مع إبراهيم أصلان: المبدع في قمة نضجه

كتب الكاتب الفاتح جبرا المتوفرة بمعرض الدوحة
مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-12-2024, 09:33 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الرابع للعام 2010م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
12-02-2010, 00:57 AM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
مع إبراهيم أصلان: المبدع في قمة نضجه

    sudansudansudansudansudan49.jpg Hosting at Sudaneseonline.com
                  

12-02-2010, 01:03 AM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مع إبراهيم أصلان: المبدع في قمة نضجه (Re: عبد الحميد البرنس)

    من (خلوة الغلبان):
                  

12-02-2010, 01:04 AM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مع إبراهيم أصلان: المبدع في قمة نضجه (Re: عبد الحميد البرنس)

    مساء قديم



    ليت أسماء تعرف
    أن أباها صعد
    لم يمت..
    هل يموت الذي 'يحيي'
    كأن الحياة أبد؟'


    أمل دنقل




    اتصلت بي المخرجة الصديقة عطيات الأبنودي لتخبرني بأن أسماء ابنة صديقنا الكبير الراحل يحيي الطاهر عبدالله سوف تكمل العشرين في اليوم الأول من العام 1997، وأنها، عطيات، سوف تحتفل بها، ثم تقيم حفلا آخر في اليوم الثالث من الشهر ذاته يبدأ في الثانية عشرة ظهرا وحتي منتصف الليل، من أجل أصدقاء يحيي القدامي وأبناء جيله.
    وعادت بي الذاكرة إلي واحدة من سهرات الصيف الأخيرة التي جمعتني والعزيزين أمل دنقل ويحيي الطاهرة عبدالله.
    كان أمل قد تركنا في منزلي بالكيت كات وذهب بدعوي أنه سوف يقترض شيئا يفي بتكاليف السهرة من صديقنا محسن رسام الكاريكاتير الذي كان يسكن بمدينة العمال بإمبابة ثم يعود. إلا أن أمل ذهب، وكما توقعت، لم يعد. وبينما نحن في انتظاره اقترح يحيي عليٌ أن نقوم بإنشاء تنظيم سري يكون هدفه الأساسي الاستيلاء علي السلطة.
    كانت البلد في ذلك الوقت ممتلئة بالتنظيمات السرية، إلا أن يحيي لم يكن راضيا عنها وله عليها تحفظات عدة، وكنت من ناحيتي راغبا في الاستيلاء علي أي سلطة دون المساهمة في تأسيس تنظيم سري أو تأسيس أي شيء آخر. ولم يكن أمامي إلا أن أعطي الموضوع حقه من التفكر دون أن يبدو عليٌ أي رد فعل واضح سواء برفض هذا العرض الجديد أو قبوله. كنت أعرف أن يحيي يعرف أنني أقل منه قدرة علي الاقتحام وأكثر تحفظا (معرفته تلك جعلته يبالغ دائما فيما يعرضه علي من اقتراحات) إلا أن ما يظن فيٌ كان صحيحا بطبيعة الحال. كان مقبلا، حادا، معتزا بموهبته الكبيرة. وفي الوقت الذي لم أكن أجرؤ مثلا علي قراءة قصة لي في أي جمع من الناس، كان هو يحفظ قصصه عن ظهر قلب ويرويها في كل مكان وعلي أي ناس، حتي علي أولئك الذين كان يلتقيهم علي نحو عابر في مقهي عوض الله بالكيت كات حيث كان يزورني، والذين، لدهشتي، تعلقوا به ولم يكفوا أبدا عن سؤالي عنه. كان شبيها بجهاز لايكف عن الإرسال إلا قليلا بينما أنا مستغرق في حال من الاستقبال معظم الوقت، كما كان يمتلك ما أظنها أفضل لغة قص بين أبناء جيلنا كله. لم أعرف أبدا كيف جاء بها، ومازلت حتي الآن أشعر بأنني قادر علي أن أمد طرف لساني وأتذوق طعم كل كلمة من كلماته علي حدة.
    كان يحيي يعرف حدودي الشخصية إذن، ولما كنت أحد شواغله، فقد كان ميالا، بين وقت وآخر، إلي وضعي أمام بعض المسئوليات ذات الطابع القومي المحرجة التي لم أكن أملك حيالها سوي الاعتذار، الأمر الذي كان يكشف مدي تهاوني ويمنحه بعض النقاط التي ترضيه، رضاء صامتا (كنت ألمح ذلك في عينيه الذكيتين) إلا أنني كنت أعرف كيف أقتص وأخلص نفسي دون أن أحرمه تماما هذه المتعة، معللا نفسي بأنها واحدة من المتع التي لابد وأنها زائلة.
    مرة، كنا عائدين من مبني الإذاعة والتليفزيون، وعرجنا نشرب زجاجتين من البيرة في مشرب قديم كان علي ناصية 26 يوليو وماسبيرو، قبل أن نتجه سيرا إلي الكيت كات لكي يوصلني ويتجه بعدها إلي مدينة العمال. عندما وصلنا وقفنا نتفق علي موعدنا القادم، وطلب مني أن لا ألتفت ورائي. قال أن عنصرا من أمن الدولة تتبعنا من التليفزيون وجلس خلفنا في المشرب وهو واقف ورائي الآن يراقبنا، وحدق في عيني وقال:
    'خليك عادي، وما تبصش وراك أبدا'.
    لم أستطع منع نفسي من النظر، والتفت علي الفور.
    كان الرجل الواقف عند سور جامع خالد بن الوليد هو الأوسطي جمعة العجلاتي الذي أعرفه جيدا هو وزوجته وأولاده باعتبار أن دكانه كان حجرة مفتوحة في مسكنه القريب من مسكني. ويحيي استنكر التفاتي إلي الوراء وقال:
    'ياحبيبي ياخويا، إللي عملته ده غلط'.
    أخبرته إنني:
    'ما قدرتش'.
    وسألته ماذا نفعل الآن؟
    هز دماغه وقال:
    'بعدين، بعدين. المهم دلوقت إن كل واحد يمشي من ناحية'.
    وفكر وقال:
    'إطلع انت من شارع السوق، وانا حاطلع من علي البحر'.
    وكان هذا هو طريقنا الطبيعي الذي سوف نسير فيه دون أن يلاحقنا أحد.
    عندما التقينا بعد ذلك أخبرني أن عنصر أمن الدولة تبعه حتي بيت محسن الرسام ولكنه استطاع أن يضلله، وسألني:
    'مالك؟'.
    قلت:
    'أبدا'.
    ابتسم في وجهي ابتسامته الماكرة وقال:
    'لأ. انت من ساعة ما عرفت ان المباحث بتراقبنا وانت تعبان'.
    حاولت من ناحيتي أن أبدو تعبان فعلا. قال بلهجة جادة:
    'كلنا في الأول بنخاف. المهم انك تكون حريصا جدا'.
    وأنا شعرت بالقلق وهززت رأسي موافقا.
    لقد استطاع يحيي في سنواته الأخيرة أن يضيق المسافة القائمة بين حال الدنيا وحال المخيلة، حتي انتهي به الأمر إلي خلق حالة فنية مدهشة صارت هي عالمه فعلا. لم يعد بوسع أحد منا أن يعرف أين ينتهي ما هو واقعي عنده وأين يبدأ ما هو متخيل. أمل كان يعرف (أنا واثق من ذلك بسبب من تلك النظرة التي كان يرمقني بها من وراء يحيي).
    في قلب هذه الحالة (المسافة القائمة) تزوج يحيي وأنجب أسماء التي راح يتجول بها، وهي علي كتفه أغلب الوقت، بين المقاهي والندوات والبيوت والحانات، وهي الحالة التي كتب فيها درته الباقية (حكايات الأمير) وصادق فيها الباحثة الأجنبية ورافقها في السيارة ولقي مصرعه.
    كان في ذروة الحيوية والتألق.
    وأنا أراه الآن مع هذه الكلمات.
    أصيب يحيي بكسر في قاع الجمجمة، وكانت أسماء برفقته، طفلة في الرابعة تقريبا، جلست إلي جواره وهو ينزف حتي مات.
    وأنا رأيت أسماء طالبة الآداب قبل عام.
    زهرة برية، جسورة وهيفاء،
    ولمحت يحيي يطل عليٌ من عينيها الجميلتين.


    يونيو 1997
                  

12-02-2010, 01:06 AM

حيدر حسن ميرغني
<aحيدر حسن ميرغني
تاريخ التسجيل: 04-19-2005
مجموع المشاركات: 25117

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مع إبراهيم أصلان: المبدع في قمة نضجه (Re: عبد الحميد البرنس)

    سلامات يابرنس

    _________
    مشاويرك الجميلة القديمة
                  

12-02-2010, 01:50 AM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مع إبراهيم أصلان: المبدع في قمة نضجه (Re: حيدر حسن ميرغني)

    هي جميلة بالفعل، يا حيدر. تلك المشاوير التي نؤسس عبرها ذواتنا على نحو حاسم. كنت قد غادرت جامعة الزقازيق للتو، وكان إبراهيم أصلان وقتها مسؤولا عن القسم الثقافي في مكتب جريدة الحياة اللندنية بالقاهرة، حين قدمني إليه ككاتب شاب الصديق والناقد الجاد الدكتور صلاح السروي الذي فرغ حديثا آنذاك من أطروحته في المجر حول مقولات جورج لوكاتش النقدية وتلميذه إن جاز التعبير لوسيان غولدمان. قال لي إبراهيم لحظتها عبارة أسرتني مرة واحدة وإلى الأبد "نحن تحكمنا هنا جودة المادة". كان ذلك بمثابة مركب نوح في بحر متلاطم من رغائب الوصول بلا ثمن. وتمر السنوات، ألتقي إبراهيم على نحو منتظم إلى أن ألقى بي المنفى إلى كندا لسبع سنوات. وحين عدت أخيرا، كما تكشف الصورة أعلاه أثناء حفل زفاف ابن أصلان شادي خلال صيف هذا العام، وجدت تداعيات تلك الأزمة بادية على كيانه كله. كان المكان ضاجا برفقاء إبراهيم من جيل الستينات في مصر. وبلا تمييز بدءا من إبراهيم، مرورا خيري شلبي وانتهاء بإبراهيم عبدالمجيد كانت بصمات الزمن واضحة تماما على مُحيّاهم. كنت قبلها قد فرغت للحين من رثاء الطيب صالح.
                  

