|
مرثية ليساري يتفسخ داخل ذكرياته
|
كما لو أن الصيني أفشى له شيئا مما حدث تلك الليلة. حدست ذلك من وقع نبرته. كان الوقت صباحا. قال إنه يريد أن يحدثني عن أمر ما على انفراد. حدد على غير العادة منطقة محايدة للقائنا عصرا في رحاب مقهى تتناثر موائده في الهواء الطلق عند ملتقى النهرين. كانت أغنيات بوب مارلي تنداح من قلب المقهى على مدار الموسم الصيفي. ثمة شيء مثير للأسى يتخلل روحي كلما رحت أنصت إليه. "في هذا المستقبل العظيم، لا تنسى ماضيك، لا تحزني يا امرأة، كل شيء سيغدو كما يرام".
الشمس حانية. الأشجار تلقي بظلالها على سطح المياه الهادئة والناس والأشياء بعدالة بدت لي في تلك اللحظة كدعوة صامتة للحبّ والغفران. عادل سحلب يجلس في انتظاري على قلق. أراه من هناك بينما أقترب منه أكثر فأكثر. لا يتوقف عن التدخين بشراهة. أمامه زجاجة بيرة. لم تمس بعد. أشار لي. لكأنه يلفت انتباهي. بدا لي في أي وقت بعد حادث انتحار مها الخاتم وديعا مسالما، على قدر كبير من الطيبة. أخذت أرتشف بيرتي التي أحضرها لي منذ دقائق، متفقدا المكان من حين لآخر، المقرن يعج بحركة دائبة على غير العادة، عادل سحلب يواصل تجرع بيرته بنظرات شاردة، أسلمت أذني لأغنية أخرى "لا تقلق بشأن الأشياء، كل شيء سيغدو جميلا، ثلاث عصفورات، يغردن قرب بابك، قائلة لك بلحن شجي: هذه رسالتي إليك".
كان هناك خيمة في قلب المكان للرقص الفلكلوري تعاقب عليها راقصون من دول وألوان مختلفة، ثمة داخلون إلى المطاعم المتناثرة حول خيمة الرقص وخارجون منها يبحثون عن شيء أوآخر، إنه "يوم كندا"، بداية الاستقلال القريب من بريطانيا، شيء آخر ينفصل في تلك الأيام من جسد الانجليز، يسير مبتعدا مثل كتلة الجليد الضخمة تبحر بعيدا ببطء ولا عودة، الأمر حدث في أمريكا بقذيفة مدفع، بدا هنا أقرب إلى تلك الآثار التي تحدث بفعل الزمن وعوامل الطقس والبكتيرياء على جسد قديم. أخيرا، بدأت أستمع وسط تلك المباهج إلى عادل سحلب بلا مبالاة وهو يخبرني بآخر تطورات الصيني، فكرت في نفسي أنه دعاني لأمر آخر ولا بد، لا يمكن أن أطوي كل هذه المسافة لسماع أمر آخر من حكايات المنفيين الغرباء. قال إن اليوناني قام بطرد الصيني من داخل ذلك الملهى الليلي. "تصوَّر"!. قال "صاحبك الصيني ظلّ لوقت طويل يوصد عليه باب غرفته، نادرا ما يتبادل الكلام، "إنه مكتئب". أخبرني، حين سألته عن السبب، أن الصيني تبين له أن اليوناني كان يعده سرا لوظيفة أخرى، "غير أخلاقية والعياذ بالله"، كان وقع المفاجأة عليه عظيما. قال عادل سحلب إن اليوناني حسب ترجمة الصيني ظلّ يعده للعمل في وظيفة "الحفَّار الذهبي". ترجمت إلى الانجليزية حرفيا ما أخبرني به عادل سحلب للتو "غولد ديغر". لم أفهم. فجأة، أخذ عادل سحلب يتلوى في مقعده، ضاغطا على وسطه بكلتا يديه من شدة الضحك، وقد سبقني بثلاث زجاجات من البيرة، قبل أن يخلد على حين غرة إلى صمت حزين. خطر لي أنه يتقدم في العمر. لم تكن واقعة الصيني مضحكة إلى تلك الدرجة. أكثر ما لفت انتباهي إليها أنني بدأت أفكر في وجود معارف أخرى في هذا العالم لم ألتفت إليها من قبل. قال إن هناك بعض النسوة العجائز ممن يذهبن إلى ذلك الملهى المملوك لليوناني بحثا عن رجال في أعمار صغيرة ليمارسن معهم الجنس لقاء مبلغ كبير من المال. يُطلق "على الواحد من هؤلاء الرجال" لقب "الحفَّار الذهبي حمانا الله". أخيرا سألني وهو يشخص ببصره نحوي عما إذا كنت أعتقد أنه هو شخصيا السبب المباشر في انتحار مها الخاتم؟.
يتبع:
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: مرثية ليساري يتفسخ داخل ذكرياته (Re: عبد الحميد البرنس)
|
كنا جالسين في تلك اللحظة فوق حائل الأمواج، أقدامنا متخالفة معلقة في الفراغ، أيادينا إلى حافة الحوض الخلفية مبسوطة تسند ثقل ظهورنا. أسيني بويني يلوح أمامنا على بعد خطوات قليلة، مياهه راكدة معتكرة تقلقها حركة الزوارق من آن لآخر، على ضفته الأخرى تنهض غابة من الآش على جزيرة ناهضة بينه وبين الريد ريفر، ذكرني موقعها لسبب ما بموقع جزيرة توتي في السودان، وهي تنهض بطيبة بين نهري النيل الأبيض والنيل الأزرق، قبل أن يلتقيا ويتوحدا في مجرى نيليّ واحد، وتلك بداية نهر النيل ورحلته فيما يشبه المعجزة عبر صحاري وكثبان رملية وأراض صخرية صوب مصبه على البحر الأبيض المتوسط في مصر. كنت أعاني من سريان البيرة طفيفا، عندما بدأت أتخيل مشهد هندي أحمر مر عبر ذات المكان قبل ألف عام. كانت أصوات المحتفلين بعيد "يوم كندا" تتناهى من غير مكان، واسيني بويني لا يزال متكاسلا في سيره، لكأنه لا يريد أن يفوِّت عليه بهجة الألعاب النارية عند حلول الظلام الوشيك، قبل أن يواصل طريقه للقاء الريد ريفر المندفع بعنفوان وهيبة. كنت أتشاغل بمرأى أطفال صغار، أخذوا يتطلعون إلينا عبر ذلك الفضول العفوي الخالد، حين ألقى عادل سحلب ذلك السؤال. قلت في نفسي "الموت آخر ما يذكر في هذا المقام". أدرت رأسي صوبه ببطء وحذر. لم يكن ينظر نحوي. كان مطرقا يتلاعب بقدميه في الفراغ ومرأى الأرض من تحته بدا داكنا. أعدت بصري إلى مداره الأول متفقدا من حولي تلك الظاهرة الطبيعية الموحشة: الأشياء داخل العتمة "تبدو ولا تبين". حين التقيت أخيرا