" عمل!".
    قالت:
    -" نعم، العمل ".
    ابتسمت ببلاهة وأنا أتطلع إلى وجه نازوزة: امرأة قصيرة، داكنة السحنة. قيل: هاجر أسلافها إلى بورجوازا من جبال جنوبي منطقة كردفان بفعل مشادة كلامية بين أحد أسلافها وجنود السلطان على دينار، فهدر على اثر ذلك السلطان دمه. كان السلطان قوياً لا يقاوم ، كان ثرياً و قيل أن قصره يحوى ثلاثمائة من الغلمان المخصيين جلب جلهم من داخل حدود المملكة واسر الباقين فى معارك حربية أو سلبهم فى غارة من الغارات.

    علمت بعد وقت طويل أن رجلاً من طرف فاتومة كان ينوي العمل مع مستر يوب واتفق أن جئت أنا فى ميعاده بدلاً عنه ،كانت فاتومة غائبة فى تلك اللحظة، فحسب الجميع أنني هو قادم لأخذ مهمتى. اتضح فيما بعد أن ذاك الرجل وجد عملا مع جمعية الإله كورا لمكافحة الجذام .
    أخذتنى نازوزة إلى سكنى داخل المدينة تقيم فيها هي وفاتومة بعد أن سلمتنى ثلاث ملاقط للعناكب السامة مختلفة الأحجام ، قفاز، وسترة واقية. عرفت فيما بعد أن العناكب تصدر بطريقة معقدة إلى دول في أوروبا الغربية حيث يستفاد من سمها فى علاج أمراض مستعصية.

    كان علي القيام بالتقاط أنواع بعينها من العناكب السامة علي طرف المدينة مقابل أجر معقول مكنني من العيش كل الوقت فى بورجوازا ودون أن أكابد مشقة الفراغ .
    بعد تسوية جميع الأمور ساهمت فاتومة بطريقة حكيمة في معاونتي فى أداء عملى ، فهى تعمل منذ فترة طويلة مع مستر يوب .


    " كنت متعب حقاً في مساء اليوم الأول من وصولي إلى بورجوازا. نمت بشكل مفاجئ على أرضية الغرفة .

    عند الصباح التالي نهضت باكراً ، أطللت من خلال النافذة المفتوحة على الأفق، ثمة سحب بيضاء صغيرة وساكنة، اقتربت من النافذة أكثر فأكثرحتى تلامست أصابع قدمي مع الجدار، فأنحنى رأسي بطريقة تلقائية عابراً مساحة صغيرة من ارض بورجوازا لا تتجاوز بضع أمتار بفعل ترامي المباني المتناسقة الاشتباك والاهتراء، وكأن البيوت تشعر بلطمة طاريء فتتلاقى وتساند بعضها البعض. رأيت ثمة أناس قليلين بين الفينة والأخرى، يتسكعون فى الطريق مطأطئ الرؤوس مطلقى اللحى والشوارب، ثقيلي الحركة وكأنهم خشب مسندة .
    برغم ما سمعت وقرأت عن بورجوازا إلا أننى أستطيع أن ألحظ أن الطريق نظيفة لا أوساخ مقززة أو قطط هائمة كما خطر على بالى لأول وهلة وأنا ادخل بورجوازا . حتي القاذورات في بورجوازا نادرة!.
    قررت النزول إلى الشارع، إلى بورجوازا . فى اللحظة التى أصبحت فيها خارج الباب، وأنا ممسك بمقبضه حاولت أن أتبين الاتجاه الذى أود أن أسلكه. لاحظت أن الشارع على اليمين أوسع مما هو عليه فى الشمال؛ الذى يضيق وينحنى إلى الوراء .
    أخذت الطريق على يمينى وخطوت حوالى مائة ياردة، ثم توقفت، قفلت راجعاً واضعاً سبابتي فى أنفي. رباط حذائي ينفلت بغير إحكام كقرني استشعار خنفساء، غير أني لم اعبأ بذلك وتراءى لى الانحناء لإصلاحه شيئاً ثقيلاً وغير مهم. أمني نفسي في التسكع على طريقة أهل بورجوازا ثقيل الحركة غير ملتفت أو عابٍ. عاينت المكان جيداً فقد كنت اخشى أن أضل طريق العودة. لفت نظري مشهد الباب كان منخوراً ويخشاه سواد عريض، لكنه علي أي حال مثل كل أبواب بورجوازا. لم يكن ثمة رقم مكتوب على لوحة الباب ، كل ما أستطيع أن اعمل به للتعرف على محل إقامتى، هو أن احتفظ في خاطري بأشكال المباني المجاورة وتعرجات الطريق. لا اسم محدد للشوارع فى المدينة . الشارع الوحيد المسمى هو شارع الإله كورا. لأقصى درجات الحذر؛ توجب علي بالضرورة أن احنفظ في ذاكرني ببعض المعالم المميزة كقفص فئران بشكل محدد أو بيت قديم مهجور . بعد أن تيقنت من أنني أستطيع التعرف على مكان إقامتي ، أنفقت ربع ساعة من التروي، ثم أطلقت لساقي العنان ، فوجدتني شرقي المدينة أقف على ارض المكان الأثري الإله نافورة؛ النبع العذب الذى جف قبل عشرات السنين ، وكان يروي أرض بورجوازا آلاف السنين ، على ضفافه قامت حضارة بورجوازا الأولى، وما يزال بعض أهل بورجوازا يعبدونه كأحد آلهتهم ويدينون له بفضل لا قيمة له فى حياتهم العملية . وقفت على ضريح الإله كورا الأول؛ روح النبوءة وجسد الإله. إله بورجوازا الحاضر بروحه المقدسة في أحفاده، الغائب بجسده، والمقيم في جوهر الأشياء إلي الأبد. ومشيت دون أن أعي عابرا فوق التل الصغير منبر الإله كورا......."

    " مررت بمركز المدينة وسوقها الرئيس، بعض الحوانيت الصغيرة فى شكل دائرة قطرها حوالى مائة متر مكدسة بأنواع من البضائع مثل اللحوم المجففة، الذرة ،الحلى المحلية ،الأعشاب الطبية: فئران مملحة ومجففة بعناية تسمي الجقر او أم ضلف ، جراد محمر ، قطا ، قمرى وأبى منقار ودخن ، ضفرا وزيت سمسم وقهوة وسكسك ، سوميت وعطور نباتية مختلفة ، منشطات جنسية ، عيدان نباتات نفاذة الرائحة يسمونها طارد الناموس ، عرديب ، عيدان طندب ، قرض ، قضيم ، غبيش ، لالوب ورؤوس ثعابين، ومفروشات من السعف، وشاهدت أشياء كثيرة لم أجد لها أسماءً في ذاكرتي. كل الأصناف يمكن أن توجد فى مكان واحد دون تخصص ، ولا توجد مطاعم لبيع الأطعمة أي كان نوعها، معظم المباني من القش، القصب البري و قليلها من الحجر أو القرميد .

    عبرت فى آخر مطافي وما أزال فى ذروة فضولي ذلك اليوم على قصر الإله كورا ماندا كورا عمدة المدينة و حفيد الإله كورا الأول، منزل صغير من الحجارة المائلة إلى الحمرة. قفلت راجعاً عبر الطريق الرئيسية الوحيدة المرصوفة بالحجارة الخرصانية. كانت تلك بعض ملاحظاتي الانطباعية فى ذلك اليوم.
    وقرأ مادي:

    "...............". "وضعت فاتومة صحن مطلي باللون الأصفر على حصيرة مفروشة منتصف أرضية الغرفة ونادتني بلطف :
    -" تعال أيها الرجل إلى تناول شيئاً من الطعام".

