يحكي الشاعر في الابيات التالية أنه كان يسير في الظلام الدامس فوثب
جمله عن الطريق في ذعر ، فأخذ يتساءل هل هذا الذعر نتيجة سماعه لخشخشة إبل مقيدة بالحديد أم أنه مجرد خوف من حلكة الظلام ؟ وهنا تطوف بمخيلته صورة محبوبته ذات الشفاه الزرق ، فيقول أنها المتسببة في تعب " الغول " وبلواه والغول هو اسم بعيره ، فمن اجلها يغزو به حتى صارت اقدامه مثل أيدي الرجل الذي يملأ القربة من ماء الحفير في خفتها وسرعتها " واحدة تدوبي واحدة تكيل " :
الليلـــــــــــــــة الغول بــــــــــــــدا* لو جفيـــــــــــــــــل*
نقــــــــــرة قيد* والله خوفــــــــــــاً من دمـــــــاس* الليل
الزول* البراطمـــــــــــــو* محبّكــــــــــات بالنـــــــــــــيل*
خلّا* جـــــــــــــرايده* واحدة تدوبـــــــــي واحدة تكيــــل*
بدالو : بدأله ، جفيل : جفلت الدابة وثبت ، نقرة قيد : صوت صلصلة الاصفاد ، دماس : ظلام حالك ، الزول : الشخص ، براطمو : شفاههو ، محبكات بالنيل : بخضوبات باللون الازرق ، خلّا : جعل ، جرايده : ارجله ، تدوبي وتكيل : اشارة للسرعة .
ولا تبرح صورة محبوبته خياله فنراه يتمثلها حتى في سير جمله وارقاله ، فعندما يرى جمله يخب به في ايقاع منتظم تخطر بذهنه صورة فتاة جميلة اجادت فن الرقص على ايقاع " الجابودي " او " الحمبي " " نوع من الرقص الشعبي " وهو من فوره يأمر بعيره بالاسراع نحوها متذكراً شعرها الكثيف الطويل وحديثها الهادئ الرزين " مو تقزي " :
الدلاك عــــــــــلى الدجيــــــــــــــــج* والـــــــــــــــــــدي*
تقـــــــــــــول فارســــــــــــة حريمـــــــاً باتعة في الحمبي*
اجبــــــــــد السير* علــــــــــــي أم شلّاخ* سمحــــــــة الـــزي
سابل* ديســــــــا* راســـــــــي* حديثــــــــــا مو تقـــــــــــزي*
الدجيج والدي : السرعة ، الحمبي : رقص شعبي ، اجبد السير : اسرع في السير ، أم شلّاخ : ذات الشلوخ ، سابل : منسدل ، راسي : رزين ، مو تقزي : ليس هرجا .
اما الابيات التالية فتحكي قصة لقاء الطيب باحدي الفتيات واعجابه بها ، وقد كان يجلس معها في لحظة طرب ومرح حينما ادركهما " الفزع وهي المطاردة من قبل الشرطة او اصحاب الإبل المنهوبة " ولكنه لم يأبه لذلك ويطلب من الفتاة ان تستمر في ما كانت عليه من طرب ورقص لثقته من أنه قادر على هزيمتهم إذا حاولوا الإعتداء عليه :
ما يهمــــــــــك فزع ناساً كتـــــــــــــــــــار منهنــــــــــــدة *
زوزي ونسّفــــــــــــــــــــي اللاعند* الفنايــــــــــــد* نّـــــــدا
يعجبــــــــك عوسنــــــــــــا* وكتين الضـــــــــراع يتمــــــدّا
عودي الرقصـــــــــــــة عقبـــــــــــــان السمــــــــا الينقــــدّا
منهندة : متجمعة ،اللاعند : الذي يصل حتى ، الفنايد : العجُز ، عوسنا : فعلنا، الضراع : الزند ، السما : السماء
وفي الابيات التالية يخاطب جمله الذي لا هم له غير انتقاء الافرع الباسقة الخضراء ، اما هم فلا يرتاحون ولا يريحون اصحاب الإبل ، وقد زادهم عناء إلى عنائهم شوقهم إلى محبوباتهم ، ويذكر محبوبته ذات العنق الطويل " الباهي " والقوام المعتدل الخالي من تعقيدات السمنة المفرطة :
بالك فاضــــــــــــــي في روبة* الفـــــــروع بتنقــــــــــــــــد
ونحـــــــــــــــن نهاتـــــــــي* لا بنرقـــــــــد ولا بنرقــــــــــّد
الخلانـــــــــــــي دون النــــــــــاس بقيت متسقّــــــــــــــــــــــد*
فُرق العنقــــــــــــو باهــــــــــــي ودوفــــــــــــو مو تعقــــــّد
الروبة : القِمة ، نهاتي : نتكالب ، متسقّد : مساهر: مُسهّد ، العنقو : عنقه ، دوفو : قوامه .
