|
مواجهة (تاريخية) بين الزبير باشا و غوردون باشا// بدر الدين حامد الهاشمى
|
تقديم: السطور التالية هي محاولة تلخيص و ترجمة بضع صفحات من كتاب ألفه شارلس ترنش عن سيرة حياة الجنرال شارلس غوردون (غردون) بعنوان: الطريق إلي الخرطوم. و قد صدر عن دار نورتون في الولايات المتحدة في عام 1979. و يصف المؤلف في الكتاب تفاصيل لقائين جمعا بين غوردون و الزبير في مصر في يومي 26 و 27 من يناير 1884، و كان غردون حينها يتأهب للسفر للسودان بتكليف من الخديوي لإخلاءه من الحاميات المصرية عقب إنتصارات المهدية. إعتمد المؤلف في هذا الجانب علي وثائق الحكومتين البريطانية و المصرية و علي كتابات من شهدوا تلك الوقائع. و نحاول ترجمة بعض ما سبق ذكره عملا بأن "لا حياء في التاريخ" و أن "التاريخ حمال أوجه".
أرسل غوردون للسودان في محاولة (أخيرة) لمواجهة ذلك الثائر (من دنقلا) – و كما هو متوقع- لتنظيم و ترتيب عملية إنسحاب منظمة وسريعة للحاميات المصرية من السودان. أبحر غوردون للسودان عن طريق مصر وحط رحاله في ميناء بورسعيد في يوم 24/1/1884 حيث إلتقاه من سلمه رسالة رسمية تخطره بأن يسافر للخرطوم عبر القاهرة و ذلك في مهمة تتلخص في تنظيم إجلاء منظم و سريع للقوات المصرية بحيث يحافظ – قدر الطاقة – علي الدماء و الأرواح، و أن يسعي أيضا لتكوين إدارة سودانية من نوع ما تجنب البلاد السقوط في براثن الفوضي و إراقة الدماء التي سوف تلي حتما إنسحاب القوات المصرية. بيد أن تلك التعليمات لم تك تنسجم تماما مع ما كان يتوقعه مجلس الوزراء البريطاني في لندن (ولكن تلك قصة أخري!).
في صباح اليوم التالي لوصوله ذهب غوردون للسلام علي الخديوي و ليعتذر عن وقاحة سابقة بدرت منه في أيام سابقات في حق الخديوي و مصر، و عند إيابه لمقر إقامته عقد إجتماعا مع عدد من كبار الضباط الإنجليز بمصر و ذلك في محاولة لوضع خطة نهائية لمهمته في السودان، و كانت تتلخص في التالي:
1. وضع مبلغ 100 ألف جنيه إسترليني تحت تصرف غوردون
2. ضرورة أن يتم إجلاء القوات تدريجيا
3. أن يصدر الخديوي فرمانين – مرسومين- يكون الفرمان الأول بغرض الإستهلاك المحلي و يقضي بتعيين غوردون حاكما عاما للسودان، و الفرمان الثاني – و الذي سيظل سريا لحين مجئ الظرف المناسب- هو سحب أفراد الجيش المصري و تكوين إدارة سودانية خالصة لإدارة دفة شئون البلاد.
4. أن يقابل غوردون في اليوم التالي (26/1/1884) الزبير باشا رحمة و الذي كان متواجدا حينها في مصر.
5. لمعادلة و تحييد نفوذ المهدي في غرب السودان يجب أن يمنح أحد حكام دارفور (السابقين) مبلغ 200 ألف جنيه أسترليني و أن يعطي كذلك زيا رسميا مذهبا و مزينا بأعلي الأوسمة و النياشين مما يتيسر الحصول عليه و أن يرسل كل ذلك لدارفور عاجلا.
6. تقرر كذلك أن يذهب غوردون للسودان بصفته حاكما عاما للبلاد مبعوثا من خديوي مصر، و أن يذهب كذلك بصفته ممثلا ساميا لجلالة ملكة بريطانيا.
كانت الحكومة البريطانية تريد أن يقوم غردون بمهامه في السودان أساسا كموظف في الحكومة المصرية، بيد أنها عينت السير إيفلني بارنج كوسيط للتعامل معه بخصوص مهمته في السودان.