    جلست بجانب نازوزة يتوسطنا الصحن، بينما ذهبت فاتومة لتحضر الماء من جرة كبيرة موضوعة على حمالات من الحديد خارج الدار ومغطاة بقطعة من الخيش. كان الطعام عبارة عن فطيرة من الدخن عليها إدام بلحم جقر. سألت نازوزة عن ماذا يعني الجقر!. فعرفت انه حيوان فى شكل فأر كبير نسبياً. سألتني نازوزة بلا اكتراث حقيقي :
    -" من أين أنت؟ ".
    قلت :
    -" من الخرطوم ".
    -" كيف تجئ من الخرطوم إلى بورجوازا !. يقولون أن الخرطوم مدينة جميلة فيها أنوار كهربائية ، حنفيات للماء العذب فى كل بيت ، وسيارات يتنقل بها الناس بين حي وآخر داخل المدينة نفسها ".
    أجبت بابتسار :
    -" أقدار، أقدار"!.
    ثم سألتني عن اسمي بالكامل. ترددت قليلاً هل أفصح عن إسمى الحقيقي أم اذكر أي اسم آخر مستعار؟. هل ثمة شى بعد يدعوني إلى تزييف إسمي؟. لقد اطمأننت بقدر كافي، لكن هواجسي الزائدة لم تتح لى الفرصة بعد.. فأجبتها :
    -" هادي .. هادي حمدان.. هادي حمدان شكول. ".

    و أصبحت استخدم ذاك الاسم المستعار حتى هذه الأيام الأخيرة، حين حدثت الفوضى فى المدينة وحدق بي الخطر مره أخرى. رأيت انه لازماً على أن أصارح فاتومة بكل شيء، أنها أم ولدي الوحيد ، وأستطيع الاعتماد عليها. ومثل هذه العواطف هى التى حثتني إلى كتابة هذه السطور فى الوقت الراهن، وأعمل فيها على أن أكون صريحاً وأتعرض لكل ما استطعت تذكره ورأيت ذكره مفيداً، وان كنت اشك فى فائدة أي شيء هذه الأيام؛ لكن على أي حال على المرء أن يحاول دائما عمل شيء ما إيجابي"."......".

    " يحد بورجوازا من الشمال الصحراء. من الجنوب غابات السافانا الفقيرة، والنجم المسماة جوازا. من الغرب صدي عوي الذئاب ، أعشاش العناكب، فحيح الثعابين. و من الشرق لا شيء غير الفضاء المفتوح على النافورة الميتة؛ على العدم ، وأطياف من البحر الحامض؛ تنام وتصحو بورجوازا على سرابه المتصل.

    بورجوازا استعصت علي كل تقلبات الزمان، مذ أسسها قوم لا يعرف لهم اصل ، لا من أين جاءوا!. ولا متى!. مدينة قديمة قدم التاريخ ، مثلها مثل أي جبل شاهق يكسوه الغبار السرمدي. تعاقبت عليها حضارات بشرية لا حصر لها . وما زال يقطنها أناس، مذ متى اقاموا بها لا احد يعلم. مشى فوق ترابها الهاربون، المجرمون ، الطامحون والطغاة.

    وجاءها الرومان ، من قبلهم الاكسوميون ، البجا ، السواحليون، النوبيون واغار عليها الفولانى ، الفور ، قبائل النيل وغزاها الانجليز والفرنسيون فطردوا من على ترابها العثمانيين. ورحلوا جميعهم، تركوا بورجوازا كما دخلوها أول مرة . كما ظل فوق ترابها آلاف الناس البسطاء عبر آلاف السنين، يفلحون الارض ، يصطادون ، يحتربون، يعشقون ويكرهون ، فيهم من كتب الشعر ، وبينهم الحكماء ، العلماء، الصعاليك، القساوسة والفقهاء .

    دخلت بورجوازا المسيحية فلم تتمسح كلية كما أرادوا لها وجاءها الاسلام فلم تسلم كلية كما عملوا له، ولم يجد كل ذلك سوى جرحا فى جسد عقيدتها الأولى؛ فتجاذبها المد في كل إتجاه وركبها موج الطوائف من كل ناحية، مرة يبرز التاريخ فى الحاضر ومرة يغوص الحاضر في الماضي . و لا حاضر لدي بورجوازا ولا مستقبل لها!. لكنها ما تزال آهله بالناس بقدر ما هى آهلة بشتى صنوف الموت؛ لا فرق عند أهلها أقاموا فى بيوتهم أو في المقابر .كما نفذت اليها اللبرالية، الماركسية، الدارونية و البنيوية عبر حقب عديدة فلم تنصت بورجوازا الى غير صوت واقعها؛ ولم ينصت الي صوتها أحد من هؤلا".

    وقرأ :
    "ابتكرت بمشاركة فاتومة طريقة جديدة لاصطياد العناكب: نضع الصمغ على قطعة من جلد القطط البرية المدبوغ ونوسطها موقدين يعملان بزيت السمسم. بتلك الطريقة ازداد دخلنا وأصبحنا نقبض إسبوعياً ثمانين قدوقدو _عملة معدنية- تكفى لتغطية مصروفاتنا الإسبوعية وندخر ربعها فى مكان أمين داخل الغرفة، فوفرنا بذلك وقتاً وجهداً استثمرناه فى مساعدة جمعية مكافحة الجذام؛ (منظمة خيرية أسسها الإله كورا ماندا كورا) تعمل على إستخدام سم الثعابين بعد خلطه بالقطران لعلاج الجذام المنتشر بكثرة فى الأحياء الغربية من بورجوازا. وهناك أيضا مرض آخر مصاحب لا يقل خطورة، مجهول الأسباب، يكاد لا أحد يتحدث عنه، يسميه أهل الطرف الغربي بالرعاش .
    كنا كل مرة نخرج فيها إلى الغابات الواقعة على مقربة من الطرف الغربي أو الجهة الأخرى فى الاتجاه المضاد للبوابة الشمالية، ننجح فى إلتقاط ثعبان أو ثعبانين، نضعهما بعناية فى كيس فضفاض من الخيش ونسلمها إلى أعوان كورا بلا مقابل مادي .

    "مرت اثنتا عشر عاما وأنا ما أزال أمارس لقط العناكب السامة ليتداوى بها أناس فى عالم آخر لا اعرفه ولن اعرفه طوال حياتي. يا لهذه المهنة المجنونة‍!. تعلمت فى هذه السنوات الكثير واعلم أننى أضعت الكثير الآخر وكان ميلاد طفلي مادي عزاءً مهماً فى هذه المدينة صعبة الحياة......".
    رجع مادي تونقا عدة صفحات إلى الوراء لان صديقه مستر دافريز أراد معرفة اكبر قدر ممكن من الوقائع المجنونة، فقرأ من جديد بعضا مما أغفله وظنه غير ملائم أو لا يناسب الزمان :
    " ......... فاتومة دخلت حياتى من كل أبوابها المفتوحة ، أصبحت جزءاً من اليومي، من المستقبل ، كانت تتحدث بطريقة ناعمة وتلبس فساتين مزركشة غريبة الألوان، لكنها أنيقة؛ تخيطها هى بنفسها. تعاملت معي بحنو منذ البداية، نشأ بيني وبينها ود كبير وتعاهدنا أن نبقى سوياً تحت سماء بورجوازا ....... علمتنى فاتومة كيف ألتقط العناكب السامة كي أعيش بحر مالي فى بورجوازا ، علمتني كيف انجب طفلاً من رحمها ، علمتني كيف أحبها كل هذا الحب، و علمتنى أن الحياة ليست هي بالضرورة تلك التى عرفتها من قبل. كما علمتني أن الحياة تكون دائما ممكنة وان كانت هذه الحياة فى بورجوازا ، فالحياة هى الحياة. و .........".

