|
|
 عبد الواحد كمبال،الدرويش الذي (صُنع حصيصاً للسودان)..!
|
كمبال،الدرويش الذي (صُنع حصيصاً للسودان)..!
خط الاستواء
عبد الله الشيخ
لم يكن عبد الواحد كمبال راغباً فى العودة الى المهاجر ، لولا ان عاديات الايام اخرجته من دياره التى يحبها ..أخرجه الذى اخرجه !. قضى عبد الواحد جل شبابه فى غربة بعيدة ،لأن النميرى قرر فى ساعة ما من ساعات الخمول الوطنى أن ( ينُط فيها)!.. فخرج عبد الواحد من السودان وترك وراءه كل الذكريات ريثما يعود اليها بعد ان ينزل ( ديك العِدة) من فوق العِدة..!
ولكن ذلك (الديك) ظل جاثماً فوقها ستة عشر عاماً، حتى جاءت الانتفاضة فعاد عبد الواحد على ظن أن( الديوك تم ترحيلها الى اليرموك)! عاد الى الوطن ،، كان يتباهى معي بحب نهار الخرطوم القائط ، و شوارعها المتربة ، وازقتها التى تغرق فى الوحل عند اول الرشاش ، لا يبدى امتعاضاً وهو يهاجر من وسط الخرطوم الى غربها من اجل سيجارة ..! وفى الطريق الى سيجارة تجد عبد الواحد يتماوج فى اكثر من مشوار ، مشاوير لا تخصه ، انها مشاوير فى قضاء حوائج الناس، كان عبد الواحد يقول لك ببساطة أن إمرأة عجوز طلبت منه أن يغشى العطار ويبحث لها عن زيت النعناع، كان لعبد الواحد كمبال سحره ومنطقه فى انتزاع الحقوق لاصحابها ، كان يعرف كيف يفتح باب الامل امام كثيرين انقطعت بهم الاسباب فى طريق الحياة ..
كان هذا العبد الواحد يزرع تلك الآمال عند كل من يصادفه فى الطريق ، ويؤكد عند كل مناسبة انه يجد نفسه فى هذه المدينة ـ الخرطوم ـ التى يسميها بالمدينة المترهلة.. كنا نماحكه فى الكلام ، بالاشارة الى ولعه بالتدخين ونقول له انك يا كمبلا ،صُنعت ( خصيصاً للسودان)..!
ظل عبد الواحد هكذا مرابطاً على حكمة لا يتذكرها الناس إلا فى الغربة ، تلك الحكمة التى تقول :( بلادى وإن جارت على عزيزة )..! كنا رهط من الشباب نتحلق حول عبد الواحد ، الفارع النحيف، الأشيب، الذي يقرأ كل ما يصادفه من ورق ..كنا شباباً يتطلع الى هجرة فى الآفاق البعيدة .. و يناصحنا عبد الواحد كثيراً بان نكون (قاعدين فى بلدنا) .. ثم يسأل ، ويجيب: (عشان شنو؟ عشان نبنيها) ..!
كان عبد الواحد على ظن مؤكد بان الحروف التى تكتب لاينتهى اثرها بافتراش ورق الصحف اليومية تحت صحن الفول عند الضُحى ، كان يظن أن الكلمات التى قيلت فى منتديات الديمقراطية الثالثة هى مداميك بناء فى دولة الرفاهية التى يحلم بها دراويش الحرية..كان يقول ان للسودان طعم هوانك تجد ( الدراويش حتى فى اليسار السوداني)..! ولاجل ذلك كان يشارك بحيوية فى كل تلك الدروشة متطلعاً الى غدٍ تضع فيه الحرب اوزارها ويعيش الناس فى بلادهم (دون صرة وش ،أو عضة جوع).. أذكره وهو يقالد صديقه الطيب صالح فى دار الكتاب السودانيين بالمقرن ،ويقول له: وين يا شيخ الطيب..!؟، ويتهامسان بجلجلة (بحة) صوتيهما فى الكلام، ويتقاطع همس الصديقين بأزيز ضحكات كطرقعة الدلو فى قعر بئر..!
دقت الساعة، وفوجئت بعبد الواحد يضرب كفاً بكف عند ذلك المنعطف الخطير ــ والذى ما زال كائناً فينا ــ فوجئت به ذات صباح يقول لي أنه يشتم (رائحة ما)..فوجئت به يضرب بكل نصائحه لنا عرض الحائط المايل ويقول :ـ ( انتو لسه قاعدين ؟ لسه ما اتخارجتو..؟!).. لم يكن مناسباً ابداً ان نحاجج استاذنا ، كيف تبدلت قناعاته فى البقاء داخل الوطن وقد أشتم رائحة حنوط الوطن يُستخرج ويعوي ــ كما الحمي القلاعية ــ من مجلس الجبهة الاربعيني..(ألم تكن أرض الله واسعة، فتهاجروا فيها)..؟
خرج منها عبد الواحد كمبال ، أنقذ نفسه من الانقاذ، فلا حياة لكريم بأرض ذل..عرفت من كمبال أن متعته فى العطاء للآخرين ، حب المساكين، ومؤانسة البسطاء، والايثار، وهو الذي لا يدخر فى جيبه حق الرجوع الى البيت .. بينما كان أهل (المكاورة) يبحثون عن الغنى ،كان عبد الواحد يبحث عن توظيف رهط من شباب الصحفيين بعقود عمل مجزية فى دول الخليج ، ويشرف على من تسفيرهم ، ويبذل روحه للمشلهتين فى الشوارع كأنه بابا نويل.. لكن ،هذه الشوارع ـ الآن ـ تدعي أنها تحب النبي !..
نفض عبد الواحد كمبال الغبار عن جواز سفره ، غادر الخرطوم ،، تركها لظلام التمكين الذي تمدد فى شهر رحيله حتى ابتلع داخليات البركس..! سافر الى الدار البيضاء، تاركاً وراءه من تبقى من تلامذته لضباع سيئة الطبع ..كان صوت عبد الواحد ياتينى بين يوم وآخر عبر إذاعة مونتكارلو يبعث فيَّ الاطمئنان،بان الفجر آت، وأن النجوم قريبة وفى متناول اليد .. كان عبد الواحد وهو المعارض الصميم يضطلع لوحده بدور وزارة اعلام لكل السودان ، يستقبل كل الزائرين فى غربته، ، يستنجد به المقطوعين فى المدن والمطارات ،يفتح الابواب المغربية امام كل زائر حتى ولو كان من الذين أخرجوه من داره..!
علمنى عبد الواحد كمبال أن أحيا فى اللحظة الحاضرة، لأن القدر الجميل قد يختبئ فى ابتسامة تلقيها ــ على قارعة الطريق ــ أمام وجه غريب، لا تعرفه..!
(طوبى للغرباء ) ،، لقد رحل عبد الواحد كمبال ، (كما ترحل قافلة ،غرقت فى الرمال)..!
هذا يوم حَزَن، ودموع..حزن ودموع..
|
|
 
|
|
|
|
عبد الله الشيخ
طارق جبريل
الفاضل يسن عثمان
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست