|
المستشفيات الخاصة فى السودان : قيم معطلة وقصر مشيد !
|
إتهم مواطن مستشفى خاصاً بالخرطوم بالتسبب في وفاة ابنه البالغ من العمر تسعة أشهر بنزع جهاز الأوكسجين المنقذ للحياة عنه، لعجزه عن سداد رسوم العلاج التي تبلغ في اليوم (800) ألف جنيه. وقال إنه تم منعه من الخروج بالجثة ما لم يسدد نفقات العلاج التي بلغت في مجملها مليونين وسبعمائة ألف جنيه، مما اضطره لكتابة تعهد للتمكن من اتمام مراسم تشييع طفله. هذا الخبر الذى أوردته صحف الخرطوم قبل أيام ,وأورده الأخ بكرى بالمنبر, والذى تباشر الجهات المختصة التحقيق فى صحته , لا ينفصل من الشكاوى العديدة التى يجأر بها الناس من المستشفيات الخاصة ,وإتهامهم لها بإستنزاف المرضى وذويهم ماديا وبطريقة لا تمت إلى أخلاقيات المهنة الطبية بصلة. إبتداءا , لا يختلف إثنان على أن الطب مهنة إنسانية ورسالة سامية مقصدها الأول صيانة حياة الإنسان وحفظها,ولما كان هذا هو الهدف الأول والأسمى للطب , كانت الأهداف الأخرى دائما فى أدنى إهتمامات الأطباء. ولكن , مع الذى نراه الآن من تسابق بعض كبار الأطباء وبعض رجال الأعمال لجعل الطب تجارة تزيد بها دخولهم وتزدهر بها إستثماراتهم , يبدو إن هذه المفاهيم قد تغيرت , وإن أخلاقيات مهنة الطب قد أتيت من بعض ممن يفترض بهم أن يذودوا عن حماها. وقد إكتشف التحالف الذى قام بين بعض رجال الأعمال وبعض الأطباء , أن إنشاء المستشفيات الخاصة مضمون العائد والنتيجة , فعمد الكثير منهم لهذا الإتجاه الذى أولد عددا كبيرا من هذه المؤسسات تركز معظمها فى مدن العاصمة الثلاث. لا ننكر أن سياسات الدولة تجاه الصحة, التى أصبحت فى أدنى إهتمامات أصحاب المشروع الحضارى , للدرجة التى إنخفض فيها إنفاق الدولة على الصحة لأقل من دولار لكل مواطن فى السنة ( حسب تصريح لوزيرة صحة سابقة), لا ننكر أن هذه السياسات ,و ما صاحبها من تضييق على الأطباء ومصادرة حقوقهم النقابية ومن ثم هروب عدد كبير منهم خارج السودان, قد أدى إلى تدهور مريع فى الخدمات الصحية فى السودان , مما أدى بالقادرين إلى البحث عن الخدمات الصحية خارج المستشفيات الحكومية التى تحولت إلى أماكن لا تليق بالإنسانية على مستوى البيئة والخدمات. هنا , نشأت المستشفيات الخاصة فى البداية كرد فعل لعدم قدرة المستشفيات الحكومية على تقديم خدمة لائقة الشكل والمضمون , قبل أن تصبح بقرا حلوبا يدر على القائمين عليها الربح الوفير. الغريب أن هذه المستشفيات الخاصة لاقت الدعم والتشجيع الرسمى وإشادات المسؤولين الذين ما فتئوا يحدثوننا فى حفلات الإفتتاح البهيجة بأن هذه خطوة عظيمة فى إطار (رفع المعاناة) عن المواطنين وتوطين العلاج بالداخل , ناسين أو متناسين أن هذه المستشفيات لم تقم لخدمة المواطنين الذين قال هؤلاء المسؤولين أنهم جاؤوا لإنقاذهم, وأن الدخول لهذه المستشفيات يحتاج لجيب ملئ وحساب بنكى متخم , وألا قذف بك رجال الأمن ذوى الكرفتات خارجا! الأخلاق الطبية فى المستشفيات الخاصة : سعى هذه المستشفيات إلى الربح , أو على الأقل تغطية نفقات التسيير , وتنافسها الحاد فى ما بينها , أدى إلى تحولها شيئل فشيئا إلى ما يشبه فنادق الخمس نجوم, وتحولت إلى أدوات جباية همها الأول جمع أكبر قدر ممكن من مال المريض أو الجهة المخدمة له , كانسة فى طريقها كل الأخلاق الطبية المعروفة التى توصى بعلاج المريض بغض النظر عن دينه ولونه وماله,ولا نحتاج لأن نقول مرة أخرى أن لا مكان للفقراء فى أجندة هذه المستشفيات , فالمستشفى تقيم علاقتها مع حالة المريض المالية أكثر من حالته المرضية. يتم إستنزاف المرضى فى هذه المؤسسات عبر مجموعة من الطرق : الفحوصات