|
|
 هل اختار الجنوبيون الوحدة بالفعل في مؤتمر جوبا وما بعده؟
|
إذا قادتك قدماك لأي ندوة أو أي منبر عن قضية الوحدة والانفصال بعد أن أصبح الحديث ممجوجاً عنهما بعد قرب ميلاد دولة الجنوب، وإذا وقعت عيناك على مقال حول جدل الوحدة والانفصال فإن أولى الحجج التي تقابلك لدعم خطة الوحدة هي أن الجنوبيين منذ مؤتمر جوبا قد اختاروا شمال السودان على ما سواه من الخيارات التي كانت مطروحة بأن يكون الجنوب دولة قائمة بذاتها أو أن ينضم إلى إحدى دول شرق إفريقيا «كينيا وأوغندا على وجه التحديد» كما هي خطة الإدارة البريطانية نحو جنوب السودان في ذلك الأوان.
الإيمان بهذه المقولة التي أصبحت راتبة ورتيبة في نفس الوقت يستدعي منا النظر في مجمل الأجواء السياسية في ذلك الأوان الذي زعم فيه اختيار الوحدة. فلو كان الإنجليز بحق والذين عُقد مؤتمر جوبا في عهدهم لو كانوا بحق يريدون لجنوب السودان أن ينضم لشماله كما نشروا في توصيات مؤتمر جوبا لما سنوا قانون المناطق المقفولة أصلاً ولما أنشأوا المجلس الاستشاري 1943م وخصوا به شمال السودان دون جنوبه ولما أسندوا عملية التعليم للإرساليات التبشيرية بدلاً من وزارة المعارف ولما عقدوا مؤتمر الرجاف 1928م الذي قرروا فيه كتابة اللهجات المحلية للجنوب بالإنجليزية فهل يُعقل بعد كل ذلك أن يفاجأ الناس في مؤتمر جوبا 1947م بالوحدة خياراً أوحد للجنوب؟!، بالطبع هذه نتيجة غير منطقية لتلك المقدمات الإنفصالية.
السودان دون سواه كان حالة غريبة من الاستعمار حيث إنه خضع نظرياً للحكم الثنائي وتحت علم دولتين، رغم أن السلطة الفعلية كانت لدى البريطانيين ولم يعط المصريون سوى الرتب الدنيا في الإدارة.. لكن المهم في الأمر هو ليس رتب المصريين في الحكم ولكن المهم أن الإدارة البريطانية كانت تأخذ قراراتها وعينها على مواقف مصر السياسية، فقبل سنة واحدة من مؤتمر جوبا أي العام 1946م كانت مصر قد أعلنت على لسان صدقي أنها قد حازت على سيادة السودان فيما عُرف في ذلك الوقت ببروتكول صدقي بيفن الذي خضع لعدة تفسيرات من قبل المصريين والإنجليز كلّ يفسره على هواه، ولسنا هنا في مقام التطويل حول وجهات نظر الدولتين حول هذا البروتوكول ولكن نريد القول إن هذا هو الجو الذي عُقد فيه مؤتمر جوبا بغية إظهار الجنوب بمظهر المتحد مع الشمال رداً على المصريين كي يظل الجنوب عامل شد وجذب في إطار الحديث عن وحدة وادي النيل التي رفعت شعاراتها في ذلك الوقت. فلو أجمع الشمال كله على الوحدة مع مصر فإن إقليم الجنوب سيرفض وهو جزء من السودان الموحد، هذه ببساطة هي قصة ذلك المؤتمر.. ولسنا في حاجة إلى إرهاق أنفسنا في سبيل إثبات أن الجنوبيين لم يختاروا الوحدة في ذلك المؤتمر، فقد ذكر السير جيمس روبرتسون الذي كان يشغل منصب السكرتير الإداري حينها وقد رأس ذلك المؤتمر ذكر في مذكراته التحول في إفريقيا Transition in Africa ذكر أن قرار اختيار أهل الجنوب للوحدة كان قراره هو وليس قرار الجنوبيين، فقد قطع بذلك قول كل خطيب.. وكيف يستطيع سبعة عشر شخصاً من زعماء قبائل الجنوب وهم الذين مثلوا الجانب الجنوبي في ذلك المؤتمر كيف يستطيعون تحديد مصير إقليم بحجم دولتي كينيا وأوغندا.
لكن لنفترض أن مؤتمر جوبا عبّر عن رغبة صادقة للجنوبيين في الوحدة، فلماذا تغيرت أجندة الحركة السياسية الجنوبية بعد ذلك وأطلت المطالبة بالانفصال بوجهها طيلة العقود الماضية، صحيح أن ذلك المطلب لم يكن من كل أحزاب الجنوب وحركاته المسلحة لكنه على كل حال ظل حاضراً في المفاوضات والمساجلات حول مشكلة الجنوب.. فقد طالب به حزب الأحرار وهو أول حزب جنوبي تم إنشاؤه، طالب بذلك قبيل الاستقلال، وقد قرر النواب الجنوبيون إثارة ذلك الأمر في البرلمان لاحقاً والمطالبة بحق تقرير مصير الجنوب كوحدة سياسية قائمة بذاتها، وأثناء أحداث التمرد الاولى في الخمسينيات كانت المناداة من قبل المتمردين في الغابة بالاستقلال وطرد الشماليين بالصوت العالي في أحراش الجنوب.