أحضر بارنج لمقر غردون في اليوم التالي (26/1) عددا من الضباط من ذوي الخبرة الطويلة بشئون السودان، و كان من ضمن هؤلاء رجل سوداني طويل القامة نحيف الجسم في نحو الخمسين من عمره. كان ذلك الرجل يرتدي بزة شديدة السواد و يضع علي رأسه طربوشا شديد الحمرة. وصف أحد الحضور من الإنجليز الرجل بأن له وجها أقرب ما يكون لوجوه الشياطين! تم تقديم الرجل لغوردون علي أنه الزبير باشا رحمة. إنفرد غوردون بالزبير (في حضور شخص واحد من الأنجليز كان يجيد العربية تحدثا و كتابة).مد غوردون يده مصافحا للزبير، بيد أن الزبير لم يمد يده لمصافحه، وأغضب ذلك غوردون فإستشاط غضبا و سأل الزبير و هو يتميز من الغيظ عن سبب إمساك يده عن المصافحة. رد الزبير علي الفور قائلا: " لقد وقعت بيدك هذه علي وثيقة إعدام إبني سليمان. كيف لي أن أمس اليد التي تلوثت بدم فلذة كبدي" أجابه غوردون وبسرعة: " يا زبير...أنت الذي تسأل عن من قتل إبنك؟! لقد سطرت أنت لإبنك هذا الذي تتحدث عنه خطابا من القاهرة تحثه فيه علي التمرد علي سلطتنا. إن خطابك هذا موجود ضمن ملف القضية التي نظرتها المحكمة العسكرية و يمكننا أن نجد الآن خطابك هذا في مكاتب وزارة الحربية بالقاهرة". رد الزبير علي ذلك الإتهام قائلا: " هذا ليس صحيحا البتة. لم يحدث أبدا أن كاتبت ولدي في الشأن الذي تزعم. دعني أري الخطاب الذي تتحدث عنه" هنا أمر غوردون وينجت باشا بالذهاب إلي وزارة الحربية وأن يبحث في المحفوظات عن محاضر المحكمة العسكرية تلك. يحكي وينجت أنه سار علي الفور إلي حيث أمر و بعد بحث لم يستغرق طويلا عاد و هو يتأبط تلك المحاضروكانت كلها باللغة العربية و التي يجهلها غوردون تحدثا و كتابة (وسيندم غوردون لاحقا علي جهله بتلك اللغة). تم فحص الوثائق بعناية و لكن لم يعثر لخطاب الزبير المزعوم علي أثر، بل لم يعثر حتي علي أي ذكر أو إشارة لمثل ذلك الخطاب في جميع المحاضر. بدا واضحا أن غوردون قد خدع و أن الزبير كان فيما يبدو صادقا في كلامه.و إلي حين إنتظار نتائج البحث عن خطاب الزبير لإبنه تم تأجيل إجتماع غوردون مع القادة العسكريين حتي صباح اليوم التالي.
بعث السير إيفلني بارنج برسالة طويلة وصف فيها ذلك اللقاء العاصف بين غوردون و الزبير، بيد أنه و لسبب غير مفهوم أغفل ذكر حقيقة أن خطاب الزبير المزعوم لإبنه لم يتم العثور عليه أبدا. وبعد مرور عدة أسابيع وصلت وثيقة لوزارة الخارجية عن طريق إنجمونت هايك (كاتب مذكرات غوردون) و السير هنري غوردون قيل أنها هي خطاب الزبير المزعوم. تمت ترجمة الوثيقة تلك للغة العربية و لكن – حسب علمنا- لم يتم فحص هذه الوثيقة أو التأكد من صحتها، وظل وينجت باشا واثقا من أن تلك الوثيقة إن هي إلا محض تزوير، بينما أصر بارنج علي موقفه من أن تلك الوثيقة لا تؤيد زعم غوردون تماما غير أنها – في ذات الوقت- تشير إلي تورط ما للزبير و إبنه.