نظرته، على ضوء المصابيح المتناثرة، والمحتفلون يضيّقون من مساحة اليابسة المنبسطة بيننا وبين النهر انتظارا لبدء الألعاب النارية، بدا أن نظرته لم تكن نظرة عاشق سابق على أبواب العزاء، كانت نظرة طائر ذبيح. قصدت إلى أن أطيل مدى الصمت أكثر. قلت في نفسي "لا، لن أحل تناقضاته العالقة". عاد لتكرار نفس السؤال بالحاح طفل حائر هذه المرة. طلبت منه تأجيل إجابتي. لم أكن أراه والأشكال النارية الجميلة تُزين سماء النهرين. كنت أحسّ بوجوده مثل لحن جنائزي نشاز تسلل خاسة إلى جوقة الفرح، تلك محنة السياسي السابق وحده. كان الناس يخلون ميادين المقرن زرافات ووحدانا سالكين طرقا مختلفة وعادل سحلب اقترح عليَّ أن أذهب معه إلى شقته لتكملة السهرة في صحبة الصيني الذي طرأ عليه تحول غريب في أعقاب تجربة اليوناني بفترة. كفَّ تماما عن تقديم الخدمات للآخرين. صار يتعاطى الخمر كما لو أنه يقوم بتصفية حسابات عالقة طويلا بينه وبين الاستقامة والصمت وأشياء أخرى. تبدلت الأحوال على نحو درامي داخل شقتهما. أخذ عادل بعد حادث انتحار مها الخاتم يميل إلى الصمت أكثر فأكثر. الصيني في أعقاب صدمة اليوناني لا يكاد يترك أمرا إلا قتله بحثا وتعليقا حتى أن عضلات وجهه أخذت تكتسب مرونة فائقة في فترة وجيزة فصار مثل عامة الناس لا تنقصه المشاعر، بينما شرع وجهه الشمعي في الذوبان بلا عودة، حين هدم أسوار سجن "الساقي" داخله، وقد بدا الأفق أمامه مليئا بالوعود، ومخزونه من الخيال بدا كما لو أنه احتفظ به كل هذه المدة ليكون بمثابة جسر يعبر به أخيرا من عالم المنفيين الغرباء الضيق إلى رحابة الحياة في بر كندا.
يتبع:
| |
|
|
|
|
|
|
Re: مرثية ليساري يتفسخ داخل ذكرياته (Re: عبد الحميد البرنس)
|
آنذاك، أخذ الصيني يكتشف لديه مواهب دفينة في التجارة. بدأ بعادل سحلب نفسه. كان الأمر أشبه بالتواطوء والاتفاقات الضمنية. عادل سحلب يشتري الخمر مقابل تلك الترجمات التي درج الصيني على تقديمها له بصورة تكاد أن تكون يومية. عادل سحلب نظر إلى الأمر في البداية بنوع من شفقة يشوبها الغموض، ثم تحول موقفه منه إلى سخرية خفية، قبل أن يغرقه الذهول في بحر من الحيرة، وهو يرقب عن كثب إزدهار تجارة الصيني ورواجها. كما لو أن نجاحه يتم بلا عثرات.
كان الصيني الذي هبطت عليه الطلاقة دفعة واحدة قد أدرك حقيقة هامة: تزايد أعداد المنفيين الغرباء في المدينة. لا يكاد يمر نصف العام حتى يتم بقذف أعداد جديدة منهم في طرقات المدينة وأحيائها المختلفة. كانوا دائما منهكين بتعب تلك المنافي الوسيطة ومرضى بداء مزمن عضال يدعى "الحنين". كان بعضهم، في أحيان قليلة ونادرة، يتحسس مظروف خطاب قادم من الوطن، يتمعن فيه من وراء ستارة الدموع الخفيفة، كما لو أنه يشهد وقوع معجزة سماوية في زمن كثرت فيه أعداد الملحدين. أما الذين أُخبروا منهم أن ما يمضغونه الآن تمرة من نخيل الوطن فتمنوا لو أن الزمن يتوقف بهم عند تلك اللحظة ولا يغادرها أبدا.
شيئا فشيئا، أخذت شقة عادل سحلب والصيني تتحول إلى محل تجارية صغيرة لبيع "مضادات الحنين". بدأ الصيني بكروت المحادثات الدولية. كان المنفيون بحاجة دائمة إلى وجود مثل تلك السلعة، الحنين لا وقت له، قد يهجم على المرء في أية لحظة، إذا لم يُخمد في الحال قد يؤدي إلى اعتلالات صحية خطيرة، فقد تكون السوق موصدة حين تقرع أجراس الثانية بعد منتصف الليل، قد يكون البرد في عنفوانه عند السادسة صباحا، قد يخلو جيب المنفيّ الغريب في تلك اللحظة من دولار واحد، لكن الصيني دائما هناك، يُملي عليك شفرات ما تطلبه من كروت عبر الهاتف، لا يهم متى يتم دفع قيمة ما خفَّ من ثقل الحنين من ذرات طالما يتم الدفع في نهاية المطاف. طموح الصيني لا يتوقف أبدا هناك. كان لا بد من تغذية أرواح المنفيين الغرباء بألبومات غنائية لمطربين من الوطن وأخرى دينية وثالثة تذكرهم بأن العالم الذي تركوه وراءهم لا يزال به مَن يلقي النكات ويُضحِك. كانت السلع تتكدس داخل الشقة المشتركة وحتى الحمام وصلت إلى أحد أركانه كومة من المسابيح الحجازية المضيئة وقد تم وضعها داخل شنطة بلاستيكية محكمة الإغلاق. لكن النقلة الحاسمة في سيرة تاجر "مضادات الحنين"، تحققت حين شرع الصيني في سد حاجة المنفيات الغريبات من مستلزمات تقاليد الزينة الضاربة في رُحم التاريخ، جلب حتى الودك والحنّة وبخور الصندل والخُمرة وفركة القرمصيص وشعر الجورسي المستعار والخُمرة الزيتية والمحلبية والسرتية و"فرير دمور" و"الزمام أبو رمشة" والكُحل والمراويد وحلاوة شيل الجسم في عُلب بلاستيكية سمنية صغيرة بلا تواريخ صلاحية وأثواب السهرة الهندية البرّاقة، ناهيك عن سده لحاجة العجائز من أدوية عُشبية وتمائم مانعة للسحر وشر الأعين الخائنة. حتى غرفة عادل سحلب اكتظت بثياب الرجال التراثية مثل الجلاليب والعمائم المختلفة والعراريق وسراويل التِكَة. الحال تلك، لم يعد أمام الصيني، الذي لم يفت عليه أن يسد حاجة المنفيين الغرباء من أطعمة الحنين، سوى الزحف إلى محل تجاري داخل مجمع "بورتيج بليس" نفسه، وقد أضاف إمكانية تحويل الدولارات إلى الوطن إلى قوائم تجارته المزدهرة. لقد أعطى الصيني للمنفيين الغرباء ما أرادوا: الشعور أنهم لم يغادروا موطن أجدادهم لحظة.
يتبع:
| |
|
|
|
|
|
|
Re: مرثية ليساري يتفسخ داخل ذكرياته (Re: عبد الحميد البرنس)
|
كنا نسير في اتجاه شقة عادل سحلب بتمهل. كان قد اعتلى منبر النظريات الكبرى ومنصة الأفكار الكبيرة فجأة. لا يتبادر إلى ذهنك، يا رفيق حامد، أنني مجرد كادر جماهيري، لست خطيبا في مسجد الحزب، ما كان من أمري في القاهرة ليس سوى دور كنت قد أتقنت القيام به مكرها من باب "البقاء حيّا". لو أنني اتبعت وقتها ما يمليه عليَّ فكري وقناعاتي الحقيقية لمت من الجوع أوالتشرد. العالم لا يكاد يطيق وجود الأذكياء هذه الأيام وحكمته لاءات ثلاث: لا أرى، لا أسمع، لا أتكلم.
لم أكن يوما في موقع الفيلسوف الآمن الذي يشير بسبابته إلى علل الأشياء بلا مواربة. كان الخوف من المجهول لحظة النطق بالحقيقة ولا يزال يحكمني. أنت لا تعرف بأس الرفاق، لأنك لم ترَ حتى الآن سوى ابتساماتهم، لقد أوغلوا في تقديس الرموز حد تأليههم، لو أنني أخبرتهم وقتها أن ما اعتبروهم مأخوذين ببريق تضحياتهم البطولية ليسوا في واقع الأمر سوى رجال دين في ثياب حديثة لانهد المعبد على رأسي. الماركسية وغيرها من النظريات الحديثة لا ينتجها سوى منهج عقلاني. نحن أسرى لمناهج ثنائية تقليدية قائمة على النقل والحفظ والالزام والتلقين. المأزق لا يبدأ من زعماء اليسار التاريخيين. المأزق تعود جذوره إلى رواد النهضة لدينا أنفسهم. قاسم أمين مثلا. حين نادى بحرية المرأة، أنتج ذلك بمنهج الخرافة السائد آنذاك ولا يزال، إنه حين يدعو أن تكون وضعية المرأة لدينا مماثلة لوضعية المرأة في أوربا من حيث الحريات العامة يستدرك قائلا عند كل نقطة "لكن هذا لا يتعارض مع الاسلام". إنه لا يحدث قطيعة تاريخية مع النظرة السائدة إلى المرأة، قاسم أمين للأسف لم يختلف مع المرجعية السائدة إلا على مستوى تأويل المرجعية نفسها، إن خطورة مثل هذه الدعاوى تكمن في كونها لا تفعل من داخل ثوب تقدميتها القشرية سوى إعادة إنتاج التخلف في قالب جديد. ما فعلته النهضة الأوروبية كان أمرا أكبر من ذلك وأكثر أصالة. إن الفعل الحاسم للنهضة الأوروبية تمثَّل في نقل تصورات الإنسان لنفسه والعالم من خارجه إلى داخله، من المقدس المطلق إلى النسبي التاريخي، وهذا هو جوهر العقلانية. لم يكن عادل سحلب وهو يفلسف الأمور فجأة على ذلك النحو "مثل رجل ثمل يمشي فوق جليد زلق". لقد بدا لي منطقيا إلى حد بعيد. لكنني لم أستطع أبدا أن أواصل الإصغاء إليه من دون التفكير في عمله كغاسل للأطباق في مطعم سويس شاليه.
يتبع:
| |
|
|
|
|
|
|
Re: مرثية ليساري يتفسخ داخل ذكرياته (Re: عبد الحميد البرنس)
|
كان على المائدة الفتوش، التبولة، أقراص من الكبة المقلية، سلطة البطاطا بالكزبرة الخضراء، ورق عنب محشو، باذنجان متبل بالطحينة، دجاج بالأرز، صيادية السمك بالأرز، داوود باشا وأنواع أخرى من السلطة. ثم جييء إلينا بورد الشام ومربى البلح الطازج بالقريشة وشيئا من ليالي لبنان. حلويات ذات مذاق مدهش. كنا نأكل ببطء وتلذذ على أنغام فيروز الشجية الخافتة. كانت إضاءة المطعم حالمة، ستائر الواجهة الحمراء السميكة مسدلة، على الجدران المكسوة بورق برتقالي مقوّى ثمة لوحات لطبيعة صامتة تمثّل آنيات وخضروات وفواكه وزجاجات خمر فارغة بألوان مختلفة. كنت أشعر كما لو أن المنفى لا وجود له. لم يدر في ذهني وقتها أن ما بدا لي نعيما سماويا ليس سوى البداية الحقيقية للمأساة. كان عليَّ أن أنتظر وقوع مثل تلك الخطوة لأكتشف خرائب قصوري الثورية. كانت تفوح منها من آن لآن رائحة خفيفة من عطر يدعى "رُمبا". لم يكن التاريخ والمستقبل حاضران. وقد أصابني منها عدوى اللحظة وثمالتها.
منذ أن صافحتها عند مدخل المطعم، بدا لي على خلفية مكالمتها التلفونية في الصباح وكأننا مقبلان على نهاية حياة وبداية حياة. لمسة يدها، شعرها الطليق، إيقاع نهديها عند الخطو، نبرتها، نظراتها الحالمة، كل ذلك وغيره، وشى لي آنذاك عن رغبتها الجارفة في التحليق عاليا تلك الليلة. بجرأة، عند منتصف الوجبة، وهي تضع عينيها الجميلتين داخل عينيّ، سألتني واضعة شرفي الثوري على محك التجربة إن كنت على استعداد للطيران إلى جانبها. لوهلة قصيرة، خيل إليَّ أنني أسمع صوتا يتناهي من أعماقي القصيّة يخبرني أنني لا أملك الأجنحة الكافية للتحليق في فضاء أنثى مثلها تضع وجودها كله على كف المغامرة مدفوعة بمفاهيم غامضة عن الحرية والمساواة والعدل. كنت أنظر إلى مجرى نهديها الضيق العميق حين قلت "نعم". قالت وهي تهدهد مخاوفي الخفية إنني سأرى أن البستان لم يطأه من قبلي رجل. لعلي ظللت أسوقها في طريق الإيحاء لإتخاذ تلك الخطوة كما لو أن كل شيء يتم بإرادتها. الوقت يمر. للطعام شهية. فضاء الجذب بيني وبينها يتكاثف عبر ملايين الأمواج اللامرئية وللتأجيل إطالة أمد اللذة. وا.. أسفاه، يا حامد. جمال الأنثى يظل في أغلب الأحوال آسرا قويا، حين نتطلع إليه وهو يشرئب سامقا في تلك الأعالي، مدفوعين إليه بحمى الرغبة وسعيرها، لكنه سرعان ما يبدأ في الذبول ويفقد بريقه شيئا فشيئا كلما زدنا من تملكنا له.
اقترحت عليها أن نذهب إلى شقتي في ميدان المحكمة القريب بعربة أجرة. قالت تبرر رفضها إنها تفضل أن تسير بقدميها إلى جانب فارسها نحو أكثر لحظات الحبّ قداسة. كان الوقت على مشارف الغروب، حين بدأنا السير على الرصيف ببطء أسفل أشجار البونسوانا المتعاقبة، كانت تسند رأسها على كتفي وتلف يدها اليسرى حولي بتراخ، بينما أحتويها من خصرها بيدي اليمنى. كنّا نتوغل في مدارج قرارنا بين جفن العالم ودهشته الكبرى.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: مرثية ليساري يتفسخ داخل ذكرياته (Re: osama elkhawad)
|
أسامة الخواض كمشاء بارع بين جمال الشعر وحقول الكتابة وتأمّلات المنفى:
حيّاك الله..
Quote: آسف لتاخير الرد إثر علة طارئة أصابت القدم اليمنى للمشاء،يبدو ان علاقتي بالمشي قد أزفت نهايته |
إنّ في الصمت كلاماً-ثلاثة مشاريع لسجالات اسفيرية
لا بأس عليك، أرجو أن تعود معافى سالما.
وبعد، هذا النصّ فصل من رواية أعمل عليها منذ أمد. عنوانها استقر أخيرا على اسم: خفاء المرئي (تقرير لعناية الوطن بخصوص أسير العبارة). لا أكتمك أنني نشرت هنا خلال الأيام الماضية في أوقات مختلفة فصولا أخرى منها كنوع من ملامسة أحد حقول الاختبار على مستوى القراءة. كن بألف خير، أنت وأسرتك الكريمة.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: مرثية ليساري يتفسخ داخل ذكرياته (Re: عبد الحميد البرنس)
|
كانت تشير إلى الثامنة مساء عندما خرجنا من مكتبي في صمت.
زحام. ضوضاء. سحنات من مشارب مختلفة. أبواق سيارات. ابتسمْ أنت في القاهرة. فضاء الحبّ ومدى الكراهية. أعشقها ولا أعشقها. أتذمر منها. لا أقوى حتى على التفكير أن مغادرتي لها أضحت وشيكة. هذه المدينة، أعلم أنني سأحملها في داخلي حتى الممات.
في هيئتها المتأنقة الآمنة نداء. لكأن التاريخ يعيد رسم معالم الألم. قالت إنها ترغب في السهر معي "هذه الليلة". طرقت باب المكتب قبلها في اللحظة التي أخذت أفكر فيها أنها غدت منذ فترة مهيأة تماما للفراش. قالت إنها تفكر جديا في الذهاب معي إلى كندا. إنها لم ترَ إنسانا آخر أكثر نبلا مني. الكلام لا يلزم المرء أن يدفع في مقابله شيئا. قلت لها إنها محقة. لا بد من البحث عن منفى آخر. تجاوزنا حرم الجامعة الأمريكية. أخذنا نسير بتمهل صوب شارع قصر النيل في اتجاه ميدان طلعت حرب. أخذت تراودني مشاهد رفقتها لعادل سحلب أسفل أشجار البونسوانا خلال ذلك المساء الموغل في النسيان. سألتني عند مطلع شارع عبدالخالق ثروت بدهشة "أحقا، لا تعرف النادي اليوناني بشارع عماد الدين، يا حامد". ظلّ نهدها الأيسر يلامسني خطفا أثناء الطريق. يبتعد ليعود مرة أخرى بمزيد من الحرائق.
اخترنا مائدة في ركن قصي من تعريشة صيفية ملحقة بالنادي تطل على سوق تجارية مغلقة وشارع جانبي معتم صغير. كان أغلب أولئك الجالسين حولنا أجانب. قلت لها إنني حتى وقت قريب ظللت محروما من ضرورات الحياة الأساسية فكيف لي أن أعرف مكانا بمثل هذه الفخامة.
كانت قد فقدت للتو عملها كمترجمة في إحدى المنظمات الأمريكية العاملة بالقاهرة. رأيتها وهي تضحك لحظة أن جاءت إلى منتصف زجاجة البيرة الرابعة. بدأتْ تحدثني لأول مرة بصورة مقتضبة عما حدث بينها وبين عادل سحلب في الماضي. لم يكن الأمر إذن مجرد شائعة. قالت "أعجبتني فكرة دفن الموتى كثيرا". قلت "لا يمكن المضي قدما من غير تصفية حسابات الماضي من غير رجعة، يا مها". كنت أهيئ لها الطريق للمضي في مغامرة أخرى. ابتسمتْ بشيء من المرارة. قلت "لا عليك". كاد الدمع أن يطفر من داخل عينيها الغائمتين، لحظة أن أمسكتُ بغتة بيدها المرتخية على مفرش المائدة الأحمر، اقتربت منها برأسي وعيناي مثبتتان داخل عينيها قائلا بصوت أدهشتني نبرة صدقه "لو لم يكن لديك ما يمنع، يشرفني كثيرا أن تكوني أمّا لأولادي".
بعد ذلك بدا كما لو أن موجات الجذب الصادرة من كلينا تصطرع فوق أثير المائدة الصيفي في عناق حميم ووله. أضفتْ اللغة الإنجليزية التي أخذنا نتحدث بها منذ البداية أجنحة ملائمة للتحليق أثناء عبور تلك المناطق الكأداة. الصمت يخيم. خيل لي أنها تتوغل بين تلك القبور الثاوية في أعماقها. أشعلتْ سيجارة. رنت إلى أسفل المائدة. بدا وجهها عبر رشفات البيرة وخلل الدخان المتصاعد صوب تبدده غارقا في طمأنينة لم أعهدها منذ أن رأيتها وهي تعبر بوابة مكتب الأمم المتحدة في ذلك الصباح لأول مرة. فجأة، أحسست بيدها، وهي تتسلل إلى باطن كفي اليمنى، بدت باردة معروقة مرتجفة، كرغبة عصفورة تتحسس عشا بدا آمنا. كنت أتخيلها في صمتها وهي تقف قبالة قبر عادل سحلب مرارا، بعد أن أهالت عليه التراب، ولا أسف.
