|
الحجاب ليس فريضة دينية، ولا واجبا "شرعيا" / محمد سعيد العشماوي
|
كانت ظلمات العصور الوسطي ضاربة علي العقل المصري والفعل المصري حتي أوائل القرن العشرين، حين عمد بعض المستنيرين من أبنائها إلي العمل علي تحرير العقول وتصحيح الفعال. وفي العشرينيات من القرن الماضي، ظهر أثر الاستنارة فيما سمي "سفور المرأة"، فكان آخر صيحة، وبلغة العصر أهم صَرعة، لتحرير المرأة من ظلمات العصور الوسطي، حيث خلعت المرأة عنها ما كان يحجب وعيها، وبالتالي يحجب عقلها وانتشرت دعوي السفور فكان من نتائجها التحاق المرأة بالمدارس والجامعات، ودخولها إلي الحياة العامة، محاميات وطبيبات ومدرسات، وما غير ذلك من مهن كانت مقصورة علي الرجال، بحكم وضعية المرأة، ولما كان يضرب عليها من ستار نتيجة المفهوم المخطيء بأنها عورة، وموضوع للجنس ليس إلا. في ذلك الوقت، تعاقب علي الأزهر شيوخ أجلاء، لهم باع طويل في الفقه والعلوم الإسلامية، كما توالي علي دار الافتاء مُفتون علي ذات المستوي من الفقه السليم والخلق المتين، وكانت في مصر كوكبة من علماء الفقه وأساتذة العلوم الإسلامية يدرّسون في الأزهر الشريف وفي كلية الحقوق بالجامعة المصرية. ولأن هؤلاء جميعاً كانوا من العلماء الأفاضل والفقهاء المحترمين، فإن واحداً منهم لم يعترض علي سفور المرأة ولم يجنح إلي التفاسير المغلوطة والأقاويل المعلولة، ليدعي أن هذا السفور خروج علي الشريعة أو مروق من الدين. ظل وضع المرأة يتحسن مع نهضة مصر فصدرت قوانين الأحوال الشخصية التي تحمي حقوق المرأة وتحفظ كيان الأسر. وتقدمت المرأة المصرية إلي كل مجال، فظهرت في الصحافة والهندسة والإدارة والوزارة، وأثبتت نجاحاً لا شك فيه، حتي بدأت نكسة كبري من دعاوي تيار الإسلام السياسي. في البرنامج الذي صدر عن جماعة الإخوان المسلمين عام 1994 أن "المرأة عورة كلها" وهذا تقدير فاسد وتقرير خاطيء، يقف عند القرون الوسطي فلا يتحرك ولا يريم، ولا يدرك ما حدث من تغير كبير وتبدل عظيم في كل أنحاء العالم. ونتيجة لهذا التقدير الفاسد والتقرير الخاطيء بدأ ضرب الحجاب علي المرأة المصرية خاصة، لينتقل منها إلي كل مكان في أرجاء العالم، بحسبانها عورة، وباعتبارها متعة، وبتقدير أنها أدني من الرجل، عليها التزام بيتها، فلا تخرج منه إلا لضرورة، ليس لها حق العمل، وإذا خرجت فعليها أن تخفي نفسها، فيما يقولون أنه النقاب، والذي تري بعض التيارات أنه الحجاب الذي تغطي به النساء والفتيات شعورهن. وفي هذا الأمر وذاك فإنهم لا يقدمون دراسات فقهية سليمة غير ذات عوج، لكنهم يكتفون بالشعارات، ويرددون الهتافات، ويشيعون الرعب والفزع كضرب من ضروب الإرهاب الذي يتسمون به ويتصفون بكل ألوانه. وفيما يقال في ذلك، إشاعة بلا أدلة، وإذاعة دون تحقيق، أن "الحجاب فريضة" ومن لا تضع الحجاب فإنها تحارب الله، أي إنها تقترف جريمة الحرابة، التي جزاؤها القتل أو الصلب أو النفي. وغُصت ميكروفونات المساجد بهذه الإذاعات وتلك الإشاعات، وامتلأت شاشات التليفزيون بأحاديث مختلفة "منحولة" ليس لها سند ولا دليل، وامتلأت صرخات المتحدثين بالإلحاح علي أقوال مرسلة وادعاءات مطلقة، لا يدعمها