|
بين المقدس وفهم المقدس / فاخر سلطان
|
التفسير الديني، سواء كان شيعيا أو سنيا، أو كان في إطار أضيق ينتمي إلى إحدى مدارس التفسير في إحدى الطائفتين، حينما يطرح رأيه في قضية من القضايا أو في مسألة من المسائل، كحقوق المرأة السياسية أو مسألة التعددية الدينية وكذلك تغيير الدين (الارتداد) أو حتى عدم الإيمان بالدين الإسلامي، فإن هذا لن يكون سوى تفسير من التفاسير ورأي ديني في إطار الآراء المختلفة والمتعددة المطروحة في ساحة المعرفة الدينية. فلا يحق لأي رأي أو تفسير ديني أن يدّعي بأن رأيه وتفسيره هو القرآن وإنما هو فهم القرآن، وبالتالي توجد في ساحة التفسير والمعرفة الدينية الكثير من التفسيرات المتباينة تجاه قضية واحدة. فصعوبة تثبيت تعددية التفسيرات (وليس تعددية الديانات والمدارس الفكرية) في ساحة المجتمع الإسلامي، تكمن في أن الغالبية العظمى من تلك التفسيرات تنسب نفسها إلى القرآن، ولا تعتبر تفسيرها فهما بشريا للنص القرآني. في حين أن أي تفسير هو ليس سوى قراءة دينية ضمن مجموعة القراءات الإسلامية، وبالتالي فهو نسبي وبشري ومعرض للصواب والخطأ ويخضع لامتحان الواقع وظروفه في أن يقبله أو يرفضه. فما عزز مفهوم إلغاء الآخر في مجتمعاتنا وساهم في تحريك ماكينة العنف وشجع رؤى التكفير وضعّف مفهوم التعايش وأثّر سلبا في الوحدة الوطنية، هو استمرار مدرسة التفسير الديني، على الضفتين الشيعية والسنية، في وصف فهمها بأنه هو القرآن وهو الحقيقة المطلقة، وأنه ليس فهما من الفهوم البشرية أو تفسيرا من التفسيرات الصائبة والخاطئة أو قراءة من القراءات النسبية، وبالتالي أي تفسير من تفسيراتها لا يحكم على الأخرى بأنها خاطئة، وإنما يعتبرها خارجة عن الدين ولا تمثل القرآن. فالمعرفة الدينية في المجتمع الإسلامي لا تعيش حالة من التنافس الفكري بقدر ما أنها تعيش حالة من الإقصاء والإلغاء لطرف ضد أطراف أخرى، ولمدرسة تجاه مدارس أخرى. إن تفسير السني أو الشيعي أو الأزهري أو النجفي أو السلفي أو القمّي أو الصوفي أو صاحب نظرية ولاية الفقيه أو غيرها من مدارس التفسير الإسلامية، للشريعة، ليس هو الشريعة، وإنما هو فهم للشريعة. وهذا الفهم يستتبعه احترام الفهومات الأخرى والتنافس معها لا إقصاؤها وتجريد أصحابها من حقوقهم الدينية والاجتماعية ومحاربتهم. ومثلما يقول المفكر الإيراني الدكتور عبدالكريم سروش فإن "حساباتنا واستمراءنا ودحضنا تتمحور كلها حول مقام الفهم والمعرفة، لا حول مقام الثبوت. ومرد ذلك أن القرآن ذاته لا يتكلم، بل نحن لسانه الذي يتكلم نيابة عنه". ويضيف: "إننا جميعا نسبح في بحر من الآراء والتفاسير، وإذا ما ابتكرنا رأيا جديدا نريد به حسب زعمنا دحض سائر الآراء، نكون قد غرقنا في هذا البحر أكثر". ويؤكد سروش في هذا الإطار - إطار الاختلاف - أن "كل الشيعة والسنة والأشاعرة والمعتزلة والخوارج وكافة أتباع الفرق ]الإسلامية[ الكبيرة والصغيرة الأخرى التي ظهرت في تاريخ الإسلام، ينتمون إلى حيز الدين الحنيف، فلكل مسلم إسلامه الخاص". ويضيف: "شهد تاريخ الإسلام علماء قالوا بتحريف الكتاب، وبأن بعض آياته قد انتقصت، ومع ذلك فلا أحد يشك في إسلام هؤلاء، فآراؤهم هذه لا تعد ناقضة لإسلامهم. وتخوم السنة كانت دائما موضع جدل ونقاش، بل لا يعدم تاريخ الإسلام شخصيات لامعة، كأبي حنيفة، يعتقد أن الروايات الصحيحة المنقولة عن الرسول لا تتجاوز 19 رواية، وكل ما عدا ذلك موضوع ومشكوك فيه. وإلى جانب هذا ثمة شخصيات تصدق عدة آلاف من الروايات تنسبها للرسول، وتعمل على أساسها". إن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: كيف يمكن إيجاد أرضية فكرية وثقافية واجتماعية ودينية، يمكن من خلالها التأسيس لاختلاف تفسير الدين وتعددية فهمه، بحيث لا يؤدي ذلك إلى إقصاء طرف لآخر؟ إن هذا من الأسئلة المهمة الشاقة، ومن الصعب الحصول على إجابة سريعة وواضحة عليه، ولابد من بحث سياسي واجتماعي ونفسي ناقد لتاريخ الإسلام والمسلمين. فمثلا أصول الدين لدى السنة والشيعة، إضافة إلى كونها متباينة وجاءت استنادا إلى تفسير تاريخي خاص للنص (القرآن والسنة)، وجودها تأثر بالخلاف السياسي بين المسلمين بعد وفاة الرسول. لذلك من يعتقد بأن تلك الأصول يجب أن تكون واحدة عند كافة المسلمين يكون قد سعى إلى إلغاء طائفة من الطائفتين، أو إلغاء جزء رئيسي من تاريخ المسلمين وهو تاريخ النزاع السياسي، الذي يختلف التفسير حوله حتى بين أنصار الفرق المختلفة داخل كل طائفة. لذلك نجد - مثلا - تفاوتا بين السلفي والأزهري في تفسير أصول الدين عند السنة، وبين أنصار ولاية الفقيه السياسية ومعارضي تلك الولاية في الجانب الشيعي. ويقول سروش في هذا المجال إن "الماضين قدموا فهمهم وتصوراتهم للدين (رصينة كانت أم متهافتة)، ونفحص اليوم من منظور عصرنا، فنأخذ بعضها ونترك الآخر، وهذا ما يصنعه كل المؤرخين. الماضي والتراث هما اليوم بالنسبة لنا موضوع للبحث والتحقيق لا مرجع للتقليد، لذلك نتعاطى معهما تعاطيا فعالا نقديا، ولا نعاملهما تعاملا انفعاليا مقلدا". إن الأرضية التي يمكن من خلالها تأسيس جو ديني وثقافي وفكري متعدد لا يقصي طرفا الآخر، تأتي من خلال تثبيت قاعدة الارتباط بـ"فهم" النص المقدس، لا التأكيد بأنني وفرقتي وطائفتي وديني نعتبر "الناطقين" - الوحيدين - باسم النص المقدس والشرع والشارع. فما اعتبره القدماء عين الإسلام والدين، ليس سوى تصورهم للإسلام سواء سموه (تصورا) أم لم يسموه، وسواء أجمعوا عليه أم لم يجمعوا، كما يقول سروش.
|
|
|
|
|
|