وفي احدى رحلاته العديدة يتذكر محبوبته " سلمانة " التي طالما تغنى بها وهام بها وقد كانت تهب عليه نسمات " الدعاش " او الزيفة وهو هواء فصل الخريف ، فيقول أن " سلمانة " التي فاقت جميع أترابها انوثة وجمال شديدة الثقة بفتنتها ومدى تأثيرها عارفة لقدرها عنده :
وين سلمــــــــــــانة وين ديفــــــــــة المعيز الجبـّـــــــــــــــــــر
والزيف هبــــــــــــــا ياعاشـــــــــــــق أم خدود اتصَبّـــــــــــــر
الكــــــــــــــــال مدو زائد فــــــــــوق ندادتو وشَبّـــــــــــــــــــر
الفـــــــــــــــوت هيلــــــــــــــو عارف عزه ما بتنبّــــــــــــــــــر
مقارنة بين الهمبتة والصلعكه :
المعنى والدلالة :
الهمبتة طريقة في الحياة تقوم على سلب ونهب الإبل عن طريق الغزو والإغارة ، وعرفنا مما كتب عن الصعلكة انها " طريقة في الحياة تقوم على نهب وسلب اموال الاغنياء عن طريق الغزو والإغارة " . الهمباتة لم يكونوا ينهبون غير الإبل وهذا هو الاساس الذي يقوم عليه التفريق بين الهمباتي وغيره ، اما الصعاليك فلم يكونوا ينهبون نوع معين من المال ، بل كل ما تسوقه الاقدار اليهم ، وقد ذكر في اخبار الصعاليك أن"سليك بن السلكة" قتل رجلاً وسلب غنماً كثيرة ، وفي اخبار"عروة بن الورد" أنه سلب هذلياً فرسه ، اما الهمباتة فكانوا يحتقرون من ينهب الغنم و" الزاملة " أي الجمل الوحيد عند صاحبه . والسبب في اقتصار الهمبتة على نهب الإبل وإتساع الصعلكة لتشتمل على نهب كل شئ يرجع إلى أن الفقر والفاقة لم تكن سبباً رئيسياً للهمبتة ، ومن الهمباتة من كان من اسرة ثرية كما هو الحال بالنسبة "للطيب ود ضحوية". فالهمبتة كانت ضرباً من التفاخر في بعض صورها وكان لابد أن تكون الإبل هي مادة هذا الصراع لأنها مقياس الثراء في المجتمع الرعوي في البادية ، اما الصعلكة فكان من اهم اسبابها ودوافعها الفقر ، وقد عرفت الظاهرة بـ"الصعلكة " وهي تعني في الاستعمال اللغوي الفقر .
الظروف الطبيعية المحيطة بالحدث :
كانت بادية الجزيرة العربية هي المسرح الذي شهد احداث الصعلكة والصعاليك ، فحياة البادية بطبيعتها وظروفها الاقتصادية والاجتماعية هي التي افرزت تلك الظاهرة التي عرفت ب" الصعلكة " . وفي السودان كانت البادية الرعوية كذلك بظروفها الخاصة المتميزة هي مصدر ظاهرة " الهمبتة " ، ففي كلا الحالين كانت البادية هي مسرح الاحداث وهذا ربما دفع للاعتقاد بأن حياة البوادي تساعد على نشأة ونمو مثل تلك الظواهر ، وربما كان مرد ارتباط هذه الظواهر بالبادية إلي عدة اسباب منها أن المجتمع البدوي ينقسم إلى عدة قبائل ترى كل قبيلة أنها اعرق نسباً وارفع مكانة من غيرها وتسعى لاثبات ذلك عن طريق الإغارة على القبائل الاخرى . وربما تغير قبيلة على اخرى بغرض تحقيق العائد الاقتصادي .، وبذلك اصبح السلب والنهب احد القيم التي يقوم عليها المجتمع البدوي ويقدسها ، ولكن تلك الاعمال من سلب ونهب وإغارة لها ضوابط وقوانين وآداب مرعية بينهم .
وطبيعة الحياة البدوية الغير مستقرة تجعل من الصعوبة بمكان فرض سيطرة الدولة وإنزال القوانين والضوابط إلى ارض الواقع ، فقد كان المجتمع البدوي إلى وقت قريب بعيداً عن قبضة القانون . وكان للاوضاع الاقتصادية في البادية الدور الفاعل في بروز تلك الظواهر ، فتوزيع الثروة غير عادل إذ انه توجد طبقتان طبقة ثرية تمتلك قطعان الماشية واخرى معدمة فقيرة ، وهذه الطبقة الاخيرة تعيش في حالة بؤس وشقاء وحرمان تصل بها إلى حد حمل السلاح لتحقق عدالة حرمتها اياها الطبيعة وربما يكون هذا منطبق على مجموعة الصعاليك اكثر.
نظرة المجتمع القبلي :
لعب النظام القبلي دوراً هاما في تكون ظاهرة الهمبتة ، فقد كان بتقاليده وقيمه وعاداته دافعاً قوياً من دوافعها ، فكانت القبيلة ترى أن الهمبتة تلقيد يجب أن يراعى ، لذلك كان الهمباتي مكان حفاوة وتقدير ، وليست الهمبتة في نظر القبيلة سرقة ، بل هي حلالاً طيباً وباباً مشروعاً من ابواب الرزق ، وهي مجال لإبراز صفات الشجاعة والفروسية والقوة . ولم تكن القبيلة تكتفي بتوجيه الفرد لمثل هذا السلوك فقط ، بل كانت تدافع عنه وتحميه وتقدم له المساعدة إذا كان في موقف يستدعي ذلك ، فإذا وقع في جريمة بسبب هذا السلب والنهب ، فانها لا تألو جهداً في سبيل تخليصه ودفع ما يقرر عليه من غرامة إذا لم يكن في مقدوره دفعها .
ذلك هو موقف القبيلة في السودان من الهمبتة والهمباتي . فما هو موقف القبيلة العربة قديماً من الصعلكة والصعاليك ؟
ضمن الاسباب القوية لنشأة الصعلكة فقدان الإنتماء إلى القبيلة ، والصعلكة هي في الواقع ثورة على اوضاع المجتمع الجائرة ، فالذي يرتكب مخالفة تضر بوحدة القبيلة يخلع ويصبح طريداً، فيجند نفسه للانتقام من هذا المجتمع الذي لفظه ، ومن ناحية اخرى كان هنالك الاغربة الذين كانوا نتيجة لزواج غير متكافئ فرفضهم المجتمع ، فانطلقوا يسلبون وينهبون ويقتلون انتقاما لانفسهم من هذا الظلم الاجتماعي الذي لم يكن لهم فيه يد ، هؤلاء وغيرهم لم يكونوا في توافق مع مجتمعهم ، وكانت القبيلة والمجتمع الجاهلي عموماً يشجب سلوكهم هذا لانه يشكل تحدياً لأمنه .
وهكذا نرى أن الهمبتة كانت تتمتع بالدعم الاجتماعي من القبائل نفسها ، ولكن القبيلة العربية في الجاهلية لم تكن لها اية علاقة بالصعاليك ، بل هم منبوذون من جانبها لا تقرهم على عملهم بل وتبيح دمائهم .
وهنالك دوافع قوية ذات اثر فاعل في ظهور الهمبتة والصعلكة وهي لا تعدو أن تكون دوافع إجتماعية تتعلق بمفاهيم المجتمع وقيمه وعاداته وتقاليده ، واقتصادية تتعلق بتركيبة المجتمع الاقتصادية وتوزيع الثروة . ولا بد ان تكون هنالك بعض الدوافع المشتركة بين الظاهرتين " الهمبتة والصعلكة " ، ولكن هذا لا ينفي وجود بعض الدوافع التي تنفرد بها ظاهرة دون اخرى ، وذلك بسبب إختلاف ظروف المجتمع الذي نشأت فيه .
