دعواتكم لزميلنا المفكر د.الباقر العفيف بالشفاء العاجل
|
سيرة الفتح الإسلامي.. سيرة للتعصّب //سمير السعيدي
|
أخذت أشكال الصراع السياسي والفكري والقبلي اشكالاً عدة بعد وفاة الرسول. فتظهر إلى السطح تارةً كما حدث في الصراع على منصب الخلافة في سقيفة بني ساعدة، وتفتر حيناً كما حدث في عصر الخليفتين الاول والثاني. لكن أسباب الصراع على السلطة ظلت كامنة بين الفرقاء لحين ما يتيح لها التاريخ الفرص المناسبة للظهور الى العلن. أهم أسباب تأجيل الصراع هو اعلان العديد من القبائل واهالي القرى البعيدة عن المدينة ومكة ارتدادهم عن الإسلام. إضافة إلى كون الكثير من هذه القبائل لم تخضع اصلاً للسيطرة الإسلامية، ووجد بعضهم في الحفاظ على قيم القبيلة الاطار الاسلم لوحدة المجتمع، عوضاً عن تسليم مقاليد الامور لحاكمٍ ما او خليفةٍ في منطقة اخرى بعيدة. ووجدت مناطق اخرى تعمل في الزراعة والرعي تمسكها بأنماطها الإنتاجية والاقتصادية وتقاليدها المتوارثة اكثر ضمانةً لها من الانقياد الى الدعوة التغييرية الجديدة في الإسلام. رافق ذلك انتشار العديد من أدعياء النبوّة والفكر الجديد بين سكّان تلك المناطق، كذيوع صيت < مسيلمة > بين قوم بني حنيفة، وصيت < سجاح > بين قوم بني تغلب، وغيرهم ممن يعارضون فكرياً الاستجابة لدعوة الإسلام. ظاهرة الارتداد المفاجئة، اضطرت الخليفة الاول لان يقود الكثير من الحملات العسكرية ضدهم والتي عرفت ب < حروب الردة > لاخضاعهم الى سلطة الخلافة المركزية واعلاء شأن الخليفة. وبشكلٍ شخصي أوصى الخليفة الاول للثاني، وأمر المسلمين بالطاعة والولاء له. وقد شاع بين المسلمين حينئذٍ بانّه – اي ابو بكر – قد ولّى عمر الخلافة كما ولاّها عمر له في السقيفة، وهاهو الان يعيدها إليه. لكن حروب الردّة كانت الغطاء الاكبر لجعل اسباب النزاع على الخلافة من العوامل الثانوية في تلك الفترة، لكنها بقيت متأججة وكامنة في النفوس. في حملة عمر ضد المرتدّين عن الاسلام استخدم اسلوباً اكثر حكمة، بلجوئه إلى أسلوب التفاوض السلمي مع زعماء قبائل المرتدين، فان لم يُجدِ نفعاَ، يلجأ إلى خيار القوة العسكرية. شغلت حروب الردة عصر الخليفتين، لكن عمر استطاع حسمها نهائياً بعد اخضاعه اكثر المناطق ارتداداً لسلطة الخلافة واعلان الولاء لسلطته المركزية. وان نجاح هذه الحملة شجّعت على التذكير بطموح الرسول بنشر الدعوة الى كافة بقاع الأرض. وذكّرت أيضا بإرسال الرسول جيشاً لمحاربة الروم في الشام بقيادة ابنه بالتبنّي زيد بن الحارث، رغم أنها لم تتوّج بالنصر، لكن الفكرة ظلّت قائمة بدليل قيادة الرسول بنفسه جيشاً لمواجهة الروم ثانيةً في غزوة < تبوك > في العام التاسع للهجرة – 630 م. لكن الجيش عاد من دون قتال لاسبابٍ متعلقة بظروف التمويل وطول السفر وسواها. لكن الحملة هذه مهّدت طريق الشام والقبائل القاطنة على الطرق لتكون على وفاقٍ مع توجّه المسلمين في مرّاتٍ مقبلة، وهيّأت جيوش المسلمين لمفهوم الفتح العربي الاسلامي نفسياً وتعبوياً. هذا التمهيد الفكري والعسكري شجّع على بدء مرحلة الفتح في عهد الخليفة الثاني باسم رسالة الإسلام، وشملت في مراحلها سوريا وفلسطين اولاً ومن ثم العراق ومصر وامتدت لتشمل مناطق واسعة من قارّات آسيا وافريقيا وأوروبا. وقد دامت حملة الفتح العربي الاسلامي مدة سبعين عاماً. اختلفت كتب التاريخ في تشخيص الاسباب الحقيقية وراء حملات الفتح تلك. فكتب الغرب استندت على