|
والله نحن مع الطيور .. الما بتعرف ليها خرطة ولا في إيدها جواز سفر
|
أحرص في كل مرة أزور السودان )الخرطوم( أن اختلس وقتا ولو قصيرا لممارسة إحدى هواياتي المفضلة: مشاهدة الطيور. وبما أن الوقت غالبا ما يكون محدودا، فعادة ما ينتهي بي المقام في غابة السنط أو في جزيرة توتي. وكنت قد نشأت في إحدى بوادي السودان، حيث أن المعرفة الدقيقة بالبيئة ومخلوقاتها ونباتاتها تعتبر من أساسيات التعليم البيئي الذي يورثه الأباء والأمهات للأبناء، وإحدى ضروريات العيش في محيطنا الصحراوي. لم أكن وقتها أراقب الطيور بنفس الفهم الذي أراقبها به الآن. فقد كنت وقتها أريد أن اصطادها لتصبح وجبة دسمة. وبلا مبالغة، فانه لا يوجد طائر لا يمكنني اصطياده، حيث هنالك دائما "شرك" ما، لأي طائر، حسبما يقتضي الحال. أما الآن فأريد أن أراها وهي حرة، طليقة كما أراد الله لها ولمخلوقاته الأخرى أن تكون، أريد فقط أن أراها. وقد سألت نفسي عن سر شغفي بهذه الهواية، فوجدتها مرتبطة ربما بحب الإنسان لقيم الجمال والحرية والترحال. ولا أكاد أجد من بين مخلوقات الله من يمثل هذه القيم مثل طائر جميل. حبيبي تعال مع الأطيار *** نعيش بين الرياض أحرار *** عيونك فيها من سحر الجمال أسرار أو كما قال شاعر العيون، عبدالله النجيب. والله نحن مع الطيور .. الما بتعرف ليها خرطة ولا في إيدها جواز سفر .. نمشي في كل المدائن نبني عشنا بالغناوي ..وننثر الأفراح دُرر الربيع يسكن جوارنا .. والسنابل تملا دارنا والرياحين والمطر .. أو كما قال حافظ عباس.
هنالك أيضا أسباب أخرى أكثر وضوحا،منها أن أي خطر على صحة الطيور غالبا ما يترتب عليه خطر مباشر على صحة الإنسان نفسه. وهنالك بالطبع العائد المادي المترتب على هذا النوع من السياحة. فهنا في الولايات المتحدة، تحتل هذه السياحة المركز الثاني مباشرة بعد رياضة القولف من حيث الدخل الذي تدره. ولكنها لها الفضل على القولف لأن المجتمعات المستفيدة من دخلها غالبا ما تكون أشد حاجة لذلك الدخل من مجتمعات القولف.
و كثيرا ما سألت نفسي ما الذي جرى لي بين هاتين النقطتين في حياتي، أي بين طفل تفنن في إصطياد الطيور، ورجل يريد لها الرفاهية، حتى تحول من حراميها إلى حاميها؟ حسن، غالبا ما يكون الأمر قد بدأ حين رأيت ذات ظهيرة صحراوية ذكر طائر أم دلدلو ذاك )Sunbird(، وهو يصب من رحيق أزهار السنط، وقد بدا في كامل حلته مثل قوس قزح. يا لتلك الألوان التي تطرب الروح! وقفت وقتها مشدوها، وتمنيت أن يكون لي ذات يوم قميص بتلك الألوان. كنت طفلا ربما لم يبلغ العاشرة بعد. وكانت الحادثة الثانية حينما كنت أتي لزيارة أحد أصدقائي في أحد أحياء الخرطوم، وأرى عبر النافذة زوجين من طيور "سعيد" أو Blue-naped Mousebird، وهي تضع خدودها فوق بعض في قيلولة قرب عنقود من البلح في نخلة في الحديقة، وقد أرسلت أذنابها الطويلة إلى تحت. كان هذا السعيد أحد ضحاياي ذات يوم، ولكني لم أنتبه أبدا لتلك الزرقة السماوية التي تزين مؤخرة عنقه من قبل، حتى تلك اللحظة. بعد ذلك بدات أبحث عن مرجع أو دليل لطيور السودان، فوجدت كتيبا في مكتبة معهد قوته، حيث كنت أعمل، كان قد ألفه قيرهارد نيكولاس، و ضاوي م. حامد )١٩٨٧(، وقدم له السيد الصادق المهدي، رئيس وزراء السودان وقتها. ( يا ربي هل من أمل في أن يرافقني السيد الإمام ، وأستاذ ضاوي في زيارتى القادمة في جولة لمراقبة الطيور؟) وأكون جلست مرة *** مع الطاير الخداري والطائر الخدري، أو Eurasian Roller ، هو من أكثر الطيور التي ترددت في الأغاني السودانية. بالله يا الطير الخداري****بالله وحيات حبنا كما تغني علي إبراهيم اللحو. لكن لا أحد يضاهي ما قاله فيه محمد عبد الحي: فى أوّل الصُّبحِ كانَ الطائرُ الأخضَرْ يدُور مُحتَفلاً فى صحْوهِ المُزْهرْ يعلُو ويرتفعُ فى اللازوردِ وفى إشْراقةِ الذّهبِ. يا مرْكزاً أخضَرْ فى غَابةِ اللّهبِ يخْفى ويلتمعُ فى الشَّمس ، يسْقطُ فى حِرْجٍ منَ النَّورِ يَهتَزُّ فى حُبُكٍ منْ ليفِ بلُّورِ يا طائرَ الشَّمسِ يا طائر اللهِ يا طائراً أخضر ادخُلُ هُنا ، دَائماً ، والآن ، مُنتَصراً فى صحْوىَ المزْهرْ في زيارتي الأخيرة إلى السودان في العام الماضي، قررت أن أذهب إلى الجزء الشرقي من جزيرة توتي لأرى طيورها. وقلت لنفسي، لماذا لا أتمشى على كوبري توتي الجديد حتى أراه عن قرب. وكان الجو مليئا بالغبار وعلى أنفي وفمي كمامة لان جيوبي الأنفية ملتهبة. وأحمل شنطة على ظهري بها منظار وكتاب عن طيور إفريقيا وبقية "عدتي"، أي أن منظري لم يكن يوحي تماما بأني سوداني. ولم يخف ذلك على إحدى الفتيات اللائي كن يقفن على حافة الكبرى. فقالت احداهما لصديقاتها: "يا إختي، إنتي خايفة من إنفلونزا الطيور ولا شنو؟"!!! فضحكت في نفسي، وتذكرت الجابري وهو يترنم ب: البلوم في فرعو غنى ****طرانا يا الحبان أهلنا المهم كنت أبحث بالتحديد عن طائر إسمه "النَسّاج القِرْفَة" أو Cinnamon Weaver . وهذا النساج الذي بلون القرفة هو الطائر الوحيد الذي هو سوداني ١٠٠%، أي أنه لا يوجد إلا في السودان، أو endemic كما نقول في لغتنا الطيرية، وهو الطائر الذي ترونه في الصورة اعلاه، في إصدارة بريد لطيور إفريقيا من قبل السلطة الوطنية الفلسطينية. لا أدري ما هو إسمه السوداني. وهو حسب دليلي ليس طائرا نادرا، ولكن حسب خريطة انتشاره يتمركز في الجزيرة وجنوب ذلك. وبما أن خرط الانتشار هي تقريبية على أية حال، فكنت أمني نفسي بأن أراه في الخرطوم ربما، حتى أشعر بتلك السعادة التي نحسها حينما نصادف صديقا في مكان لم نتوقعه فيه. لم أكد أنهي الكبرى حتى بدأت موائد الجمال: نظرت إلى الزريبة فرايت أكل النحل الصغير Little Bea-eater ، بالوانه الخضراء والصفراء الرائعة. ثم رايت نوعين أخرين من طائر النساج ولكن لم يكن من بينهما القرفة. ثم حينما دخلت إلى الداخل، حامت فوقي مجموعة من الببغاوات المختومة العنق Ring-necked Parakeet ، قبل أن تحط على شجرة جوافة ليصبن منها. وفجأة وجدت نفسي أمام عدد كبير من الزرزور ذو المنقار الأحمر Red-billed Firefinch، هذا المخلوق الصغير البديع الذي يجمع بين الحمرة وأطياف من الخضرة بشكل غير ممكن. كيف تسمح نفس شخص بحبسه في قفص صغير؟ المهم، تجولت في حقول الجرجير، في إتجاه القصر الجمهوري وضفة النيل الأزرق، وعجبت لسماحة أهل السودان الذين لا يضعون يافطات تحذر المارة من ألا تطأ أقدامهم ممتلكات الغير. بحثت بلا جدوى عن النَسّاج القِرْفَة، ولم أجده. ثم خطر لي أن الوقت كان شتاء، وأنه في شتاء ٢٠٠٨ قامت دنيا محبي الطيور ولم تقعد حتى الآن حينما ظهر طائر الزقزاق الأنيس Sociable Lapwing المعرض للانقراض، في السودان بعد أن كان هاجر من مقره الصيفي في كازاخستان (هنالك تقارير تفيد بأن أحد أربعة من هذه الطيور قد ظهر في شمال دنقلا الشهر الماضي). فقلت ربما أجد الزقزاق الأنيس بعد أن لم أجد النَسّاج القِرْفَة. كانت الشمس قد احمرت واستدارت فوق المقرن وهي تستعد لوداع ذلك النهر العظيم، فعلمت أن حظي في رؤية أي منهما قد تضاءل جدا. ثم ألقيت نظرة أخيرة على أسراب من طيور مالك الحزين Heron ssp . والبَلَشون Egret ، قبل أن أقفل راجعا، وفي قلبي حسرة أن هذا المكان الجميل سوف يتحول إلى مبان تجارية سوف تغير للأبد ملامحه بعد أن ظل هكذا لالاف السنين.
|
|
|
|
|
|