قام السير إيفلني بارنج بصياغة وصف رسمي مفصل لمهمة غردون في السودان بناء علي ما دار في إجتماع اليوم السابق و قام بقرأة هذا التوصيف الرسمي بصوت عال أمام المجتمعين. كان هذا التوصيف الوظيفي يتمحور حول القيام بإجلاء الحاميات المصرية و نحوا من 12 – 15 ألف من المدنيين المسيحيين من موظفي الحكومة المصرية و زوجاتهم و أطفالهم الخ. من الذين لا يودون البقاء بعد رحيل القوات المصرية. لم تعط لغوردون أي تفاصيل بخصوص الطرق و الوسائل التي يمكن له أن يستعملها لتنفيذ مهمته. كانت خلاصة التعليمات تقضي بأن يقوم الرجل بعملية إجلاء القوات المصرية و المدنيين الراغبين في الرحيل علي أن يقوم هو بوضع التفاصيل الدقيقة الكفيلة بتنفيذ المطلوب. توقف السير إيفلني بارنج عن القرأة و سأل غوردون إن كان يوافق علي ما سمع. رد غوردون بالإيجاب المؤكد. واصل بارنج القرأة و قال: " نقترح عليكم إتمام المهمة بسلام في خلال الشهور القليلة القادمة. يتعين عليكم أيضا إعادة حكم البلاد بواسطة السلاطين (الصغار) الذين كانوا يحكمون المناطق المختلفة عند إحتلال البلاد بواسطة محمد علي أو بما بقي من ذرياتهم. و يجب محاولة عمل إتحاد فيدرالي بين هذه السلطنات الصغيرة. يحظي هذا المقترح بتأييد الحكومة المصرية شريطة أن لا تبقي الحكومة المصرية جنودها في السودان لحماية هذه السلطنات المقترحة...."
تناول الإجتماع أيضا أمر الزبير باشا و تم إستدعاءه علي عجل. عند دخوله لقاعة الإجتماع تقدم نحوه غوردون مصافحا و معتذرا عن إتهامه له في اليوم السابق. رد الزبير قائلا : " لا شك عندي أن أحد أعدائي قد وشي بي و شوه سمعتي عند سعادتكم مستغلا عدم معرفتكم باللغة العربية. لا ريب أن أحدهم أراك مكتوبا بالعربية علي إنه خطاب مني لولدى سليمان. إنني في غاية السعادة لتبرءة ساحتي مما نسب إلي و بأننا عدنا أصدقاء من جديد. سأكون خادمكم للأبد و سأفعل كل ما تطلبونه مني" و مد يده و صافح غوردون الذي غمرته السعادة مما سمع و قال لمن حوله : " أتمني أن يأتي معي الزبير للسودان"
كان غوردون قد سبق له تقديم إقتراح إصطحاب الزبير معه للسودان و كتب لبارنج ما نصه: " رغم أن الزبير أكبر تاجر رقيق وجد علي سطح الأرض إلا أنه أكثر الناس في السودان تأهيلا الآن لقيادة تلك البلاد. لا يستطيع أحد مجاراته في القدرات القيادية. إنني لعلي ثقة في أن الأنصار سوف ينفضون من حول المهدي لحظة وصول الزبير للسودان. لا تنس أن كثيرا من قادة المهدي الآن كانوا في الأصل يعملون تحت إمرة الزبير من قبل. إن السبيل الوحيد المتاح لحكم السودان هو تنصيب الزبير حاكما عاما لتلك البلاد المضطربة. سينهي الزبير تمرد المهدي في شهرين أو أقل. إذا كان الأمر يتعلق بإجلاء الحاميات المصرية فلا حاجة لنا في الزبير، بيد أننا إذا أردنا أن يستقر الوضع في السودان بعد الجلاء فإن وجود الزبير ضرورة لا غني لنا عنها (sine qua non). إن لدي شعورا صوفيا غامضا بأن الرجل أهل للثقة".
كانت النقطة الجوهرية التي فات علي غوردون ذكرها هى أن تمرد المهدي كان في الأصل تمردا ديني الطابع، و أن الزبير رجل مسلم تقي ورع شديد الأيمان و يدعي أن نسبه ينتهي عند العباس عم الرسول. بل لقد طلب منه بعضهم في وقت ما أن يعلن أنه هو المهدي المنتظر. ينتمي الرجل إلي قبيلة الجعليين الذين يقطنون في المناطق المحيطة ببربر. إن الناس ليحترمون الزبير أشد الإحترام و يخافونه أشد الخوف.