في منتصف الستينيات عقد مؤتمر المائدة المستديرة كأول تجمع سياسي سوداني بالداخل يناقش مشكلة الجنوب بصورة مفصلة وأيضاً كانت الأجندة الانفصالية حاضرة حيث انقسم حزب سانو لشقين أحدهما بالداخل بقيادة وليم دينق والآخر بالخارج وهو الذي قاده أقري جادين، وهذا حضر الجلسة الاولى للمؤتمر ثم عاد للغابة مطالباً بالانفصال، بل إن جناح أقري جادين مع الأحزاب الجنوبية الأخرى كونوا حكومة في المنفى عُرفت بحكومة أنقيدي أو حكومة النيل وهي حكومة ظل لجنوب السودان حتى ينال استقلاله الكامل.
الحركة السياسية في السودان وفي العالم كله متحركة تتغير أجندتها بين الحين والآخر وهذا ما ينطبق على مشكلة السودان الأولى مشكلة الجنوب التي تحركت أجندتها بصورة مستمرة من المطالبة بالفدرالية إلى المطالبة بالانفصال، وتشابكت المشكلة ودخلت فيها أطراف إقليمية ودولية وأصبحت مرتعاً خصباً لتطفل الآخرين ومبرراتهم ودخلت المناطق الثلاث في صلب المشكلة ودخل البترول ودخل مشروع السودان الجديد وهكذا مشكلة الجنوب أصبحت كل حين هي في شأن جديد لا تكاد تستقر على شيء.. لذا طالما أن الأجندة متحركة فالحلول أيضاً متحركة، ولا يجدي في ذلك أن نستعين بتوصيات مؤتمر عُقد قبل أكثر من ستين عامًا ونقول إن الجنوبيين قد اختاروا الوحدة ابتداءً من مؤتمر جوبا 1947م فالأمر ليس بهذه البساطة حتى نحكم على المزاج الجنوبي بأنه مزاج وحدوي كامل الدسم، وقد أثبتت الأيام صحة ما نقول واتجه الجنوب كله نحو الانفصال.
فخيال المواطن الجنوبي أو قيادته ليست وحدوية المزاج لكن أهل الجنوب لم ينالوا فرصة لتقرير مصيرهم، وحينما وجدوها لم يضيعوها، وها هم الآن يتجهون جنوباً وقد أكدت ذلك كل التقارير الواردة من هناك، فلا أحد يتحدث عن الوحدة، وكما أن هنالك تهيئة كبيرة في الشمال من أعلى القيادة لذلك الأمر كما هو تصريح البشير أنهم قد ضحوا بالجنوب من أجل السلام حسب ما أشار لذلك رئيس الجمهورية في أعمال مجلس شورى الحزب الحاكم، ولما صرح قبله نائبه علي عثمان بأن الانفصال لا يعني أن القيامة قد قامت في السودان.
لا طائل من الحديث عن كوارث قد تقع بعد الانفصال إن كل الحركة السياسية شمالاً وجنوباً قد تواثقت واتفقت على حق تقرير المصير في فرانكفورت 1992م وأسمرا 1995م ونيفاشا 2005م، فإذا كان الأمر فيه نتائج كارثية فلماذا وافقنا على هذا البند أصلاً طالما أنه يقودنا إلى الهاوية.
يجب ألا يدخل الناس في حرج إذا ما أعلنت الدولة الجديدة في يناير المقبل فالأمر يجب أن يتجاوز مرحلة العاطفة إلى مرحلة الواقعية، فمثلما تجاوزنا المطالبة بالفدرالية إلى إعطاء الجنوب حق الانفصال فيجب أن نقبل وبصدر رحب ما يختاره أهل الجنوب «إن العهد كان مسؤولاً».
السودان هذا بلد واسع يكفيك أن تركب سيارة من الخرطوم للقضارف أو من كسلا إلى بورتسودان أو من عطبرة إلى دنقلا أو من الأبيض إلى كادوقلي لتدرك أن هذا الوطن أوسع مما نتصور وأنه يكفي ويزيد حتى لو أصبح سكان السودان مثل سكان أندونيسيا، فقط فنحن الذين نسيء إدارة مواردنا ونركز الخدمات في المركز فنرى الوطن ضيقاً.
أيها السادة الله لطيف بعباده وهو القادر على أن يعوضهم عن بترول الجنوب ببترولات أخرى، وهل كان السودان يعيش على البترول قبل العام 2000م أو لم تفقد الميزانية نصف أموال البترول منذ العام 2005م.
حركة الدول وحدودها وجغرافيتها وتاريخها ليست أمراً جامداً، والله لم يخلق العالم كتلة واحدة أو بضع دول وإنما خلق أرضاً واستخلف فيها البشر إن شاؤوا جعلوها عشر دول وإن شاؤوا مائة وإن شاؤوا ألفًا، والله لم يحرم حق تقرير المصير يا أهل حزب التحرير الذين يتعاملون مع هذا الأمر بنظرية الحلال والحرام.. ولنا عودة لهؤلاء.
كمال أحمد يوسف
|
|
  
|
|
|
|
وليد الطيب قسم السيد
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست