|
د.التيجاني:تحول في مسارالحركة بتحالف بين «القبيلة/السوق/لأمن»، و يحذر من ابتلاع القبيلة للتنظيم
|
ومشاريعهم التوسعية الكبرى«1ـ2» د.التجاني عبد القادر «1» أشرت فى مقال سابق لارهاصات تحول إستراتيجى وقع فى مسار الحركة الإسلامية، فذكرت أن ذلك التحول قد يتبلور فى اتجاه تحالف ثلاثى بين «القبيلة» و«السوق» و«الأمن»، وألمحت لاحتمال أن «تبتلع» القبيلة تنظيمنا الإسلامى الحديث، كأن يتلاشى فى أنساق من التحالفات و الترتيبات والموازنات التى تتلاقى فيها المصلحة الإقتصادية، والإنتماء القبلى، وتحرسهما شبكة من الكوادر والتدابير الأمنية. اذ أنه بدلا من أن يضعف التنظيم الاسلامى الولاءات القبلية أو ينجح فى ادراجها فى الولاء الاسلامى العام فقد تتكاثر بعض العناصر القبلية داخل تنظيمنا الإسلامى وتستخدمه «مستقوية بالأجهزة الأمنية» لمصالحها الجهوية والعرقية. وأريد فى هذا المقال أن أتوسع قليلا فى بعض تفاصيل ذلك التحول الذى ظهر فى صورة معادلة مختلة بين التنظيم والأجهزة الأمنية التى أنشاها لرصد تحركات الأعداء وجمع المعلومات عن النشاط المعادى لحركة الإسلام. لقد كانت الرؤية الأساسية لوظيفة التنظيم هي أن يسد الفجوة بين المثال الاسلامى والواقع من جهة، وبين الدولة والمجتمع من جهة أخرى، أى أن يكون مساحة يستولد فيها برنامج اسلامى وطنى تنموى يقوم على الطوع والتراضى. ولكن قلبت هذه الرؤية رأسا على عقب حينما استولى الإسلاميون على جهاز الدولة فى منتصف عام 1989، اذ ما أن أزيحت حكومة الأحزاب وحلت مكانها حكومة الإنقاذ الا وقد أزيح كذلك التنظيم، فصار من الطبيعى والحالة هذه أن لا يتم الاتصال فى كثير من الأحيان بين حكومة الإنقاذ و فئات المجتمع الا من خلال أجهزة الأمن، وصارت الملفات السياسية والعسكرية والاقتصادية جميعها تتحول وبصورة منتظمة الى الأجهزة الأمنية، مما زاد التوتر بين الحكومة والمجتمع، وهذا خطأ وخطر في ذاته، ولكن الأخطر منه هو أن تلك الظاهرة قد قادت الى تلاشى الوجود المؤسسى للتنظيم الإسلامى، فأدى ذلك من جهة لتولد فجوة نفسية وسياسية بين قيادة التنظيم وقاعدته، كما أدى من جهة أخرى لتوتر وشقاق بين قيادة التنظيم وقيادة الحكومة. ان ظاهرة أن «يبتلع» تنظيم اسلامى من قبل الأجهزة التى أوجدها قد تبدو غريبة أول الأمر، اذ كيف تهيمن عناصر أمنية على تنظيم اسلامى يقوم أساسا على عقيدة في الدين تؤمن بحرية الانسان وكرامته، وكيف تهيمن عناصر فرعية ناشئة على تنظيم اسلامى عتيق ظل هو نفسه يعانى من وطاة اضطهاد ومطاردة الأجهزة الأمنية ردحا من الزمن. ان كثيرا من الإسلاميين وربما يأتى في مقدمتهم الأمين العام للحركة الإسلامية كانوا ينظرون باستهانة لأجهزة المعلومات ولا يتوقعون خطورة من جانبها، بل ويعتقدون أن بامكانهم السيطرة عليها بصورة مستمرة. وأذكر فى هذا الصدد حديثا دار بينى وبين الدكتور حسن الترابى على خلفية صدور كتاب للدكتور عبد الوهاب الأفندى «عام 1995» أشار فيه لبعض الممارسات الأمنية وانتقدها انتقادا شديدا فأثار حينها ضجة. سألت الدكتور الترابى عن رأيه فيما ورد في الكتاب فقال باقتضاب: ان الأفندى ينسب لهذه الأجهزة أدوارا أكبر مما هى عليه في الواقع، ثم التفت الى قائلا: ومن هى هذه الأجهزة؟ «مش هم أخواننا الصغار ديل؟»، وانقطع الحديث بيننا في ذلك الوقت ولكن سعى «أخواننا الصغار» في اتجاه الهيمنة والإبتلاع لم ينقطع، بل تنامت قدراتهم السياسية حتى استطاعوا أخيرا أن يلقوا بالشيخ الترابى وبتنظيمه في غياهب الجب. حينئذ فقط أدرك الأخير وهو في السجن، أى بعد أن وقع الفأس على أم الرأس، أن الأمر أخطر بكثير مما كان يتصور، فأخذ يدون في مذكراته كأنه يريد أن ينذر من خلفه من الإسلاميين الساذجين قائلا: « ولذلك، ينبغى أن تكون شعبة الإمارة العليا التى تحفظ الأمن وتبسط الشرطة وتضطر الى مد حبال الأمن الخفية عرضة للرقابة من الرأي العام وأنظومة الشورى ومضبوطة بالقضاء، أمرها كله بين للملأ تطمئن به الرعية الى أن أمنها محفوظ من مخاوف الشر والجريمة في ذات البين، وأن حد السلطة البين وتقوى الرعاة الذى حملوا أمانتها، يراعى الميزان القسط بين الحرية والخصوص لديهم والنظام الآمر الذى تقتضيه المصلحة العامة والسطوة النافذة التى تستدعها الضرورة لدى السلطان». «السياسة والحكم،ص342» . فالترابى في هذا النص الممعن في التستر والغموض يكاد يقول، من شدة ما ذاق من «أخوانه الصغار»، أن نشاط الأجهزة الأمنية في النظام الإسلامى ينبغى أن يعرض كله على أجهزة التلفاز، فيكون «عرضة للرقابة من الرأى العام، وأنظومة الشورى والقضاء» و هذا بالطبع يمثل قفزة هائلة الى الأمام لم يبلغها نظام اسلامى في السابق أو نظام ليبرالى في اللاحق. ولكن القفز الى الأمام لن يفيدنا في شىء، خاصة اذا كان ينطوى على قدر من اليوتوبيا التى تصرفنا عن رؤية الماضى المأساوى، وتصدنا عن تشخيص مكامن الداء. أما السؤال الذى ينبغى أن يطرح بالحاح ويجاب عليه بشجاعة واخلاص فهو: كيف استطاع «تنظيمنا الإسلامى الحديث» أن يستولد نظاما فرعيا «من أخواننا الصغار-كما في عبارة الترابى» أستطاع في فترة وجيزة نسبيا أن يتسلل الى مراكز القيادة والتوجيه، وأن يتمكن من اعادة تشكيل سائر القيم و النظم التى كان يرتكز عليها التنظيم الأم؟ وكيف نستطيع أن نخرج من مثل هذا «المأزق البنيوى» الذى أدخلنا فيه الأمين العام ثم خرج سالما ليؤسس حزبه الجديد؟ «2» كنا نتوقع أن نجد في كتاب الأمين العام الذى تجاوز عدد صفحاته الخمسمائة اشارة الى نوع من الخطأ الذى وقعت فيه القيادة فيما يتعلق باستكشاف رؤية إسلامية للأمن وطرق ادارته، ولكن الكتاب هدف في مجمله لتأسيس قطيعة مع ماضى «الإنقاذ» وادانته ولكن دون مواجهة صريحة لذلك الماضى- خاصة ما يتعلق منه بممارسات الأجهزة الأمنية، لأن مواجهة الماضى تعنى في هذه الحالة مواجهة الذات ونقدها، وهذه هى العقبة التى لم يتيسر للامين العام حتى هذه اللحظة أن يتخطاها. فاذا خلا كتابه من أىة معلومة مفيدة في هذا الصدد فكيف ومن أين نحصل على معلومات مناسبة تمكننا من الفهم الصحيح لحقيقة المهام التى كانت تقوم بها تلك الأجهزة، أو الآليات الفعلية التى تتحرك من خلالها، أو الميزانيات المتوفرة لديها؟ ليس أمامنا ألا أن نعتمد على بعض التجارب الشخصية المحدودة لبعض «أخواننا» ممن أحتكوا معها بصورة مباشرة، أما بحكم مواقعهم المتقدمة في التنظيم أو في الخدمة المدنية. وسأكتفى في هذا المجال بسرد حكايتين سمعتهما من مصدريهما مباشرة. الحكاية الأولى: ذكر لى الدكتور المهندس محمود شريف«رحمه الله» أنه حينما كان مديرا للهيئة القومية للكهرباء تم استدعاؤه ذات مرة من قبل وزير الطاقة، وسبب الإستدعاء أن الدكتور محمود شريف قد أعاد أحد المهندسين «اليساريين» الى الخدمة بعد أن فصلته الأجهزة الأمنية من الهيئة العامة للكهرباء لأسباب سياسية. قال محمود: ولما سألت الوزير عن الطريقة التى علم بها هذا الأمر، استدار فالتقط ورقة من بين أوراقه وألقى بها أمامى، نظرت فيها فاذا هى صورة العقد الذى وقعته مع المهندس المفصول.أستشاط الدكتور محمود غضبا ولم يتردد لصراحته وشجاعته المعهودة أن يسمع الوزير كلمات موجعة. كيف حصلت على هذه الوثيقة من وراء ظهرى؟ قال له، ولماذا لم تطلبها منى فآتيك بها طالما أنى موظف لديك؟ أهذا هو فهمك للادارة؟ أأنت أكثر منى معارضة للشيوعية، أم أنت أكثر حرصا منى على الثورة؟ والذين يعرفون الدكتور محمود شريف لابد أنهم يتوقعون نهاية القصة. ذهبت معه خطوات لعله يواصل الحديث ولكنا كنا قد وصلنا عتبات مسجد جامعة الخرطوم لنؤدى صلاة المغرب، فتوقف ونظر الى مليا، ولم أكن أعلم أن تلك ستكون آخر مرة أراه فيها، ثم قال لى باللغة الإنجليزية:«I am really worried»، اننى لقلق حقا. وابتعد الدكتور محمود شريف عن هيئة الكهرباء، أو لعله أبعد عنها لا أدرى، وذهب الى جنوب السودان« أو لعله.... لست أدرى» حيث كانت الحرب مشتعلة، فقاتل كما يقاتل الأبطال حتى استشهد.. إن الذين يعرفون محمود شريف عن كثب يعرفون أنه لم يكن مجرد مهندس كهربائى، وانما كان علاوة على ذلك قائدا اسلاميا فذا، جمع بين التأهيل التقنى والإلتزام الخلقى والتدريب العسكرى والنضال السياسى، لا نقول هذا من قبيل المديح الكاذب، إذ أن الرجل قد أمتحن مرارا واجتاز كل الامتحانات بجدارة، وكان أكثرها دقة وخطورة هو دوره «الميدانى» الذى مهد به السبيل لنجاح التحرك العسكرى فى 30 يونيو1989، اذ استطاع «كما ورد فى افادة للواء عبدالرحيم محمد حسين»أن يقوم فى كفاءة عالية بتجهيز وتنظيم الاتصال بين المجموعات العسكرية المشاركة فى الانقلاب، ولولا أمور فى داخل القيادة لا نملك معلومات عنها فى الوقت الراهن لصار محمود شريف عضوا أساسيا فى قيادة الإنقاذ. واستنادا على هذا فان «القلق» الذى أشار اليه فى حديثه معى لم يكن قلقا بسبب أنه سيزاح عن ادارة الهيئة المركزية للكهرباء، فقد كان أكبر بكثير من تلك الوظيفة، والتى كان زاهدا فيها وفيما عداها، كما يعرف عمال وموظفو الهيئة المركزية، وكما يعرف الشعب السوداني كله ويتعجب من حكومة الإنقاذ التى «تستغنى» عن محمود شريف. إن ما كان يقلق محمود شريف يعود فى تقديرى لأمرين: الأول هو تمدد الذهنية والأذرع الأمنية فى كل المساحات الأدارية والسياسية والإقتصادية، أما المصدر الآخر لقلقه فيعود لما وقع فى نفسه من انقسام لم يستطع أن يتعايش معه طويلا: أينخرط مثلا فى مقاومة داخلية ضد «أخوانه الصغار» الذين اخترطوا التنظيم والدولة وحولوهما الى ملفات أمنية، أم ينخرط فى مقاومة خارجية ضد حركة التمرد التى كانت تشعل حربا على التنظيم والدولة والمجتمع معا؟ وقد اختار محمود شريف جبهة الجهاد العسكرى الخارجى لأنها فى تقديره كانت الأكثر وضوحا ونظافة، وذهب الى ربه راضيا، أما الذين كانوا يشابهونه فى الرأي والموقف فقد فقدوا عنصرا قياديا صلبا كان من الممكن أن يشكل مركز استقطاب لعناصر الإصلاح فى داخل الحركة الإسلامية. الحكاية الثانية: ذكر لى أحد القياديين الإسلاميين المعروفين وكان وقتها يشغل منصبا كبيرا في بعض الوزارات، أنه كلما ذهب بعد صلاة المغرب لمنزل الشيخ الترابى أو لأمين العلاقات الخارجية «الشيخ السنوسى» ليطلعهما على بعض المستجدات، أو على المعلومات التى يحصل عليها من التقارير التى ترفع اليه، وجدهما على علم تام بما يريد أن يقول. قال: فصرت غير متحمس للذهاب اليهما أو اطلاعهما على شىء طالما أنهما موصولان «بعناصر خفية» ليس فقط في داخل وزارتى ، ولكن ربما في داخل مكتبى. وهذه لا تختلف عن القصة الأولى الا في نهايتها، اذ ابتعد هذا الأستاذ أيضا عن ذلك الموقع، أو لعله أبعد فلست متأكدا من ذلك، ولكن الذى أعرفه يقينا أنه لم يذهب الى الجنوب كما ذهب محمود شريف، ولم يستشهد حتى الآن «أطال الله في أيامه» ، ولكنه رفع الى موقع كبير آخر، ثم ضم أخيرا الى الأجهزة الأمنية؛ الأجهزة ذاتها التى كان يتبرم منها لأنها كانت تأخذ الأوراق من أدراجه.
الصحافة 62/11/2006م
|
|
|
|
|
|