أثار إقتراح أن يستصحب غوردون معه الزبير في رحلته للسودان عاصفة من الجدال الداوي. صرح واطسون الضابط الكبير في الجيش المصري أنه إذا قدر للزبير الذهاب مع غوردون فإن أحدهما بالتأكيد لن يعود أبدا. لم يكن بارنج يكن أي قدر من الثقة في "الشعور الصوفي الغامض" لدى غوردون بأهلية الزبير للثقة و ذكر الحاضريين بأن غوردون نفسه كان قد إقترح من قبل أن يتم نفي الزبير لجزيرة قبرص وها هو الآن يقترح أن يستصحبه للسودان ليعينه حاكما عليه! رغم ذلك كان بارنج ميالا نحوا ما لقبول أن يذهب الزبير للسودان كحاكم له. لم يكن للمجتمعين من بد لحسم أمر إقتراح سفر الزبير مع غوردون سوي التصويت (و هو أمر غير مألوف في مثل تلك الأجتماعات العسكرية). هزم إقتراح غوردون بأغلبية ضيئلة، و كان رأي الفئة التي غلبت هو أن إرجاع الزبير للسودان هو مغامرة و تجربة لا يمكن التنبوء بنتائجها، و علي كل حال فإن نفوذ الزبير في السودان قد غدا موضع شك بعد أن إنفض عنه "البازنجر" و أعلنوا إنضمامهم للمتمردين أنصار المهدي.
وصل للقاهرة قادما من السودان تاجر فرنسي عبر لمن لقاه في القاهرة عن الذعر والقلق و الرعب الذي يسود في أوساط سكان الخرطوم مما لم تفلح في تهدئته البرقية المختصرة التي أرسلها غوردون لهم و كتب فيها: " لا يصيبنكم الذعر. نحن رجال و لسنا نساء. إنني قادم". بدأ غوردون رحلته (الأخيرة) يوم 29/ 1/1884 و قضي يومين في الباخرة التي أوصلته إلي كورسكو، عبر بعدها الصحراء ووصل إلي أبي حمد في نحو أسبوع ومنها إنطلق نحو بربر برفقة الشاب الوسيم أحمد إبن شيخ بربر علي ظهر جمل أبيض جميل. لم ينس غوردون قبل بدء رحلته الزبير فكتب للسير بارنج يوم 28 /1/ 1884 يقول: " إن الزبير هو السوداني الوحيد المؤهل لقيادة البلاد، هذا إذا رغبنا في تهدئة الأحوال في تلك الديار المضطربة. إنه رجل إستثنائي رائع. لكم كنت أود لو أن زوجتك الليدي بارنج رأته"، و كتب مجددا في ذات اليوم مطمئنا بارنج بأن الزبير سيعيد الأمن و الإستقرار للبلاد خلال شهر واحد و أن محمد أحمد سيتوقف عن إطلاق كلمة "المهدي" علي نفسه و "المهدى" كما يري لقب أطلقه عليه رؤوف باشا علي أية حال.
بقي تساؤل عن مصير الرقيق في السودان و هل سيتم تحرير الرقيق عند إستقلال السودان عن مصر في 1889 بحكم المعاهدة (الإتفاقية) الإنجليزية المصرية لعام 1877. أجاب غوردون: "طبعا لا". بل و أصدر بيانا طمئن فيه كل من يمتلك عبيدا بأن "له الحق في الإحتفاظ بهم والتحكم فيهم والإستفادة من خدماتهم". قيل أن ذلك أسعد الناس أكثر من أي شئ اخر ، و دليل ذلك هو الإحتفال والإبتهاج الذي لقيه الرجل عند وصوله للخرطوم في صبيحة يوم 18/2/1884 حيث قابله رجال الدولة والأعيان وكبارالتجار الذين كانوا يخشون مما سوف يحيق بهم إن كتبت الغلبة للمهدي ورجاله من .... المولعين بالتكسب (acquisitive) و ما طرق أسماعهم من إشاعات زرعت الرعب في قلوبهم و كانوا يرون و يؤملون أن يكون غوردون منقذهم مما هو أسوأ من الردي.
|
|
|
|
|
|