نص شرعي. ولا يسندها رأي فقهي. ومع الوقت حدث اختزال للإسلام في الحجاب، واختصار الشريعة في تغطية الشعر، وظلت الدعوي تسري بين الناس سريان النار في الهشيم، حتي وصل الأمر إلي صدامات في بلاد غربية كثيرة، منها فرنسا وألمانيا وإيطاليا والولايات المتحدة، واحتشد الإسلام السياسي وراء هذه الدعوي، وقال بعضهم إنها المعركة الأخيرة في المواجهة بينهم وبين الغرب، فقامت معركة لها دوي يصم الآذان وينذر بمخاطر كثيرة، علي مجرد وضع غطاء "أو خرقة" كما يقال علي شعر المرأة أو الفتاة، وهو أمر من المضحكات المبكيات، فكيف يتحول الإسلام علي يد بعض أبنائه إلي هذه الصورة المزرية، وما هو الأصل في مسألة الحجاب، من جانب الدين والشرع؟ في عام 1994 ثارت علي صفحات المجلات والصحف في مصر جدالات عن الحجاب كنا طرفا فيها، ثم جُمعت هذه الجدالات في كتاب عنوانه "حقيقة الحجاب وحجية الحديث" وقد بسطنا فيه حججنا عمايسمي بالحجاب بما يمكن عرضه فيمايلي: (أ) الحجاب لغة هو الساتر، وحجب الشيء أي ستره، والمرأة المحجوبة هي المرأة التي سترت بستار "لسان العرب، المعجم الوسيط، مادة: حجب". والآية القرآنية التي وردت عن الحجاب تتعلق بزوجات النبي وحدهن، دون بناته أو إمائه "أي جواريه" ونصها: (ياأيها الذين آمنوا... وإذا سألتموهن "أي نساء النبي" متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن) "سورة الأحزاب 33:53". فالقصد من الآية أن يوضع ساتر بين زوجات النبي وبين المؤمنين، بحيث إذا أراد أحد من هؤلاء أن يطلب متاعا" شيئاً" من واحدة من أولئك، أن يفعل ذلك وبينهما ساتر، فلا الزوجات يرين الرجال ولا الرجال يرون الزوجات، لا الوجه ولا الجسد، ولا أي شيء آخر. وعن أنس بن مالك أن النبي "صلي الله عليه وسلم" أقام بين خيبر والمدينة ثلاثة أيام كان يبني فيها "أي يعاشر" صفية بنت حُيي بن أخطب، فقال المؤمنون: إن حجبها فهي من زوجاته، وإن لم يحجبها فإنها تكون مما ملكت يمينه، أي من جواريه. فلما حان وقت الرحيل وضعها النبي في هودج وغطي عليها، ففهم المؤمنون من ذلك أنها صارت من زوجاته. وأثناء الفتنة الكبري، أواخر عهد عثمان بن عفان وفي عهد علي بن أبي طالب، خرجت عائشة زوج النبي، وشرعت في محادثة الناس دون حجاب، بالمعني المقصود في القرآن، بل وأسهمت في موقعة الجمل للحرب ضد علي بن أبي طاب، فلما ووجهت بآية الحجاب وبالآية (وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولي) "سورة الأحزاب: 33:23"، قالت: إن ذلك كان علي عهد النبي، أي إنها أدركت مفهوم وقتية الأحكام، وإن لم تعبر عنه بلفظه ونصه، مما يعني عموماً أن الحجاب والقرار في البيوت كان حكما علي زوجات النبي وحدهن، أثناء حياته، لما جاء في آية الحجاب من أنه كان حماية له ولمشاعره (إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحي منكم والله لا يستحي من الحق). (ب) آية الخمار هي: (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن علي جيوبهن) "سورة النور: 24:21"، آية تقصد إلي تعديل عرف كان سائداً في الجاهلية، وفي الإسلام حتي نزلت الآية، إذ كانت النساء المؤمنات يقلدن القبطيات فيلبسن مقانع علي رؤوسهن تتدلي منها أخمرة يلقينها وراء ظهورهن ويبقي النحر "أي الصدر" والعنق ولا ستر لهما، ومن ثم أمرت الآية بتعديل وضع الخمار ليلقي علي الصدر حتي الجيوب، كي لا يظهر الصدر والثديان بارزين؟ فالخمار بهذا المعني لا يتصل بالشعر، ولا يكون غطاء له. وفي الآية (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) بما معناه أن للمرأة الحق في إبداء الزينة الظاهرة، لأن الزينة الأخري التي يتضمنها باقي الآية هي باتفاق الفقهاء الزينة الداخلية. ولم يحدد القرآن ماهية الظاهر من الزينة، فترك ذلك لأمة "جماعة" المسلمين تحدده وفق ظروف المكان وصروف الزمان. وقد توافق الفقهاء في القرن الثاني الهجري أي منذ ألف عام علي جواز إظهار المرأة للعيون والوجه والشفاه، مع أنها أكثر إثارة من الشعر، وتوافقوا علي تغطية الشعر، لأن العادة آنذاك كانت تجري علي هذه التغطية، فضلاً عن أنهم كانوا قد تأثروا في رأيهم بما جاء في التلمود (آراء الأحبار اليهود) من تحريم إظهار المرأة شعرها أمام الغير، وجعله سببا للطلاق دون أن تحصل علي مؤخر الصداق، سير المرأة اليهودية في الشارع دون تغطية شعرها. غطاء الشعر إذن لم يرد في القرآن نصاً، وإنما هو رأي فقهي، أي اجتهاد بشر منذ ألف عام تأثراً بالعرف الجاري وقتها وبأحكام التلمود "أي فقه اليهودية". (ج) آية الجلابيب لا تتصل بالوجه ولا بالشعر، واللجوء إليها لتبرير تغطية الشعر خطأ في الفهم وفساد في الاستدلال. (د) لو أن في القرآن نصا قاطعاً محدداً، لا خلاف فيه ولا تأويل له، لكان دعاة تغطية الشعر بما يسمونه خطأ بالحجاب قد وقفوا عند هذا النص وأكدوا عليه، لكن لأن آيات القرآن لا تسعف في ذلك فقد لجأوا إلي حديث منحول عن النبي، إذ قال راويه خالد بن دريك إنه سمع عن عائشة عن النبي "صلي الله عليه وسلم" أنه قال: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر إذا عركت "بلغت" أن تظهر إلا وجهها ويديها إلي هنا". والثابت أن راوي الحديث خالد بن دريك لم يعاصر عائشة زوج النبي ليأخذ منها ويروي عنها، ولهذا السبب فإن الحديث يكون مؤكد النحل "الاختلاق"، ومن ثم فإنه لم يرد في صحيح البخاري ولا في صحيح مسلم، وهما أصح كتب الحديث. ومع ذلك فإنه قد صدرت فتوي عن الأزهر في أول فبراير 1990 بأن أحاديث الآحاد "ومنها الحديث الذي رواه خالد بن دريك" لا تقيم فرضاً ولا تؤسس واجباً، وإنما تؤخذ علي سبيل الاسترشاد والاستئناس. ذلك هو وضع ما يسمي بالحجاب، اسم خاطيء مغلوط يعني أمراً غير الذي يزعمه أصحاب دعوي تغطية الشعر. أما من حيث الدليل الشرعي فلا دليل عليه في القرآن أو السنة، إنما هو اعتساف في التأويل ولي لعنق الحقيقة كي تبرر شارة سياسية Political Badge يرفعها الإسلام السياسي. فهل يجوز بعد ذلك الادعاء بأن تغطية الشعر فريضة، وأن الإسلام كله يتلخص فيها ويتركز بها، مع إعلان الحرب علي المسلمين وغير المسلمين، في بلاد إسلامية وبلاد غير إسلامية بسبب أي موقف مغاير، والزعم بأن الحرب في سبيل رأي شارد وقول فاسد عن تغطية الشعر هي الحرب الأخيرة للإسلام أمام الغرب؟! اللهم ارحم من ضل منا فإنهم يجهلون
|
|
|
|
|
|