الدوافع الإجتماعية :
إذا نظرنا إلى الدوافع الاجتماعية للهمبتة ، فإننا نلاحظ أن القبيلة بتقاليدها وعاداتها ويقيمها تقف في مقدمة هذه الدوافع ، وتمثل القبيلة المجتمع البدوي الرعوي عموماً ، لانها الوحدة الاجتماعية التي يقوم عليها المجتمع . وكما اسلفنا فإن القبيلة تقر الهمبتة والهمباتة وتعتبرهم مصدر فخر لها ، فالهمباتي من وجهة نظر القبيلة هو الرجل المثالي الذي يعتمد عليه فهو مثال للشجاعة والمروءة ، وربما كان للبيئة البدوية القاسية دور اساسي في تكوين تلك المفاهيم وبلورتها ، فحياة البداوة حياة قاسية تعتمد على القوة والشدة إذا انقطعت اسباب الرزق . وبذلك تأخذ الهمبتة بعدها الاجتماعي في المجتمع البدوي .
وإذا حاولنا تطبيق المفاهيم السابقة على مجتمع الصعاليك ، نجد أن الصورة تختلف تماماً ، فالصعاليك انكرتهم قبائلهم وجردتهم من عضويتها فخرجوا على نظمها وقيمها وتقاليدها وسلكوا طريقاً يضمن لهم فرص العيش .
الدوافع الاقتصادية :
لعبت الدوافع الاقتصادية دوراً فاعلاً في بروز ظاهرتي الهمبتة والصعلكة إلى السطح ، الا اننا نلاحظ أن تلك الدوافع كانت اكثر وضوحا وتأثيرا عند الصعاليك ، فالصعاليك كانوا يسعون للحصول على المال ليتقوا به غائلة الجوع المسيطر على حياتهم وحياة غيرهم من الضعفاء والمحرومين ، بيد أن الهمباتة أرادوا المال ليشبعوا عن طريقه هوايتهم في اللهو والمجون في المجالس التي يرتادونها ، ولذلك كثر الربط في شعرهم بين المغامرة لجلب ما يرضي المرأة وبين الموت دون ذلك ، ولكن نلاحظ أن الدافع الاقتصادي في عند الصعاليك هو بلا ادنى شك اهم الدوافع ، ولكنه بالنسبة للهمباتي ليس كذلك ، فبعض الهمباتة كانوا ينتمون إلى اسر ذات ثراء واسع .
النظم :
يتمتع مجتمع الهمباتة بصورة رفيعة من صور التعاون بين افراده منها واجب الرفيق نحو رفيقه و " السالف " وهو واجب الهمباتي نحو الهمباتي الآخر دون أن يكون هنالك سابق معرفة ، ويمثل هذا التعاون صورة من صور الضمان الاجتماعي تنفذ بصورة دقيقة ، وإذا شذ احدهم عن الالتزام بها عاقبه المجتمع بالعزل ، وذلك بأن يمتنع المجتمع عن تقديم أي عون له . وهكذا يتميز مجتمع الهمبتة بهذا التماسك الذي تتوفر فيه كل الضمانات الاجتماعية في حالات المرض والعجز والسجن والحاجة .
هذا التنظيم الدقيق لمجتمع الهمباتة ليس له نظير في مجتمع الصعاليك ، صحيح أن هناك الكثير من صور التعاون في مجتمع الصعاليك ، لكن الضمانات التي يوفرها مجتمع الهمبتة للفرد لا تتوفر في مجتمع الصعاليك . وعموماً نستطيع أن نقول أن مجتمع الهمبتة اكثر تقدماً من الناحية التنظيمية من مجتمع الصعلكة ، وهو اكثر التزاماً بهذه النظم وادق تنفيذاً للاسس التي يقوم عليها هذا التنظيم
ِشانتير
دي يا إبن العم حاجات منقولة كان تبل شوقك اما الحاجات المدكنة انا اصبر لي شوية الأيام دي عندي لإلتزامات كتيرة وداير أبقي قدر كلامي
أخوك
أبا .
(عدل بواسطة aba on 08-25-2003, 06:42 PM)