    و قرأ مادي أقساطاً يسيرة من الصفحات الأخيرة:
    "فى يوم عيد الاستغاثة الكبرى وبينما كان الناس مصطفون فى انتظار كبيرهم وإلههم كورا ماندا كورا انسل من بين الزحام رجل عجوز مقوس الظهر ورفع صوته من على التل الصغير :
    -" يا أهل بورجوازا ، يا أصحاب متاهة العدم و الخراب، أخشى عليكم من مصيبة جديدة تضاف إلى مصائبكم المقيمة".
    وردد تلك العبارة سبع مرات.

    غير أن أهل بورجوازا لا يعبئون بالحوادث مهما كان وقعها صارماً. فبورجوازا تعيش فى حضن الموت منذ ألف عام فهي لا تخشى الموت. وصعد آخر على أثره وذبح حلوف بري كانت تحرسه امرأة تقف فى مقدمة الزحام، هرعت مجموعة من الناس فى الصفوف الأمامية، أخذت تبلل أصابع كفوفها بدم الذبيحة وتلون به جباهها؛ انه قربان كورا المقدس!.
    فى حضرة كورا هتف الجميع، مرددون شعار المدينة إسم روح سلفهم المقدس :

    -" كورا كورا كورا".
    وفعلت أنا مثلهم رددت الكلمة ثلاث مرات .
    أعتلى كورا التل الصغير منبر السلف وتلى الشعائر المقدسة التى أرساها كورا الأول روح النبوءة وجسد الإله:
                  

08-06-2011, 03:15 AM

سفيان بشير نابرى
<aسفيان بشير نابرى
تاريخ التسجيل: 09-01-2004
مجموع المشاركات: 9574

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رجل من بورجوازا في أمستردام "Fiction" (Re: محمد جمال الدين)

    *
    مادى صعب
                  

08-06-2011, 03:21 AM

محمد جمال الدين
<aمحمد جمال الدين
تاريخ التسجيل: 10-28-2007
مجموع المشاركات: 5342

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رجل من بورجوازا في أمستردام "Fiction" (Re: محمد جمال الدين)

    ***6***


    -" كورا انت فاعل الخير وجالب الشر فأدرأ بخيرك شرك عنا .
    كورا ابعث لنا مطراً من سحائبك .
    كورا أنقذنا من الجذام والبرص.
    كورا ابعد عنا العناكب والثعابين .
    كورا احفظ بورجوازا .
    كورا اجعل من الأغراب عوناً لنا وقنا شرهم.
    كورا كورا كورا".

    " بمساعدة عامل الوقت؛ وطدت علاقة شخصية مع الإله كورا. عاونته في حربه مع الجذام وأخلصته المشورة ، فقربني إليه و أخذ مني عهداً أن لا أغادر بورجوازا ما دمت حياً، وقرأ على صدري تعاويذ كورا الأول حتى وصل :" كورا، اجعل من الأغراب عوناً لنا وقنا شرهم ".

    وذات يوم دعاني إلى مجلسه فوق العادة في حضور آخرين من مخلصيه. وعند وصولي قال لي بأسى واضح:

    -" الجذام ينتشر فى الجزء الغربي من المدينة فى كل بيت تقريباً وأخشى أن ينتقل وباء يقضي على كل المدينة. آلاف الأطراف تدفن كل يوم أصابع وأقدام ، يموت عشرات الناس فى اليوم الواحد ومحاولتنا لعلاجه فى معظمها فشلت".
    بينما استغرق الناس في التفكير يعض صدورهم الخوف و الأسى. اقترحت أنا الحل الصعب بل المستحيل، استخلصته من تجارب سابقة قرأتها فى كتب أكاديمية، قلت :
    -" الحل فى العزل!".

    ردد الحضور فى مجلس كورا كلمة العزل باندهاش حقيقي، وطلبوا مني شرح الأمر. قلت ببساطة أن نمنع أهل الطرف الغربي من الاختلاط ببقية سكان المدينة فنتجنب بذلك انتشار الوباء. أثار الأمر جدلاً كبيراً في مجلس كورا و في المدينة. ورفض أبناء الطرف الغربي الأمر برمته، واعتبروا كل ذلك مجرد مؤامرة لإقصائهم عن مركزهم المرموق في سوق المدينة.
    وأخيرا وافق كورا بضرورة العزل. و أمر بإقامة سلك شائك كفاصل بين الطرف الغربي الموبوء وبقية أطراف المدينة. شارك حتى الأطفال فى تشييده، عضدوه بالحبال ، جذوع الشجر وعظام الحيوانات، حتى اصبح سلسلة جبال شاهقة .

    صعد الإله كورا التل الصغير شرح للناس خطته ومبرراته في عزل الجزء الغربي من المدينة إلى أمد حتى تخف حدة الوباء وتقول الإلهة إرادتها الأخيرة. لكنه أبدا خوفه الحق بلغة الخبير فألقي خطبته الشهيرة:
    -"....... لكن عليكم أن تعلموا أن للناس مصالح متبادلة ولأبناء الطرف الغربي محال فى سوق المدينة يرتزقون منها؛ كما تعلمون. أخشى أن يقاوم المتضررون محاولة عزلهم بالقوة فتحدث الفوضى فى المدينة . لكني رأيت بوحى روح السلف المقدس ضرورة هذا العزل مهما كانت نتائجه؛ لان الضرر سيكون افدح فى حالة ترك الأمر سائباً بهذه الطريقة. فتوقعوا الأسوأ، وكونوا معي يداً واحدة. ولو أنني آمل أن يتفهم المتضررون جوهر الامر".
    " قبل نشوب الحرب بست ساعات؛ بينما كانت تملأني هواجس الترقب : شهدت رجلاً يطوف به فى سوق المدينة؛ مقود بحبل غليظ من عنقه وخلفه ثلاث رجال يصيحون : هذا الرجل؛ مهمدو باليلو، سارق ونفذ الحكم عليه ولعنه كورا .
    لا يوجد قانون مكتوب فى بورجوازا، القضاء يقوم حسب العرف وسوابق السلف: القاتل يقتل- يزج به فى جب الثعابين، ويقال أن فى ذلك الجب الواقع على مقربة من الطرف الغربي ثلاثة آلآف ثعبان من جنس كوبرا -. والزاني والزانية يترك لصاحب العدل الحكم فى مصيرهما، وله أن يقتل أحدهما أو كليهما؛ وربما عفى عنهما، وفى الغالب يقع القتل بجز الرأس من الرقبة أو بالرجم؛ بغرض غسل العار ورد الشرف للعائلة والأقرباء. السارق، إن كان من أهل المدينة، يطوف به فى سوق المدينة نهار يوم بأكمله، ليعرف الجميع انه سرق، ويدفع ضعف ما سرق فأن لم يكن معه شيء فعائلته أو عشيرته تدفع عنه، فيرد المقدار المسروق الى صاحبه، والنصف يذهب إلى خزانة كورا. الغريب إذا سرق يقتل، زنى يقتل ، قتل يقتل .