يتبع:
| |
|
|
|
|
|
|
Re: مرثية ليساري يتفسخ داخل ذكرياته (Re: عبد الحميد البرنس)
|
حدث بعد ذلك أمر عجيب. كل شيء أخذ يتم في صمت وتواطؤ وسرعة غريبة. لم نتبادل كلمة واحدة داخل عربة الأجرة. كانت ساعة من ساعات بعد منتصف الليل المتأخرة. التواطؤ والصمت سيدا الموقف. لامستها متحسسا. هذه المرة، بدت يدها دافئة لدنة حُلوة الملمس. كنا نجلس على المقاعد الخلفية متلاصقين وكل منا ينظر في اتجاه نافذة مختلفة وجسدها لا يكاد يتوقف من بث اشاراته الخفية في عذوبة ورقة. مضت بنا العربة بعيدا في اتجاه مدينة نصر. هبطنا منها في شارع جانبي تلتقي فروع أشجاره السامقة المشرئبة بسوقها على جانبيه عند المنتصف حاجبة رؤية السماء الليلية الداكنة. تركتْ لي يدها اليمنى وذراعي اليسرى تحتك بدفء صدرها المكتنز. صعدنا إلى شقتها في الطابق الرابع. فتحتْ الباب. كما لو أن المواقف كلها قد جرى التدرب عليه من قبل في الخيال طوال حياة كاملة. أغلقتُ الباب ورائي كزوج يسير في أعقاب زوجته بعد حضور مناسبة اجتماعية عادية. رأيتها وهي تتخفف من ملابسها بينما تواصل السير صوب الحمام. كنت أتبعها بخطى تعرف طريقها جيدا كما لو أنها لم تكن أول مرة أدخل فيها إلى شقتها. الصمت والتواطؤ سيدا الموقف. أخذت أساعدها في خلع ستيانها بتلقائية. كما ينفض القطّ رأسه وهو يخرج من الماء اندلق نهداها. تلك المواقع التي لا تراها الشمس عادة. انحنتْ تضبط توازن الماء الباردة والحارة. آنئذ أمكنني رؤية موضوعها الخاص لأول مرة وهو يطل من زاوية خلفية ولدت في جسمي رعشة خفيفة وقدا بدا حديث الحلاقة. أخذتْ أدران النهار، آثار العرق الزنخة، وبقايا الشمس المدبوغة على الجلد تتحلل وتتساقط وتذوب وتنجرف مع رغوة الصابون بعيدا إلى مستقرها أسفل الأرض بلا عودة. قمتُ بتجفيفها بينما تضع عينيها على مكان ما من الحائط. سبقتني إلى الغرفة. الإضاءة خافتة تصدر من أباجورة صغيرة عند أحد الأركان. وجدتها مستعدة للإبحار صوب منابع اللذة. رأسها ساقطة صوب الحائط. شعرها الذي استطال خلال أشهر قليلة ملموم إلى أعلى. زالت عن وجهها تلك اللمحة الغلامية. كانت تبكي بلا صوت بينما دموعي تتساقط أعلى نهديها قطرة قطرة. فقدتُ عذريتي بعد الثلاثين.
يتبع:
| |
|
|
|
|
|
|
Re: مرثية ليساري يتفسخ داخل ذكرياته (Re: عبد الحميد البرنس)
|
مع مرور الوقت، بدأت علاقتي بها تشهد منعطفا خطيرا. أحيانا تبدو مسالمة وديعة شاردة، تعطيني جسدها بسخاء، جسد ميت، بلا روح، لا يقاومني إلا على نحو يفجر براكين الرغبة في داخلي أكثر فأكثر، لم أكن مكترثا بأدنى خلجة من مشاعرها، بدأتْ تدرك رويدا رويدا توقيت اللحظة التي أكون فيها قاب قوسين أوأدنى من ذروة التحقق، عندها فقط تفاجؤني، تدفع بصدري بعيدا، تطوي ساقيها، ثمة بريق مخيف يشع من داخل عينيها الغاضبتين. في مثل تلك الأحوال، أجلس على حافة السرير مطرقا، أنصت لصوت انفعالاتها الهادر بينما ترتدي ثيابها كيفما اتفق، أمسح نثار بصاقها المشمئز من على وجهي وريقي جاف، أرقب عضوي الخاص وهو يتراخى، لكنها ما تلبث وأن تعود إلى الغرفة بعد فترة قد تطول أوتقصر، ترفع رأسي إليها بيدين مرتعشتين، تنظر إليَّ بعينين مليئتين بالدموع، ورائحة جسدها ما تنفك توقظ رغبة المسارات الواحدة في داخلي بعد موات. أنت لا تريد أن تبرهن على حبك. لعلك تراني مجرد عاهرة. لدي مثل كل النساء أحلام.. بيت وزوج أفاخر به في العلن وأطفال. هذا الخفاء والإحساس المزمن بسرقة الحبّ يميتني في اليوم ألف مرة. غدا، نذهب إلى الشهر العقاري. نكتب عقد زواجنا. نقوم بتوثيق القسيمة. تضيفني إلى ملفك في الأمم المتحدة. لا تخف. لست راغبة في عرس مثالي. الحياة لن تتوقف لفاقة أو فقر. أنا حزينة وأنت سيد مَن يعرف الحزن. لك أن تتخيل حين نذهب إلى اجتماع الخلية متماسكين متقاربين متحابين، هكذا. "الأنبياء وحدهم معدون لحمل الصليب في هذا العالم ولستُ واحدا منهم". بتلك العبارة، رثيتها في نفسي، لحظة أن أنبأني عادل سحلب آناء تلك الليلة بحكاية انتحارها المأساوي، لم أستجب لما حدث مثله، لا وقت للبكاء، وتلك إحدى تعاليم المنفى، إن وُجِدَ وقت للبكاء، لا توجد يد حانية في هذا العالم يمكن أن تربت على الكتف حاملة العزاء والسلوى. البكاء إن بدأ لا يتوقف. وذلك صوت فؤاد حداد "بكيتْ مسحتَ دموعي.. مسحتَ دموعي بكيتْ".
يتبع:
| |
|
|
|
|
|
|
Re: مرثية ليساري يتفسخ داخل ذكرياته (Re: عبد الحميد البرنس)
|
مرة، أخبرتني عبر الهاتف أنها تعد في شقتها احتفالا خاصا بالمناسبة، بدا صوتها مشرقا مطهما بالدلال والإغواء، سألتني وسط تلك اللحظة النادرة من الأمان وقد بدأت تنتعش قليلا إلى جواري غارقة في سحر العبارات التي ظللت أُهدهدها بها من حين لحين "لا بد أن لديك مفاجأة بالمناسبة كذلك". قلت "نعم". بعد الإنتهاء من مكالمتها القصيرة تلك شرعت أفكر لمعرفة تلك المناسبة بلا جدوى. كانت "لا" كفيلة في الآونة الأخيرة بتبديل مزاجها في أقل من ثانية واحدة من النقيض إلى النقيض. شعرها مصفف بعناية، ترتدي فستان نوم أبيض قصير بحمالات رقيقة، نهداها طليقان، بدا على وجهها أنها أنفقت أمام المرآة وقتا طويلا لإخفاء أي أثر يدل على وجود تلك البثور التي أخذت تنتشر على وجهها بكثرة. لعل أكاذيبي لم تعد قادرة على حمل ماء السراب إلى بستان روحها. كانت أضواء صادرة من شمعتين تُضفي على الصالة شيئا أقرب إلى لمسة الأحلام الحانية. ثمة موسيقى خافتة تبثها "إذاعة البرنامج الثاني" ظلت تصدر من مكان ما أسفل نور الأباجورة الواقفة عند أحد الأركان كشاهد. هناك، على المنضدة المغطاة بمفرش بني فاتح ذي حواف جانبية مخرمة في شكل دوائر صغيرة متلاصقة لاحت بين الشمعتين تورتة بيضاء بحجم صغير رُسم أعلاها بطبقة رفيعة من شوكولاته ذائبة قلب مخترق بسهم الحب. ثمة كوبان مليئان بعصير البرتقال. قلت في نفسي لا يزال لها ذقن جميل. سألتني إن كنت أعرف مناسبة الاحتفال. كانت تشير إلى ذكرى أول ليلة حقيقية لنا داخل ذلك النادي اليوناني. تلك ثلاث سنوات بالتمام. عقلي ظل لحظتها صفحة بيضاء. رد فعلها بدا فوريا مباغتا. لم أشعر سوى بقالب التورتة وهو يلتصق بوجهي بعنف وبكوبي عصير البرتقال وهما يفرغان على رأسي وقبضتي يديها وهما تتهاوان على جسمي. بعد دقائق من وجومي المطرق، رأيتها هناك، على الأرض، تتلوى، يداها مضمومتان بين فخذيها، فمها يُزبد. قالت "انظر"، ثم تناهى صوت شنطة يد سوداء وهي تُفتح. أرتني أسفل نور الصالة المضاء للتو خصلات شعر كثيرة قائلة إنها وجدتها على مخدتها هذا الصباح. كيفية الهروب من كيان آدمي آئل للسقوط في أية ثانية. ذلك كل ما فكرتُ فيه لحظتها. قالت من بين دموعها "قريبا لن تكون على رأسي شعرة واحدة".
يتبع:
| |
|
|
|
|
|
|
Re: مرثية ليساري يتفسخ داخل ذكرياته (Re: عبد الحميد البرنس)
|
في البدء، جذبني حديثه في الندوات.
وسيم الطلعة. يفيض رجولة. نظراته ظلت تخترقني كلما رأيته هنا وهناك. كل نظرة منه ظلّت تفجِّر براكين الرغبة الكامنة في داخلي. أحادثه في العلن حول أمر عام. أحبس أنفاسي بينما يتكلم. في الطريق، أكتشف أن صورته لا تغادر مركز تفكيري. أضع رأسي على المخدة. أتلهف لملاقاة حلم جميل ظلّ يتراءى لي أثناء النوم بنفس تفاصيله الحميمة. أرق وشعور قوي بصدى صوته المعدني وهو يداعب حلمة أذني. أحسّ مع مرور الوقت بجوع هائل إليه. أريد فقط أن أبتلعه.
ذات مرة، جاء لتنويرنا في تلك الخلية بأمر ما. صادف وأن جلس إلى جواري. كنت أنصت فقط إلى صوت جسمه الصامت. أثناء ذلك، لا مس ذراعي بحركة عفوية. لا، لم تكن مجرد ملامسة عابرة. كان الأمر أشبه بارتطام كتلة مشاعر هوت من فضاء إنساني بعيد. لعله أحسها بنفس العنفوان. لأنه صمت بعدها فجأة. تلعثم. وحدها هي الأشياء الباقية التي تستوقفنا على ذلك النحو. لحظتا الميلاد والموت. سحر معانقة أثر خالد. صارحته بحبي عبر الهاتف. كنت خائفة على كبرياء الأنوثة في داخلي. لم يطلب فسحة للتفكير. قال إن جرأة مثل هذه وُجدت في قلب أنثى أمر يجعله يقابل مصاعب هذا العالم بإبتسامة. كانت كلماته كالعادة شاعرية ومثيرة ولكنها تعني هذه المرة أنه يبادلني حبا بحب. قال إنه في حاجة إلى امرأة مثلي. حكا لي بصوته المعدني قصة زوجة أحد القياصرة الروس. قال إن القيصر في سبيل العدل أخذ يقسو على ابنه حين أساء استخدام نفوذه. تصوري أن القيصر أعدم فلذة كبده في النهاية. قبلها شكا الابن والده إلى أمّه. قالت له "لا تنظر إلى أبيك القيصر هذا يصول ويجول هكذا. إنه حين يأتي الليل يبكي على صدري كالطفل". حين وضعتُ سماعة الهاتف، عدوت إلى خارج البناية، أخذت أقفز، أرقص في الهواء الطلق، كما لو أنني أشهد العالم على حقيقة ما يحدث، لم يكن يبارح ذهني حتى خلال النوم سوى أمر واحد: التفكير في شعر صدره الكثيف.
كنا نسترق في البداية القُبلات والأحضان. يحدث ذلك عند منتصف سلالم بناية غارقة في العتمة، حديقتي الميرلاند في مصر الجديدة والأسماك في الزمالك، على المقاعد الخلفية لقاعة سينما مظلمة. الحبّ حيوان هائل لا يشبع. كلما أطعمته طلب المزيد. صحراء العشق عطش دائم. رواء ولا رواء. الرغبة الجارفة في ابتلاعه دفعة واحدة، لا تفارقني. عسى أن تعمل على تسكين أسباب هواجس فقده الغامضة في داخلي.
يتبع:
| |
|
|
|
|
|
|
Re: مرثية ليساري يتفسخ داخل ذكرياته (Re: عبد الحميد البرنس)
|
في ذلك الصباح، طلبت منه أن يحضر للغذاء في مطعم لبناني في مصر الجديدة بكامل أناقته. لم أعد أحتمل أكثر. كان قد استقر قراري بوضع حد لنقصان حبّ لا تمام له. لم تعد تلك الملاطفات مجدية بين رجل وامرأة في سبيلهما لقلب نظام هذا العالم رأسا على عقب. كنت أستعير كلماته للتفكير في حالتنا. أريد فقط أن أضع غشاء بكارتي أمام أطول الثوريين قامة. أقدمه له طائعة على مائدة القيم والتقاليد الرثة. حاستي السادسة تخبرني أنه لن يخذلني. كنت أسير إلى جواره مطمئنة. لحظة الاندماج الأبدي تقترب خطوة فخطوة. هكذا، أتاحتْ لي مها الخاتم خلال استراحات الفراش أن أطالع دفتر مذكراتها، لعلي أتفهم جراحات الماضي من قريب، لكن معاشرة الضحايا مدى العمر أمر أخذ يتعثر دائما بصخرة تعاليم المنفى القابعة في داخلي، كنت أستفيد من تلك "اليوميات" في ترميم ما أحدثه الزمن على جدران خططي، ممتنا في داخلي لله الذي أودع في دواخلنا "التفكير السري" والقدرة المتقنة لوضع تلك "التعابير الزائفة" على وجوهنا. لكنّ تعبيرا مليئا بالمرارة قد استوقفني طويلا عند مطلع تلك اليوميات "طريق الحبّ يقود أحيانا إلى كراهية العالم".