12-02-2010, 02:10 AM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مع إبراهيم أصلان: المبدع في قمة نضجه (Re: عبد الحميد البرنس)

    'جاك حسون' و 'خلوة الغلبان'


    قال:
    'أنا جاك.. جاك حسون'.
    لم يكن الاسم يعني لي أي شيء. قلت:
    'أهلا'.
    كنا في بيت الكتاب الفرنسيين حيث استضافونا مساء اليوم الأول من وصولنا: الراحلة لطيفة الزيات وبهاء طاهر ومحمد البساطي وجمال الغيطاني وسلوي بكر واحمد عبدالمعطي حجازي ومحمد عفيفي مطر وعبدالمنعم رمضان ونبيل نعوم وابراهيم عبدالمجيد، وكانت هناك مائدة رئيسية ممتدة ازدحمت بالمأكولات الخفيفة الملونة والزجاجات الداكنة وراءها مجموعة من الفتيات الجميلات، بينما تفرقنا نحن حول طاولات صغيرة، ومعنا أعداد من الرجال والنساء الذين يكلموننا ونكلمهم من دون أن يعرفوننا غالبا، أو نعرفهم.
    كان الرجل 'حسون' الذي يجاورني يقوم ويقعد ويملأ لي الكوب كلما فرغ ويدفعني بكتفه ويقول أن سعادته اليوم كبيرة جدا، ثم صاح:
    'أنا مصري'.
    التفت إليه ولاحظت وجهه الطفولي وملامحه المريحة الطيبة. وسألني:
    'حضرتك منين في مصر؟'.
    أخبرته أنني من منطقة 'الكيت كات' في 'إمبابة'.
    قال:
    'أنا من خلوة الغلبان'.
    'خلوة الغلبان؟'
    'طبعا'.
    وسكت.
    أدهشني الاسم.
    كدت أفيق مما أنا فيه، ولكنني انتهيت إلي ضرورة البدء، في أقرب فرصة ممكنة، بكتابة رواية أسميها 'خلوة الغلبان'. وسألته عن مكانها فقال أنها قريبة من المنصورة، وأخبرني أنه بعد غياب حوالي أربعين عاما عاد إليها، ورآها.
    'خلوة الغلبان؟'
    قال:
    'تمام كده'.
    وراح يحكي كيف أنهم، عندما غادروا مصر، كان في السادسة عشرة من عمره (علي ما أذكر) وأن شقيقته كانت في الرابعة. أخبرني كيف أن أباه طلب منه، عندما يموت، أن يأتي بحفنة تراب من مصر وينثرها علي قبره. وفي شيء من الأسي قال، دون أن تختفي ابتسامته، أنه لم يلحق، ثم اتسعت هذه الابتسامة وهو يضيف أنه استطاع أن يلحق أمه، عندما ماتت، ونثر التراب الذي أحضره من مصر علي قبرها.
    'الكلام ده إمتي'.
    قال:
    'من سنتين'،
    وصاح:
    'بعد أربعين سنة'.
    أرادت شقيقته أن تري البيت الذي ولدت فيه، أخذها وعاد إلي مصر سائحا. سافر إلي المنصورة وسأل عن (خلوة الغلبان) فدلوه إليها، وهناك راح يبحث عن بيتهم القديم، كان يعرفه من وجود خرابة مجاورة له، القرية تغيرت، لكن البيت كان موجودا. أخبرني أن الخرابة كانت كما هي، وأنه رأي القضبان التي كان يطل من ورائها وهو صغير، ليتابع ظهر أبيه وهو يبتعد في طريقه إلي العمل حتي يختفي (كان يعمل قراضا للتذاكر في مصلحة السكة الحديد)، وأنه عاد وشقيقته، بعدما رأت البيت الذي ولدت فيه، إلي باريس مرة أخري، وضرب بيده علي المائدة وانتابته حالة من الهياج الحقيقي وصاح:
    'مصر. مصر الجميلة'.
    وملأ كوبي وقال أن إسرائيل هي التي أفسدت كل شيء:
    'أقول لك هذا الكلام مع أنني يهودي'.
    فوجئت وأصابني ما يشبه الوجل وأفقت تماما.
    ظللت صامتا في مكاني حتي غافلته وملت علي أقرب أذن صادفتني وهمست:
    'علي فكرة، الراجل اللي قاعد جنبي، يهودي'.
    وجاءني صوت صاحب الأذن:
    'وايه يعني؟ كل الناس اللي معانا هنا، يهود'.
    رحت أعيد النظر في الرجال والنساء من حولي وخيل إلي أنهم يتأملونني فعلا أكثر مما يجب. ورأيت أن أغير موقعي. استأذنت من حسون وذهبت لكي أري نهاية محاولة التمرد التي قام بها محمد البساطي بعد ما وضعته تحت وصايتي فور نزولنا أرض المطار، باعتبار أن زيارته الأولي لباريس لايمكن أن تتساوي وزيارتي الثانية لها. فقد حدث أن أحد الزملاء أخذه من جواري لكي يقدمه إلي الكاتبة المصرية المقيمة في فرنسا أندريه شديد، وقام البساطي فرحا كمن نال استقلاله حديثا، وكان الزميل قد انتهي من تقديمه فيما وقف هو، البساطي، يخبرها كيف أنه سعيد جدا بلقائها، وأنه قرأ كل أعمالها التي ترجمت ونشرت في سلسلة (روايات عالمية) التي تصدرها الهيئة العامة للكتاب وأنها أعجبته، ليس وحده في الحقيقة ولكنها أعجبت أبناء الجيل كله، أردت دفعه خلسة لكي أنبهه إلي أنهم لم يترجموا لها إلا رواية واحدة، ولكن السيدة جنبتني مشقة المحاولة إذ وجدتها، وقد أنصتت في هدوء، تستفسر عن معني الكلام الذي تسمعه الآن، وهو، البساطي، أوضح لها ما يقصده، وهي علقت أنها ليست السيدة شديد، ولم تلتق بها أبدا.
    كانت محنة، وأوضحت للبساطي أن صدمة حضارية من هذا النوع يمكن استيعابها، وتركت له حرية الاختيار بين الوقوع في مثل هذه الفضائح أو العودة إلي الالتزام بنصائحي. أما الزميل صاحب المبادرة فلم يتعرض للمؤاخذة بعدما تبين أنه ظل يعتقد أن أي امرأة تتكلم العربية في فرنسا هي، بالطبع، السيدة أندريه شديد. وما أن تهيأنا للانصراف حتي لحقني جاك حسون وقال أن أمله الوحيد الآن أن نلبي دعوته للعشاء في أي يوم نختاره لكي يعرف عائلته بأبناء وطنه، إنها أمنية، وشارك عدد من أعضاء الوفد في هذا الكلام.
    كان بعضنا سيسافر جنوبا وبعضنا شمالا ثم نعود للمبيت ليلة واحدة في باريس قبل عودتنا إلي مصر، وحينئذ قال أنه يحجز من الآن هذه الليلة الأخيرة. قلت:
    'ماشي'.
    وشد علي يدي:
    'وعد؟'.
    قلت:
    'عيب يا راجل'.
    أخرج من جيبه مفكرة صغيرة وكتب شيئا.
    سافرت وجمال الغيطاني للكلام في جامعة (بوردو) وحضرنا عددا من اللقاءات وقضينا هناك ليالي عدة جميلة، ثم اتجهنا إلي جامعة (مونبي لييه) حيث درس طه حسين وقمنا هناك بمسائل مشابهة لما قمنا بها في (بوردو).
    حوالي عشرة أيام لم يخطر خلالها جاك حسون ببالي لحظة واحدة. وما أن عدنا إلي باريس لنقضي ليلتنا الأخيرة حتي علمنا من الزملاء الذين لم يبرحوا أن الرجل يتابع تحركاتنا وينتظر. وأثناء وجودنا في الباص في طريقنا إلي معهد العالم العربي الذي أقام لنا حفل عشاء في هذه الليلة الأخيرة، أثيرت مسألة جاك حسون الذي اتصل عشرات المرات ليقول أنه أعد كل شيء ويجلس الآن في انتظارنا.
    تحول الموضوع إلي قضية خاصة بعدما تساءل أحد الزملاء عن كيفية ترك عشاء في المعهد العالم العربي والذهاب للعشاء مع واحد يهودي؟
    المهم أننا قضينا سهرة مرحة لم يتوقف خلالها جاك حسون عن الاتصال لكي يؤكد مرة بعد المرة أنه سيترك كل شيء معدا في انتظارنا، وعندما تأخر الوقت قال أنه جالس حتي الصباح.
    كانت تجلس إلي جواري صديقة تقيم بين القاهرة وباريس وتجمع بين الجنسيتين، أردت أن أسألها عنه ماذا يشتغل وكيف يقيم ويعيش هنا ولكنها اكتفت بأن أخبرتني عدم شعورها بالارتياح نحوه، لذلك عندما طلبني بالاسم لكي يذكرني بوعدي رجوت الزميل الذي أخبرني أن يشرح له أن الوقت تأخر وأننا سنسافر غدا و'مزنوقين'.
    ولم نذهب.
    كان ذلك قبل سنوات (نهاية عام 94).
    رغم ذلك ظللت أتذكر الرجل بين وقت وآخر. لم أكن أعرف له عملا ولا عنوانا، إلا أنني لم أترك أحدا إلا وحكيت له عن (خلوة الغلبان).
    كنت أشعر بشيء من الذنب، وأنني مدين له بالاعتذار.
    وقبل أسابيع اتصلت بي صديقة من باريس وأخبرتني أنها علمت بأن هناك دعوة ستوجه إلي قريبا ولابد أن أسافر، وكان أول ما خطر لي أنني، لو سافرت، سأبحث عن رقم هاتف هذا الرجل وأعتذر له عن الموضوع القديم.
    وفي اليوم التالي مباشرة كنت أقلب العدد الأخير من مجلة 'الوسط' وأقرأ:
    'توفي في باريس عالم النفس والكاتب المصري الأصل جاك حسون عن 62 عاما بعد صراع مع المرض الخبيث. وحسون معروف كأحد أبرز علماء النفس في فرنسا. كان أحد أعضاء مدرسة باريس الفرويدية التي أسسها جاك لاكان إضافة إلي انخراطه طويلا في صفوف اليسار التروتسكي. إشتغل صاحب (أسكندريات) و(القسوة الكئيبة) علي اللغة والمنفي، والعلاقة بين اللغة الأم والهوية، وأصدر كتابا مرجعيا عن يهود بلاد النيل، الذين ينحدر منهم'.