    كما يبدو لأول وهلة فإن معظم الناس فى المدينة يؤمنون بشعائر كورا، ويدنون بالولاء لأحفاده واعتبارهم كائنات مقدسة، وان خامر عقيدتهم هذه مؤثرات أخرى عندها جذورها فى صراع الماضي، استمرارية الحياة الحاضرة وحاجة الإنسان لأن يطعم نفسه ويقيها الآلام الجسدية ذات المصادر العديدة والهواجس الشريرة لمن حالفه أو خالفه.

    وبرغم التماسك البادي فى ظاهر عقيدة أهل بورجوازا فإن المدينة مقسمة تلقائياً حول المركز الى أربعة اقسام: الطرف الغربي، الشرقي، الشمالي، الجنوبي، وفى المركز سوق المدينة وقصر الإله كورا.
    أهل الطرف الشمالي يدينون بالولاء المطلق لكورا، ولا تكاد تشوب قناعتهم هذه أي رواسب من صراع الماضي أو بدع الحاضر. ويقال: أن كورا الأول أصلاً من أهل الطرف الشمالي، من هناك أنطق الى مقام الألوهية، بعد أن تمكن من التغلب على إلهة بروجوازا الأنثى آنذاك؛ المسماة: دونازا - واهبة الحياة -، فحكم عليها بالنفي وحبسها فى غار "دولاك" -السري- الذى لا يمكن لأحد الوصول إليه ابداً، وحكم على بناتها الخمس بسلطة المقتدر أن يصبحن خدماً له الى الأبد، وجعل المرأة لا تحبل إلا إذا مسها الرجل، وكان الاعتقاد الأسطوري السائد قبل ذلك أن أي امرأة تحبل، وتلد أنثى أو ذكر، بهبة ومشيئة الآلهة دونازا. ويقال أن إبنة دونازا البكر و إسمها جوازا؛ قفزت إلى السماء احتجاجاً على حبسها وعلى ما وقع على أمها؛ فصارت نجم معروفة في السماء تطل كل مساء. ويقال أن كلمة بورجوازا -إسم المدينة- يعني نور جوازا؛ فكلمة بور في اللغة البورجوازية القديمة تشير إلى النور أو الضياء. وأما بنات دونازا الأخريات فأنجبن أطراف بورجوازا الأربع.

    فى الطرف الجنوبي كان ولاء الناس للآلهة دونازا قائماً بشكل مطلق؛ حتى بعد إسطورة نهايتها، وما بزال الكثير من الناس في هذه اللحظة يقيمون شعائر دونازا سراً، وهم على قناعة بوجود روحها قوة أعظم من أي قوة فى الوجود؛ ترفرف فوق رؤوسهم وتمنحهم للحياة معنى. يقدسون الأنثى منهم ويبيحون لها الزواج بأكثر من رجل، ويذهب الميراث عبر خط الأم ويحمل الأبناء أسماء أمهاتهم. إذا ما اغتصب رجل امرأة فى أي مكان آخر فى بورجوازا ما عدا الطرف الجنوبي فإنه يحق لولي المرأة المغتصبة، اغتصاب ثلاث من نساء المغتصب ولا فرق إن كن نسوته شقيقاته أو عماته. وهذه هى أحد الأحكام المعروفة التى يقف ضدها اتباع دونازا في العلن؛ إذ انهم -بالإضافة إلى غرامة مالية كبيرة- على العكس يقضون باغتصاب الشخص المغتصب نفسه، بواسطة رجل معروف أسمه دوباب من أسرة تتوارث المهنة، موظف متفرغ يتقاضى راتب من المال العام؛ على أداء هذا الواجب المقدس. وفى حالة الزنا يقضي اتباع دونازا بغرامة مالية على المرأة. ويقع توبيخ على الرجل وتقوم بشعائر التوبيخ امرأة معروفة بالحكمة؛ تستمر هذه الشعائر ثلاث أيام يلبس الزاني خلالها ثياب بيضاء -رمز الشؤم والخيانة.

    ولا يشارك اتباع دونازا فى شعائر كورا إلا مكرهين وكثيراً ما تعرضوا للأذى عبر قرون من الزمان وتمسك البعض بعقيدتهم حتى آخر هذه الأيام، فعفى عنهم كورا المقتول، وحث اتباعه على الاعتراف بعقيدة دونازا؛ لكن ابنه ماندا الذى خلفه مؤخراً على مركز إلوهية بورجوازا؛ نقض هذا العهد فى يوم تنصيبه. وكان اتباع دونازا قد توسطوا لوقف الحرب، وعندما اشتعلت رفضوا الانحياز إلى أي من أطرافها، ورفضوا المشاركة قبل ذلك فى بناء السور الفاصل. لكن الحرب عندما وقعت لم تزر أحداً وشأنه.

    وفرقة فى الطرف الشرقي تتسلل مساء كل اثنين؛ ليركع أفرادها أمام النافورة يطلبون منها الانبجاس مرة ثانية. ويشيعون منذ أمد بعيد وسط سكان المدينة أن إله النافورة غضب فى غابر الأزمان من لا مبالاة أهل بورجوازا بالخير وكفرهم بنعمة الماء الذى اصبغه عليهم، فكف الخير وغار الماء. وهذا الفرقة لا تعيش أي صراع -حقيقي- مع أتباع كورا كون أعضائها بطريقة أو أخرى يوالون كورا. ويقال أن إله النافورة حالف كورا الأول أيام حربه مع دونازا في غابر الأزمان.

    أشاع أهل الطرف الغربي، أن كورا الإله نفسه، هو السبب فى الوباء الذي أصابهم، وجاءوا بحجة محاولة كورا استخدام سم الثعابين لعلاج الجذام، فقالوا أن كورا ضل، كونه اعتقد فى شيء حسبه فاعلاً دون الشعائر المقدسة؛ وبذلك يكون قد حاد عن جادة طريق أسلافه القويم، إضافة إلى أن كورا قد عفا عن اتباع دونازا الآلهة التى لعنها كورا الأول وحبسها إلى الأبد، فكيف يجئ حفيده ليطلقها!. إنها جريرة الكفر!. وكانت تلك أهم دعاواهم لتعبئة الناس وإشعال الحرب، ومن ثم قتل كورا، وتنصيب ابنه ماندا بدلاً عنه؛ فالألوهية فى نسل كورا إلى الأبد.


    قاوم بالفعل أبناء الطرف الغربي قرار عزلهم بالقوة و مازالوا يقاومونه. اشهروا رماحهم و سيوفهم وأعلنوا خروجهم على طاعة كورا.
    في غضون ثلاث أيام قتلوا كورا وجل مخلصيه: قتلوا الرجل الذى أراد مصلحة المدينة كلها، فتكوا بجسد الإله ، فانتشرت الفوضى فى بورجوازا، عم الشر و الجذام، وعكف أناس كثيرون يستغيثون ، مخلصون و خائفون:
    -"كورا أنت فاعل الخير وجالب الشر فأدرأ بخيرك شرك عنا.
    كورا أنقذنا من الجذام و البرص.
    كورا كورا كورا".
    آلاف الجثث مبعثرة على الطرقات ، رائحة الدم الطازج تدغدغ مشاعر الذعر فى صدر كل حي تسنى له البقاء ليتنفس غبار المعارك .
    نصب أبناء الطرف الغربى ماندا أبن الإله الشهيد كورا الهاً للمدينة فى جولة من الانتصار. حزموه من قدميه ويديه ، اصعدوه التل الصغير ورددوا شعائر كورا المقدسة .
    خطب الاله ماندا آمراً بتحطيم السور الفاصل بوحي روح السلف المقدس. فدمروا السور حتى آخره ، اشعلوا فوق حطامه نار، و هتفوا:

    -"ماندا ، ماندا، ماندا".