لقد بدا الأمر يتكشف لها عند نهاية اللقاء الأول المكتمل في صورة نظرة لها ملامح بذرة وُضِعت على تربة الملاحظة على نحو غامض. أخذ يكبر ويكبر فصار فسيلة ثم شجرة. ثمارها لا تطاق. الرجل الذي ظلّ يحلّق معها قبل ساعات داخل المطعم اللبناني، لغته الجسدية غريبة على دنيا أحلامها النقيّة كدمعة، بدأ سقوطه في نظرها لحظة أن فرغ مدويّا هاويا إلى جانبها على السرير من كل ذلك العلو الشاهق للنشوة. بكتْ بينما تُشهده على دماء عذريتها. لم تكن تنظر لحظتها إليه. لقد كشف جسده بمكنونه منذ الوهلة الأولى وأوجز. كان جسدها يتحدث لغة وجسده يتحدث لغة أخرى. لجسده روح صيّاد، أحكم قبضته على فريسة أخذتْ تتهادى نحو فخاخه المخبوءة بطمأنينة، لكأن ذلك حدث عند بدء الخليقة، حين لم تحكم الريبة بعد قانون العلاقة ما بين الصيّاد والفريسة. لجسدها روح بحث دائم متصل عن مشاركة عليا. بينما يواصلان السير أسفل أشجار البونسوانا بزهورها الحمراء الآسرة، أخذتْ الطريق إلى شقته في ميدان المحكمة القريب تبدو لعينيها كمسار تصاعدي صوب ذرى الحرية، حتى أن أصوات التقاليد الآخذة في التصاعد بدتْ لها مجرد توابل فاتحة للشهية، كانت ترفض في أعماقها فكرة التسليم منذ البداية بحقيقة ما شعرتْ وأحسَّت به عقب ذلك اللقاء الأول المكتمل. لكنّ الأمر اتخذ مسارا آخر، لحظة أن بدأتْ تلك الأصوات تتكشف لها كلما تقدم الوقت عما يدعونها أحيانا "الحقيقة بلا رتوش".
تلك نهاية هذا الفصل.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: مرثية ليساري يتفسخ داخل ذكرياته (Re: osama elkhawad)
|
Quote: قالت فور وصولها إنها لم تكفّ من يومها عن التفكير في مغزى زيارتي للمقابر نهار كل جمعة. "أنت، يا حامد، غريب حقا". كان عليَّ أن أبذل جهدا واضحا لتوضيح فكرة الوجود المجازي لتلك المقابر. المنفى، يا مها، مثل حيوان خرافي لا مرئي يكبر كلما طال أمده وتكبر معه حاجته التي لا تنتهي من أجساد المنفيين الغرباء وأرواحهم. إنه يحصد أجمل ما فيهم. لا يتركهم في نهاية المطاف سوى جثث تسعى. المنفى سرطان الحواس. يبدأ بالعين وينتهي بحاسة اللمس. فإذا العالم يخف حتى يبدو وكأن لا وجود له. عندها تغيب الفواصل، تتداخل الحدود، يختل سُلَّم الأولويات، وتندثر القضايا الكبرى تحت ركام كثيف من الحروبات الداخلية الصغيرة. المنفى حين يطول أمد بقائه يتحول تدريجيا إلى مسرح تنسج حكاياته أيدي أرباب النميمة البارعة: السلطة المخولة ضمنيا لقتل الأذكياء وصناعة أبطال من ورق يخالها الساذج جميلة حين تطل من خيلائها من على عرش الفراغ المكتظ بروائح المقاهي ومجالس الحجرات المؤجرة كمصانع خفية لالحاق الأذي بمن لا يزالوا يمتلكون عقولا حيّة وسط سهول ذلك الموات المترامي كالأسى. |
عزيزي الشاعر الكبير/ أسامة الخواض:
أسعدني إضاءة بعض ما تقدم من سردي بواسطة مفاهيم ومقولات سعيد. وتلك مسألة تبدو لي الآن أقرب إلى مقولة تقاسم ما هو جوهري بين البشر على الرغم من إختلاف الآليات وأشكال التعبير وكذلك التعدد والتنوع على مستوى نقاط البداية. الإنسانية تأخذ طرقا مختلفة نحو توحيدها. ولعلها ذات الفكرة التي دفعت بكازنتزاكي في "تصوف.." إلى القول "أنت لا تتكلم وحدك، ولا تتكلم سلالتك وحدها من خلالك، ففي داخلك تصطخب وتتصايح أجناس لا تحصى من البشر". خالص تقديري.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: مرثية ليساري يتفسخ داخل ذكرياته (Re: عبد الحميد البرنس)
|
قلت عزيزي البرنس: أسعدني إضاءة بعض ما تقدم من سردي بواسطة مفاهيم ومقولات سعيد. وتلك مسألة تبدو لي الآن أقرب إلى مقولة تقاسم ما هو جوهري بين البشر Quote: على الرغم من إختلاف الآليات وأشكال التعبير وكذلك التعدد والتنوع على مستوى نقاط البداية. الإنسانية تأخذ طرقا مختلفة نحو توحيدها. ولعلها ذات الفكرة التي دفعت بكازنتزاكي في "تصوف.." إلى القول "أنت لا تتكلم وحدك، ولا تتكلم سلالتك وحدها من خلالك، ففي داخلك تصطخب وتتصايح أجناس لا تحصى من البشر". خالص تقديري. |
نعم أن الأمر يبدو انه تقاسم الجوهري بين مختلف الخطابات.ففي خطابه النثري يلخص ادوارد سعيد تجربته وتجارب آخرين من المثقفين المنفيين. و من هنا تبدو عظمة فصلك الروائي الذي أحالني فور قراءته إلى ما سبق لي أن عرفته ولكن من خلال خطاب مختلف.فقلت في سري "لعلني شهدت ذلك عند ادوارد سعيد الذي قرأته قبل أكثر من عقد من الزمان.وفعلا وجدت تطابقا مدهشا في المعنى ،وليس في الشكل -بالطبع-فهو يقدم صورة عامة،بينما خطابك الروائي يقدم المنفى في سمته السوداني.و هذه-أي محاولة التوثيق الإبداعي للمنفى في صورته السوداني،محمدة تضاف إلى هذا النص الروائي.و كما سبق لي أن قلت،فكم هي الروايات التي تكلمت عن تجربة الهجرة-الذي استطال لاحقا إلى منفى-إلى الخليج مثلا؟؟ سأعود للحديث عن توظيف الجنس،ومقاربة السياسي في الخطاب الروائي.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: مرثية ليساري يتفسخ داخل ذكرياته (Re: عبد الحميد البرنس)
|
مر الآن، أكثر من ثلاث سنوات على أول لقاء لي بفتاة تدعى مها الخاتم. رأيتها قبل نحو ثلاثة أشهر من على ذلك البعد. حدث ذلك في ضاحية الميرلاند الراقية بمصر الجديدة. كانت خارجة للتو من مطعم لبناني في صحبة أحد أوغاد هذا العالم، عادل سحلب. يمكنك أن تضع صورة سحلب هذا داخل أي قاموس لغوي من غير أن تضع إلى جانبه كلمة. وقتها سيشير إليه الأعمى نفسه، قائلا "وغد".
