كتب الكاتب الفاتح جبرا المتوفرة بمعرض الدوحة
|
............... النهــــر يجري جنوباً.............(واقعية)
|
طال انتظارنا بمطار الخرطوم قبل أن تبدأ رحلتنا إلى جوبا,فقد تأخرت الطائرة المغادره إلى هناك عن موعد إقلاعها,وبعد أن أقلعت بنا شمالاً دارت يساراً كأنما أراد قائدها أن يرينا روعة إلتقاء النيلين العظيمين في عِناقهما الأبدي, وعندما استقبلت مقدمتهاالجنوب الحبيب بدت لي صفحة النيل الآبيض كما الفضة السائلة.. حلَّقتُ ببصري بعيداً أتأمل الأرض الممتدة من ضفة النيل اليسرى إلى الأفق البعيد, كانت رحلة طويلة من التأمل قطعها صوت قائد الطائرة معلناً عبورنا سماء كوستي ومن النافذة بدت لي السحب الإستوائية كتلال من القطن تمتد إلى ما لا نهاية. . . .(الأسماء التي سترد في السرد حقيقية) .......ونواصل
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: ............... النهــــر يجري جنوباً.............(واقعية) (Re: محمد فضل الله المكى)
|
يتناقص الوقت بيننا وبين جوبا وتتآكل المسافة..صور الذكريات تتزاحم في مخيلتي كلما اقتربت رحلتنا من نهايتها.. تذكرت صديقي كابتن بدرالدين (رحمه الله) الذي سافرت معه في تلك الرحلة حيث نزلت منه في جوبا وواصل رحلته الأخيرة إلى نيروبي لتقع الكارثة هناك..كان بدر يحمل لجوبا الغذاء والدواء وحليب الأطفال وكانت طائرته عندما تلامس أرضهاتقبلها بحرارة وحميمية, ويطل وجه كابتن بدرالدين كالبدر عبر نافذته يوزع الإبتسام والسلام لمستقبليه.....سقطت طائرة بدرالدين بالقرب من نيروبي.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: ............... النهــــر يجري جنوباً.............(واقعية) (Re: محمد فضل الله المكى)
|
هبطت بنا الطائرة في مطار جوباتلك المدينة الرائعة, كان الجو غائماً والسحب الإستوائية تكاد تلامس رؤوس الأشجار, وآثار أمطارٍ قد غسلت وجه المدينة قبل سويعات, ويبدوا أنها ترغب في تكريمها بمزيد من الهطل..غادرناالطائرة واتجهنا إلى صالة الوصول ثم إلى حيث المستقبلين.. صديقي(أووتو أليودا) كان في انتظاري...تعانقنا....أووتو رجل أعمال شاب وعضو بالمجلس المنتخب, وفي الزمن الأجمل كان صاحب (ديسكو)..حمل صديقي حقيبتي محتجاً على صغرها الذي يدل على قِصر زيارتي...اتجهنا بسيارته المازدا إلى المدينة ورجوته أن يدلف بي إلى فندق جوبا فاعترض بحدة وأصر على استضافتي بمنزله....شرحت له ضرورة تواجدي بالقرب من الجهات التي ترتبط بها مهمتي وإنا رهن إشارته في أي وقت فقبِل على مضض.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: ............... النهــــر يجري جنوباً.............(واقعية) (Re: محمد فضل الله المكى)
|
