من ملفات المخابرات السودانية :عملية نقل اليهود الفلاشا (الحلقة الأولى)
المصدر :
صحيفه السودانى
العدد رقم: 654
2007-09-11
تحقيق:حنان بدوي
أحد أغمض الملفات السرية للمخابرات السودانية.. في جنح الظلام كان بعض ضباط جهاز أمن الدولة يشرفون على أكبر عملية نقل لعدة آلاف من اليهود الفلاشا (الإثيوبيين).. من شرق السودان إلى الخرطوم، ثم بالطائرات الى وجهات مختلفة تنتهي كلها في إسرائيل.. أرض الميعاد التي يتنادى اليها كل يهود العالم.
عملية ترحيل الفلاشا عبر مطار الخرطوم لم تكن هي المحاولة الأولى لنقل هذه المجموعة الإثيوبية ذات الجذور اليهودية. قبلها جرت عملية أخرى أشبه بالأسطورة.. على شواطيء البحر الأحمر في منقطة سياحية (قرية عروس) حطت الرحال مجموعة سياحية أجنبية.. بهرها الساحل الخلاب والرغبة في التمتع بسياحة (الغوص) التي تتناسب مع طبيعة سواحل البحر الاحمر في تلك المنطقة.
ظلت هذه المجموعة السياحية تقيم فترة من الزمن دون أن يأبه لها أحد.. إلى أن فضحت الصدفة وحدها ما يجري خلف ستار السياحة. كانت المخابرات الإسرائيلية (الموساد)، تحت ستار السياحة، تقوم بنقل اليهود الفلاشا من داخل السودان دون ان يشعر بهم أحد.. وفي لحظة واحدة قرر الأجانب الرحيل من المعسكر السياحي، فهربوا منه ليلا، وتركوا المكان خاليا.. لم تجد فيه المخابرات السودانية أحدا بعد رحيلهم..
لكن خلف الكواليس جرت مفاوضات أخرى لإكمال العملية.. لكن هذه المرة عبر مطار الخرطوم نفسه.. كانت السفارة الأمريكية في الخرطوم هي رأس الرمح الذي اخترق جهاز امن الدولة ليدير العملية كلها من داخل الجهاز نفسه.. وتحت الإشراف المباشر لكبار ضباطه.. وبالتحديد العقيد الفاتح عروة..
بداية القصة..!!
مستر (ملتون بيردن) هو كبير ضباط المخابرات الامريكية في الخرطوم.. في نهار أحد الأيام اتصل برئيس جهاز أمن الدولة والنائب الأول لرئيس الجمهورية آنذاك اللواء عمر محمد الطيب.. وقال له ان هناك يهودا فلاشا دخلوا من ضمن اللاجئين الاثيوبيين إلى السودان ويتراوح عددهم بين (7.500-8.000) شخص عن طريق الحدود واستقروا في منطقة القضارف وتحديداً بالقرب من معسكر الشوّك للاجئين، وإن الحكومة الأمريكية تريد ان يقبل السودان بترحيلهم.
من هنا بدأت العملية السرية الغامضة. يقول اللواء عثمان السيد، الذي كان مدير للأمن الخارجي في جهاز امن الدولة: "حسب ما فهمت من مستر ملتون انه اجتمع بعد ذلك مع اللواء عمر أكثر من مرة وتمت موافقة اللواء عمر على ترحيل اليهود الفلاشا ولكن ان يتم ذلك بمقابل..".
الصفقة..!!
صفقة أن يتولى جهاز الأمن الإشراف على عملية النقل في مقابل متفق عليه.. الصفقة تمت مباشرة بين ضابط المخابرات الأمريكية في السفارة بالخرطوم مع رئيس جهاز امن الدولة اللواء عمر محمد الطيب. ومن البداية كان واضحا أن كل شروط النجاح باتت متوفرة ومنذ اللحظة الأولى.. ماهو المقابل؟ كل شيء آت في ثنايا حلقات هذا التحقيق الصحفي.
العقيد الفاتح عروة..!!
اللواء عثمان السيد يحكي ما حدث بعد ذلك:
وعلى إثر ذلك ودون الرجوع إلى شخصي كوزير للدولة ومدير للأمن الخارجي اختار اللواء عمر اثنين من إدارة الأمن الخارجي وهما بالتحديد وحسب الأقدمية العقيد موسى اسماعيل سعيد، مدير فرع حركات التحرر واللاجئين، والعقيد الفاتح عروة، مدير فرع التنفيذ والمتابعة بإدارة الأمن الخارجي، ويقع مكتب الفاتح عروة بجوار مكتبي وكانت جميع المكاتبات الواردة إليّ كمدير للأمن الخارجي تمر عبر العقيد الفاتح عروة، كما اختار الفاتح عروة وموسى اسماعيل اثنين من ضباط الأمن الخارجي هما المقدم دانيال، وكان يعمل في القضارف تابعاً لإدارة الأمن الخارجي، والرائد فؤاد بندر، من فرع اللاجئين.. وكانت تعليمات اللواء عمر للفاتح عروة وموسى اسماعيل ان تتم هذه العملية مباشرة بينه وبينهم...
من وراء ظهر مدير الأمن الخارجي!!
وهنا يطفر سؤال لماذا: لمَ لم تتم استشارة مدير الأمن الخارجي؟ أو إدخاله في الصورة على الأقل؟؟ هل لذلك علاقة بمبدأ قبول الصفقة؟.. أم في الجزء المكمل لها.. المقابل؟!!. لكن قبل هذا كله: هل يسمح القانون لرئيس جهاز الأمن بتكليف ضابط في الجهاز بمهمة معينة دون علم رئيسه المباشر؟
الإجابة حصلنا عليها من اللواء عثمان السيد: "قانون جهاز أمن الدولة كان يعطي رئيس الجهاز حق أن يطلب أو يكلف أي ضابط من الجهاز بالقيام بأي مهمة دون الرجوع لرئيسه المباشر والعكس بالنسبة لضباط الجهاز، اذ لا يمكن لأي ضابط أو ضابط صف ان يتصل برئيس الجهاز في مسألة رسمية الا عن طريق رئيسه المباشر أما رئيس الجهاز فيكلف من يشاء".
تعليمات تنفيذ عملية نقل اليهود الفلاشا كانت صريحة وواضحة لكل من العقيد موسى اسماعيل والعقيد الفاتح عروة، وقد شهدا بذلك امام محكمة الفلاشا عام 1985م بعد نهاية عهد مايو. هل كان مدير الأمن الخارجي اذن خارج الصورة تماما ولم يعلم بعملية الفلاشا الا بعد انتهائها؟؟
طرحت السؤال على اللواء عثمان السيد فأجاب:
هناك مفارقة طريفة، وهي ان اللواء عمر كان لا يدري ان المعلومات كانت تصلني أولا بأول. أولاً: لصلتي الوثيقة بالعقيد الفاتح عروة والعقيد موسى اسماعيل، وهما من اميز ضباط الأمن الخارجي، وقد كانا يدليان اليّ بكل ما ذكره لهما اللواء عمر.
وثانياً: بصفتي مديراً للأمن الخارجي وكنت مسؤولاً عن الاتصال الخارجي والعلاقات مع اجهزة المخابرات الأجنبية المعتمدة في السودان، ومنها بالطبع المخابرات الأمريكية.. فقد كان المستر ملتون يحضر إليّ في مكتبي كثيراً ويحدثني بما دار بينه واللواء عمر في موضوع الفلاشا.
نميري.. آخر من يعلم!؟
حسنا، مدير الأمن الخارجي كان على علم بكل شيء ومن اللحظة الأولى.. فأين الرئيس جعفر محمد نميري؟؟ هل كان أيضا على علم بالعملية ؟
يقول اللواء عثمان السيد: أجزم بأن الرئيس جعفر نميري لم يكن على علم بهدف هذه العملية، ولم يكن يعلم ان الذين تم ترحيلهم هم يهود فلاشا.. وكل ما ذكره اللواء عمر للرئيس نميري حول هذه المسألة، ان الأمريكان طلبوا ترحيل لاجئين اثيوبيين من السودان في اطار برنامج التوطين، ووافق نميري على هذا الأساس، وقد ذكرت كل ذلك وأنا على اليمين امام محكمة الفلاشا 1985م..
هؤلاء اليهود (الفلاشا) دخلوا للسودان عبر الحدود.. وهم يتمتعون بصفة (لاجيء) حسب الاتفاقيات الدولية.. لكن الأطراف المعنية بالأمر هنا ليست هي الأطراف الدولية المعنية بقضايا اللاجئين. فالقضية ذات شق سري واستخباري خطير.. ووصولهم عبر الحدود الى السودان لم يكن أصلا مجرد (لجوء) بالمعني التقليدي.. كانت عملية مخططة من البداية انتقالهم عبر الحدود الى السودان في انتظار الخطوة التالية.. فكل الدلائل كانت تشير الى أن هناك تنسيقاً واتفاقاً بين المخابرات الأمريكية C I A والمخابرات الإسرائيلية الموساد على ان يدخل هؤلاء اليهود الفلاشا عبر الحدود ضمن اللاجئين الإثيوبيين الذين دخلوا السودان عام 1983م و1984م.
الموساد في الخرطوم..!!
ويؤكد اللواء عثمان السيد المعلومات بوجود تنسيق بين المخابرات الأمريكية والإسرائيلية، وأن المخابرات الأمريكية والإسرائيلية طلبت من هذه المجموعة من الفلاشا ان تدخل السودان ضمن اللاجئين الآخرين. ويؤكد أيضا المعلومات التي ذكرت ان بعض ضباط الاستخبارات الإسرائيليين (الموساد) كانو موجودون في السودان ضمن طاقم السفارة الأمريكية ويعملون من داخل السفارة الأمريكية في الخرطوم.
يقول عثمان السيد: هناك ملحق دبلوماسي كان مسؤولاً عن اللاجئين في السفارة الأمريكية اسمه جيري ويفر، وقد جرى الحديث عنه كثيراً في محكمة الفلاشا، وتحدث العقيد موسى اسماعيل والعقيد الفاتح عروة عنه كثيراً امام محكمة الفلاشا وأذكر ايضاً انه زارني في مكتبي...
أسباب إخفاء عملية الفلاشا
ليس غريباً ان يدخل يهود فلاشا السودان ضمن اللاجئين الذين دخلوا، اذ ان القوانين الدولية لا تسمح للسودان برفض دخول اللاجئين سواء كانوا من الفلاشا أو غيرهم من اللاجئين إلى اراضيه، ومسموح لهم ان يغادروا البلاد إلى اي منطقة تقبل ان تأويهم، شريطة ان تكون لها علاقات دبلوماسية مع السودان، لأن السودان لا يمنع سفر اللاجئين الفلاشا الذين دخلوا إلى اراضيه، ولكن الغريب في الأمر الطريقة التي تمت بها المعالجة وإخفاء المعلومات عمداً حتى عن رئيس الجمهورية حسب رواية اللواء عثمان السيد، بل وتضليله.
ويرى اللواء عثمان السيد انه لو كانت الأمور تسير في اتجاهها الطبيعي "لتمت استشارتي أنا شخصياً كوزير للدولة للأمن الخارجي ومديراً له، كنت سأقترح على رئيس الجهاز ان يخطر رئيس الجمهورية بحقيقة الأمر، وأن يتم اجتماع لمجلس الأمن القومي، ونذكر لهم ان هناك مجموعة عددها كذا وكذا دخلوا السودان، وطلب منا الأمريكان ترحيلهم.. كما كان بالإمكان ان يطلب من الرئيس عقد اجتماع لتنوير مجلس الوزراء بالأمر، ولكن للأسف ولأسباب مؤلمة ومؤسفة ثم اخفاء الأمر عني وعن قيادة بأكملها، وعلى رأسها اللواء كمال حسن أحمد، نائب رئيس الجهاز، واللواء وقتها الفاتح الجيلي وهو وزير دولة ومدير للأمن الداخلي، كما تم اخفاء الأمر عن مجلس الوزراء بأكمله للحد الذي وقف فيه ثلاثة من اميز الوزراء في البلاد، وهم المرحوم هاشم عثمان وزير الخارجية آنذاك، والمرحوم الفريق على يس وكان وزيراً للداخلية ومسؤولاً عن اللاجئين، والبروفيسور علي شمو وزير الإعلام، ثلاثتهم وقفوا في محكمة الفلاشا لكي يشهدوا ان اللواء عمر لم يخطرهم على الإطلاق بهذه المسألة، فضلاً عن ان المشير سوار الذهب وقف بنفسه امام المحكمة ليشهد ضد رئيس الجهاز، باعتباره وزيراً للدفاع وأنه يجهل امر ترحيل يهود الفلاشا.
من هم الفلاشا؟؟
يهود الفلاشا أو بيتا إسرائيل (بالعبرية: ???? ?????، "بيت إسرائيل") هو اسم يطلق على اليهود من أصل إثيوبي.
اسم الفلاشا أو الفالاشا يعني باللغة الأمهرية "المنفيون" أو "الغرباء"، ويستخدمه الإثيوبيون من غير اليهود و تعتبر الكلمة نوعا من الاحتقار.
بموجب ما تسميه إسرائيل بقانون العودة (1950)، أكثر من 90000 (أي ما يقارب 85 % من يهود الفلاشا) هاجروا إلى إسرائيل، وبشكل ملحوظ في عمليتي موسى (1984) التي يسرد هذا التحقيق وقائعها.. ثم عملية سليمان (1991). والهجرات لا تزال متواصلة حتى الوقت الراهن.
يدعي يهود الفلاشا انحدار نسبهم إلى الملكة بلقيس. الفلاشا لا ينتمون إلى أي من الكتل اليهودية الرئيسية وهي الأشكناز والسفارديم. يعيشون في مناطق معينة بالقرب من بحيرة تانا شمال غرب إثيوبيا، في قرى فقيرة، ويعمل رجالهم في مجال الزراعة ورعي الأغنام.
------
لقد تمت عملية اليهود الفلاشا في عهد الرئيس السوداني الأسبق / جعفر محمد النميري
والتى كانت تربطه علاقة وطيدة ببوش الأب عندما كان نائب الرئيس الأمريكي
ولقد زار بوش الأب السودان مرتين لأكمال ترحيل اليهود الفلاشا عبر السودان.
عملية الفلاشا(الحلقة الثانية)
تحقيق :حنان بدوي:
الحدود الشرقية بين السودان و إثيوبيا واسعة شاسعة.. تفتح الباب على مصراعيه للهاربين من إثيوبيا خلال فترة الرئيس السابق منقستو، وخلال سنوات كانت معسكرات اللاجئين في شرق السودان فاضت حتى غمرت العاصمة نفسها وبعض المدن الكبرى.. من بين هؤلاء اللاجئين تسلل اليهود الفلاشا من إثيوبيا.. كانت المخبرات الإسرائيلية الموساد تتولى إدارة عمليات تهريبهم عبر الحدود إلى داخل السودان ليحوزوا على صفة (لاجيء) التي تحميها القوانين الدولية.. وأصبحت تخوم مدينة القضارف أكبر معسكر لإيواء هؤلاء اللاجئين.. وهنا بالتحديد دارت عمليات الاستخبارات المحلية والدولية لنقل الفلاشا خارج السودان.. إلى إسرائيل..
خلال فترة الحكومة الانتقالية في السودان، التي أعقبت سقوط نظام الرئيس الأسبق جعفر محمد نميري.. جرت محاكمة مفتوحة لنائب الرئيس اللواء عمر محمد الطيب الذي كان مديراً لجهاز امن الدولة عندما جرت عملية نقل الفلاشا..
المحكمة والتي كان التلفزيون الرسمي ينقل جلساتها للمشاهدين وثقت لتفاصيل العملية عن طريق الشهود الذين قدمهم الاتهام.. من الضباط الذين ارتبطت أسماؤهم بالعملية..وقدموا شرحاً دقيقاً لمسار العملية من البداية حتى النهاية..
تهريب الفلاشا إلى داخل السودان ..!!
بدأت الإرهاصات من العام 1979. عندما كتب ضابط في وحدة امن القضارف تقريرا إلى رئاسة الأمن في الخرطوم أوضح فيه أن هناك محاولات لاستدراج اليهود الفلاشا إلى السودان عبر الحدود مع إثيوبيا.. وأشار التقرير إلى احتمال أن يكون بقاؤهم في السودان مؤقتا لحين ترحيلهم إلى إسرائيل.. ارض الميعاد..
مساعد معتمد اللاجئين في ذلك الوقت أشار أمام (محكمة الفلاشا) أن المنظمات الطوعية كانت ضالعة في المخطط، بل ربما كانت من الأصل مجرد غطاء للعمل الاستخباري الكبير الذي كان يجري على قدم وساق في تلك المنطقة..
أول رصد امني للتهريب ..!!
العقيد شرطة أمين عباس قدم أمام المحكمة تفصيلاً أوفر لدور المنظمات الطوعية في العملية .. فأوضح أن بعض المنظمات الطوعية الأمريكية كانت تقوم بتجهيز وترحيل الفلاشا بالتنسيق مع السفارة الأمريكية في الخرطوم.. وحدد منها منظمتي (أى أم سي) الكندية و (أى سي أم) الأمريكية.
وذكر أن المسئولين الأمريكيين كانوا يتنقلون بين معسكرات اللاجئين والخرطوم دون أدنى مراعاة للأصول أو الأعراف الدبلوماسية.. وأشار بالتحديد الى المستر جيري ويفر مسئول اللاجئين في السفارة الأمريكية و ضابط المخابرات في السفارة ..
رصدت وحدة أمن القضارف في العام 1980 نشاطاً مريباً في المنطقة.. النشاط تقوم به منظمتان يهوديتان مقرهما في الولايات المتحدة الأمريكية..
وحدة امن القضارف أرسلت برقية بتاريخ 22 مارس 1982 أشارت فيها إلى توافر معلومات عن قيام موظف بريطاني بنشاط مريب في المنطقة .
ضباط الأمن يعترضون على تدخل السفارة الأمريكية
العقيد امن موسى إسماعيل سعيد.. ذكر في أقواله للمتحري والتي تليت في المحكمة..أنه اعترض على تدخل الأمريكان في العملية.. فزجره اللواء عمر محمد الطيب قائلاً (أمشوا البيقولو ليكم الناس ديل أعملوه ليهم ..) ويقصد رجال المخابرات الأمريكية في الخرطوم.
وحسب أقوال العقيد موسى قامت السفارة الأمريكية بدفع الإيجارات ووقود السيارات التي نقلت اليهود الفلاشا من المعسكرات جوار القضارف إلى مطار الخرطوم.
قامت السفارة الأمريكية بتمويل شراء أربعة لواري من مدينة جدة لتقوم بمهام النقل.
العملية تقضي بنقل يهود فلاشا من القضارف إلى الخرطوم وفي معسكرات اللاجئين في الشوك بولاية القضارف كان يتم فرز اليهود الفلاشا عن بقية اللاجئين الإثيوبيين ثم يتم ترحيل الفلاشا إلى الخرطوم.
وخلافا للإفادة التي ذكرها ضابط أمن سابق في برنامج بقناة الجزيرة الفضائية فإن السيارات التي استخدمت في نقل الفلاشا ( الحافلات) لم يتم استئجارها من السوق كما ذكر ضابط الأمن السابق .. بل سافر ضابط من جهاز أمن الدولة بنفسه لشرائها من السعودية وتمت العملية بتمويل أمريكي وربما كان هناك تمويل من اللوبي اليهودي في أمريكا ومن ثم تم اختيار السائقين بعناية فائقة حتى يحافظوا على سرية العملية . وليس صحيحاً ما ذكره ضابط الأمن في إفادته لقناة الجزيرة انه تم اختيار سيارات وسائقي سيارات من السوق العربي.
وكانت العملية تقتضي أن ينقل الفلاشا تحت حراسة الأمن من القضارف إلى معسكر بضاحية (سوبا) بالقرب من الخرطوم.. ثم الانتظار تحت الحراسة المشددة إلى أن يرخي الليل أستاره .. ويجري التأكد من وصول الطائرة إلى أرض المطار..فينقلون رأسا إلى داخل الطائرة في مطار الخرطوم دون المرور بأي إجراءات جوازات أو غيرها.
وكانت منذ ان تتحرك الحافلات التي تنقلهم من القضارف تتوالى الاتصالات بعربات اخرى في الطريق إلى ان تصل لمطار الخرطوم.
لضرورات السرية. العملية كانت تتم يوما بعد يوم .. تحت الإشراف المباشر لمسئولي السفارة الأمريكية بالخرطوم.
لكن الأمريكان طلبوا تعجيل النقل.. ليتحول إلى عملية يومية إلى أن بلغ عدد الرحلات في يناير 1984 (28) رحلة.
علاقة ضباط الجهاز بالعملية
ويقول اللواء عثمان السيد ليس صحيحاً ما قاله أحد ضباط الأمن السابقين في مقابلته مع قناة الجزيرة الفضائية ان ضباط الجهاز كان لهم علم بعملية الفلاشا. يقول اللواء أمن عثمان السيد (هذا القول افتراء على التاريخ ومسألة لايمكن السكوت عليها باي حال من الاحوال). وللحقيقة والتاريخ ان ضباط الجهاز سوى الضباط الاربعة الذين نفذوا العملية لم يكن لديهم علم فقيادة الجهاز نفسها بما فيها نائب رئيس الجهاز اللواء كمال حسن أحمد ووزير الدولة ومدير الأمن الداخلي الفاتح الجيلي واللواء عثمان السيد وزير الدولة ومدير الامن الخارجي لم يكن لديهم علم اطلاقاً والدليل على ذلك ان اللواء عمر ذكر في المحكمة انه لم يخطر اللواء كمال حسن احمد نائب رئيس الجهاز ولم يخطر الفاتح الجيلي مدير الامن الداخلي ولكنه اخطر اللواء عثمان السيد - نكاية بي - حيث أنني وقفت شاهداً لمصلحة الضباط الاربعة الذين كانوا شهود ملك وهم الفاتح عروة وموسى اسماعيل وفؤاد بندر.)
يقول اللواء عثمان السيد (وحقيقة الأمر فإن العملية من ناحية مهنية كانت على مهنية عالية جداً)..
عملية موسى
وروى لي اللواء عثمان السيد ان العملية كانت مقسومة إلى قسمين موسى وسبأ وذكر لي انه كان من المفترض ان تكون عملية واحدة وكان الهدف اصلاً أن يتم نقل جميع اليهود الفلاشا من القضارف للخرطوم عبر الحافلات التي خصصت لذلك ومن الخرطوم يتم ترحيلهم عبر شركة طيران عبر اوروبا وهي شركة بلجيكية وكانت الطائرات تأتي لمطار الخرطوم كل 48 ساعة والحافلات تنقل اليهود الفلاشا من الشوك للقضارف حيث كان يتم نقلهم بطائرات الشركة الأوروبية إلى أوروبا اما لروما أو بروكسل او إلى مطارات اخرى في اروبا وكانت هناك طائرات اسرائيلية تنقلهم من اوروبا لاسرائيل من العواصم الاوربية واستمرت هذه العملية لفترة تقدر بأكثر من ثلاثة اسابيع وظلت العملية مستمرة إلى ان تسربت معلومات إلى اجهزة الاعلام الغربية مفادها ان هناك يهود فلاشا يجري ترحيلهم إلى اسرائيل كما ان اسرائيل نفسها كانت تقيم الاحتفالات بعد وصولهم لمطار تل ابيب وقد عكست الاجهزة الاعلامية في اسرائيل هذه الاحتفالات..
ويقول اللواء عثمان السيد (اذكر ان احد الصحفيين البريطانيين قام بالسفر إلى بروكسل في بلجيكا وقابل المسؤولين بالشركة سألهم من هذا الامر وذكروا له.. نعم نحن نقوم بترحيل يهود الفلاشا من السودان إلى اوروبا وسلموه ملف الترحيل واوضحوا له عدد الرحلات وعدد الذين تم نقلهم فقام بنقل ذلك لهيئة الاذاعة البريطانية والتي روجته في كل انحاء العالم للحد الذي ذكر لي احد السائقين انه كان يستمع للاذاعة البريطانية في الحافلة، وعلم وقتها ان هناك عمليات لترحيل الفلاشا والخ.. وتلك هي المرة الاولى التي يعلم فيها بأن مايقوم بنقله هم يهود فلاشا فهذا هو اكبر دليل بان العملية تمت بمهنية عالية وتمت بانجح الوسائل المتاحة فالضباط الذين قاموا بالعملية كانوا اذكى الضباط وامهرهم.)
تذمر وسط ضباط الجهاز
ويقول اللواء عثمان السيد بعد أن أعلنت هيئة الإذاعة البريطانية خبر نقل يهود الفلاشا حدث هناك تذمر وسط ضباط الجهاز وكذا.. وذهبت للواء عمر وكانت تلك اول مرة اتحدث فيها مع اللواء عمر عن موضوع الفلاشا واذكر انني كنت قد ذكرت له ان المعالجلة لم تكن سليمة منذ البداية وكان يمكن ان تعالج هذه المسألة بصورة افضل وقال لي اللواء عمر كنت اعتقد ان هذه العملية سرية وان مثل هذه العمليات كنا نعالجها في القوات المسلحة بسرية تامة ونضعها في ملف وتضع عليه خط أحمر وتكتب عليه خزنة وتضعه في الخزنة واضاف اللواء عمر لم اكن اعلم ان مستر ملتون سيعالج هذه العملية بهذا الشكل وطلب اللواء عمر من مدير مكتبه آنذاك ان يستدعي المستر ملتون وقرر ايقاف العملية وذهب للرئيس نميري وذكر له انه لم يكن يعرف ان هؤلاء الذين يرحلوا هم يهود فلاشا وكانت هناك ضجة اعلامية وذكر لنميري انه سيوقف العملية.
نواصل في الحلقة الثالثة ..
عملية الفلاشا.. (الحلقة الثالثة)
تحقيق: حنان بدوي
عمليات نقل اليهود الفلاشا من اثويبا الى السودان.. ثم من السودان الى اسرائيل تمت في أكثر من مرحلة.. الأولى أُطلق عليها الاسم الكودي (عملية موسى).. وهي العملية التي نقلت اليهود الفلاشا عبر مطار الخرطوم من معسكرات اللاجئين المتاخمة لمدينة القضارف شرقي السودان. والثانية هي (عملية سبأ) الأكثر اثارة، لأنها نقلت اليهود الفلاشا مباشرة بالطائرات من مطار (العزازة).. وهو لا مطار ولا يحزنون مجرد موطيء قدم للطائرات الأمريكية التي هبطت فيه ثم نقلت اليهود الفلاشا الى أرض الميعاد، اسرائيل.
عملية موسى
في شهادته الصريحة للتاريخ قدم لي اللواء عثمان السيد وصفا واضحا لتفاصيل العمليتين، ويفترض هو أن تقسيم العملية الى عمليتين لم يكن مخططا له من البداية، لكنه نشأ لأسباب ترتبط بتطورات العملية الأولى (عملية موسى).. التي نقل بموجبها الفلاشا من معسكرات اللاجئين الى محطة تجميع في سوبا، ثم بعد أن يهبط الظلام تجرى العملية الأخيرة بنقلهم الى طائرات جاثمة في مطار الخرطوم.. يدخلون اليه من بوابة (القسم الخاص بالحج) حيث لا يراهم أحد.. وينقلون فورا الى الطائرات بلا إجراءات جوازات أو جمارك أو حتى الاطلاع على أي أوراق ثبوتية..
يقول اللواء عثمان السيد مدير ادارة الأمن الخارجي في جهاز أمن الدولة: "العملية كانت مقسومة إلى قسمين (موسى) و(سبأ).. وكان من المفترض ان تكون عملية واحدة.. وكان الهدف اصلاً ان يتم نقل جميع اليهود الفلاشا من القضارف للخرطوم عبر الحافلات التي خصصت لذلك، ومن الخرطوم يتم ترحيلهم عبر شركة طيران عبر اوروبا وهي شركة بلجيكية.. وكانت الطائرات تأتي لمطار الخرطوم كل 48 ساعة والحافلات تنقل اليهود الفلاشا من الشوك للقضارف حيث كان يتم نقلهم بطائرات الشركة الاوروبية إلى اوروبا اما لروما أو بروكسل او إلى مطارات اخرى في اوروبا.. وكانت هناك طائرات اسرائيلية تنقلهم من اوروبا الى إسرائيل من العواصم الاوربية".
كشف المستور
لم يكن أحد من سكان مدينة الخرطوم يعرف أن عملية (موسى) تجري على بعد خطوات منهم.. بل لم يكن أحد في السودان والدول العربية والإسلامية يعرف بذلك..حتى أجهزة الاستخبارات العربية لم تنتبه لهذه العملية السرية.. لكن هل كانت فعلا العملية سرية؟؟ هنا تظهر المفارقة المثيرة.. والتي من فرط الدهشة فيها تبدو كأنها كوميديا عامرة بالهزل..
فيما كانت عملية (موسى) تجري بين مدينة القضارف ومطار الخرطوم.. والجسر الجوي ينقل الفلاشا بسفريات متواصلة تحت اشراف جهاز أمن الدولة السوداني بكل سرية وتعتيم قيل أن رئيس الجمهورية جعفر محمد نميري لم ينج منه.. كانت اسرائيل تمارس مراسم الفرح العلني.. وتحتفل بكل طائرة من الفلاشا تصل الى مطار تل أبيب.. علنا وعلى رؤوس الأشهاد لفترة تقدر بأكثر من ثلاثة اسابيع ظلت عملية (موسى) مستمرة.. ولم تنتبه أجهزة الاستخبارات العربية أو الإعلام العربي.. لكن القصة تسربت إلى اجهزة الإعلام الغربية.
يقول اللواء عثمان السيد: "وأذكر ان احد الصحفيين البريطانيين سافر إلى بروكسل وقابل المسؤولين بالشركة التي تمتلك الطائرات.. سألهم من هذا الأمر وذكروا له.. (نعم نحن نقوم بترحيل يهود الفلاشا من السودان إلى اوروبا)، وسلموه ملف الترحيل وأوضحوا له عدد الرحلات وعدد الذين تم نقلهم فقام بنقل ذلك لهيئة الإذاعة البريطانية التي روجته في كل انحاء العالم".
عثمان السيد يروى قصة طريفة.. قال إن الأمر انكشف للحد الذي ذكر لي ان احد سائقي الحافلات التي كانت تنقل الفلاشا من القضارف الى الخرطوم، انه كان يستمع للإذاعة البريطانية في الحافلة، وعلم وقتها ان هناك عمليات لترحيل الفلاشا... اللواء عثمان السيد يعترف أن ذلك كان مفخرة لضباط الأمن الذين اشرفوا على العملية.. أن يكملوها بكل هذه المهنية والسرية.. للدرجة التي لا يعلم فيها حتى سائقي حافلات نقل الفلاشا طبيعة العمل الذي يقومون به.
يقول عثمان السيد "وتلك هي المرة الأولى التي يعلم فيها بأن من يقوم بنقلهم هم يهود فلاشا فهذا هو اكبر دليل على ان العملية تمت بمهنية عالية وبأنجح الوسائل المتاحة فالضباط الذين قاموا بالعملية كانوا اذكى الضباط وأمهرهم".
تذمر وسط ضباط الجهاز
بعد ان اعلنت هيئة الإذاعة البريطانية خبر نقل يهود الفلاشا حدث تذمر وسط ضباط الجهاز.. يروي اللواء عثمان السيد "ذهبت الى اللواء عمر محمد الطيب، رئيس جهاز أمن الدولة، وكانت تلك اول مرة اتحدث فيها مع اللواء عمر عن موضوع الفلاشا". دار الحوار التالي بين اللواء عمر محمد الطيب واللواء عثمان السيد..
عثمان السيد: سعادتك.. معالجة هذا الموضوع لم تكن سليمة منذ البداية.. وكان يمكن ان تعالج هذه المسألة بصورة افضل.
اللواء عمر محمد الطيب: كنت اعتقد أن هذه العملية سرية.. فمثل هذه العمليات كنا نعالجها في القوات المسلحة بسرية تامة ونضعها في ملف ونضع عليه خطا أحمر وتكتب عليه خزنة وتضعه في الخز
كان واضحا ان اللواء عمر محمد الطيب لم يضع في اعتباره مطلقا أي نسبة خطأ في الخطة.. ان تبدأ العملية سرية وتنتهي كذلك وأن يدفن السر مع الضباط الذين أشرفوا عليها..
نواصل الحوار..
اللواء عمر محمد الطيب: لم اكن اعلم ان مستر ملتون سيعالج هذه العملية بهذا الشكل.
بدا وكأن اللواء عمر ينوى إلقاء اللوم كله على الطرف الأمريكي.. المستر ملتون المسؤول في المخابرات الأمريكية..
في الحال اتصل اللواء عمر محمد الطيب عن طريق (الإنتركوم) الداخلي بمدير مكتبه وطلب منه أن يستدعي المستر ملتون
كان واضحا أن قرارا ما أصبح على وشك الصدور.. حضر مسؤول المخابرات الأمريكية.. فأبلغه اللواء عمر محمد الطيب بكلمات مباشرة أن العملية يجب ان توقف فورا.. وهكذا توقفت عملية موسى.. قبل أن تكمل ترحيل كل اليهود الفلاشا الذين كانوا ينتظرون في معسكرات اللاجئين على تخوم القضارف.. وفي الحال خرج اللواء عمر محمد الطيب من مكتبه في رئاسة جهاز امن الدولة واتجه الى القصر الجمهوري لمقابلة الرئيس نميرى..
الرئيس نميري لم يكن في الصورة بشكل كامل.. وأراد اللواء عمر أن يستمر في التعامل مع نميري بالخلفيات التي يعرفها نميري عن العملية... فقال للرئيس النميري إنه – أى عمر محمد الطيب – خُدع في العملية كلها.. إذ لم يكن يعلم أنها عملية لترحيل يهود اثيوبيين الى اسرائيل.. وأنه للتو اكتشف الأمر بعد أن بثته وساط الإعلام الدولية..
قال اللواء عمر محمد الطيب للرئيس النميري "لذا قررت فورا ايقاف هذه العملية".
إبعاد الفاتح عروة!!
بعد فضح أمر عملية (موسى).. اخذ الهمس يملأ أرجاء المدينة.. بل السودان كله، عن عملية الفلاشا.. وغلب على ظن الكثيرين أن رئيس جهاز امن الدولة اللواء عمر محمد الطيب اخفى حقيقة الأمر عن الرئيس النميري. مصادر جهاز امن الدولة أوصلت معلومات إلى اللواء عمر مفادها ان الإسلاميين، الذين كانوا حلفاء ومشاركين في السلطة، علموا بالأمر.. وأنهم اخذوا يتحدثون عنه في مجالسهم واجتماعاتهم.
يروى اللواء عثمان السيد تفاصيل ربما لأول مرة تكشف..
يقول عثمان السيد: "اذكر ان اللواء عمر استدعاني في منزله بعد صلاة المغرب وذكر لي أن العميد الفاتح عروة قد سرب المعلومات عن ترحيل الفلاشا إلى ابناء عمه، كمال ومحجوب"..
ويقصد بالتحديد الأستاذ محجوب عروة وشقيقه المحامي ورجل الأعمال المعروف الأستاذ كمال عروة..
يقول عثمان السيد "اللواء عمر ذكر لي أنه على يقين أن كمال ومحجوب عروة نقلا هذا الأمر للدكتور الترابي".. الترابي كان حينها في سدة الحكم شريكا وحليفا للرئيس النميري، وإن بقي الشريكان يمارسان على بعضهما اساليب وصنوفا من التكتيك الخفي..
يواصل اللواء عثمان السيد شهادته للتاريخ فيقول: "وتحدث لي اللواء عمر وأسهب عن صلته بالفاتح عروة وأن جده اللواء محمد الحسن عثمان كان اول قائد له وأن والده اللواء محمد احمد عروة كان قائداً له ايضاً وأفادني بأنه رأى نقل هذه الملاحظات لي ولمعرفتي الشخصية".
لكن اللواء عثمان السيد كان يدرك أن اللواء عمر يريد ايصال رسالة ما.. يقول عثمان السيد "فاتصلت بالفاتح عروة مساء ذلك اليوم.. وقرر الفاتح عروة على اثر ذلك ان يتوقف عن مواصلة العملية وطلب اجازته".
الفاتح عروة، بعد الموافقة على طلب الإجازة قرر أن يبعد قليلا عن هموم العمل.. فسافر إلى امريكا وظل فيها إلى ان اندلعت الانتفاضة.
اعتقال محجوب عروة!
بعد ذلك تم اعتقال كمال ومحجوب عروة مع الترابي وحاج النور وآخرين وتم ترحيلهم إلى سجن شالا في دارفور.. تلك العملية المشهورة التي انقض فيها نميرى دفعة واحدة على حلفائه في الحكم.. وكان الترابي وقتها وزيرا للعدل (النائب العام).. وقبيل لحظات من سفره الى تونس للمشاركة في مؤتمر عربي.. احاط به رجال الأمن واعتقلوه.. وما أسفر صباح ذلك اليوم الا وكان قيادات الإسلاميين في الطائرة العسكرية المتجهة بهم الى سجن (شالا) في أقصى غرب السودان.. في دارفور.
يقول اللواء عثمان السيد "اجزم ان اعتقال كمال عروة ومحجوب عروة بهذه الصورة المجحفة لم يكن لأي سبب سوى الحقد عليهما في قضية الفلاشا.. وكان عليه اخطار العقيد الفاتح عروة بأمر اعتقالهما، وكان سيحضرهما بنفسه سيما وأنهم كانوا يسكنون جميعاً في منزل اللواء محمد أحمد عروة والد الفاتح وصهر ابناء عمه".
الأمريكان فوجئوا بعدم علم السلطات السودانية!
ويقول اللواء عثمان السيد ان ايقاف العملية احدث ربكة بالنسبة للأمريكان لأن الأمريكان كانوا يعتقدون ان هذه العملية تمت بموافقة السلطات السودانية وأن وزارة الداخلية والخارجية والإعلام على علم بذلك. ويواصل "جاء السفير الأمريكي في الخرطوم وقتها هيوم الكساندر هوران وقابلني وذكرت له انني لست في الصورة بالنسبة لهذه العملية.. أنا كنت على معرفة بالسفير الذي عمل بعد السودان بالسعودية وقد ابعدته المملكة العربية السعودية، وتوفي العام الماضي، وأذكر ان السفير هوران ذهب لمقابلة اللواء عمر محمد الطيب وطلب منه مواصلة العملية الا ان اللواء عمر الطيب طلب منه ان يذهب لمقابلة نميري".
في المحكمة الشهيرة التي عقدت للواء عمر محمد الطيب بعد الإطاحة بنظام النميري.. والتي أطلق عليها (محكمة الفلاشا) وردت على ألسنة الشهود افادات.. ان الرئيس نميري ذكر للسفير هوران تحديداً "انا لا أعرف يهود فلاشا ولا أعرف اسرائيل بل اعرف ان هؤلاء لاجئين موجودين في السودان وأن اتعامل مع امريكا فإذا كنتم انتم كأمريكان تريدون ترحيل الفلاشا فعليكم ان تحضروا طائرات امريكية لكي تنقل البقية الموجودة في القضارف مباشرة من مطار الغزازة".
هل كان ذلك ذكاء من الرئيس نميري.. ان يبعد نفسه من المسؤولية، ويلقي بها على رئيس جهاز امن الدولة.. ثم – وبذكاء – أيضا، يحاول مواصلة عملية نقل اليهود الفلاشا.. لكن بتدبير جديد وعملية جديدة يجتهد ان يستفيد فيها من درس (عملية موسى). طلب الرئيس النميري من المخابرات الأمريكية أن تتحمل هي أوزار العملية كلها.. وأن تنقل اليهود الفلاشا مباشرة من معسكرات اللاجئين الى اسرائيل..!!
وفي اثناء ذلك اتصل المستر كيسي، رئيس المخابرات الأمريكية وقتها، باللواء عمر الطيب وأرسل طائرة امريكية من طراز (c I 41) الى مطار الخرطوم.. كانت مهمة الطائرة نقل اللواء عمر محمد الطيب والعقيد موسى اسماعيل والمقدم صلاح دفع الله سكرتير اللواء عمر الى أمريكا.. وشهد العقيد موسى اسماعيل والمقدم صلاح دفع الله في المحكمة بذلك. وفي امريكا اجمع العقيد موسى والمقدم صلاح في شهادتهما انه ربما كان في ذلك الاجتماع بعض ضباط المخابرات الإسرائيلية لكنهم لم يكونوا يعرفونهم.
وبدأت تلوح في الأفق تباشير (عملية سبأ) لتكملة نقل اليهود الفلاشا.. العملية التالية الأكثر اثارة.
عملية الفلاشا(الحلقة الرابعة)
تحقيق : حنان بدوي
انتهينا في الحلقات الثلاث الماضية لما حدث في العملية الأولى من عمليات ترحيل اليهود الفلاشا الإثيوبيين عبر السودان إلى إسرائيل. العملية الأولى التي أطلق عليها الاسم الكودي (عملية موسى) .. حيث نقل جهاز امن الدولة الفلاشا من معسكرات اللاجئين في منطقة القضارف إلى مطار الخرطوم .
التحضير لعملية (سبأ)
المقدم أمن صلاح دفع الله.. شاهد عيان مهم للغاية في هذه العملية.. حيث كان يعمل حينها سكرتيرا للواء عمر محمد الطيب رئيس جهاز امن الدولة.. وكان مطلعا بدقة على تفاصيل عملية (سبأ) بحكم قربه اللصيق بكواليسها..
يقول المقدم أمن (م) صلاح دفع الله سكرتير اللواء عمر محمد الطيب انه بحكم عمله كسكرتير لرئيس الجهاز، كان يعلم بكل الترتيبات التي يقوم بها اللواء عمر بالنسبة للعملية الاولي والتي عرفت بـ(عملية موسى) (..إلا أنني لم أكلف بأي عمل في تلك العملية بينما كلفت بصورة رسمية في العملية الثانية "سبأ"..)
بوش.. في الخرطوم..!!
ويروي المقدم أمن صلاح دفع الله.. أنه بعد توقف عملية موسي جاء بوش الاب.. وكان وقتها في منصب نائب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية.. لزيارة للسودان وكانت البلاد تواجه مجاعة عاصفة، بسبب الجفاف والتصحر وان الرئيس (لاحقا) بوش الاب التقي بالرئيس نميري وعرض عليه عملية استئناف ترحيل اليهود الفلاشا ورد عليه جعفر نميري (نحن لانريد ان نرحل اي زول ولو عاوزين ترحلو رحلو براكم) ومن هنا بدأ التفكير في عملية (سبأ) التي كُلف بها اللواء عمر محمد الطيب.
ويواصل مقدم أمن صلاح دفع الله حديثه يقول ( بدأ التجهيز للعملية وكان من المفترض ان تحضر لنا طائرة كاسنجر لتأخذنا من الخرطوم الي امريكا شخصي واللواء عمر والعقيد موسي إسماعيل الذي كان مسئولا عن حركات التحرر واللاجئين ولكن تعثر احضار الطائرة وكان هناك اقتراح ان نسافر بطائرة تجارية في رحلة طيران عادية ..بالتحديد عبر British air ways ثم نسافر بالكونكورد من لندن الي واشنطن ..)
خطورة المهمة جعلت المقدم صلاح دفع الله يتوجس من فكرة سفر الوفد بهذا الشكل.. وأفضى بشكوكه وهواجسه إلى رئيسه اللواء عمر محمد الطيب رئيس جهاز امن الدولة.
(..لم أكن اعلم بهذا الاقتراح في البداية.. وعندما علمت مؤخراً تحدثت للواء عمر وقلت له انك مسئول وفي رأس دولة ويجب ان لاتتم هذه العملية بالكومشن ..وقلت له نحنا ماشين في مهمة شبه خطرة..)
يواصل المقدم صلاح (.. وبعد أن رأى الأمريكان.. إصرارنا علي الطائرة قاموا باحضار طائرة امريكية من القاعدة الامريكية بصقلية وكان ذلك في نهاية مارس 1985 وأذكر بالتحديد يوم الأحد...)
ازدادت ثقتي في ذاكرة المقدم صلاح.. عندما رجعت للتاريخ الذي أشار إليه المقدم صلاح ووجدت فعلا أن يوم 31 مارس 1985 كان يوافق (الأحد)..
طائرة خالية ومزعجة..!!
وروي لي مقدم صلاح دفع الله ً (أخذوني واللواء عمر والعقيد موسي اسماعيل وربطوا لنا ثلاثة كراسي مع بعض واجلسونا فيها.. وكانت الطائرة خالية ومزعجة لدرجة أننا كنا نضع في آذاننا كمية من القطن من شدة الصوت المزعج الذي سببه صوت تلك الطائرة.. والغريب في الأمر أننا كنا الرجال الوحيدين بللطائرة والبقية كلها نساء..)
وصف المقدم صلاح دفع الله رحلتهم إلي أمريكا بأنها كانت شاقة واستغرقت 10 ساعات.. أقلعت الطائرة من مطار الخرطوم الي مطار صقلبة ثم هبطت في جزيرة صقلية بالبحر الأبيض المتوسط.. (..وتناولنا وجبة العشاء ومنها وصلنا الي فرانكفورت القاعدة الامريكية بالمانيا وفى نفس المستوي غيرنا بطائرة امريكية اخرى c4-1 وبها وصلنا الي واشنطن حيث استغرقت الرحلة من واشنطن الي فرانكفورت عشر ساعات أخرى).
السفير لم يعلم بحقيقة الامر
يقول المقدم صلاح بعد ان وصلنا الي واشنطن ادركنا ان السفير لم تكن لديه أدني فكرة عن العملية وهو يعلم ان النائب الأول لرئيس الجمهورية سيحضر لزيارة الولايات المتحدة الأمريكية، لكن ما الهدف ؟ لا يدري.
ويواصل المقدم أمن صلاح سكرتير رئيس جهاز الأمن حديثه:
(.. في الصباح الباكر ذهبنا إلي منطقة لانقلي وهي عبارة عن غابة ضخمة يوجد بها مبني CIA ولها لافته مكتوبة علي امتداد الشارع وهي منطقة غير مدسوسة ودخلنا بالعربة إلى المصعد "الأسانسير" .
الاجتماع الأول كان مغلقا، بين مدير CIA مستر كيسي واللواء عمر رئيس جهاز امن الدولة.. (وظللنا أنا و العقيد موسى اسماعيل منتظرين في قاعة كانت مهيأة لاجتماع وبها عدد من الضباط لا يمكن الجزم بأنهم إسرائيليون أو أمريكان نسبة للتشابه في قسماتهم لكن يمكن القول انهم خليط من الاثنين..)
ويواصل حديثه (.. بعد خروج اللواء عمر ومستر كيسي من الاجتماع المغلق اجتمعنا ثلاثتنا مع هؤلاء الضباط الذين كانوا في القاعة وكان من بينهم مندوب CIA في الخرطوم.. مستر ميلتون بيردون ومعه سكرتير السفير االامريكى هوران واوضحنا لهم في الاجتماع ان هناك مهبطاً جوياً "Air strip" في منطقة العزازة وهي منطقة قديمة كانت تنزل بها الطائرات في الحرب العالمية الثانية ويمكن القول انها مساحة تسمح لطائرات هيركلس بالهبوط..)
الفكرة راقت للمخابرات الأمريكية.. فكرة هبوط طائرات أمريكية مباشرة في منطقة العزازة قريبا من القضارف.. لتأخذ اليهود الفلاشا رأسا من هناك..
تم الاتفاق أن تبدأ العملية الجوية بأسرع ما يمكن.. كان ذلك في يوم الأربعاء 3 أبريل من عام 1985..ووقع الاختيار على يوم الجمعة التالي مباشرة .. لتبدأ فيه عمليات نقل الفلاشا من مطار العزازه في شرق السودان .
ومن هنا بدأ ملامح عملية (سبأ) تبرز للعيان ..
يقول المقدم صلاد دفع الله (..وبعد نهاية الاجتماع اعطونا طائرة المستر كيسى مدير الاستخبارات المركزية الأمريكية لتقلنا إلي الخرطوم وهي طائرة حربية بها كبسولة حضرنا بها انا واللواء عمر محمد الطيب والعقيد موسي اسماعيل وطاقم السفارة الذي كان هناك..)
ساعة الصفر
وجاء صباح يوم الجمعة 5 أبريل من عام 1985.. طائرات أمريكية كبيرة كانت على وشك النزول إلى المهبط الجوي بالعزازة.. من باب التمويه كانت الطائرات تحمل بعض مواد الإغاثة.. لإنزالها وكأنها منحة للاجئين في المنطقة..
وصلت طائرات هيركوليس (C 130) وابتدأت بفارق نصف ساعة وكان عددها حسب اللواء عثمان السيد حوالي 12 طائرة.. بينما حسب رواية المقدم أمن صلاح دفع الله تسع طائرات.. وقد وصلت فجراً وكانت الطائرات تهبط في المهبط الجوي في العزازه .. حيث كان اللاجئون اليهود الفلاشا كانوا جاهزين تماما للترحيل.. فهناك عمليات أخرى تمت على الأرض قبل وصول الطائرات.. صعدوا إلى الطائرات بكل يسر. بلا أى إجراءات جوازات أو أي ضوابط أو حتى رقابة .. وفي الحال أقلعت الطائرات الواحدة تلو الأخرى.. حاملة الحمولة البشرية إلى أرض الميعاد إسرائيل..
يركب اليهود الفلاشا إلى الطائرة الأولى.. فتنطلق الطائرة وتصعد إلى الجو..فتأتي الطائرة التالية مباشرة فتأخذ حصتها وتصعد إلى السماء.. وهكذا إلى أن تم تقل جميع اليهود الفلاشا.
يقول اللواء أمن عثمان السيد..(..وكان العقيد موسى إسماعيل قد سافر بنفسه للقضارف للإشراف على هذه العملية وليس صحيحاً أن نميري كان يعلم بالعملية منذ البداية لكنه وافق على عملية سبأ بشروط واضحة ومعروفة ولم يعط أي تعليمات.. وليس صحيحاً أيضا أن الضباط الذين كانوا يعلمون بهذا الأمر بل اعتبروه امراً مسيئاً.. وحتى الضباط الذين كانوا قد كلفوا بتنفيذ العملية كانوا ينفذون العملية على أساس أنها تعليمات وهم أنفسهم غير مقتنعين بذلك..)
(أنا معاكم الليل كلو .. بسبحتي دي)
العملية كلها اكتملت في بضع ساعات.. من يوم الجمعة 5 أبريل عام 1985.. حينما كانت شوارع الخرطوم تغلى بالمظاهرات والنظام يترنح في آخر أنفاسه..
بعد انتهاء عملية سبا اتصلوا في الصباح باللواء عمر لكي يخطروه بأن العملية تمت بنجاح فرد اللواء عمر محمد الطيب لمن اتصل به قائلاً ( أنت ياشيخنا قايلني أنا الليل ده كلو نمت.. أنا معاكم بسبحتي).. كانت (سُبحة) اللواء عمر محمد الطيب الليل كله ساهرة تدعو الله أن يكمل عملية نقل اليهود الفلاشا إلى أرض إسرائيل بسلام..!! على أي دين كانت (تسبح) سبحة رئيس جهاز امن الدولة .. الله أعلم..
نواصل في الحلقة الخامسة..!!
من قبض كم من الأموال مقابل ترحيل اليهود الفلاشا ..؟؟
عملية الفلاشا(الحلقة الخامسة)
تحقيق:حنان بدوي
(وذكر لي ملتون قولته الشهيرةSorry the game is over وأخطرني بعد ذلك انه من حسن الحظ أن مبلغ الـ2 مليون دولار التي طلبها اللواء عمر قد نزلت في حسابه في انجلترا...)
هناك حساب في أحد بنوك مدينة لندن ببريطانيا تحت اسم مشروع النيل الأزرق.. وبالرقم (11949500) وصفه بأنه الحساب الخاص باللواء عمر محمد الطيب.
انتهت عملية (سبأ) في موعدها المحدد.. هبطت جميع الطائرات وأقلعت من مطار العزازه في منطقة القضارف.. وهو ليس مطارا بالمعنى المعروف.. مجرد مهبط للطائرات كان يستخدم خلال الحرب العالمية الثانية.. إلى أن جاءت الطائرات الأمريكية مرة أخرى لتحط عليه وتنقل اليهود الفلاشا إلى إسرائيل.
Sorry the game is over..!!
ما هي ملامح هذه الصفقة.. على أي مساحة كانت تتحرك الأجندة في هذه العملية.. ما هي المكاسب منها؟.. اللواء امن عثمان السيد الذي كان مديرا لجهاز الأمن الخارجي أحد أهم أذرع جهاز امن الدولة.. يقول "2 مليون دولار ذهبت لحساب خاص برئيس الجهاز بإنجلترا بناء على طلبه لأمريكا مقابل ترحيل اليهود الفلاشا، وليس صحيحاً ما قاله أحد ضباط الأمن السابقين في برنامج بقناة الجزيرة.. إنها ذهبت لبناء الجهاز".
ويقدم اللواء عثمان السيد إفادة مثيرة عن اللحظات الأخيرة التي كشفت أسرار هذه الصفقة.. يقول: "الطريقة التي تمت بها العملية فضحها المستر ملتون، مسؤول المخابرات الأمريكية بالسفارة الأمريكية في الخرطوم، فجر السبت عندما ذهبت إليه في منزله الساعة الثانية صباحاً.. وذكر لي قولته الشهيرة Sorry the game is over وأخطرني بعد ذلك انه من حسن الحظ أن مبلغ الـ2 مليون دولار التي طلبها اللواء عمر قد نزلت في حسابه في انجلترا".
ويذهب اللواء عثمان السيد إلى أبعد من ذلك، ويرى أن العملية من أساسها كانت مغنما ماليا.. الهدف الأول والأخير منها الحصول على المال بلا أدنى نظرة لمصالح السودان الوطن. ويرى أن ذلك كان السبب الرئيسي لإخفائها عن العيون وعن الشعب السوداني. ويفند اللواء عثمان السيد الفرضية التي ذكرها العميد امن (م) حسن بيومي في لقاء مع قناة الجزيرة من أن المال ذهب لبناء وتشييد مقر لجهاز أمن الدولة.. "لأنه عندما قال لي مستر ملتون قولته الشهيرة تلك.. كان نظام مايو قد انتهى وكان ذلك في الثانية صباحاً وقبل ثماني ساعات من إذاعة بيان سوار الذهب وكان اللواء عمر محمد الطيب طلب إيداع المبلغ في حساب خاص في انجلترا وقد كان له ذلك".
ويقصد اللواء عثمان السيد أن المخابرات الأمريكية لو كانت تهدف من دفع المبلغ الى بناء مقر جديد لجهاز امن الدولة لما قامت بعملية تحويل المبلغ إلى حساب اللواء عمر محمد الطيب الشخصي.. في الوقت الذي ترى فيه النظام ينهار أمام عينها.. كان من الممكن أن تماطل قليلا ريثما يذهب النظام ويرفع عن عاتقها مسؤولية دفع الأموال.
لم تكن المخابرات المركزية الأمريكية وحدها من يدفع الأموال لترحيل اليهود الفلاشا إلى إسرائيل.. كانت هناك مجموعات ومنظمات كثيرة في أمريكا تعمل لدعم الفلاشا واللوبي اليهودي FLASHA FEEDOM FOUNATION كان يقيم سنوياً في نيويورك حملات جمع المال.. وكان يجمع كثيراً من الأموال "وهذا ما أكده المستر ملتون وشهدت به أمام المحكمة عام 1985م ولا بأس أن اكرر ما ذكره (العميد الإستراتيجي) أن هذه المبالغ دفعت لبناء الجهاز، لأن المخابرات الأمريكية ادركت أن النظام المايوي قد انتهى وكان بوسعها أن توقف التحويلات ولكن هذه المبالغ دفعت مقابل ترحيل الفلاشا".
من كان منزله من زجاج..!!
ويشير اللواء عثمان السيد هنا إلى حديث ذكره اللواء عمر محمد الطيب عن ضابط لا يستحق ذكر اسمه قال ان مبنى الجهاز وهمي وسكت عن المباني التي أقامها جهاز الأمن والمخابرات حالياً، ويقول اللواء عثمان السيد "إنني أنا الضابط الذي أشار إليه إلا انه كان من الممكن أن يقول اللواء عمر ان ضابطاً لا داعي لذكر أمسه، ولكن أن يقول انه لا يستحق ذكر اسمه فإنني أقول إن اسمي معروف وأسرتي معروفة.. وهو من دون الناس يعلم أهلي جيداً.. وعلى أي حال فإن المثل يقول إن الذي منزله من زجاج لا ينبغي أن يرمي الناس بالحجارة".
في المحاكمة الشهيرة عقب انتفاضة ابريل 1985 والإطاحة بنظام الرئيس النميري التي أطلق عليها (محكمة الفلاشا) عرض المتحري العقيد شرطة أمين عباس أمام المحكمة معلومات مفصلة عن الأموال التي دفعت لرئيس الجهاز، فذكر أن هناك حسابا في أحد بنوك مدينة لندن ببريطانيا تحت اسم مشروع النيل الأزرق.. وبالرقم (11949500) وصفه بأنه الحساب الخاص باللواء عمر محمد الطيب.. وقال إن الحكومة السودانية لا تستطيع السحب أو التعامل مع هذا الحساب.. لأنه الحساب الخاص باللواء عمر محمد الطيب.. وقال المتحري إن عمر مجمد الطيب حول إلى ذلك الحساب خلال شهر ديسمبر 1984 مبلغ (553) ألف جنيه إسترليني.. وقال المتحري ان عمر محمد الطيب سحب هذه الأموال من حساب البطاقة الشخصية ببنك السودان.
ونفى المتحري أمين عباس أن يكون ذلك الحساب خاص بأي منشآت لجهاز امن الدولة.. تحت اسم مشروع النيل الأزرق.. وقال المتحري إن هذا المشروع ظل منذ العام 1979 مجرد فكرة معلقة في الهواء.. وقال إن المبلغ الذي تم تحويله من حساب البطاقة الشخصية لم تسجل عليه أي فواتير أو أي إشارة عنه بوزارتى المالية أو التجارة.. أو حتى الإدارة المالية لجهاز امن الدولة.
منقستو طلب 30 مليون دولار..!!
وذكر لي اللواء عثمان السيد انه في عام 1991م عندما اتفقت المخابرات الأمريكية والإسرائيلية مع الكولونيل منقستو على ترحيل بقية الفلاشا من إثيوبيا وطلب مقابل ذلك 30 مليون دولار وعندما كان ملس زناوي وجبهة تحرير تقراي وحلفاؤهم في طريقهم للاستيلاء على أديس أبابا طلب منهم الأمريكان أن يوقفوا وصولهم لأديس أبابا لمدة أسبوع لأن هناك عمليات تجري لنقل اليهود الفلاشا من اديس أبابا إلى نيروبي.. وبعد ذلك سافر منقستو إلى زمبابوي من أديس ابابا حيث ما يزال يقيم حيث انه عندما استولى ملس زناوي ورفاقه على السلطة لم يكن في إثيوبيا دولار واحد في البنك المركزي الإثيوبي، وهذه معلومات مؤكدة أخطرني بها صديقي وزير الخارجية الإثيوبي وذكر لي ان الأمريكان أفادوهم أن شيكاً بمبلغ 30 مليون دولار حول لحساب منقستو في نيويورك، وأجرى الإثيوبيين بمساعدة الأمريكان اتصالاً بالبنك وطلبوا تحويل هذا المبلغ للحكومة الإثيوبية الجديدة واستطاعت الحكومة أن تبدأ عملها بهذا المبلغ.. وخلاصة القول إن هناك مبالغ دفعت لإثيوبيا والسودان مقابل ترحيل الفلاشا.
يقول عثمان السيد "ولكن كما ذكرت لو كانت الأمور طبيعية ومستقيمة في جهاز أمن الدولة لكان قد طرح هذا الأمر على قيادة الجهاز لسماع رأيها ومجلس الوزراء ومجلس الأمن الوطني وهذا كله لم يحدث، حيث كان من الممكن أن تدفع مبالغ كبيرة لمصلحة السودان لا الأشخاص وأنا أقول كلامي هذا ليس تشفياً وهذا الحديث ذكرته بحذافيره في المحكمة وأنا على اليمين وأنا على استعداد لإعادته بل إنني انوي نشره في كتاب".
العميد بيومي.. خارج الشبكة!!
في رأي اللواء عثمان السيد أن العميد حسن بيومي لم يكن ملما بتفاصيل عمليات ترحيل الفلاشا.. فلم يكن أصلا قريبا من الملف خلال سنوات عمله بالجهاز.. ولهذا فهو يرى أن إفاداته التي أدلى بها لقناة الجزيرة لم تكن صحيحة. يقول اللواء عثمان السيد "كنت رئيسه المباشر واطلعت على ملفه السري وكتبت تقاريره السرية.. ولم يكن مديراً للأمن الخارجي.. وهو لا يكتب التقارير للرئيس كما يقول.. إذ إن تقارير الأمن الخارجي التي تذهب للرئيس تعدها إدارة الأمن الخارجي ثم تأتي إلى فرع التحليل والتقييم الذي رأسه العميد بيومي لفترة محدودة قبل حل الجهاز.. وكان هناك ضابط ممتاز اسمه هاشم عبد اللطيف برتبة الرائد خريج علوم سياسية جامعة الخرطوم كان هو الذي يتولى صياغة هذا التقرير وإعداده، أما الخطاب الذي يذهب لرئيس الجمهورية فكان يعده الرائد هاشم عبد اللطيف بنفسه ويوقع عليه رئيس الجهاز ولا يخرج الخطاب عن صيغة مرفق لسيادتكم تقرير الأمن الخارجي".
(نواصل في الحلقة السادسة)
عملية الفلاشا (الحلقة السادسة )
تحقيق:حنان بدوي
السودان قبل بالصفقة الأرخص
يقول اللواء (م) حسن عثمان ضحوي مدير مكتب استخبارات منطقة البحر الأحمر العسكرية أن الهدف من عملية ترحيل الفلاشا في ذلك الوقت هو حوجة إسرائيل الماسة لزيادة تعداد سكانها وقد تم اتصال رسمي بين إثيوبيا وإسرائيل بهذا الخصوص ودخلت إسرائيل في مقايضة مع إثيوبيا مباشرة لإسرائيل. ولكن ما هي المبررات التي أدت إلى تغيير مسار العملية.
يضيف اللواء (م) حسن ضحوي بعد الاتفاق الذي تم بين إسرائيل وإثيوبيا على ترحيل اليهود الفلاشا حدث اختلاف في السعر المقابل الذي ستحصل عليه إثيوبيا نظير قيامها بالعملية وكان المقابل هو أسلحة غالية الثمن كانت قد طلبتها إثيوبيا لذلك تم تهريب اليهود الفلاشا عن طريق الحدود السودانية الإثيوبية باتفاق جديد مع حكومة السودان وبسعر أقل بكثير مما طلبته إثيوبيا.
راعي أغنام يكتشف العملية:
روى لي اللواء حسن ضحوي أن عمليات تهريب الفلاشا بدأت عام 1983 وكان العالم كله في ذلك الوقت ينقسم في ولائه بين الغرب والشرق أي حلف وارسو وحلف الأطلسي وبما أن السودان كان من الموالين لحلف الأطلسي الذي تسيطر على أغلبه أمريكا لذا كانت للسودان محطة في بورتسودان لقوات الانتشار الأمريكية.
ويقول اللواء ضحوي كنت اعمل مديراً لمكتب استخبارات منطقة البحر الأحمر العسكرية حيث أبلغنا أحد الرعاة بأن هناك طائرات تهبط في المنطقة وأن الأغنام تجري بشدة من صوتها وفوراً قمنا وبالتقصي وجدنا أن هناك طائرات أمريكية تأتي ليلاً وتهبط بمطار (كرساقو) وهو مطار مهجور استخدم في الحرب العالمية الثانية ويقع بالقرب من أركويت ويفتقد هذا المطار للإضاءة تماماً.
يقول اللواء ضحوي أنهم اكتشفوا من خلال المتابعة والتحري أن المخابرات الإسرائيلية تقوم بإضاءة المطار ليلاً بواسطة شمعات مخصصة لذلك تسمي Lights ticks .
ويشير اللواء ضحوي إلى أن المخابرات الأمريكية والإسرائيلية سبق أن استأجرت في العام 1982 مرسى عروس السياحي بدعوى أنهم يريدون القيام بعمل سياحي ولكن لم يمضوا في ذلك العمل إلا أن التحري قد اثبت أنه ليست لديهم فكرة في العمل السياحي أو حتى رغبة في ذلك العمل .
وبدأت تظهر لهم بعض النشاطات الليلية في بعض المراسي المهجورة في بورتسودان بين منطقة محمد قور وبورتسودان وقد اتضح أن هناك حمولة سيارتين تأتي ليلاً أسبوعياً وتفرغ محتوياتها في إحدى هذه المراسي حيث يتم نقلها بقوارب مطاطية صغيرة إلى عرض البحر حيث تنتظرهم سفينة لنقل الحمولة لمكان مجهول .
ويواصل اللواء ضحوي حديثه ويقول بعد أن توفرت لنا هذه المعلومة قام مكتب استخبارات البحر الأحمر بتشديد المراقبة وبحمد الله توفقنا في مداهمة هؤلاء الذين يقومون بالنشاط الليلي في منطقة فيجا لكن للأسف اتضح لنا أنهم بعد أن قاموا بتفريغ حمولتهم وجدنا أن اللواري خالية ولم نتمكن من معرفة ما كان بداخل اللواري أو نوعية النشاط .
انتقال النشاط إلى فرساقو :
يقول اللواء ضحوي بعد أن أحس هؤلاء بمتابعتنا لهم انتقل نشاطهم إلى مطار فرساقو وكانت نفس اللواري التي رأيناها في المرة السابقة تأتي في يوم الخميس من كل أسبوع حيث تأتي طائرة ليلاً فلتأخذ الحمولة وتذهب بها ثم تأتي أخرى وهكذا تواصلت العملية وقد بلغ عدد الرحلات في مطار كرساقو ثلاث رحلات .
وبعد كشفهم في كرساقو انتقلوا بنشاطهم إلى منطقة تسمى سمسم في القضارف حيث وجدنا آثار تلك الطائرات تنزل على أراضي منبسطة وتم العثور على بقايا وملابس تخص المسافرين وكشفت الاستخبارات عن بقايا شنط مكتوب عليها قبيلة الفلاشا اليهودية وعندهم تم تمييز أن ما يتم ترحيلهم هم قبيلة الفلاشا اليهودية ولكن كيف تصرفت إدارة الاستخبارات تجاه ما تحصلت عليه من معلومات .
يقول اللواء ضحوي بعد اكتمال التحري والتأكد من كافة المعلومات انتقلت المعلومات من إدارة الاستخبارات إلى جهاز الأمن ولكن جهاز الأمن أفاد بأنهم يعلمون ما يجري من عمليات تهريب لهؤلاء اليهود لكنهم لا يرغبون في كشفه في الوقت الراهن. وقال ضحوي عندما سألت مدير الاستخبارات بجهاز الأمن عن مدى تأثير ذلك النشاط الذي اكتشفوه قال لي أن هذا النشاط غير مؤثر على الأمن عندما أخطرت جهاز الأمن بعمليات التهريب قالوا أنهم يعلمون كل شيء وما من لا يؤثر على الأمن.
دعوى اعادة التوطين
وفي ذات السياق كان البروفسير حسن مكي الخبير في شؤون القرن الافريقي تحدث في حديث صحفي سابق له عن عملية تهريب اليهود الفلاشا عبر قرية عروس السياحية على البحر الاحمر قائلاً:
بدأ ترحيل الفلاشا عن طريق قرية عروس السياحية على البحر الاحمر ومطار الخرطوم بدعوى اعادة التوطين وكانت العملية الكبرى قد تمت بموافقة الكونجرس الأمريكي على تحويل مشروع تهجير الفلاشا في سبتمبر 84 وبدأت المخابرات الإسرائيلية بالتعاون مع المخابرات الامريكية والسودانية عمليتي (موسى) و(سبأ) الشهيرتين.
صحيفه السودانى
العدد رقم: 654
2007-09-11