    ورددوا شعائر كورا المقدسة مرات ومرات بنبرة الانتصار.

    تحتم علي بالضرورة في خضم هذه الفوضى الانتقال بأسرتي من السكن داخل المدينة إلى أحد المباني فى شركة شاكونيل؛ بعد الترحاب الذى أبداه مستر يوب. كما اقترح علي مخلصون عدم مواصلة العمل لما فى ذلك خطورة على حياتي بحكم العلاقة الخاصة التي تربطني بالاله الشهيد كورا. وقدر علي ورفيقتي المخلصة فاتومة وابني مادي أن نعيش فى هذا المخبأ. تكفلت نازوزة بالمساعدة فى جلب الضروريات لنا كل يوم بجانب أدائها لعملها فى جمع العناكب. و هذا هو السبب الأساسي الذى دعاني للتجهيز لفاتومة وابني إلى مغادرة المدينة والسفر إلى بلاد أخرى قد تكون آمنة. و سأطلب عون مستر يوب رجاء تحقيق هذا الحلم، فالرجل يعرف العالم الخارجي أكثر من أي شخص آخر فى المدينة، وأصبحت تربطني به علائق عملية وإنسانية اكثر من أي وقت مضى...) ) و قد أكد لي مرارا أنه على استعداد لمساعدتي، بكل ما هو مستطاع، وهو شخص مقتدر .... .".

    وقرأ مادي أجزاء مبتسرة و متقطعة من الرسالة التى خصه بها والده :

    " ابني العزيز اكتب هذه الرسالة راجياً أن تتمكن من قراءتها يوماً ما كي تكون عوناً لك فى معرفة جذورك وملابسات الواقع الذى عاش فيه والداك.................. ". ".........." وسأعمل كل جهدي على إخراجك وأمك من بورجوازا وتخليصكم من الخطر الذى يحدق بكما بفعل الفوضى التى تجتاح المدينة فى الآونة الأخيرة. ".........." و لتعلم ان تكاليف الرحلة كبيرة و المال الذي بحوزتي لا يكفي لسفرنا سويا. سابقى هنا ولن أغادر معكما سأفي بوعدي (!) . سابقى في بورجوازا تتقمصني روح كورا أحارب الفوضى و الجذام ". "..........". " أمك امرأة طيبة وصبورة وأرجو أن تتمكن من تنشئتك فى احسن صورة وأنا أثق فى قدرتها أين ما ذهبت وفى أى زمان."......". فان شب ساعدك وأصبحت رجلاً فاسدي لها الفضل وعاونها على صروف الحياة. "............ ..".
                  

08-06-2011, 03:35 AM

محمد جمال الدين
<aمحمد جمال الدين
تاريخ التسجيل: 10-28-2007
مجموع المشاركات: 5342

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رجل من بورجوازا في أمستردام "Fiction" (Re: محمد جمال الدين)

    ***7***


    هل بلغت الآنسة سو مقصدها إلى حيث ترقد بجانب آنا في الطابق العلوي؟.

    استطاع مادي أخيرا رفع رأسه، نظر إلى حيث إلتفاف السلم الخشبي ، لم يري شيئا من الآنسة سو ، لكنه أشتم عطرا محبباً من قبيل المسك. تلاشى الوخز العنيف العارض لكنه خلف طنيناً كطرق النحاس الصلب. أعاد رأسه إلى الوضع الذي كان عليه. تجسد الطنين في صور: أشباح و أطياف. صور واهنة سرعان ما تتكسر و تتبدل. وجه أمه، وجه أبيه، نازوزة، كورا، الطباخ البدين، وعناكب. وتكسرت صور أشياء جديدة عاشها هو وحده فى أمستردام لا بورجوازا : مصنع شموع أعياد الميلاد، مم خريتا، قطط هاس، ثم تبدد وجه دانيش مؤلف رواية الفرح الكونى العظيم و غرقت رويدا رويدا في الوهن صورة يده هو تلامس الشاشة البلورية يتحسس عينين تنفثان بريقاً مثيراً للغرائز. أكملت الآنسة سو صعودها إلى حيث تنام بجانب آنا. تلاشي الطنين. سكن ضجيج الذاكرة . هدأ توتر الدم في شرايينه. بلغ مطلع النوم. نام. سرعان ما سمع وقع خطوات تهبط السلالم. رأى مع الدهشة الآنسة سو عابسة تحمل حقيبة كبيرة ثقيلة فهرع إلى مساعدتها فقالت ببرود:

    -" لا داعى، أنا راحلة! ".

    مسز دافريز تحتضر في غرفة النوم الرئيسية . الآنسة سو تخرج من الباب فى غفلة من مادي وكأنها تتعمد الهرب من ملاحقته، تتملص من قبضة عينيه، تضيع فى زحام المدينة، تتحول إلى بخار ماء يظلل سماء امستردام ، يغيب ذرى مبانيها الشاهقة، يحط بثقله فى مطارها فلا يبين منه شيء، و يضرب على أنوار المدينة غشاوة. هرع مادي كالممسوس ، يجوب كل الطرقات الممكنة، يفتش عن حلمه الواهن. يتفحص ملامح المارة، يتعقب كل امرأة هيفاء القوام مكتنزة الكفل . صعد سلالم عديدة واسترق النظر الى داخل كل باب أو نافذة مفتوحة ، تقصى هزيم "الروك" حتى آخر نغم فى كل النوادى الليلية . لكن الآنسة سو لم تكن هناك . ولم تكن في أي مكان آخر مستطاع.

    تموت مسز دافريز!. ومستر دافريز يغص حزناً. وكذا الأحفاد والابنة آنا. يجد مادي صدره مبتلاً بالدموع ، بالدمع الكثيف. وما هى إلا برهة صغيرة و ينقشع الضباب فتبتل المدينة مره أخرى بضياء المصابيح الكهربائية . الآنسة سو تختفي نهائياً فى الفضاء الواسع الذى يغطى ارض مطار أمستردام . وما هى إلا لحظة أحرى ويجف الدمع ، يتبخر من على صدر مادي، يتعلق فى الفضاء الواسع . تشرق الشمس لكنها تختبىء خلف سحب الخريف. يهبط الجليد من السماء يزرع الأرض بياضاً ترصعه أوراق الأشجار الصفراء. مؤلف رواية الفرح الكونى العظيم يظهر فى الشاشات وفى صدر صفحات الصحف الرئيسية مقيداً بسلاسل الحديد، يحيط به حراس مسلحون من ال "اف بى اى" بولاية اركنساس فى أمريكا . تصفه الصحف بالكاتب المجرم أو مؤلف السطور المجرمة، صاحب رواية الجنون!.
    رأى مادي امرأة مصفرة الوجه تجادل سائق الباص رقم 76 ذي اللون الأزرق المعتاد بصوت هامس لم يصل إلى مادي منه شيء غير عبارة واحدة:
    -" جنون الرواية !" .