    مايو 1999
                  

12-02-2010, 07:07 AM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مع إبراهيم أصلان: المبدع في قمة نضجه (Re: عبد الحميد البرنس)

    أنت.. يا من هناك

    1

    خلال الشهر الماضي جاء صديقنا القديم محمد حافظ رجب من الإسكندرية. حضر ندوة بأتيليه القاهرة ورحل، دون أن نراه.
    أخبرني الشباب أن الحضور كان قليلا، وأنه جلس علي المنصة صامتا، عجوزا هده الإعياء، وأنه سأل عني، وعاد.


    2

    وأنا كنت، زمان، غادرت منزلي والكاتب الراحل ضياء الشرقاوي واتجهنا إلي ميدان 'الكيت كات' بحثا عن سيارة أجرة يعود بها إلي منزله، إلا أننا رحنا نتجول ونتحدث علي شاطيء النهر مثلما اعتدنا أن نفعل كلما جاء لزيارتي.
    كان ذلك في وقت متأخر من إحدي ليالي الصيف، بداية الستينات، وكنا نجلس علي السور الحجري القصير الذي يعلو الشاطيء المنحدر، والأشجار الهائلة التي يحتلها طائر أبو قردان تحجب السماء من فوقنا، وأمامنا كانت الأغصان القوية لهذه الأشجار قد تدلت وصنعت لنفسها جذورا أخري في أرض الرصيف المغطاة بالاسفلت، عندما لمحت شابا يعبر كوبري الزمالك 'أزيل الآن' ويتجه نحونا في خطوات متباطئة وهو يتأبط حزمة من الورق.
    صافح ضياء دون أن يلتفت إليٌ وقد ارتسمت علي شفتيه ابتسامة لا تخلو من استهجان.
    تبادلا عبارات قليلة، ثم سمعته يقول لضياء، الذي كان واقعيا اشتراكيا في ذلك الوقت:
    'إنتم لسه بتكتبوا القصص الواقعية بتاعتكم دي؟'.
    ورأيت ضياء يبتسم ويهز رأسه بما يعني:
    'نعم'.
    وقال الآخر:
    'دا احنا خلاص، عملنا مدرسة جديدة في القصة'،
    ورفع ذراعه الخالية إلي أعلي وقال:
    'ودلوقت قاعدين فوق، وعمالين نطرطر عليكم، وأنتم قاعدين تحت'.
    واستغرق في الضحك وأضاف:
    'آه واللٌه'.
    ورأيت ضياء يضحك مرتبكا ويحرك وجهه إلي هنا أو هناك، وينقل ثقله من قدم إلي أخري، حتي أسعفه الموقف بعربة يستوقفها، وينصرف.
    وبقينا وحدنا علي شاطيء النهر.
    منذ ذلك الحين لم نفترق، إلا فترات اعتكافه المتباعدة، وحتي عاد نهائيا إلي الإسكندرية.


    3

    ومحمد حافظ رجب هو صاحب المجموعات الرائدة 'غرباء * الكرة ورأس الرجل * مخلوقات براد الشاي المغلي' فضلا عن مجموعة مشتركة مع آخرين 'أكل عيش' ومجموعتين أخيرتين أصدرهما بعد صمت دام قرابة الثلاثين عاما هما 'حماصة وقهقهات الحمير الذكية' و'طارق ليل الظلمات' التي أقيمت من أجلها ندوة الأتيلييه، وهي كتابة تقتفي آثار نهجه المعروف، بعد أن هدأ القلب المعذب وافتقدت الروح حماستها وجموحها القديم اللافح.
    وهو من نسبت له تلك الصيحة الشهيرة 'نحن جيل بلا أساتذة' والتي اتخذت علامة علي جيل كامل من الكتاب، بينما كان قائلها الحقيقي هو الناقد سيد خميس. وهو الفقير المشاكس الذي تقدم الصفوف أعزل إلا من إيمانه بما يكتب، متلقيا الطعنات عوضا عن آخرين. عرفته حواري الإسكندرية وأرصفة المحطات بائعا للب والسجاير وأوراق اليانصيب، وعرف هو سلطة القهر باكرا متمثلة في شرطة البلدية.
    كم حكي لي، وعبر في قصصه، عن تلك الملاحقة التي تركت فيه أثرا داميا في نفسه، من هؤلاء الذين كانوا لايكفون عن مطاردة الباعة من رصيف إلي آخر بينما هم يسعون من أجل لقمة العيش، ومغالبة الأيام.
    كان حافظ قد شارك في العام 1950، أي في الخامسة عشرة من عمره في تأسيس الرابطة الثقافية للأدباء الناشئين، ثم رابطة لكتاب الطليعة عام .56 نشرت قصصه الأولي في جريدة 'المساء' التي كان يشرف عليها فريق من رموز اليسار الوطني ذلك الوقت. كانت قصص البدايات تلك من أجمل النصوص التي عرفتها القصة الواقعية ومن أكثرها رهافة وتأثيرا. تناوله مفكرو اليسار ونقاده في المساء وغيرها باعتباره ظاهرة هامة ومدهشة: بائع اللب الذي يكتب قصصا!
    تزوج حافظ في سن مبكرة 'السابعة عشرة تقريبا * ولد في 1935' وسرعان ما أصبح أبا لفتاتين، إلا أن زواجه تعرض لانتكاسة هائلة وبقيت الصغيرتان في رعايته. وعندما كان في الخامسة والثلاثين، طيبا مثل طفل، كانت كبراهن في السابعة عشرة.
    المهم، ترتب علي هذا الاهتمام النقدي بقصص حافظ أن قام يوسف السباعي الذي كان مسئولا عن المجلس الأعلي لرعاية الفنون والآداب بإرسال مندوب خاص يستدعيه إلي العاصمة. في ذلك الوقت تماما كان أبو حافظ قد استطاع الحصول علي محل صغير افتتحه مطعما معتمدا علي أن حافظ سوف يعاونه في تشغيله 'راجع قصص: 'الأب حانوت وغيرها'. وحافظ رفض عرض أبيه من دون مناقشة. جاء محملا بالآمال الكبيرة إلي المدينة التي استدعته باسم أحد كبار مسئوليها، فاتحة ذراعيها لموهبته الغالية، وهي الآمال، الواهية دائما، والتي أدت إلي البداية الحقيقية لمأساته.
    كان حاصلا علي الابتدائية، وهكذا قام السباعي بتعيينه موظفا بالمجلس الأعلي بمكافأة قدرها إثنا عشر جنيها. ولم تمر أيام قليلة علي استلامه العمل حتي مات أبوه.
    ويقول لي:
    'مات بعد ما سبته وجيت علي طول. أنا السبب'.


    4

    سكن حافظ حجرة علي سطح عمارة قديمة بحي 'العجوزة' القريب من 'الكيت كات' حيث أعيش. كان أصحاب العمارة قد خصصوا لكل شقة حجرة صغيرة للغسيل، إلا أن هؤلاء قاموا بتأجيرها، وسكن هو واحدة منها..
    كانت مساحة الحجرة مترا واحدا في مترين، وهو نفس حجم السرير المعدني الذي وضعه بداخلها، لذلك كان بابها يفتح إلي الخارج. كنت أخلع حذائي وأنا واقف علي السطح وأعتلي الفراش بينما يتراجع هو لكي يفسح لي. مع الوقت صرت أطرق الباب وأنتظره حتي يرتدي ثيابه ونغادر المبني كله إلي منزلي أو المرور علي بعض أصدقائه من الكتاب. كان الفنان والناقد التشكيلي الراحل محمود بقشيش 'أيامها كان يكتب القصة أيضا' يعيش في سطح آخر مشابه، وكان الموهوب جدا محمد جاد يعيش في شقة أرضية بنفس الحي حيث التقيت لأول مرة بالشيخ إمام والشاعر أحمد فؤاد نجم ويحيي الطاهر عبدالله والصديق الكاتب سيد خميس الذي كانت له مهام تثقيفية في إطار الجماعة كلها. وكان حافظ يقول لي أنه لا يضيع وقتا:
    'أبو السيد، كان بيقعد معانا بعينه اليمين، وهو ماسك ماركس وعمال يقراه بعينه الشمال'.
    عبر السنوات التي قضاها في القاهرة توطدت علاقتنا. لم نفترق إلا أوقات أزماته التي كانت تداهمه ويخضع فيها للعلاج. أو المرات التي كان يفر فيها من وطأة الأحوال ليلوذ بالإسكندرية زمنا ثم يعود.
    كان حريصا علي ألا نلتقي أبدا إلا وهو صحيح الروح والبدن. وأنا كنت أكثر منه حرصا علي إسقاط هذه الأوقات من علاقتنا.
    ولكن ذلك لم يمكن تجنبه. ولن أكتب عن ذلك الآن.


    5

    يرتدي قميصا، ويرسل الآخر إلي المكوجي، ويجلس في انتظاره.
    إلا أن المكوجي كان يهمله بسبب انشغاله في كي أكوام الملابس التي تأتيه من كل شقة علي حدة. وبدأ حافظ يعتقد، بسبب من أن التجاهل كان عموميا، ولا توجد أية أسباب مفهومة لما يجري، أن وراء ذلك كله نوعا من العمد، وأنه يتعرض لما يشبه التضييق، أو الملاحقة.
    إنها ليست حكاية مكوجي يتجاهل القميص الذي يجب أن يذهب به إلي العمل، لقد تجاهلته المدينة التي استدعته فاتحة ذراعيها، تبدد السحر، وكشر الواقع عن جهامته القاسية، ولم يكن محمد حافظ رجب موهوبا كبيرا فقط، بل كان يتمتع بقدر هائل من الحساسية والطهارة الروحية النادرة، ورغم أنه كان لا يخلو من فظاظة حيال أنصاف الموهوبين والأشباه، إلا أنه كان وديعا مثل طفل، صريحا وبسيطا، وهو ضرب من الامتياز الذي تنفرد به الأذهان المتفوقة والمدركة لقيمتها في نفس الوقت.
    كان يشعر أن الجميع غرباء حد القهر، وأن الجيل الذي ينتمي إليه جيل يتيم و'بلا أساتذة' فعلا، هؤلاء الذين تركوه هكذا ضحية لكل صنوف القهر والتهميش، وبدأت قصصه تأخذ مجري مغايرا تماما.


    6

    كان صبري حافظ من أوائل النقاد الذين تابعوا أعمال أبناء الستينات وكتبوا عنها 'ولعل هذه مناسبة نقر فيها بحقيقة أنه كان من أوائل النقاد الذين اعتنوا بالاطلاع علي محاولاتي الأولي، في حديقة المجلس الأعلي لرعاية الفنون والآداب حيث كان يعمل، وأنه بادر بالكتابة عنها، قبل أن أقوم بنشرها'.
    صديقنا الناقد صبري حافظ كتب في العدد الخاص بالقصة القصيرة الذي أصدرته مجلة 'المجلة عدد أغسطس 1966' برئاسة يحيي حقي في معرض حديثه عن حافظ رجب الذي كان قد انقلب فجأة علي نهجه الواقعي المألوف، يقول:
    'إن تجربة حافظ رجب لا تعبأ بأي من التقاليد، ولا تعبأ أساسا بالتقيد بحرفية الصورة. فتنافرها مع الواقع ليس في نهاية المطاف غير وجه من وجوه الالتحام بهذا الواقع والصدور عنه، فهي تنطلق أساسا من الفانتزي محلقة في أجواء أكثر جنونا وسوداوية من أجواء كافكا.. '...' فعالمه مليء بالتشوش، فاقد للتوازن والكثير من مواصفاته البسيطة غائبة عن سمائه أغلب القيم الإيجابية والسليمة ... '.....' إلا أنها من أقدر أقاصيص هذا الجيل علي بلورة الملامح العامة والأبعاد العميقة لهذه اللحظة الحضارية التي تصدر عنها، مشكلة بذلك وجها بارزا من أوجه ذلك التيار الأقصوصي'.
    وكان حافظ رجب قد شارك في هذا العدد بقصة عنوانها (مخلوقات براد الشاي المغلي) علق عليها يحيي حقي قائلا:
    'قرأت هذه القصة فتراءت في ذهني لوحة من تصاوير 'دالي' فنحن أمام عالم صامت مشوه، أهله قزم، وأصم، وأعور، ومقطوع الساق، وأصلع وامرأة استحالت دمية (...) إنسان يسكن علبة سجائر، وإنسان يدخل براد شاي أو ساقا خشبية، وإنسان ينفذ من أذن إنسان إلي داخله.. (....) انظر قوله: 'هل تتبادل أنت وأبي مكاننا، وأخيرا أنا كرة اللحم في رأسك الصلعاء، ويصير ابنك ابني ويصير أبي صينية القهوة وتصير أنت أبي وأصير أنا أبي وتصير أنت'. نفس مهددة بالفصام والتشتت لعجزها عن التماسك والتوحد'.

    اخترت هذا المقاطع الطويلة نسبيا من مقالة أستاذنا الراحل لأنها تعطي صورة عامة ودالة ليس علي خصائص هذا العالم الذي كان استولي علي مخيلة حافظ وراح هو يعبر عنه في لغة تميزت بالإشراق الفني وجدة الصورة ومباغتتها المدهشة فقط، ولكن لأنها تعطي صورة عن رؤية كاتب مبدع من جيل أسبق ومثقف كبير في نفس الوقت.
    وأنا، بسبب من معرفتي بحافظ رجب، كنت أظن أن قراءة مختلفة كانت كفيلة، اتكاء علي العناصر الأساسية الفاعلة في تجربته الحياتية والفنية التوصل، عبر قراءة أخري إلي مرفأ، وخلاص، ربما.
    لقد توقفت عند حقي وصبري حافظ باعتبار إنهما الأكثر جدية وقيمة بين من تناولوا عمله، بينما تجاهلت ما لا حصر له من التعليقات التي لم توفر تهمة واحدة لم تلصقها بعقله، رغم أن الكثيرين من هؤلاء كانوا حميرا، بالمعني الاصطلاحي للكلمة.
    لقد كانت هناك مشاكل نفسية، نعم، وهي مسألة عادية تماما ولا يوجد أحد، مبدعا علي وجه الخصوص، بمنجي منها، وقد كانت هناك نصيحة طبية بالاستمرار في الكتابة من أجل استعادة التوازن، وقد اندفعت موهبته الكبيرة إلي صيغة تعبيرية هي نوع من الإعلاء الجمالي أو 'التحويل' القائم علي التشويه التلقائي لذلك المكبوت الضاري، هكذا قرأنا ما قرأنا من أعمال فاتنة، حقيقية ومستغربة.
    هي حالة لم يكن مجديا فيها، نقديا، التوقف عند المحتوي الظاهر لهذه الأعمال 'مثل إنسان يدخل من أذن إنسان مثلا'.
    كان الأمر يتطلب، هكذا هييء لي، أن التوقف عند الآليات أو الوسائل، لا أعرف بالضبط، التي تمت بها عمليات التحويل ذاتها، هو الأهم.
    ولكن أغلبنا، لم يصبر، ولم يرحم.
    ثم نعتذر عن هذا الكلام الثقيل كله. ونقول أن الوعكات. كانت تتلاحق، وتتزايد أيام غياب حافظ للعلاج أو الفرار إلي الإسكندرية.


    7

    طوال فترات انقطاعه لم تتوقف رسائله إليٌ.
    وسوف أسمح لنفسي هنا بأن أنشر واحدة من هذه الرسائل:
    'البحر، 9 يونيو 1969، مقعد خاص، أصفر بمظلة.
    إبراهيم،
    أيها الوغد.
    أردت أن أراك، أقبلك.
    من بلاهة هذا الزمان أن لا يمكنني أن أراك كما أحب.
    الوسيلة البدائية العاجزة لحد البله..
    وسيلتنا المكتوبة، استعملها لأراك.
    أكتب لك.
    كيف نتناول الحكمة لتضمد هذا الجرح؟
    إمبابة، وأنت، وحجرة الكتب، وحانوت الحلاق، والقلة فوق الحافة، وأنا وأنت في حلق الجامعة.. 'سفر الجامعة' يثير فينا الاندهاش.
    'كنا قرأنا العهد القديم سويا'
    إبراهيم يا وغد.
    الإسكندرية رطبة فارغة لا تثير مخزون قاع الأشياء.
    تزدحم الأشياء..
    تتراكم فوق بعضها وتستسلم للنعاس..
    وتموت الدوامة في صمت.
    كيف العودة إلي الديار من جديد يا وغد؟
    الذين في يدهم العودة قتلوها بالتجاهل المستبد..
    اصحوا يا سادة الكون الغريق.
    تمردت علي العمل أمس.
    لم أذهب إلي المتحف اليوم.
    جلست في مواجهة الكورنيش لأراك.
    أنت يا صديقي كيف تعيش؟
    كيف تلعب لعبة الاستمرار؟
    كيف تتناول زادك؟
    هل تلعب لعبة الكتابة؟
    في مأواك أراك..
    في اضطجاعك أراك..
    في الساعات المتلاحقة أراك..
    تنكب علي الأشياء المزروعة بين دفتي ما يسمي بكتاب.
    عصر الشهداء موجود..
    شهداء ملايين الكلمات..
    شهداء بحر الوعي..
    إلي أين يا إبراهيم؟
    فررت من القاهرة..
    لكن هذه المدينة حقيقية يا إبراهيم..
    كل من خارجها يلعب ألعابه لتحدث المعجزة وتلتفت مرة إليه.
    يا إبراهيم..
    واصل إثارتي ليجخرج المخزن الثاني تراكمات السنين.
    لو لم تكن أنت ما كنت قد جئت إلي البحر والكرسي الأصفر الدائر تحت المظلة في منتصف طريق الكورنيش وجلست أكتب لك.
    قلت عن حياة تتحرك عندكم.
    كن بديل عيني وقل لي:
    ما دورنا فيها؟
    اليوم رأيت فاروق منيب 'القاص والمحرر الثقافي الراحل' يجلس فوق دكة صفحته الجديدة في المساء 'يقصد الجريدة'
    لم تقل لي متي أحضر لتناول القربان من خزينة الجمهورية 'يقصد صرف مكافأة قصة منشورة له'
    عبدالفتاح الجمل 'أحد قوي الخير النادرة في حياتنا الثقافية' توهج المساء.
    تركه.. غادره..
    يا فتي حرك شهيتك معي لنقيم مآدبنا.
    هل سيحدث مرة ثانية أن تحرك غيبوبتك؟
    تركب القطار.. تنزل الإسكندرية.. تذهب إلي البحر..
    تسأل عن عنواني، ثم تكف..
    وتعود إلي القاهرة بذكريات يوم تقضيه ولا أراك؟
    'كنت قد ذهبت لزيارته ولم أعثر علي بيته وكتبت له عن ذلك'
    لو لم يغادر الهارب مدينتكم لكان قد حاكم بعض الذين يحاكمون غيرهم الآن.
    أنتظر بلهفة كميات كثيرة من نفسك.
    أقرأ بشكل مرعب..
    عدت إلي أرسين لوبين..
    الفرسان الأربعة.. إسكندر ديماس..
    آخر ما قرأت قصيدة لمايكوفسكي..
    هذا الوغد يثيرني لأبحث عنه.
    هل تعرف طريقة لإيصال السلام لإبراهيم فتحي؟
    لقد فقدت بعد العودة عنوانه.. وأحس بالذنب لأنني لم أرسل له السلام.
    رسالتك الأخيرة عملت شيئا غريبا 'تناولت الرسائل القادمة لي من كل مكان.. جمعتها.. كوما..
    وفقدتها إلي الأبد
    كيف حال أسرتك؟
    يا للشوق يا ولد..
    مشكلة تحويل الزمن.. مرعبة.
    أكتفي هنا.. إلي لقاء..
    أخوك..
    حافظ'.


    8

    مضت السنوات إذن وتوقف حافظ رجب عن الكتابة إليٌ. صمت عني وعن الآخرين. استقر موظفا بسيطا، هادئا ومنسيا في أرشيف المتحف الروماني بالإسكندرية. لقد تعاقبت الأجيال، وبهتت الصور، وبدا حافظ منسيا إلا من أبناء جيله الذين احتفظوا له بمكانة لا يطاوله فيها إلا القليلون.


    9

    وخلال الشهر الماضي جاء من الإسكندرية وحضر ندوة لم يعلن عنها بأتيلييه القاهرة، ورحل دون أن نراه. وأخبرني الشباب أن الحضور كان قليلا، وأنه جلس علي المنصة، صامتا عجوزا هده الإعياء، وأنا لا أصدق، لأن رفاق الشباب يحتفظون في الذاكرة بصورتهم التي فارقونا عليها. إنهم يظلون شبابا كما هم، مهما انصرمت الأعوام حتي نلتقيهم، حينئذ ندرك، نحن، ما صرنا إليه.
    وإذا كان بوسع أحد، مثلي، أن يظن بأنه كان من الناجين، فلقد حدث ذلك لأننا كنا أبناء شرعيين لهذه 'القاهرة'، وليس بالتبني، لم نتوقع منها شيئا لذلك فوتنا عليها، وعلي أنفسنا، مشاعر الخيبة والمرارة.


    10

    ما أعاننا علي الاستمرار (أنت.. يا من هناك) أننا كنا أقل طيبة منك، وأكثر قسوة.


    مارس 1997
                  

12-02-2010, 07:46 AM

ابو جهينة
<aابو جهينة
تاريخ التسجيل: 05-20-2003
مجموع المشاركات: 22495

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مع إبراهيم أصلان: المبدع في قمة نضجه (Re: عبد الحميد البرنس)

    البرنس

    سلام يليق بشخصكم الكريم

    تسجيل حضور هنا و قراءة متأنية لهذه المتعة
                  

12-02-2010, 11:06 AM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مع إبراهيم أصلان: المبدع في قمة نضجه (Re: ابو جهينة)

    Quote: المتعة


    عزيزي أبا جهينة:

    حين تجمع كتابة ما، ما بين العمق والبساطة، فذلك حقا ما يدعونه المتعة. تلك سمة العبقرية في مختلف العصور. هناك الكثير من الكتاب المتحذلقين أحالهم التاريخ إلى متحف النسيان البارد على الرغم من تقعراتهم التي أثارت لغطا في حينه. ومسار أوربا الثقافي ما بعد حربيها يشكل نموذجا دالا هنا وكاشفا لأمثال تلك الكتابات البائسة. كان بوسعنا، انا وإلهام، أن نبتكر ارتجالا العديد مثلا من تلك القصائد أثناء السير صوب غاية ما. وما تجيد به قريحة اللحظة:

    الشبابيك على جدران ظل الحجر مهملة
    الضياء يغسل مطر الأمنيات
    حنانيك إذا الهوى ألقى بثورته الأخيرة
    على مدافن الضمائر

    تحياتي
                  

12-02-2010, 02:12 PM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مع إبراهيم أصلان: المبدع في قمة نضجه (Re: عبد الحميد البرنس)

    عن ماركيز ونزار قباني وأمادو


    أرادت المجلة العربية المعروفة أن تقدم تحقيقا متميزا في مناسبة غياب شاعرنا الكبير نزار قباني.
    بعد مشاورات عاجلة رؤي أن من الضروري جدا الاتصال بأكبر الكتاب العالميين الأحياء ممن يمكن لشهاداتهم أن تتناسب وهذا الحدث الجلل، واستقر الأمر علي أن يتم الاتصال فورا (بجارسيا ماركيز) وكذلك الشهير جدا (جورج أمادو).
    أمكن الحصول علي أرقام هو اتفهم، إلا أن المحرر لم يراع فروق التوقيت، هكذا تم الاتصال بمسكن (ماركيز) في السادسة صباحا.
    استيقظ سكرتير ماركيز من نومه وتناول سماعة الهاتف.
    قال المحرر:
    'نحن مجلة كذا، ونريد الحديث مع الكاتب الكبير جارسيا ماركيز'.
    وقال السكرتير:
    'كيف؟ إنه نائم الآن ولانستطيع إيقاظه'.
    قال المحرر عبارة إنجليزية معناها:
    'ولكن نزار قباني، تعيشون أنتم'.
    'ماذا تعنون بأن نعيش نحن؟'
    'نعني أن نزار قباني قد مات'.
    السكرتير شعر بأن شيئا خطيرا حدث، وقام بإيقاظ ماركيز الذي أمسك بالسماعة:
    'من ؟'
    'نحن مجلة كذا.. نحدثكم من العاصمة كذا...'
    'ماذا تريدون؟'
    'نريد أن نبلغك أن نزار قباني قد مات'.
    'هذا شيء مؤسف.. من هو مستر كباني؟'.
    'إنه نزار قباني، الشاعر العربي المشهور'.
    'عن ماذا كان يكتب؟'
    'كان يكتب عن المرأة والحب... كما أن له قصائد سياسية مهمة جدا'.
    قال ماركيز:
    'ولكن كل الشعراء يكتبون عن المرأة والحب، والسياسة أيضا'.
    'هذا صحيح. ولكن هذا أكبر شاعر عربي معاصر'.
    'مادام الأمر كذلك ، أرجو أن تبلغ تعازي إلي السيدة زوجته'.
    'الحقيقة أن زوجته توفيت في حادث أليم'.
    'هذا شيء مؤسف. هل عنده أبناء؟'
    'عنده'.
    'إذن بلغهم تعازي'.
    'كنا نريد منك شهادة قصيرة حول هذا الأمر'.
    'ولكنها السادسة صباحا الآن، والحقيقة أنك أقلقتني'.
    'نحن آسفون'.
    'لا عليك'.
    ووضع السماعة.
    حيئذ قام المحرر بوضع علامة إكس أمام اسم ماركيز، وقام بالاتصال بمنزل جورج أمادو:
    'هل كاتبنا الكبير موجود'.
    ردت السيدة زوجته:

    'لا.. من يتحدث؟'.
    'نحن مجلة... نحدثكم من العاصمة...'.
    'ماذا تريدون في هذا الوقت '.
    'نريد أن نأخذ شهادة من الكاتب الكبير لأن نزار قباني مات'.
    'لكن أمادو ليس موجدوا الآن'.
    'وأين يمكننا الاتصال به؟'.
    'لايمكنكم ذلك بأي حال'.
    'لماذا؟'
    'لأنه بالعناية المركزة'.
    'ومتي سوف يخرج'.
    'لا أعتقد في مسألة خروجه. لأنه سوف يموت خلال يومين أو ثلاثة'.
    'نحن آسفون'.
    'لاعليك'.
    ووضعت السماعة.


    مايو 1998
                  

12-02-2010, 06:24 PM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مع إبراهيم أصلان: المبدع في قمة نضجه (Re: عبد الحميد البرنس)

    عينات للعرض

    كنت في طريقي إلي موقف عربات الأجرة الجانبي عندما رأيته أمامي. في البداية لم أتبينه تماما، ولما دققت فيه أيقنت أنه هو وصحت:
    'أستاذ مصطفي؟'.
    قال بفتور:
    'يا أهلا'.
    كنا نقف في قلب الساحة المزدحمة. أكوام قمامة وبائعات يجلسن علي الأرض وراء حلل ومشنات مبطنة بأعواد برسيم وممتلئة بقطع الجبن القريش والزبد ينادين عليها وعلي أرغفة العيش البيتي الكبيرة ويدفعن الذباب بأيديهن، والناس يحتكون بنا بينما هم يتجهون إلي هنا أو هناك.
    حاولت أن أتحرك به جانبا ولكنه ظل ثابتا يتطلع إليٌ بعينيه الرماديتين من وراء زجاج نظارته بإطارها المعدني الذي انمحي لونه الذهبي وصار رصاصيا عند الأذنين. جعلني رأسه الكبير المائل إلي الوراء، وإلي جانب في نفس الوقت، أتذكر هيئته القديمة وهو يجلس وراء مكتبه يفحص القصص بعناية بينما أجلس أمامه برفقة صديقي القاص الراحل ضياء الشرقاوي. كان شعره قد خف تماما وبهت لونه وبدت ثيابه كأنه ينام ويصحو بها.
    كان يعمل محررا في أول مجلة أرسلت لها شيئا للنشر، كنت قد أرفقت الرسالة التي حملت قصتي مظروفا خاليا يحمل اسمي وعنواني وطابع البريد ورجوت منهم أن يعيدوا لي المظروف برأيهم وألا يردوا عليٌ في بريد القراء. وجاءني الرد مكتوبا يحمل توقيعه، ويقول:
    'نشكركم علي قصتكم، كان بودنا نشرها ولكن خط المجلة الذي يلتزم الفصحي يأبي ذلك'.
    ولأنها كانت أول رسالة تصلني من مطبوعة ما فقد احتفظت بها طويلا، وقلت:
    'إنت فين ياعم؟'
    قال:
    'موجود'.
    أخبرته أنني التقيت بالاستاذ فؤاد (زميله في المجلة) وسألته عنه. وهو قال أن فؤاد استقر في المنصورة من سنين:
    'بعد إغلاق المجلة علي طول'.
    كان يقف أمامي وقد شبك يديه علي بطنه وبدت في عينيه نظرة غريبة لاتدل علي أي من الأشياء المعروفة، وأنا هززت رأسي ولم أعرف ماذا أفعل بعد ذلك، ثم وجدتني أقول فيما يشبه التأثر أو الاهتمام أننا لم نقرأ له شيئا منذ سنوات 'في الحقيقة أنني لم أكن قرأت له شيئا علي الإطلاق'.
    وهو قال متباطئا:
    'كان فيه شوية مشاكل'.
    وأضاف أنه مر بتجربة:
    'عطلتني شوية'.
    ثم تحدث، بصوت خافت جدا عن مشروع زراعي كبير فهمت أنه قام به ولكني لم أتبين جيدا إن كان المشروع فشل بسبب زيادة مياه الري أو ندرتها. وأضاف:
    'لكن الورق قدامي، علي المكتب'.
    حينئذ حاولت أن أبدو سعيدا بهذا الخبر. وهو نظر قليلا إلي حذائه ثم رفع رأسه وقال بأنه عمل مصنعا للبلاستيك.
    سألته:
    'هنا في المنطقة؟'
    'لا. عندي في الشقة'.
    وأخرج من جيب سترته مسطرتين قصيرتين ومثلثا من البلاستك. لم تكن شفافة بل ممتلئة بالشوائب وليس لها لون معروف والحواف التي قد يستخدمها أحدهم لرسم خط معتدل معوجة إلي حد لايمكن إنكاره، أما العلامات التي تحدد الأطوال مثل المللي والسنتي فقد كانت نتوءات لاتدل علي شيء. ظل يعرضها عليٌ حتي ظننت أنه يريدني أن أشتريها، ولكنه اعادها إلي جيبه وقال:
    'دي عينات للعرض'.
    فكرت علي الفور أن أي احد يراها لن يشتري منها ابدا. وهو اعادها إلي جيبه وأضاف:
    'علشان منافذ التوزيع'.
    هززت رأسي ورأيت طرفها بارزا من جيب سترته المفتوحة، وقال: 'لا مؤاخذه، هو انت ضياء، ولا عبدالحكيم؟'
    قلت:
    'أنا ابراهيم. ضياء مات من زمان، وعبدالحكيم تعيش انت'.
    هز رأسه ببطء وقال:
    'مظبوط. مظبوط'.
    وظهرت علي وجهه ابتسامة شبه ساخرة، والحقيقة انها بدت مقبولة لأنها كانت وقورة جدا.
    وقال:
    'أصلكم كنتم شبه بعض'.
    قلت:
    'ده صحيح'.
    'أحيانا أفتكر واحد منكم، وبعدين الاقيه شبه الباقي. علشان كده ما باعرفش هو مين بالضبط اللي أنا افتكرته'.
    قلت:
    'هي حاجة تلخبط فعلا'.
    وابتسمت.
    وفتح هو فمه لكي يقول شيئا آخر ولكنه لم يفعل. مرت رجفة سريعة في الانتفاخ الخفيف أسفل عينيه، ورفع يديه عن بطنه وراح يضغطهما ويطقطق مفاصل اصابعه، ونظر في ساعته وقال:
    'طيب عن إذنك'.
    واستدار.
    أنا اتجهت إلي الموقف القريب وجلست في مؤخرة العربة نصف النقل ورحت ابحث عنه بعيني في كل مكان حتي لمحته وهو يقف مائلا وقد اتكأ بمرفقه علي طاولة محل البقالة الصغير في الجانب الآخر من الساحة، ومن هنا كان بوسعي أن أري حجر بنطلونه مدلي بوضوح بين ساقيه من الخلف، ولكنني لم أكن أري البقال الذي يقف داخل الدكان المعتم.


    اكتوبر 2001
                  

12-02-2010, 10:26 PM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مع إبراهيم أصلان: المبدع في قمة نضجه (Re: عبد الحميد البرنس)

    تواطؤ

    غادرت مقر عملي بجريدة (الحياة) في حي جاردن سيتي حيث ارتبطت بموعد في وسط البلد. كانت عربتي الصغيرة تخضع لعملية سمكرة ودوكو من أجل الفحص والتجديد الذي أجريه كل ثلاث سنوات، لذلك وقفت أمام كشك (غريب) بائع المرطبات والدخان في انتظار عربة أجرة تقلني إلي هناك. مرت عدة عربات وأنا أرفع يدي للسائق الذي يراني ولا يتوقف.
    مشيت قليلا وتوقفت، ورائي كانت عربات شرطة واقفة في ظل الشجرة الكبيرة وبداخلها بعض الضباط، والجنود يتباعدون في ثيابهم العسكرية وأسلحتهم المشرعة حول أسوار السفارة الأمريكية القريبة. بعد فترة، فكرت في احتمال أنهم قد منعوا التوقف في هذه المنطقة الممتلئة بالسفارات بسبب من إجراءات الأمن التي جري تشديدها بعد أحداث واشنطون الأخيرة. كان علي أن أمشي إذن حتي ميدان التحرير لكي أركب. بدأت أتحرك مترددا وأنا أشعر بالضيق من حرارة الجو التي كانت خانقة. ثم عدت وفكرت بأنه لو كانت هناك أوامر جديدة بعدم التوقف هنا فليس معقولا أن كل السائقين قد سمعوا بها. وهذا ما حدث فعلا، لأنني ما أن التفت وأنا عند مدخل السفارة الأمريكية ورأيت عربة قادمة وأشرت للسائق حتي توقف. فتحت الباب وجلست بجواره علي المقعد الذي سقطت حشوته وأغلقت الباب. والسائق قال:
    'لأ. إفتحه وإقفله جامد'.
    فتحت الباب مرة أخري أثناء تحرك العربة وأغلقته بشدة.
    عندما انتهيت من وضع حزام الأمان علي كتفي دون أن أشبكه في القفل المثبت علي يساري، رأيته يتطلع في المرآة التي أمامه ويقول:
    'الله. هو أخد نمرتي ليه؟'
    كان عجوزا وصوته خافت جدا. سألته:
    'هو مين؟'.
    'الظابط'.
    استنكرت ما حدث وقلت:
    'مش معقول'.
    'والله أخد نمرتي'.
    كان مستمرا في طريقه وأخبرني أنه لم يفعل شيئا يستحق الغرامة:
    'دا احنا لسه ما عملناش حق البنزين'.
    وعندما توقف في الإشارة القريبة من جامع عمر مكرم قلب كفه علي مقود السيارة وتساءل بهدوء:
    'إيه الكلام الفارغ ده؟'.
    قلت:
    'جايز كان بيكتب نمرة واحد تاني؟'
    وانشغلت بتأمل العربات التي تملأ الميدان، وهو ظل صامتا حتي فتحت الإشارة، وقال:
    'جايز'.
    وبعد بعد فترة رجع قال:
    'لكن جايز ازاي؟ ده الشارع كان فاضي ومفيش حد غيرنا؟'
    أخبرته أن هذا شيء غريب فعلا، وقدمت له سيجارة ولكنه رفض.
    شعرت بالحرج واقترحت عليه:
    'أنا رأيي أنك إذا مريت من هناك، لازم تسأله'.
    قال:
    'أسأل إيه وأنيل إيه؟ هي دي بلد حد يسأل فيها عن حاجه؟'
    وسكت.
    وسكت أنا الآخر.
    بعد فترة، طلبت منه أن ينزلني عند الناصية القادمة. وعندما توقف بجوار الرصيف فتحت الباب وخرجت.
    مددت يدي بالأجرة وتناولها مني وهو يميل برأسه علي عجلة القيادة حتي يراني من النافذة المفتوحة، ويقول:
    'أموت، وأعرف هو أخد نمرتي ليه'.
    وأنا اندهشت أمامه، وابتعدت.


    مارس 2002
                  

12-03-2010, 01:22 PM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مع إبراهيم أصلان: المبدع في قمة نضجه (Re: عبد الحميد البرنس)

    في ذكري رحيل كاتب بديل


    طالب صديقنا الناقد علي أبوشادي رئيس الهيئة العامة لقصور الثقافة (قبل أزمة الوليمة والروايات الثلاث) بضرورة تكريم الراحل عبدالمعطي المسيري ومنحه درع الهيئة المذكورة. حدث ذلك في المؤتمر الرابع لأدباء مصر في الأقاليم الذي عقد في مدينة (دمنهور) مسقط رأس الكاتب الذي قضي قبل سنوات طويلة، دون أن يذكره أحد. ولأن القرار هذا ملأنا بالسرور المفاجيء، آثرنا المشاركة في المناسبة بالمشاهد التالية، تكريما للراحل البديل، ولكل الكتاب البدلاء، في هذا الوطن.


    ***

    كانت مقاعد القاعة التي أنشأها يوسف السباعي مشغولة بجموع من الأدباء والمتأدبين ، والمنصة يعتليها عدد من كبار ذلك الزمن، والكلام يدور حول بعض الأمور الملموسة، حين لمحت شيخا عجوزا يغادر مكانه، ويشق بقامته القصيرة النحيلة، ويصعد المصطبة الخشبية أمام المنصة، ويدق الخشب بعصاه وهو يتطلع من وراء نظارته السمكية حتي خيم السكون.
    تكلم الرجل متمهلا عن القصص التي يتم الاشتراك بها في مسابقة نادي القصة (أقدم المسابقات القصصية في مصر). قال إننا نعرف جميعا أن هذه القصص في مراحلها النهائية، يتم تحويلها إلي ثلاثة من الكتاب الكبار لكي يضعوا تقديراتهم لاختيار القصص الفائزة، وأن أعضاء اللجنة، بسبب من مشاغلهم، لايجدون وقتا للقيام بقراءة هذا الكم من القصص المقدمة، لذلك فإنهم يعهدون بها سرا إلي من يقومون بهذا العمل، ثم يعطونه نسبة من المكافأة التي يحصلون عليها من إدارة النادي، وأنا شخصيا واحد من هؤلاء المحكمين من الباطن.
    عند هذا الحد هاجت القاعة هياجا شديدا وهب كبار المنصة واقفين يزجرون الشيخ ويطالبونه بالعودة إلي مكانه فورا، ولكن الشيخ لم يلتفت. اعتمد بيديه علي رأس عصاه وراح يتطلع أمامه في مزيج من الهدوء والصبر العنيد. ومال حافظ وهمس في أذني قائلا:
    'ده عمك عبدالمعطي المسيري'.
    حدث ذلك عندما أخذني الصديق محمد حافظ رجب أوائل الستينات إلي دار الأدباء لكي أري الكتاب في اجتماعهم. وكانت المرة الأولي التي أحضر فيها اجتماعا أدبيا أو غير أدبي، كما كانت المحاولات التي جرت من أجل زحزحة العم عبدالمعطي قد باءت بالفشل، وبات واضحا أن الرجل يفضل الموت علي مغادرة موقعه. وهدأت الضجة قليلا بعدما واصل كلامه قائلا، وهو يدفع الأيدي عن نفسه، أنه لايريد بذلك أن يفضح أحدا، ولن يذكر أسماء، واستطاع بفضل الإيضاح هذا أن يخلص نفسه فعلا، وما أن تركوه حتي صرخ فجأة:
    'الأوان آن، ياإخوان، بعد هذا التاريخ الطويل، أن يتحول كل المحكمين من الباطن في هذا البلد، إلي محكمين شرعيين معترف بهم'.
    وفي قلب هذا اللغط العظيم، فشل الاجتماع تماما وخلت المنصة، فجأة من ناسها، بينما غادر العم عبدالمعطي موقعه، لايلوي علي شيء.
    أخذني حافظ واقتربنا منه، قدمني إليه، ورافقناه إلي الخارج.
    كان هاديء النفس كمن لم يفعل شيئا. وكان وجهه صغيرا حتي بدت النظارة السميكة كأنها لم تترك فيه مساحة أخري تكفي للتعبير عن شيء آخر ، يرتدي بدلة عتيقة كاملة، شعره مصبوغ ومشدود علي جمجمته الجافة الضامرة، ويلعب بشفتيه لكي يضبط طاقم الأسنان.
    أثناء الحديث عرفت أنه صاحب مقهي المسيري القديم في (دمنهور)، وهي واحدة من أشهر المقاهي الأدبية التي أمها عدد من كبار الأدباء المصريين والعرب، وذلك قبل أن يغلقها ويأتي إلي العاصمة تلبية لدعوة يوسف السباعي لكي يأخذ وضعه حيث صار واحدا من صغار الموظفين مع محمد حافظ رجب في المجلس الأعلي لرعاية الفنون والآداب، وانه يسكن الآن في إمبابة علي بعد شارعين من منزلي.
    عندما وصلنا علي أقدامنا إلي ميدان (الكيت كات) ووقفنا علي شاطيء النهر، أصر علي أن نذهب غدا إلي بيته لكي نشرب الشاي ويهديني شيئا من كتبه:
    'وتعرف البيت بالمرة'.
    حينئذ سألته (أيامها كان بوسعك أن تسأل دون حرج) منذ متي وهو يقوم بحكاية التحكيم من الباطن هذه؟
    قال أنه يقوم بها منذ مجيئه إلي القاهرة.
    وعدت أسأله عن سبب سكوته طوال هذه المدة؟
    وواضح أن الكاتب الكبير الذي يتعامل معه، قبض الفلوس هذه المرة من الخزينة وكتم عليها.. زاغ، وأضاف بابتسامة خفيفة:
    'شوف قلة الأدب'.
    كان العم عبده يسكن الطابق الأخير من أحد البيوت القديمة علي مقربة من مدرسة إمبابة الإسماعيلية التي حصلت منها علي شهادة إتمام الدراسة الإبتدائية، وكان حافظ قد سبقني علي السلم وراح يدق الباب حتي فتحت لنا سيدة عجوز في رداء أسود. واستقبلنا العم عبده في ثيابه الكاملة. وقال مخاطبا زوجته:
    'دول بقي ياستي، شباب المستقبل'.
    لم يمض وقت طويل حتي شعرت أن الأحوال لم تكن علي ما يرام، وصار العم عبده في نظري رجلا مبهما عن أمس، يقوم بيننا ويحاول أن يتحرك في المكان الضيق ولو علي مهل، دون جدوي، فيعاود الجلوس متنهدا كمن رضي بقضائه، لكن علي مضض.
    وبدأ صوته فاترا وهو يحدثنا عن سيرته الأدبية المعروفة، وعن المقهي الشهير عربيا منذ العقود الأولي لهذا القرن، وكيف أنه كان، كمقاهي ذلك الزمن، يستعين بواحد من شعراء الربابة المحترفين الذين ينشدون حلقاتهم اليومية من السير الشعبية المعروفة، وأن عبدالمعطي الصغير كان يدمن سماعه حتي استطاع أن يستظهر هذه السير تماما، وكيف أن والده ما أن اكتشف ذلك حتي وفر أجرة الشاعر ووضع عبدالمعطي علي الدكة بدلا منه، وكيف أنه قام بهذه المهمة خير قيام، ثم أوضح:
    'من غير ربابة طبعا'.
    وفي حضرة الأسماء البارزة التي زارت المقهي شب الولد محبا للأدب والأدباء. وبدأ يعد نفسه للدور الذي وهبه حياته كلها. أخبرنا أن كتابه الأول كان مجموعة من الفصول، كل فصل تقليد لواحد من أصحاب الأساليب المعروفة في ذلك الحين: طه حسين، العقاد، المازني، المنفلو طي، وغيرهم، وأن أي قاريء كان يظنها لهؤلاء الكتاب أنفسهم. وقال أنه طبع هذا الكتاب علي نفقته الخاصة، وأن عملية الطباعة هذه كلفته ثلاثين قرشا، والكتاب نفد بطبيعة الحال، ولكن هناك مجموعة قصصية نشرتها له مؤخرا الهيئة المصرية العامة للكتاب وأنه سيهديني نسخة منها.
    راح ينحني ويبحث تحت الدولاب والمقاعد المزنوقة وهو يثير ضجة لها ما يبررها، ثم انتصب وفي يده نسخة من كتاب صغير في عنوان 'مشوار طويل'. حينئذ أرتفع صوت بكاء علي مقربة منا، وجذب العم عبدالمعطي ستارة جانبية، كان هناك سرير عريض عليه عدد من الأولاد النائمين وقال:
    'مين اللي بيعيط يا أولاد؟'.
    وصعد علي ركبتيه.
    راح يهز هذا ويقلب ذاك حتي أيقظ الجميع. واختلطت أصوات البكاء علي نحو يصعب تقديره، ورأيته يهز واحدا مازال نائما. وطلب منه حافظ أن يتركه لأنه ليس من الضروري أن يوقظهم كلهم، ولكن العم عبده التفت إليه وهو يجلس وسط هذه المناحة وسأله:
    'أسيبه أزاي يا حافظ؟ هو فيه حد يعرف ينام في الدوشة دي؟ مش جايز يكون مات؟'.
    واستدار إلي الولد حتي جعله يقوم محتجا، حينئذ اطمأن وقال:
    'خلاص نام. نام'.
    وهبط من الفراش. جذب الستارة والتفت إليٌ:
    'عرفت البيت؟'.
    قلت:
    'آه'.
    'كويس. إبقي تعالي'.
    سبقنا إلي الباب وهو يكتب الإهداء.
    كان ذلك أول كتاب يهديه مؤلفه إليٌ. تناولته شاكرا.
    قال:
    'اقرأه'.
    قلت:
    'طبعا'.
    وأردت الانصراف.
    قال بشيء من الضيق:
    'إفتحه واقرأه'.
    وما أن بدأت التفكير في هذا الطلب الغريب حتي نبهني حافظ إلي أنه يقصد الإهداء. فتحته وقرأت:
    'إلي الزميل إبراهيم أصلان'.
    شكرته مرة أخري وأردت مصافحته إلا أنه رد في اقتضاب:
    'العفو'.
    وأغلق الباب.
    لم أعد إلي بيت المسيري بعد ذلك أبدا.
    كان حافظ يمر بي كل يوم تقريبا، وكان يقترح عليٌ أحيانا أن نذهب لزيارته لأنه يسأل عني عندما يلتقيه في المجلس الأعلي حيث يعملان، إلا أنني لم أكن راغبا.
    لم تكن ظروفه المعيشية الصعبة غريبة بالنسبة لي ولا لمن هم حولي من الناس، ولكن العم عبده أورثني، في تلك المرحلة المبكرة المشحونة بالأحلام قدرا هائلا من المضاعفات الواضحة، والارتباك. كان أكبر الكتاب الذين رأيتهم سنا، وتمثل لي باعتباره مصيرا قائما، وأنني أسعي نحو هذا المصير من دون أن تكون لي حيلة في رده أبدا. وفي شارع السوق التقيته وفي إحدي يديه لفة بها سردين وفي الأخري حزمة كبيرة من البصل الأخضر، وكانت سترته مفتوحة عن صدره الضامر، ورباط عنقه رفيع جدا.
    'إزيك يا عم عبده؟'.
    'الست ياسيدي، نفسها تاكل سردين وبصل أخضر'.
    وتأملني قليلا:
    'هيه. بتكتب ولا لأ؟'.
    'شوية كده'.
    'لازم تكتب. الكتابة هي الشيء المهم'.
    وتطلع في عيني بغضب:
    'أنا مش مقياس. فاهم؟'.
    شعرت بالدهشة والخجل ونحن واقفان وسط الزحام، لم أكن أظن أبدا أنه قادر علي معرفة ما يدور في رأسي. وما أن حاولت الكلام حتي قال:
    'سيبك من الكلام ده كله. أنا فاهم كل حاجة'.
    اقتربت أضع يدي علي كتفه كي أقبل جبهته الجافة ولكنه تراجع قائلا:
    'مع السلامة'.
    أثناء جلوسي في مقهي (عوض الله) كنت أفاجأ به يتمشي ليلا، بخطواته القصيرة المتصلبة، ورأسه الصغير الشامخ، هناك علي شاطيء النهر، عصاه في يد، والأخري علي صدره وقد تعلقت بها زوجته في ردائها القديم الداكن، وطرحتها الحريرية السوداء مشبوكة تحت ذقنها ومدلاة علي صدرها بعناية، تجر قدميها الحريرية السوداء مشبوكة تحت ذقنها ومدلاة علي صدرها بعناية، تجر قدميها بالجوارب السميكة القاتمة، يصعدان أكوام القمامة العالية من دون انحراف، ويهبطان من عليها بتماسك محلوظ. كنت أتابع هذا الترفع الذي يليق بأناتول فرانس أو السيد تشوسر أو ما شابه من أسماء كانت تحتل أدمغتنا في ذلك الزمن، وأنساه، لا أذكره إلا إذا صادفته يقوم بنزهته غير اليومية، وغاب زمنا، وسافر حافظ إلي الاسكندرية زمنا آخر، وعندما التقينا سألته عرضا عن العم عبده فقال:
    'ده مات'.
    تطلعت إليه غير مصدق، فلم أسمع بذلك، ولم أقرأ خبرا واحدا يشير إلي موته، ولكن حافظ أكد لي:
    'ده مات، وشبع موت'.
    'في دمنهور؟'
    'لأ. مات عندك في امبابة'.
    'وحدثني حافظ أنه لم يكن ممكنا أن يعرف أي واحد بموته، أو يحس به، لأنه مات في يوم من الأيام التي لايعلم بها إلا الله، وأن أهله لم يجدوا في الحي كله مخلوقا واحدا موجودا لكي يعاون في حمل جثمانه، ولم يكن ذلك كله إلا لأن العم عبده لم يكتف بما جري له، ولنا، بل أنه مات في اليوم نفسه الذي مات فيه عبدالناصر.


    نوفمبر 1999
                  

12-03-2010, 04:23 PM

د.محمد بابكر
<aد.محمد بابكر
تاريخ التسجيل: 07-16-2009
مجموع المشاركات: 6614

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مع إبراهيم أصلان: المبدع في قمة نضجه (Re: عبد الحميد البرنس)

    ازيك يا برنس
    حينما عرضت ليالى الحلميه كنت حينها فى الاسكندريه وكنا عقب كل حلقه نلتقى انا وبعض الاصدقاء بالعم عيد صالح عليه الرحمه والعم ابوعيسى صاحب مكتبة دار الثقافه الجديده بالازريطه او المزريطه كما يحلو للاسكندرانيه.وكان النقاش يذهب بنا بعيدا حول اين اصاب اسامه انور عكاشه واين جانبه الصواب وشهادة العم عيد صالح كانت قيمه للغايه لانها تأتى من مناضل حق عاصر الاحداث الكبيره وزامل شهدى عطيه وشهد مقتله على ايدى الشرطه المصريه هو ورفاقه..فى تلك اللقاءات زار الاسكندريه محمد الجندى وهو ايضا زعيم شيوعى قامت على يده و رفاقه الصروح الاولى للحركه العماليه المصريه ..يومها سألت الرفاق المصريين عمن هو الكاتب الذى نجح فى عكس الحياة فى مصر عبر المراحل المختلفه تعددت الاجوبه لكن ما من واحد منهم استطاع تجاهل اصلان وما من مجيب على اسئلتى الا وذكر (وردية ليل)..اصلان من الارقام الكبيره فى الروايه العربيه وهو يعرض الواقع بلا تزويق ويصدمك ببداهات ملقاة على قارعة الطريق ولكنك لا تراها ..ان كان من سبيل فلتنقل له تحيات قارئ سودانى يحبه.
                  

12-03-2010, 06:52 PM

عبداللطيف حسن علي
<aعبداللطيف حسن علي
تاريخ التسجيل: 04-21-2008
مجموع المشاركات: 5454

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مع إبراهيم أصلان: المبدع في قمة نضجه (Re: د.محمد بابكر)

    اعجبتني لغة الحكي


    فوق!
                  

12-03-2010, 08:12 PM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مع إبراهيم أصلان: المبدع في قمة نضجه (Re: عبداللطيف حسن علي)

    Quote: يصدمك ببداهات ملقاة على قارعة الطريق ولكنك لا تراها


    الخ الدكتور محمد بابكر:

    قبل سنوات تبدو الآن موغلة في القدم، رغبت صديقة سودانية، على قدر عال من ثقافة هذه الأيام، في "رؤية أصلان هذا". كنت وقتها في الطريق إليه لتسليم مادة لها علاقة بأحوال المشهد الثقافي وقتها. كان مكتب جريدة الحياة اللندنية قد قام بتبديل موقعه داخل جاردن سيتي من على شارع أمريكا اللاتينية إلى شارع رستم للتو. كان أصلان وقتها سعيدا بحيّز ضيق أقرب إلى زاوية صغيرة للخلو بالنفس منه إلى مكتب. كان في هيئته العامة أقرب إلى حرفي خرج للتو من إحدى حارات يوسف إدريس. كما لو أنه نجار يستجم قليلا أمام ورشته. لولا إحدى لوحات فان جوخ على الجدار أعلى رأسه وبورتريه لنجيب محفوظ ورفوف الكتب. كانت رهبة الزائرة قد تلاشت تماما، حين أخذ أصلان يحكي بسخريته المعهودة عن ضيق الحارة التي يقطن داخلها في حيّ إمبابة المدقع في فقره، قائلا "لما الواحد يتمطى عندنا يلاقي يده تلعب في رقبة جاره".

    ذلك، يا دكتور، وصف دقيق للسمة المميزة لأصلان ككاتب. تحويل اليومي والعادي والمألوف إلى جمالي.
                  

12-04-2010, 00:53 AM

ناظم ابراهيم
<aناظم ابراهيم
تاريخ التسجيل: 04-18-2008
مجموع المشاركات: 3734

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مع إبراهيم أصلان: المبدع في قمة نضجه (Re: عبد الحميد البرنس)

    عبد الحميد

    عام سعيد


    نستنشق شويه Fresh Air

    صاحب (ورديه ليل )كم احببناه
                  

12-04-2010, 01:21 AM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مع إبراهيم أصلان: المبدع في قمة نضجه (Re: ناظم ابراهيم)

    Quote: اعجبتني لغة الحكي


    شكرا، عبداللطيف، للمرور والتعليق.


    عن كاتب يصنع من الموت حياة، عن هنريميللر في مدار الجدي:

    "كان عليّ أن أتعلم، كما فعل بلزاك، إن على المرء أن يكتب مجلدات عديدة قبل أن يُذيّل واحدة باسمه. كان عليّ أن أتعلم، كما حدث بعد ذلك بوقت قصير، إن على المرء أن يكتب ويكتب ويكتب، حتى وإن كان كل مَن على الأرض ينصحونك بعكس ذلك، حتى وإن لم يؤمن بك أحد. لعل المرء يفعل ذلك لأنّ لا أحد يؤمن به؛ لعلّ السر الحقيقي يكمن في جعل الناس يؤمنون".

    Quote: نستنشق شويه Fresh Air


    أسعد الله أوقاتك بكل خير، يا ناظم.

    وهنا، نسمة تالية من أصلان:


    تأهيل مواطن


    يتحدث المذيع الشاب متأنقا وهو يداري ابتسامته الساخرة، يداريها بأدب ليس نهائيا لأنه حريص علي وصولها إلي جمهور المشاهدين، وأنا منهم.
    يقول محدثا المغني الشعبي شعبان عبدالرحيم:
    'لكن أنت قلت انك حريص علي لبس هدوم، تكون لون قماش الأنتريه'. وشعبان، الذي جلس مثل طفل كبير في ثياب ملونة، يفكر قليلا، ثم يقول:
    'والله، هي ظروف. يعني شوف'،
    ويمد كم سترته إلي مسند المقعد مضاهيا الألوان، ولأن سترته تجمع كل الألوان، لايلبث أن يعثر علي لون مشترك بين الإثنين.
    ويقول المذيع الشاب:
    'إنت قاصد كده طبعا؟'.
    وشعبان يقول أنه، في الحقيقة، يرسل زوجته إلي الوكالة لتشتري له القماش، وهو يعطيه لترزي يعرفه ويطلب منه أن يفصله.
    'وبتقول لها علي الألوان اللي تشتريها؟'.
    يقول أنه يطلب منها أن تأتي بألوان غير الألوان التي اشترتها الأسبوع، أو الشهر الماضي، مثلا.
    'إشمعني؟'.
    وهو يقول:
    'ما هو ده ضروري برضه'.
    'ضروري ليه؟'.
    وهو يشرح، بطيبة خاطر واضحة، كيف أن المطرب لازم يلبس هدوم، لها ألوان وتفصيلة غير التي يلبسها المعازيم في الفرح.
    'ليه يعني؟'.
    شعبان يفكر ويقول:
    'يمكن علشان يبقي باين بين الناس'.
    سؤال:
    'إنت بتحب تاكل رنجه، مش كده؟'.
    'آه، أنا باكل رنجه'
    'إيه السبب؟'
    'أبدا'، باكلها بس'.
    'إيه السبب يعني، مفيده للصوت ولا ايه؟'
    وشعبان يقول:
    'مفيده آه'.
    ثم يضيف مترددا:
    'أنا سمعت إنها مفيده. ومادام الحاجة مفيدة، ممكن البني آدم ياكلها؟'
    'بتحبها قوي؟'.
    يقول انهم يستسهلونها. في أي وقت فيه زنقة ولايوجد أكل:
    'روح يا واد لخالتك أم (وقال اسما للبائعة لا أذكره) وهات لنا رنجه من عندها. الواد يروح يجيب، ويرجع علي طول'.
    'يعني ليل ونهار قاعد تاكل رنجه؟'
    'لأ. باليل باكل ممبار'.
    'ياسلام؟'.
    'آه. أنا باحب الممبار'.
    ويقول أنه بعد أن تعرف بعادل إمام، يذهب إليه دائما. وأن عادل عندما يراه يصفق للجرسون ويطلب منه أن يأتي له بالممبار:
    'علي طول'.
    ويهز رأسه بثقة:
    'أنا كييف منبار'.
    'كويس قوي. لكن انت بتقبض كام في الفرح؟'.
    يقول شعبان أنه يقبض:
    'ساعات ثلاثة، وساعات خمسة'.
    'يعني كام بالظبط؟'
    'هي تبع الظروف يعني. وكمان المشوار البعيد، غير القريب'،
    ويضيف أن عمره ما تكلم مع أحد عن الفلوس:
    'معايا واحد، هو اللي بيتفق'.
    'طيب وإيه حكاية إسرائيل دي، إنت بتكرهها؟'
    'آه. أن باكرها'.
    'علشان كده عملت أغنية أنا باكره إسرائيل؟'.
    'عملتها آه'.
    'حصلت معاك ازاي دي؟'
    يقول شعبان أنه كان يغني عند أحد الأمراء وسمعها وهو يغني، وأعطاها للمؤلف الذي يكتب له أغانيه، وعمل منها أغنية وهو غناها:
    'وعنها يا باشا'.
    'عنها إيه بقي؟'.
    'الفضائيات، والسي إن إن. الدنيا كلها اتقلبت، وشارون دلوقت عمال يلف في الحواري، ويقول للعيال إن شعبان بيشتمني'.
    وتزداد النظرة الساخرة في عيني المذيع الشاب، فلم تعد هناك، في الحقيقة، حاجة لإخفائها. ويقول:
    'سمعنا إنك بتشتغل دلوقت في السينما'.
    'آه. فيه فيلم مع الأستاذ داود عبدالسيد'.
    إللي هو مواطن ومخبر وحرامي
    'صح'.
    'وأنت الحرامي. مش كده؟'.
    يسكت شعبان قليلا.
    وأسمعه يقول:
    'هو أنا مش حرامي. أنا واحد عادي، لكن باقوم بدور حرامي'.
    'متشكرين ياشعبان، أن شاء الله نجيبك تاني'.
    'متشكر قوي'.


    إبريل 2001
                  

12-04-2010, 08:11 AM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مع إبراهيم أصلان: المبدع في قمة نضجه (Re: عبد الحميد البرنس)

    عن موقعه في (دار الشروق):

    9sudansudansudan.jpg Hosting at Sudaneseonline.com


    أثناء رحلة للعلاج.

    sudansudansudan39.jpg Hosting at Sudaneseonline.com
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de