قلتُ أجدد بعض ذكريات حملتها معي إلى المهجر ولكنها ظلت محفورة في شغاف القلب وجدران المخيلة.. رغم تعاقب السنون....شددتُ الرحال إلى جوبا فكنت هناك في يوليو من العام الفائت..لم أجد جوبا التي تركتها قبل أعوام خلت وقد أنهكتها الحرب طويلة الأمد, والتي فاقت سنواتها النصف قرن..جوبا تجاوزت جوبا الأمس وهي تعمل بشكلٍ حثيث على استعادة وتجديد شبابها..فهى تتحول شبهاً نحو مدن شرق أفريقيا,ليس بالعمران فقط ولكن حتى البشر ..فهي تعج بخليط من (اليوغنديس) والأحباش والكينيين و(الصواميل) وأجناس أُخَر....جوبا تتمدد في حضن جبل(كجور) الذي يبدو كالشيخ الراقد على شِقِهِ الأيسر وهويحيطها من جانبها الغربي....البيوت بأسقفها القرميدية الحمراء تسلقت سفح الجبل في نظام وتناسق بديع وأصبحت تُطِل على المدينة من عِلْ ! فتبدوا جوبا من هناك بانوراما رائعة بعمائرها التي أصبحت تسابق بعضها نحو السحاب. شرايين المدينة المفعمة بالحيوية تضِج بأمواج البشر الذاهبين إلى والعائدين من الأسواق والحقول (والواكات)....الأطفال بأزيائهم النظيفة المتناسقة يسيرون في هِمة وحيوية إلى مدارسهم ليصنعون المستقبل. الشريط الممتد على ضفة نهر الجبل اليسرى لا ينام حيث تسهر صالات (الديسكو) حتى الساعات الأولى من الفجر..ينتهي يوم ليتواصل (التِرِمْ تِرِمْ) مساء اليوم التالي..بدأت جوبا تكتسب هويتها الأفريقية, إنها تُلاحِق كمبالا ونيروبي وهراري .... و..جوبا مالِك عليَّ أناااااااااااااااااااااااااا....
| |
|
|
|
|
|
|
Re: ............... النهــــر يجري جنوباً.............(واقعية) (Re: محمد فضل الله المكى)
|
على شاطىء بحرالجبل وقفتُ....الماء ينحدر شمالاً في صخبٍ وإيقاعٍ سريع إلى حيث الملتقى.. هناك حيث تتلاطم مياه النهران تعبيراً عن حرارة اللقاء والمكان منفتِحُ على السماء والرياح والعالم....عند مقرن النيلين ثمة شيء يثير الأشجان والحكايا والدهشة..كيف لا وأنت تشهد عناق الأميرة(تانا) والملكة(فكتوريا).. لتصبحا روحان في جسد واحد يتجه إلى بلاط الملكة (الكنداكة)..هناك حيث ترف الضيافة النوبية. أيها الواقف على أيّ الضفتين إسترق السمع إلى ذلك الصوت الآتي من أعماق(توتي) والليل القديم يلملم أطرافه إيذاناً بالمغادرة....صوت أرقان هدّه السهر يردد مقطع من تراتيل نوبية قديمة:
أيها الأتي من غياهب الكون ياسليل الفراديس قد جلونا لك عروساً ملكية تتحرق شوقاً للقاك الكهنة يترنمون بمفردات الطقس الإلهي المواكب الملكية ومواكب الدهماء أتت من كل فجٍ عميق لتتبرك بمياهك الذهبية حتى لا تغضب علينا وتعكس جريانك فيأتينا ماؤك العذب ملحاً أُجاج !
| |
|
|
|
|
|
|
Re: ............... النهــــر يجري جنوباً.............(واقعية) (Re: محمد فضل الله المكى)
|
مريدي....جوبا....أطلع يرّه!
آه من العشق الكامن لمحطات ومدن وأمكنة قد لا يطويها النسيان أو التناسي..وقد يصبح في كثير من الأحايين شيء من النشوة التي تعترى الإنسان بين النوم واليقظة....شيء بين الوعي واللا وعي ولكن.. تظل تلك الأمكنة تواصل حفرها عميقاً في القلب والذاكرة لتصبح جزءاً من الشعور والإحساس في كل لحظة مُعاشة و ملونه بكل ماهو جميل, بحر الجبل يواصل عطاءه الصاخب وهو يتمدد شمالاً دون وقفةلإلتقاط الأنفاس, أو لجرد حساب ذلك العطاء المتجذر لقرون خلَت لا يدري المؤرخون له بداية, ولن تسعفهم الذاكرة بمتى يتوقف.
في سكون الليل البهيم....يأتيك صوت السهارى من الضفة .... من حديقة البلدية أو كازبنو المقرن أو حديقة الرفيرا لا فرق.. فالصوت واحد..الصوت واحد..الصوت.............
النهرُ يطفحُ بالضحايا..بالدماءِ الغانية!!
| |
|
|
|
|
|
|
|