    لكن الرجل البدين ذو الشوارب البنية الداكنة؛ الذى هب لتوه واقفاً على أرضية البص متهيئاً للنزول فى المحطة القادمة؛ صاح بأعلى صوته:
    -" نعم ، جنون الرواية خطر أكيد يتهدد كل الناس ، شبابنا معرضون للجنون ، حضارتنا معرضة للدمار ، نحن جميعاً أهل هذه البلاد مسئولون عن التصدى لهذا الخطر الذى يهدد بقائنا أصحاء العقول على ظهر الأرض، علينا فعل شيء، علينا فعل شى حاسم".
    ثم تحرك إلى قعر البص ، يتفحص وجوه الناس على يساره ويمينه ليمتحن وقع كلماته الفرقعية التى أراد لها أن تكون قوية على عقولهم.
    لم يستوعب مادي كل الأمر وجد مستر دافريز يجلس بجانبه علي المقعد الملاصق لمقعده مباشرة دون أن يكون قد لاحظه وهو يدخل البص من قبل!. دهش قليلاً لكنه وجدها فرصة مناسبة ليستفسر عن فحوى الموضوع. فهمس فى أذن مستر دافريز مستغربا :
    -" ما الحكاية ؟!".
    حنى مستر دافريز رأسه ، أخرج جريدة محلية من حقيبة يدوية كان يخفيها بين فخذيه ، سلمها إلى مادي وأشار بيده إلى العنوان الرئيسي فى الصفحة الأولى: "جنون الرواية يفتك بالملايين". ثم فتح الصفحة الثانية وبسطها فوق حجر مادي وقال له :
    -" اقرأ هنا ":
    "القضاء الامريكي يجدد حبس المتهم لامادانيش علي ذمة التحقيق".

    ثم قرأ :
    "حالات جنون جديدة تسببها قراءة رواية الفرح الكونى العظيم. ثلاث ملايين أمريكي أصيبوا بالجنون في اسبوع واحد. جنون امرأة فى البرازيل قرأت الجزء الأول من الرواية. جنون طفلة لم تتعلم بعد مباديء القراءة والكتابة!. جنون في اليابان، جنون في كمبوديا، جنون في فيتنام جنون في أفريقيا الوسطى. جنون، جنون، جنون في كل مدينة . رواية الفرح الكونى العظيم وزعت فى جميع أنحاء العالم قبل اكتشاف أمرها. من المحتمل أن خمسمائة مليون نسخة صدرت إلى أوروبا، آسيا وإفريقيا. ثلاث ملايين نسخة وصلت إلى هولندا. خاطب الرئيس الأمريكي شعبه بأسى واعتذار ، تحدث رؤساء حكومات عديدة حول خطر الجنون المحدق بالبشرية وعبروا بأسي كبير عن عجزهم في تلافيه. تأسست منظمات شعبية خاصة فى كل مكان تشرح مخاطر جنون الرواية وتقترح وسائل مبتكرة للوقاية. الأطباء يقولون أشياء متناقضة. علماء أحياء قالوا شيء مختلف: ربما الورق الذي طبعت عليه الرواية كان ملوثاً بفيروس فتاك يحلل أجزاء من عقل الإنسان بمجرد لمس ورقة واحدة من الرواية. ينتقل الفيروس عبر الجهاز التنفسي إلى دماغ الانسان. شركة اركنساس للطباعة والنشر المحدودة تستنفر عدداً من المحامين، بعد توجيه الإتهام الرسمي".

    عندما وصل مادي إلى هذه النقطة الأخيرة فكر قيلاً؛ لكن بعمق شخص معني بالأمر، ثم ألتفت إلى مستر دافريز ليقول له: "إذن ربما كانت فعلاً المشكلة ليست فى معانى الرواية و إنما فى الورق فقط. الورق الملوث!؟، ورق شركة اركنساس".
    لكن مادي لم يجد مستر دافريز في المقعد بجانبه. مستر دافريز نزل بغتة فى أحد المحطات السابقة، دون أن يستأذنه أو يودعه. صاحب دهشته شعور لاذع الوقع، مزيج من الحزن و الوحشة. لاحظ بعد قليل ما أدهشه اكثر، أن لا أحداً فى البص معه علي الاطلاق، فقط سائق البص. ثم أن البص اتجه فى طريق آخر، طريق مختلف، مختلف جداً، لا يشبه طرقات امستردام. تبدت الأرض من حول البص صحراء جرداء تميل إلى الحمرة. الباص يسير بسرعة هائلة جدا في سرعة الطائرة النفاثة. لم يقو مادي علي فهم الامر!. كان مأخوذا بحالة من الذهول.. توقف البص فى نقطة ما من تلك الصحراء. كان على مادي أن يترجل. وجد حصاناً فى تلك الخلاء الوعر مربوطاً بحبل معلق فى صخرة كبيرة سوداء. لا شي غيره . كان عليه أن يركب الحصان . ففعل .. تلفت مادي فى الاتجاهات الأربع.. كل الأشياء متشابهة.. صحراء.. صحراء علي مد البصر. الشمس فى قلب السماء ساطعة وساخنة اللهب.. لم يدر إلى أين يسير!، ولماذا؟!.. بهت مادي!. التفت إلى النقطة التى توقف عندها البص. فلم يجد له أثراً.. فك وثاق الحصان ثم أعتلى ظهره. تحرك الحصان من تلقاء نفسه فى ناحية ما، واخذ يخب ويخب.. يلطم وجه مادي هواء يميل إلى السخونة و يشتم روائح نتنة كلما عمل على تبين مصدرها تجددت بلون لم يسعف بإدراكه . وتناهت إلى مسمعه من البعيد أصوات متضرعة ، خائفة و مخلصة:

    "كورا يا فاعل الخير وجالب الشر ادرأ بخيرك شرك عنا، كورا أنقذنا من الجذام والبرص،
    كورا كورا كورا".

    استيقظ مادي عند العاشرة من صباح اليوم التالي -الأحد- ثقيل الرأس، متعرق الأطراف. فتح عينيه على إيقاع ما -طنين نحاس حقيقي عال- لكن خارج رأسه هذه المرة. أجراس الكنيسة المجاورة ترجرج الجدران وتصيب الأريكة التي يرقد فوقها بهزة خفيفة تنتقل إلى جسده كالرعش الوامض. إذ ما زال في بيت صديقه مستر دافريز. وبينما ظلت عيناه محدقتان تجاه السقف الخشبي ذي الطلاء الأبيض ، تحسس بمداركه الواعية ساقه اليسرى التى أصابها الخدر من جراء انحرافها عن استقامة مرقده؛ طوال ساعات نومه، فرمق مستر دافريز فى اللحظة الأخيرة التى اغلق بعدها الباب الخارجي من خلفه دون أن يحييه أو يخبره بهدف ذهابه. لكن مادي قدر انه ربما حسبه لا يزال نائماَ، ولم يرد إزعاجه، وخمن أن صديقه ربما كان ذاهباً لأداء قداس يوم الأحد فى الكنيسة التى ما فتأت تقرع أجراسها.
    مسز دافريز هناك فى غرفة النوم الرئيسية تبدو أنها بخير. ضحكات صغيرة ليان ومارك تنبعث من مكان ما في البيت. الآنسة سو فى الطابق العلوي ربما كانت لا تزال نائمة. هدوء مريح. استدرك مادي فظاعة الأحلام التي أرقت مضجعه طوال الليلة التي خلت. نهض مستنداً إلى ساقه اليمنى مستشعرا بقايا خدر فى قدمه اليسرى . نظف أسنانه وشرع فى غسل وجهه من ماء الحنفية الدافئ.
    وضعت آنا أول خطواتها فى غرفة الجلوس، نظرت الى الأريكة الفارغة -مازال مادي فى الحمام - نادت بصوت خفيض:

    -"مادي".