قراءة المستشرقين الاحادية – المغرضة – لها، والتي رأت في التعصّب الاسلامي سبباً مباشراً. وكتب أخرى رأت في العوامل الاقتصادية والجغرافية اسباباً لضرورة الانتشار خارج الجزيرة العربية. يعنون بذلك عوامل شحّة المياه وانحسار المراعي وغيرها من عوامل الجفاف على أنها جوهر تلك الأسباب، وأرفقته أيضا بعدم انتشار الوعي الاسلامي بين قبائل العرب بعد، رغم إعلان إسلامهم. إضافة إلى سببٍ هام يكمن في طموح فئاتٍ عديدة من كبار التجّار وملاّك الاراضي والذين كانوا كذلك قبل الإسلام، إلى توسيع مناطق نفوذهم وسلطانهم. ومقابل ضريبة الجزية، شاعت سمة التسامح الديني عند الفاتحين العرب المسلمين، حيث كانوا يبقون على الديانات والمعتقدات الاخرى كما هي، ويتركون لهم حرية ممارسة شعائرهم وطقوسهم الدينية حسب مااعتادوا عليه مقابل تلك الضريبة كما أسلفنا. وكانت الأوامر تقضي بأن تعسكر الجيوش الفاتحة خارج المدن، تحاشياً من مؤثّرات الاختلاط بالمجتمعات الجديدة وحمايةً لها ايضاً من هجمات المحاربين من جهاتٍ أخرى. يضاف إلى ذلك معاناة تلك البلدان السابقة من حكم الروم حيناً، والفرس حينا أخر، التي أثقلت على كواهل السكان مرارة الاضطهاد الديني وكثرة الضرائب وشيوع حالة التذمّر من دولتي بيزنطة وفارس، وحروبهما الطويلة التي ارهقت كيان الدولتين معاً، كما أنهكت السكّان والأهالي، إلى الدرجة التي كانوا يرحبون بها بالفاتح الجديد العربي – المسلم، والمقبل عليهم بالكثير من قيم التسامح واحترام رجال الدين والكنائس. بمعنىً ما ان العوامل الاقتصادية والاجتماعية قد وفرت الحماية للفاتح العربي في تلك المجتمعات الجديدة، والتفّت حوله وسهّلت له وامامه مهمة الانتصار على اعتى جيوش الروم والفرس في معارك شهيرة. بعد الفتح سُمي دافعو الضرائب ب << اهل الذمّة >> وهم اصحاب الكتاب من الديانات الاخرى مقابل حماية المسلمين لاديانهم وأملاكهم، حتى اتخم بيت المال بملايين العملات الذهبية والفضيّة وكان الذمّي اذا دخل الاسلام ترفع عنه الضريبة- الجزية، وتؤخذ منه الزكاة فقط، وهي اقلّ من الجزية بكثير. اما ضريبة الخراج، فتؤخذ من العاملين في الزراعة، ولأنها صفة الإنتاج المحلّي الغالبة، شكّل الخراج ايضاً مورداً هائلاً من موارد بيت مال المسلمين. من زاويةٍ أخرى، ثمة من يقول ان تلك الموارد المالية الضخمة المتأتية من حملات الفتح العربي الاسلامي، كانت سبباً مباشراً لتراجع وضعف الدعوة لدخول الاسلام كنشاطٍ تبشيري. اذ ان توافد الاعداد الكبيرة من اهل الذمّة على دخول الإسلام، يعني إفقار بيت المال وانحسار موارد الجزية وفقدان غنائم الفتوحات. اي ان موارد الفتح المالية قد شغلت الاهتمام الاول للولاة وقادة الجيش وكبار التجّار، ثم تاتي بعدها الدعوة الفكرية التبشيرية للإسلام. افرزت تلك المرحلة مراكز اقتصادية تجارية كبيرة في العراق والشام وشمال أفريقيا، سيطر عليها قادة الجيش وكبار التجّار وبعض زعامات قريش السالفة. وباستمرار نشاطاتها افرزت ملامح طبقية ظاهرة في المجتمع، ازدادت ثراء من سيطرتها على اموال الاثرياء في المدن المفتوحة، وأنشأت لها مدناً اخرى مجاورة لتلك المدن، واستخدمت العمّال والمزارعين لاستثمار تلك الاموال في انشطة تجارية مختلفة. بينما في الجانب العسكري كان يُسمح فقط لابناء القبائل العربية في البلدان المفتوحة من الدخول في جيش الفتح العربي الإسلامي. عموماً نقول انه في عهد الخليفة عمر استطاع فعلاً