|
الله في مذكرات مُلحد . مجموعة قصصية (2)
|
( 2 ) اللحم الحــــلال تُمطر سماء باريس كأمرة تعاني من ارهاصات حمل جديد , تهطل كيفما شاءت , ومتى شاءت , ليس لها مواعيد ثابتة , صباحاً كان ذلك أم مساءاً , تأتي الأمطار عاصفة , أو تتمهل في هبوطها , وفي كل الاحوال لا تمكث أمداً طويلاً , إلا أنها لا تنقطع , كصاحب عملٍ لا يثق في عمّاله , فيتلصص عليهم في كل ربع ساعة , مرة على الأقل . باريس , مدينة تُشكل فيها المتناقضات منظومة معقدة التركيب والانسجام , أحياءها الأفريقية والعربية , أطرزتها الأوربية والفرنسية , أمكانها السياحية ومساحاتها المتسخة وغير الآمنة , الأزقة التي تنبعث منها رائحة التبول , المشردون القاطنون في الشوارع العامة وأسفل الكباري بأطراف نهر السين , الشحاذون أسفل برج أيفل أيضاً . هنا حيث يتمايل السُكارى يمنةً ويُسرة , وتتأبض العشيقة ذراع عشيقها , ويداعب العشيق صاحبته على قارعة الطريق , حيث يُعلن السُكارى عُزلتهم الواضحة , والقليلون أمثالي يُهرلون في اتجاه أسرتهم لمضاجعة النوم , بينما يُسرع الباقون في إتجاه نادٍ ليلي يقع في منتصف الطريق العام . حينها تكون الأرض قد مُلئت بالظلام , تنام الاحياء النائية خمس أيام في الأسبوع , وتفور هرجاً ومرجاً في عطلة نهاية الأسبوع , ولا تهدأ إلا في صباح يوم الأحد , مع دقات جرس الكنيسة معلنةً , زمان الصلاة الصباحية . في بدياتي الباريسية , كُنت أبدأ عملي عند الرابعة مساءاً , أحمل مظلتي مثل بطاقة اثبات الهوية , كانت تظلل فقري , وتفضح جهلي بلغة البلد من الأصل , علاقاتي كانت سطحية بالأشياء , تأتي الأمطار فجأة , ثم تهبط , متقطعة , كدماء طمث شهرية , اندفعت فجأة , ثم تعاود التقاطر لمدة أسبوع كامل , لتبدأ من جديد بعد ذلك الأسبوع للتقاطر ثانيةً . المدينة ساحرة , مليئة بعلاقات متنافرة , أشباح تتراءى من بعيد , تظهر ثم تختفي , كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء , ألوان بيض منتشرة , أنوف طويلة معقوفة , قامات متباينة في الطول والقصر , قوم بيض , رجال كانوا أم نساء , هؤلاء هم الفرنسيون , بيضاوي البشرة , ناعمي الشعر , يسيرون بوقار ثابت , تحن له نساء النيلين , يسيرون كتحف بيضاء آلية , يميزها اللون والتاريخ عن رجال المليون ميل السابقة , ويرجحهم ميزان القوة , فهم , مسموعوا الكلمة في المجلس الأمن الدولي بالطبع . لكن الباريسيات لهن طعم خاص مختلف , يحملن الكثير من الشهوة واللغط الجانبي , في أروقة المثقفين , يسرنّ بقوة ومنعه , بسيطات جداً , لا يتدثرن بملابس كثيرة مثل نساء الخرطوم ذوات الأوزان الثقيلة , ترى ملابسهم الداخلية واضحة , ليس بينها قميص ( النُص ) الذي تتمتاز به نساءُنا , قبل مجيئي لهذه الأرض , كنت اعتقد أنه سلوك نسوي عالمي , لكن البارسيات أو غيرهن لا يرتدينه , لا صاحبات الأرض , أو المولدات نتيجة نزوات خاصة , حتى المهاجرات منهن , ليس لهن علاقة به. تُباع هنا الحاجات النسائية على الملأ , تُباع الأشياء معرفة جداً , واضحة في هذا العالم : ( ملابس داخلية , قميص نوم , بلوزة , اسكيرت , قميص , بنطال ) لكن لا يوجد قميص ( النُص ) أو ( قُلنه ) داخلية , كل شيء واضح , قميص أو فستان , بعده اللحم الأبيض مباشرةً , أو أي لون آخر من اللحم , كل شيء واضح , حتى في الأيام الثلجية الماجنة , يضعن فلنة داخلية عادية , مثل الرجال تماماً . كل شيء واضح عميق , لا سجال فيه أو جدال , إشارات واضحة المعني والمدلول , تُكتب لافته كبيرة أمام اللحم محدده نوعه ومصدره , مكتوب عليها : ( حلال ) , تشير لنوعية الذبح , مثل محلنا تماماً , عُلقت عليه هذه اللوحة على الباب تماماً , وخلفي توجد شهادة أخرى من مذبحة إسلامية , يدخل المسلمون , ليأكلون هنا , ومتأسلمون أيضاً , ويأتي زبائن آخرون لا علاقة لهم من قريب أو بعيد بالموضوع . بدأت حياتي من هذا المكان , كنت عامل بسيط , أضع الأشياء ثم أرصها , أُنطف الموائد بعد ذهاب الزبائن الأجلاء , أصحاب القوة والمال , فأكون محترماً معهم , فهم من يدفع مرتبي الشهري !! من لا يملك قوته لا يملك قراره هذا شعار حكومة الإنقاذ المقدس . لم يكن الأمر بذات الخصوصية أو التعقيد , لكنني حتماً لن أعمل في هذا الأمر بالخرطوم , إنها مهنة الحبش والنساء , كما ينص دستورنا الإجتماعي بالخرطوم , لكن هنا لا تثريب , وليست مأساة ماذا تعمل ؟؟ فقط المهم أن تعمل . حقيقةً كنت خجلاً من مهنتي هذه في بداياتي الأولى , لكن مع الأيام صارت جزءاً من واقعي المُعاش , فأصبحت فخوراً بها , تعلمت لغة المهنة , فأصبحت أبيع الزبائن علانيةً , لم تكن المشكلة في سواد بشرتي , أو في شعري المجعد , كانت المشكلة تحديداً تكمن في العربية التي أتحدثها - بطلاقة حسب زعمهم - قال لي أحدهم يومياً : ( إنك تتحدث العربية بطلاقة !! ) , لم تُدهشني المسألة من الأساس , لكن انهارت الأرض تحت أقدامي عندما سألني ببلاهة : ( أين يقع السودان ؟؟ ) أعتقد أنه يستأهزأ بوطني المقسوم إلى نصفين , قابلة للزيادة أيضاً , فصمت لم أجب !!, فأردف العربي قائلاً : ( هل تتحدثون العربية في السودان ؟ ) , في الواقع بدا لي الأمر كأنه نكتة سخيفة , لكن مع تكرار ثبوت الأسئلة واختلاف نوعية الزبائن وأشكالهم , قررت أن أختصر الموضوع وأقول : ( أنني تعلمتها هنا ؟؟ في المدرسة العربية تحديداً ) , ثم جاءت نوعية أخرى من الأسئلة : ( هل أنت مسلم ؟؟ ) , فكنت أصمت في كل الأحوال , أجبت مرةً : ( بأي نعم ) شعر الزبون بنوع من الفرح والإنتصار المعنوي , وبثابت الدعوة وصدقها , وبالمقابل أردف : ( الدين الأسلامي يساوي بين الناس , ليس مثل هؤلاء الكفار والعنصريين !! ) , بينما في أخرى قررتُ المَكر والدهاء , فقلت : ( لا ) , فإلتحم حاجبا الرجل ثم انفرجا فيما بعد , وفي أخرى تركت الموضوع ولم أجب !!. المكان في حد ذاته ليس به ما ينم على الأبداع او يمكن أن يطور شخص ينهم للمعرفة والتجدد , تركت الأمور تسير في اتجاه الريح , رجال يدخلون ملتحي الذقون , يتقيدون بالسنة في طول الذقن , مقدار قبضة اليد فقط , وبعضهم لا يتقيد بهذا الشرط , فيطلق لها العنان , تنم أعينهم عن حقد بائن , ومتزمجر , وفتيات يتعمدن إظهار شريط من بطونهن عن عمد , بالتأكيد سيعدمهن قانون النظام العام رمياً بالرصاص . كانت الساعة الحادية إلأ الربع بالضبط عندما دخلا , كانت تلبس بنطال لا علاقة له ببنطال لبنى حسين , كان أضيق بكثير من ذاك البنطال الذي كادت أن تُجلد به لبنى , لولا لطف السماء ورحمة الكفار وحبهم لسترة عورات الناس . كان بنطال وافر الفتحات الجانبية , تعكس أشعة الشمس البشرة التي تقف أمامي , يعتلية شريط بنفسجي له إمتداد أسفل البنطال ويلامس الجلد الأبيض الناصع - حنين رجالنا عن بكرة ابيهم اختلاف أنواعهم - كانت جميلة , ترتدي بلوزة باهتة اللون , تغطي ثدييها بمشّد أسود قطني , تحمل حقيبة بيضاء , وقفت مشدودة القوام واللون , نافرة ومستفزه قوية , غزال شارد من بندقية قناص فار من الجيش السوري , سألتني بالفرنسية أولاً , تصنعت الغباء , في الواقع لم أفهم , لم أحتار كثيراً , فقد انقذني صديقها الذي يقف بجانبها قائلاً : ( الأكحل – تعني الأسود , في لغة المغرب العربي - ما بتكلم فرنسية ) , فقالت مباشرةً : ( اللحم حلال ؟؟ ) . أشرت للشهادة التي عُلقت خلفي , ثم تجمدت في مكاني , لم أتحرك البتة , خرجتُ من إطار النص , صمتُ برهة من الدهشة والحزن أيضاً . الشاب على ما يبدو مفتون بها , رُسم على كتفه الأيسر , وشم لتنين يطلق النار من فمه ,يُبرز عضلاته المشدودة , مد يده , أحتوى خصر الفتاة أولاً , ثم إلتصق بها , على نحو تراجيدي مُثير جداً , ثم قال لها : ( نأخذ الغداء هنا أم في الخارج ؟ ) , اشارت إلى منضدة تقع في نهاية المحل , في مكان مظلم قليلاً , ثم أردف قائلاً : ( لو سمحت , أثنين شاورمة بصلصة المايونيز والهريسة – تعني الشطة بلغتهم ) ثم عقب ذلك الطلب بآخر قائلاً : ( وكوبين من البيرة الباردة أيضاً , ولو سمحت !! ) . ركزت عيني محدقاً في قطعة اللحم الدائرة على محورها أمامي , وضعت سكينتي عليها , أقطع منها المستوي المحمّر , وأتخير منها أنا أيضاً ما أشاء !! , كانت تتساقط أمام عيني , وبفعل سكيني هذه . في تلك اللحظة خيل لي أنشتاين يحاول أن يُوجد علاقة كونية ثابتة تربط بين اللحم الحلال والبيرة الباردة , لا أدري لماذا خُيل لي ذلك ؟
|
|
|
|
|
|