باهظة الثمن,إستدعاءات الإختصاصيين ورسوم مرورهم اليومى على مرضاهم,ناهيك عن تكلفة العمليات والعلاج والإقامة التى تقفز بالفاتورة إلى أرقام فلكية. ليس هناك مشكلة ما دام هناك من يعلم بالتكاليف العالية لهذه المستشفيات ويذهب إليها طائعا مختارا, ولكن ما يقلق حقا ألا يحس رجال الدولة , الذين يتلقون علاجهم بطبيعة الحال فى المستشفيات الخاصة, بما يلقاه وما لا يلقاه مواطنيهم فى مستشفيات الدولة,وأن يصبح هدر المستشفيات الخاصة للقيم الطبية هو قيمة فى حد ذاته , وتنشأ أجيال جديدة من الأطباء تتخذ من الطب مطية للثراء على ديدن بعض أساتذتها . وكما ذكرنا , فقد أدى هذا السعى المحموم للربح لتجاوزات خطيرة فى أخلاقيات المهنة تعج جعبتنا بالأمثلة المؤسفة عليها , مثل الإمتناع عن علاج المرضى غير القادرين , ولجوء بعض الإختصاصيين إلى عمل رسم دخول عادى وآخر مستعجل للقادرين ممن لا يحبون الإنتطار , وغير ذلك مما لا نحب تفصيله. حضرت إحدى السيدات فى حالة ولادة طبيعية إلى المستشفى الخاص الذى قامت بمتابعة الحمل فيه مع الإختصاصى الذى يملكه. إلا إن السيدة المذكورة تعرضت إلى تقدم الحبل السرى , وهى حالة طارئة تستدعى التدخل الجراحى السريع لإنقاذ الجنين, وبالفعل حضر الإختصاصى المذكور وأمر بتجهيز المريضة لعملية قيصرية مستعجلة , وكانت الطامة الكبرى عندما علم أن المريضة لا تملك ملايين العملية وأنها تملك فقط رسوم الولادة الطبيعية, فما كان منه إلا أن أمر بتحويلها ألى أقرب مستشفى حكومى , وأمر بتجهيز مريضة أخرى معدة سلفا لعملية قيصرية باردة مدفوعة الرسوم بالطبع ! ولم يكلف الإختصاصى المشهور نفسه عناء الإهتمام بوسيلة إيصال المريضة أو السؤال عنها بعد ذلك! وهذا يؤكد ما ذكرنا من أن المستشفيات الخاصة تقيم علاقتها مع جيب المريض لا حالته الصحية! حتى الاطباء لم يسلموا من غلواء بعض زملائهم , فالطبيب يعامل من المستشفيات الخاصة وأطبائها معاملة( الزبون) العادى! أحد زملائنا ذهب بأخته إلى أحد الإختصاصيين الذى سبق ودرسه فى الجامعة , وبعد أن دفع رسوم الكشف كاملة قدم للإختصاصى المذكور شرحا ضافيا لحالة أخته بالمصطلحات الطبية , ولم يبد على الإختصاصى الذى خشى على قيمة التذكرة أنه قد أدرك أن محدثه طبيب , وفى النهاية مد لزميلنا ورقة قائلا : يا (أستاذ!) أختك دى محتاجة لبعض الفحوصات! وقد ذكرنى ذلك بحكاية ساقها الجاحظ للتدليل على بخل أهل مرو , فقد ذكر أن أحدهم زار صديقا له فى مكة فرحب به أشد ترحيب , وأكرمه أيما إكرام , فقال له وقد آذن بالرحيل : ليتك جئتنا فى مرو فنرد لك بعض صنيعك! وصادف أن ذهب المكى لمرو, وتذكر صديقة فذهب ليزروه , فلما رآه ينظر له نظرات المنكر خلع عباءته لظنه أنها غيرت شكله ,و لما لم يعرفه المروزى خلع العمامة , فالقلنسوة ولما هم بخلع الجبة قال له المروزى : يا هذا والله لو خرجت من جلدك ما عرفتك ! ما ذكرناه غيض من فيض , وكل هذا يوجب تدخل وزارة الصحة والمجلس الطبى الذى يعترف مسؤولوه فى ثنايا الخبر الذى إبتدرنا به المقال أن أمامهم الآن (4) اشكالات بهذا النحو بين مواطنين ومستشفيات خاصة بسبب نفقات العلاج. فلماذا لا يتدخل المجلس لمراجعة شاملة لأداء هذه المستشفيات وما تقدمه من خدمات وإستحقاقية هذه الخدمات للرسوم العالية التى تدفع إزاءها , حتى لو تطلب الأمر وضع تعريف موحدة للفحوصات و العمليات الطبية المختلفة فى كل المستشفيات الخاصة , للحد من تحول الطب فى السودان , بعد كل تاريخه الناصع , لسلعة إستثمارية ووسيلة للثراء وجمع الأموال, على حساب القيم والمثل التى يحفظها كل طبيب من أيام دراسته بكلية الطب .
|
|
|
|
|
|