ان يشكّل العصر الذهبي للعرب وللمسلمين، وتمكّن بقراءته الاجتهادية للنصوص الاسلامية ان يشرّع الكثير من الاُطر السياسية والعسكرية والاقتصادية المتعلقة بادق المراحل تعقيداً في التاريخ العربي – الاسلامي، الا وهي سياسة الفتح تلك الاُطر التي حكم بها الخليفة الثاني الامصار المتباعدة الواسعة، وتمكّن من بلورة هيكل اساسي لمفهوم الدولة ادارياً وعسكرياً واقتصادياً وسياسياً. الملاحظ على هذا التأسيس الكبير هو بنيانه القبلي العربي، لا العصبوي الاسلامي كما اشاع ويشيع عنه الغرب. وانّ صرامة القوانين التي وجّه وقاد بها عمر قادة الجيوش والولاة، وضعتهم في عزلةٍ اجتماعية وثقافية عن المجتمعات المفتوحة، اضافةً الى انغلاق مدنهم المجاورة لتلك المدن على نفسها، رغم ما اصابها من ثراءٍ فاحش واستقرارٍ تجاري. ذلك لانها اُنشئت على مفهوم التفوّق وقوّة العنصر العربي، والذي ساهم بطريقةٍ واخرى على افراز الفوارق الطبقية في المجتمع، كعامل طبيعي من سنن تطور المجتمعات. ففتح الامتداد الافقي الواسع لامبراطورية الفاتحين العرب المسلمين افاقاً جديدة في التشريع. فاختلف ولاة الامصار والصحابة في اجتهاداتهم حسب تباين مستوياتهم في النظر العقلي في مستجدات الامور التي تواجههم. لكن قدرة الخليفة ايضاً على السيطرة والتحكّم بادارة الانظمة الشائكة، جعلته المرجع الاول في حركة التشريع. وكان ادراكه الحيوي والمرن للنص الاسلامي، قد منحه – في فترة الفتح خصوصاً – قدرةً شجاعة وهائلة على التشريع والاجتهاد. ومع هذا اختلف الفرقاء في تأويل النصوص فيما يتعلّق بكيفية ادارة المناطق المفتوحة وامور القضاء والمال وسواها. اي ظهور عوامل الصراع الى السطح كلما تضاربت المصالح والاراء، والتي اخذت هوية الفرق والمذاهب والاحزاب حال تولّي بني اميّة خلافة المسلمين. فلم تبق الصورة للعرب كما كانت ذهبيةً في عصر الخليفة الثاني، وتغيّرت تماماً في عهد عثمان. ولكن قبل ان يموت عمر عام 23- 644 م اثر تلك الطعنة القاتلة، اوصى نفراً قليلاً من الصحابة، منتقىً ومدروساً بعناية – بينهم عثمان – بان يختاروا خليفةً من بينهم للمسلمين من بعده. فاختاروا عثمان وفق ما حددّه لهم عمر سلفاً بخطّةٍ سٌميت لاحقاً ب < الشورى >، والتي توقّع علي بن ابي طالب نتيجتها – وكان هو احد هؤلاء النفر الستة – اذ قال [ كما اشار الطبري في الجزء الخامس من كتابه ص 35 ] : << ان اطيع فيكم قومكم، لم تؤمروا ابداً >>. ما ان استلم السلطة عثمان، حتى عيَن وولى ابناء اسرته واقرباءه وابناء قبيلته من بني اميّة حكّاماً وولاةً على كافة البلدان المفتوحة، وفي الهيئات الادارية والمالية المركزية في الدولة. وباتت الموارد المالية الضخمة التي تاتي من دافعي ضرائب الجزية والخراج تذهب الى الخزائن والجيوب الخاصة للحكّام والولاة الجدد عوضاً ان تتجمع في بيت مال المسلمين. فبرزت مظاهر الثراء والقوة والاستبداد في هذه الفئة من المجتمع في اوساط مكة والمدينة والشام متمثلةً بابناء آل سفيان من امية – والتي يعود اليها عثمان -. ولاول مرة بات يُستولى على الاملاك والاراضي في البلدان المفتوحة، ضد التشريعات التي كانت سائدة في عهد عمر، بل اضافوا اليها ضرائب جديدة، وامتلكوا وسائل التجارة والعقارات. فعمّ الاستياء مختلف شرائح المجتمع بدءاً من الصحابة مروراً ببني هاشم واصحاب او شيعة عليّ، الذين رأوا ان < حقّهم الالهي > بالخلافة يغتصب للمرة الثالثة، وانتهاء باوسع شريحة في المجتمع من الفقراء والكادحين والفلاّحين والمفقرين الجدد من مسلمين وغير مسلمين، من العرب وسواهم. هؤلاء الذين احتسبوا في الاسلام منقذاً ومخلّصاً لهم من الفوارق الطبقية والعرقية والقبلية، بينما يجدونه الان على يد عثمان وحكّام بني اميّة يزيدهم فقراً وشقاء، ويعمّق الهوّة بينهم والشرائح الاجتماعية الاموية الجديدة – القديمة. في العام الثاني عشر لخلافة عثمان، اختار وفود من حجيج مكة القادمين من العراق ومصر فريقاً منهم للشكوى امام الخليفة من ظلم وجور الحكّام الضاربين بسيفه، وعرضوا عليه امر الشكوى، فوجدوا عنده العجز التام عن السيطرة على الولاة وعن التحكّم بافعالهم، فطلبوا منه اعتزال الخلافة كحلّ واقعي لكبح جماح الاستياء العام بين الاهالي في كافة البلدان. لكن عثمان رفض طلب اعتزاله، وما كان من ممثلي الوفود الاّ اعلان سخطهم عليه باسم كافة الفقراء، والذين سرعان ما التحقوا بممثليهم حال طُلب منهم ذلك، فحاصروا دار الخلافة وعمّ السخط والانفجار الشعبي ضد كل مظاهر البذخ والثراء الفاحش والفوارق الاجتماعية متمثلةً برأس الخلافة. ولم ينته التذمّر العام الا بمصرع الخليفة الثالث عثمان، واعتبرت هذه الحركة اوّل ثورة اجتماعية عارمة في الاسلام، طالب فيها المنتفضون بان يكون على رأس الخلافة امام صالح وعادل وقادر على اذابة الفوارق الطبقية الحادة في المجتمع، والتي كانت هي السبب المباشر لاندلاع الثورة. كان طلحة والزبير وعائشة من ضمن المحرّضين على قتل الخليفة، لابعاده لهم من المناصب العليا في الدولة، وكان قد حصرها في بني امية فقط، ورغم ان عليّ كان قد ارسل ولديه الى دار الخلافة للدفاع عن عثمان، لادراكه عما سينجم عن مقتله من فتنٍ من قبل ذوي المطامح السلطوية والمصالح الخاصة، نرى جماعة المحرّضين على قتل عثمان سارعت بعد مقتله الى المطالبة بدمه، متّهمين علي بن ابي طالب بالتحريض على قتله. وبهذا المسعى حافظوا على مصالحهم وزعاماتهم من خشية الاخطار التي قد تتهددهم بعد وفاة عثمان من بني امية وسواهم. فحملت عائشة قميص عثمان مخضّباً بدمه، تستثير به خصوم عليّ ومشاعر العامّة، وقد استغلّ هذا الفريق مكانة عائشة في نفوس المسلمين، كونها زوجة الرسول اولاً، ولاحتفاظها باحقادٍ قديمة مضمرةٍ ضد عليّ ثانياً، ووظّفت لتهييج ثائرة العامة، والاتهام العلني لعليّ في قتل عثمان فقادت حملتها على ظهر جمل لمحاربته في البصرة – وكانت حرب الجمل – التي أسست لاعلان الصراع السياسي الاجتماعي بين الفرقاء بعد ان كان كامناً منذ وفاة الرسول. ورغم انتصار عليّ وشيعته في تلك الحرب، لكنها أبقت الشعلة التي تؤجج الخلافات والصراعات في كل مرة. لم يبق من مرشحٍ للخلافة بعد مقتل عثمان سوى عليّ، فبويع تلقائياً دون منازع، لكن دماء حرب الجمل وامارة بني اميّة في الشام متمثلةً بمعاوية، ساعدتا على تازيم وتاجيج الصراعات اكثر فاكثر نحو المزيد من الانفجارات والانقسامات السياسية والاجتماعية والعسكرية. في هذا السياق التمهيدي لسيرة النزاعات الضاربة في عمق جذور المجتمع العربي، قبل وبعد الاسلام، والتي تواصلت باسم الدين وتأويل النصوص الاسلامية كلُ لصالحه، اسست فيما بعد للفرق المتناحرة التي يكفر فيها كل فريق الآخر بافتعال النصوص والاحاديث والحقائق، حتى وان اضطرهم ذلك الى شنّ الحروب وسفك الدماء بين فترةٍ واخرى. وكما نرى مازال الخلاف ربيعاً وقائماً حتى يوم الناس هذا.
|
|
|
|
|
|
|
|
|