    ثم رفعت صوتها قليلاً:

    _"مادي هل انت فى مكان ما هنا ؟".

    أجاب مادي الصوت بنعم ثم خرج فحي آنا مبتسماً:

    -"صباح الخير ".
    ردت آنا التحية بمثلها. ولوهلة بدت و كأنها مرتبكة، نظرت إلى مادي. حنت رأسها. والتفتت فأحصت المقاعد القائمة فى غرفة الجلوس مستخدمة سبابتها، وقالت:
    -" المكان ضيق ، أليس كذلك؟"

    وافق مادي على ما تقول آنا بحياد تام بعيداً عن تقديره الخاص:
    -"تعرفين هذا الأمر أكثر منى !".

    وعندما شعرت آنا بأنها لم تبن مقصدها الأخير بعد، شرعت في شرح الأمر بوضوح أكثر:

    -"تعرف مادي أننا نتوقع زوار اليوم: صديقات ماما الأوائل، وكما ترى فإن المقاعد محدودة والمجلس ليس واسعاً بدرجة كافية ولذلك اقترح....".
    فقاطعها مادي بقصد عدم تكليفها كل الحرج:

    _" لقد فهمت فحوى الموضوع ، لا عليك سأتدبر أمري، سأذهب إلى بيتي حالاً!. لكن لطفاً قولي لي، هل مسز دافريز بخير؟".
    -" أظنها كذلك".
    -"والآنسة سو؟".

    -" أعتقد أنها لا تزال نائمة".

    -"ألا تعلمين من فضلك متى يعود مستر دافريز ؟".

    -" لا أدري ، حتى إننى لا أعلم أنه قد خرج!".

    -" لا بأس، إن لم يعد خلال ساعة سأترك له مذكرة ، إن كنت تسمحين!".

    - " لا مانع".

    وضع مادي فرشاة الأسنان فى أحد جيوب حقيبته بينما أعاد ترتيب أوراق والده ووضعها بشكل مريح داخل الحقيبة.

    خلال الساعة التى وعد بها مادي ليغادر وساعة أخري أنفقها في التأني؛ مستر دافريز لم يعد، والآنسة سو لم تنهض من فراشها.

    كان الطقس الصيفي معتدل برغم السحب التى غطت وجه الشمس، بينما أخذ مادى يركد قاصداً محطة الباص رقم 76 ليعود الي الشقة رقم 24ب في شرع فانمولنار.
                  

08-06-2011, 03:39 AM

محمد جمال الدين
<aمحمد جمال الدين
تاريخ التسجيل: 10-28-2007
مجموع المشاركات: 5342

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رجل من بورجوازا في أمستردام "Fiction" (Re: محمد جمال الدين)

    ***8***

    حشر مادي بجسده فى البيت الصغير المطل على الشارع الضيق، استلقى لوهله على الأريكة ذات اللون الأحمر الناصل وعلق عينيه في السقف، ثم ما لبث أن انتفض واقفاً بلا قصد واضح، تسمر فى وقوفه كجثة قديمة متيبسة، وعندما استعاد بعض إدراكه وجد أمعائه مليئة حتى الحلقوم بسائل مر، دخل المرحاض، تقيأ ثلاث مرات، فى كل مرة كان يسترجع إلى أمعائه قدراً ضئيلاً من الكحول. الآنسة سو لم تنهض من نومها؛ أو ظلت فى الطابق العلوى، محصنة؛ فى غرفة آنا. وكان عليه المغادرة. كان واجباً ثقيلاً؛ فرضاً محتماً؛ نفذه -في وقته- بروح سمحة.لم يحظ بلقاء صديقه. آنا رأت شيئاً وأملته عليه، كانت يدها هي العليا وكلمتها النافذة. إنها الإبنة، وهو!. هو ماذا؟!. إنه الغريب! . لكن بالرغم من بساطة تلك المعادلة لم يكن بوسعه الإستكانة -نفسياً- لمنطقها بالصورة المثلى. راوح وجدانه شعور -مزيج- بالحرقة، الحزن، الغضب وقسط من القناعة.

    مشى خطوات مهتزة، قلب كومة أوراق طافية فوق الخزانة: شهادة من أحد مدارس أمستردام المختصة فى تدريس اللغة الهولندية، رسالة قديمة مروسة من مصنع شموع أعياد الميلاد، طلب التحاق بكلية الدراسات المتقدمة وتحته مباشرة جواب الرفض، مكاتبات بنكية تجاوزها دون أن يلقي عليها النظر، إصدارة إعلانية، منشور من بلدية أمستردام يشير إلى تغير فى مواقيت وضع القمامة فى الشوارع، رسالة من مصلحة الضرائب، والرقم السري لصرف المال أوتوماتيكياً، أمعن فيه النظر ثم مزقه.

    فتح أحد أدراج الخزانة وضع داخلها المذكرات والرسالة التى خصه بها والده. فتح درج آخر، أخرج عدة أشياء فى حزمة واحدة: كتابين، "ألبوم" صور فوتوغرافية، رسائل كثيرة؛ من بينها حوارات غرامية و مكاتبات مم "خريتا"، شرائط كاسييت ومجموعة أخرى من الأوراق. أعاد كل تلك الفوضى إلى مكانها وأحتفظ بثلاث رسائل غرامية، ألبوم الصور، وكتاب باولو كويلو الذى استعاره من مكتبة البلدية يوم الجمعة الفائت. استلقى على الأريكة: أفتتح بمعاينة الرسائل -ذاكرة علاقات جنسية يمكن وصفها بالعابرة- لم يعرها جميعاً كثيراً من الوقت، ولو انه خص واحدة من صفحتين بإهتمام أكبر نسبياً، كانت مذيلة بإسم: جسكا فاندام . ثم شرع يقرأ لباولو كويلو؛ قرأ ست صفحات، تخللت خواطره أثناءها أشباح مبهمة للآنسة سو كانت قادرة على استنزاف متعة القراءة. وضع الكتاب جانباً، فتح ألبوم الصور، قلب صفحاته: صور كثيرة، كل منها يحمل ذكرى ، ذكرى محددة ، ذكرى ذات مغزى، وصور أخرى لا تعنى شيئاً؛ أحتفظ بها ربما لأن هناك فراغ داخل الألبوم أراد ملأه بأي شيء . صورة مم خريتا تتكرر اكثر من مرة، امرأة نحيلة، دائمة الابتسام وصافية العينين. صورة لمدير مصنع شموع أعياد الميلاد؛ يلقي كلمة أمام حشد صغير من الناس . صورة توقف عندها قليلاً؛ تبدو أنها لجسكا فاندام، شابة هولندية شقراء فى مقتبل العمر ترفع يديها فى الهواء؛ مما جعل شعر إبطيها باديا؛ ولم يكن وجهها واضحاً بصورة جلية بفعل انعكاس الشمس على سطح البحر من خلفها. مرر ناظريه على صور أخرى عديدة دون أن يتوقف عندها. لكنه أخيرا أمعن النظر فى وجه رجل أسود مسن كان يشير بإصبعه إلى تمثال داخل متحف الشمع بأمستردام؛ هذه الصورة عمرها ثلاث أعوام . دقق مادي النظر فى وجه الرجل مرات ومرات؛ مستحضراً أحد عبارته التى جهد فى استيعابها. لكنه لم يفلح في فهم ما رمى له ذلك الرجل بقوله :
    " الواحد منا لن يكون شيئاً فى أوروبا غير الشيء الذى كانه قبل المجئ إليها".

    لكن مادي لم يكن شيئاً قبل المجئ الى أمستردام؛ كان طفلاً؛ لا يدري شيء. قال الرجل عبارته تلك بطريقة جانبية وعفوية، لكنها ظلت ترن في عقل مادي كل هذا الوقت، لا لظنه أنها تنطوي علي حكمة عظيمة، ولكن لغرابتها ونشوزها. مادي لم يعد يذكر إسم ذلك الرجل، لقد لقيه مصادفة كسائح قدم من محل إقامته الحالي فى انجلترا عاش نصف عمره فى روسيا وتنقل بين ألمانيا الشرقية والمجر لسنوات عديدة، تزوج بروسية، طلقها وذهب إلى أخرى من ألمانيا الشرقية، ثم بواحدة فرنسية تعيش فى انجلترا، أنجب أربعة أولاد وثلاث بنات؛ أصغر ما عنده بنت عمرها ثمانية عشر عاما. عمل لسنوات عديدة بمصنع للأخشاب ضواحي برلين الشرقية، قبل استقراره أخيراً فى لندن؛ برغم إنه غير راضٍ عن كل ذاك، كما أخبر مادي. ولو أن مادي لا يذكر تماما إن كان ذلك الرجل قد ذكر له؛ انه هو أيضاَ في الأصل من تلك البلاد التي يدعونها بورجوازا أم لا!.

    وضع مادي الألبوم فوق كتاب باولو كويلو وعاد فاستلقي على الأريكة وعيناه معلقتان في السقف. "وبينما هو في تلك الحالة رن جرس الهاتف"

    ------------------------------------
    هنا ينتهى الجزء الأول من القصة ... أنتهى!

    (عدل بواسطة محمد جمال الدين on 08-06-2011, 04:14 AM)

                  

08-06-2011, 05:47 AM

سفيان بشير نابرى
<aسفيان بشير نابرى
تاريخ التسجيل: 09-01-2004
مجموع المشاركات: 9574

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رجل من بورجوازا في أمستردام "Fiction" (Re: محمد جمال الدين)

    حكاية ولا اروع و الله يا ام جي
    متماسكه مابين الغيب والسلطة
    والمال .
    حاجة ممتازة .
    واشكرك على انك شاركتنا فيها
    كدا على الهواء مباشرة .
                  

08-06-2011, 04:50 PM

محمد جمال الدين
<aمحمد جمال الدين
تاريخ التسجيل: 10-28-2007
مجموع المشاركات: 5342

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رجل من بورجوازا في أمستردام "Fiction" (Re: سفيان بشير نابرى)

    شكرآ مجددآ يا سفيان على المجاملة الجميلة. تلك كانت أول محاولة لي ... وما أزال أحاول.

    تحياتي

    محمد جمال
                  

08-06-2011, 06:04 PM

سفيان بشير نابرى
<aسفيان بشير نابرى
تاريخ التسجيل: 09-01-2004
مجموع المشاركات: 9574

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رجل من بورجوازا في أمستردام "Fiction" (Re: محمد جمال الدين)

    Quote:
    شكرآ مجددآ يا سفيان على المجاملة الجميلة. تلك كانت أول محاولة لي ... وما أزال أحاول.


    يا راجل تحاول ايه !!!
    أنشر سااااكت خصوصاً لو كان نشر اكتروني زي دا
    عشان نقرأ طوالي .
    ودى في حد نفسها فكرة ممتازه و اكبر عدد حيتمتع بيها.
                  

08-06-2011, 11:07 PM

محمد جمال الدين
<aمحمد جمال الدين
تاريخ التسجيل: 10-28-2007
مجموع المشاركات: 5342

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رجل من بورجوازا في أمستردام "Fiction" (Re: سفيان بشير نابرى)

    والحق يا سفيان... ما ممكن تصدقني لو قلت ليك الحقيقة!. أعني شعوري المجنون. إني خجلان من مادي والآنسة سو وأخشى الإله كورا، إله بورجوازا...... ليه؟.

    لأن العمل "المحاولة" دي كتبتها سنة 2002 ونشرت جزء منها على عجل سنة 2003. ثم أصلحت ما فعلت وتم ترجمة قدر كبير منه للغة الهولندية سنة 2003. وقد أتفقت مع دار نشر هولندية على النشر بالهولندي ثم أختلفنا في الجزء الثاني لم ينشر بعد ، أختلفنا أنا والناشر حول حزف بعض الأجزاء من العمل لإعتابارت ذات علاقة بالسوق الهولندي وإذا بي داخل تلك المفاوضات المملة أهجره تمامآ وأعتذر لدار النشر العزيزة. المقاطع المترجمة للهولندية موجودة في صفحة صندوق الأدباء الهولنديين Fondsvoorletteren

    فقط أمس مساءآ بالصدفة مررت عبر هذا المحاولة فأنتابني بعض الحياء في مواجهة شخصياتي القصصية فقررت دون كثير خطط نشر الجزء الأول من هذه المحاولة الأولى من محاولاتي كتابة الرواية. وأنا لست براو ولا قاص ولا شاعر ولا أديب ولا "متواضع" ولا بشيء "بس" أنا ذاتي ما عارف أنا منو وما عندي رغبة كبيرة أعرف!.
    -------------
    ثم أنني نشرت الجزء الأول هنا على علاته دون أي مراجعة أو تدقيق وذاك ما أنوي فعله عندما أفكر في النشر بطريقة أحترافية.

    تحياتي

    محمد جمال
                  

08-07-2011, 02:55 AM

محمد جمال الدين
<aمحمد جمال الدين
تاريخ التسجيل: 10-28-2007
مجموع المشاركات: 5342

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رجل من بورجوازا في أمستردام "Fiction" (Re: محمد جمال الدين)

    والقصة على ما بها من "fiction" فيها روح الواقع والوقائع!.

    فمثلآ عندي تصور أن "بورجوازا" تقع في المثلث القائم بين جنوب السودان وأفريقيا الوسطى و دارفور. مع العلم أن هذا العمل كتبته قبل سنتين تقريبآ من إندلاع الحرب في دارفور بشكلها المعلن الذي حدث في بداية العام 2003.

    It is fiction

    تحياتي

    محمد جمال
                  

08-07-2011, 07:16 PM

محمد جمال الدين
<aمحمد جمال الدين
تاريخ التسجيل: 10-28-2007
مجموع المشاركات: 5342

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رجل من بورجوازا في أمستردام "Fiction" (Re: محمد جمال الدين)

    وذاك كل الأمر.
                  

08-15-2011, 03:35 AM

محمد جمال الدين
<aمحمد جمال الدين
تاريخ التسجيل: 10-28-2007
مجموع المشاركات: 5342

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رجل من بورجوازا في أمستردام "Fiction" (Re: محمد جمال الدين)

    قليلآ... ونعود.

    نفكر في الأمر!.

    ودي

    م.ج
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de