كان الوقت على مشارف الغروب. كانا يتمشيان ببطء على الرصيف أسفل أشجار البونسوانا المتتابعة بزهورها الحمراء في اتجاه ميدان المحكمة القريب. هي تسند رأسها على كتفه واضعة يدها اليسرى حول وسطه في تراخ. هو يلف يده اليمنى حول خصرها النحيل بينما يتكلم. لا يتوقف أبدا عن الكلام. وغد حقيقي. هي ظلت تمسح على شعرها الطليق بيدها الخالية من آن لآن دافعة برأسها كله إلى الوراء قبل أن تعاود النظر إليه بتلك الملامح الحالمة. لا أدري إن خطر لها في تلك اللحظة لثانية أنها تنصت إلى الشيطان نفسه أم لا. كانا في حال استغراق عشقي تام. كنت وقتها أقف ملاصقا لعامود نور في انتظار مركبة عامة تقلني إلى نواحي الألف مسكن قريبا من حي عين شمس الشرقية لشراء حصتي اليومية من خمر مباركة تدعى "العرقي".
يتبع:
| |
|
|
|
|
|
|
Re: مرثية ليساري يتفسخ داخل ذكرياته (Re: عبد الحميد البرنس)
|
أذكر هنا أن البعض من بين أولئك العميان الذين استقروا بمرور الوقت في ذاكرة المنفيين الغرباء كضحايا لخمر رديئة قد بدأ يخبر معارفه تحوطا من حدوث اختراقات أمنية قد تتم من قبل النظام الديكتاتوري وعيونه الكثيرة التي جرى بثها في القاهرة أن يقوموا بالضغط على رسغه بصورة معينة إذا حدث وأن صادفوه في مكان عام. كان يقول لهم بشيء من الحذلقة "هذه شفرة تأميني".
كان الأعمى، رد الله بصره، يستشعر في نفسه أهمية عجيبة.
أذكر أنني تلقيت منه ذات مرة صفعة عمياء بعد أن قمت بالضغط على سبيل المزاح على مكان يقع ما بين صدره وبطنه. كان يقوده وقتها رجل لم يتعرّف عليَّ من قبل. لا أذكر أنني عدت لاحقا إلى تكرار مثل تلك المزحة السمجة. ما أذكره الآن وبوضوح تام أن للأعمى يد حَمَّال في ميناء. لم تكن له أبدا وعلى وجه الاطلاق يد عاملة خياطة في مصنع للملابس الجاهزة.
هذا العالم من الجدية بمكان. بدأ يفقد حسّ الفكاهة لديه منذ أمد بعيد. أحيانا أتساءل بيني وبين نفسي مندهشا من بصيرة يد الأعمى بينما أتحسس موقع تلك الصفعة عند منتصف وجهي تماما قائلا ما الذي يمكن أن يحدث لي بحق الجحيم لو أنني قمت يومها بالضغط مباشرة على مؤخرته. الوغد، سيعتقد آنئذ وبما لا يدع مجالا للشك أنه قد وقع هذه المرة في قبضة ل وط ي، لا جاسوس.
يتبع:
| |
|
|
|
|
|
|
Re: مرثية ليساري يتفسخ داخل ذكرياته (Re: عبد الحميد البرنس)
|
أخيرا، وصلت إلى بيت أشوك صاحبة العرقي المميز في نواحي الألف مسكن. امرأة سوداء بدينة ظلت تلف ساقها اليسرى دائما بشريط طبي متسخ بعض الشيء. ما إن تبادلك العرقي مقابل تلك الحفنة القليلة من المال حتى تعود في صمت وخطى قصيرة بطيئة وتجلس بلا مبالاة على كنبة خشبية في أحد جوانب الصالة وتتابع النظر بمسكنة وتسليم غريبين إلى شاشة تلفاز صغير ظلت تتبدل مشاهدها المصوَّرة بلا صوت، لا تستجيب بعدها سوى لطرقات قادم جديد. كنت أجد عندها من حين لآخر بعض المنفيين الغرباء ممن يؤثرون الجلوس لدقائق أوأكثر لتناول ما يعرف في "أدبيات العرقي" بمصطلح "كأسات الطريق"، وحتى هؤلاء لم تكن أشوك تتبادل معهم كلمة واحدة، عدا لحظة أن يطلبون منها مزيدا من الشراب وأحيانا تجدهم وقد تلبستهم حالة شعرية غريبة من نوعها فيشرعون على الفور بالتفوه بعبارات مثيرة للحيرة من شاكلة:
"أجمل من الخمر كيفية العثور على الخمر".
يتبع:
| |
|
|
|
|
|
|
Re: مرثية ليساري يتفسخ داخل ذكرياته (Re: عبد الحميد البرنس)
|
هذه المرة وجدت في معية أشوك ما بدا لي مثقفين ضليعين من عُملة فلسفية نادرة تذكرك لوهلة بحوارات السيد أفلاطون في "الجمهورية" مع أولئك السوفسطائيين.
كانا في منتصف مناقشة حول ما أخذا يدعوانه في حوارهما المشتبك بمزيد من الجدية "مفهوم الحرية المجيد". اللعنة. كانا من الاستغراق بمكان إلى درجة أنهما لم يردا على تحيتي، بل انهما لم يلتفتا كذلك حتى إلى وجودي على مقربة كما لو أن مسألة دخولي ومغادرتي لبيت أشوك في ذلك المساء مسألة من شأنها أن تهدد استمنائهما الفكري العتيق في أية لحظة.
فجأة، تحرَّكت كوامن الشر في داخلي. وقفت بينهما في صمت. أخذا يتطلعان إليَّ بحيرة لا نهائية وتساؤل. عندئذ فقط رسمت على وجهي ملامح خطيب ورع جاد على وشك أن يلقي خطبة على رؤوس مصلين أنفقوا نصف نهارهم ممارسين الغش داخل الأسواق.
قلت مستشهدا بأسماء مفكرين وفلاسفة وكُتّاب من وحي خيال اللحظة المحض:
"أيها الأصدقاء، ما قد سمعته منكما للتو لهو أمر قد لا ينتمي في جوهره اليقيني المتهافت إلى مفهوم المناقشة الايجابية كما حدده وليم الإسبارطي في نظريته المعنونة باسم رعشة الجسد".
تجرأ أكثرهما سُكرا، قائلا "كيف"؟!.
قال الآخر متشجعا "أجل، كيف"؟!.
تطلعت إليهما آنئذ بابتسامة ساخرة.
كان صمتي القصير بديعا وبليغا.
شرعت أواصل حديثي الجاد بالحذلقة التي يعجز الشيطان نفسه في الأخير عن فهم مغزاها "بمعنى أن فضاء المناقشة يتم تصويره في هذه الحال وفق جدلية تلميذه الفذ ستيفن كولجاك الشهيرة كلقاء سريري يجمع في لحظة غضب جنوني له نكهة الثورة ما بين إرادتين ناضجتين كما لو أن معركة صغيرة تنشب رحاها تحت رعاية الشيطان ما بين رجل عارم الشهوة وامرأة شبقة لتوليد ما أسماه بيتر كوبنهاجن نفسه في مرحلة تالية "الدلالة المثمرة لغريزة البقاء، ثم ليلة سعيدة". تركتهما حائرين ثملين تماما بتأثير وقع الصدمة بينما يتابعانني بنظرتين مختلفتين: واحدة مصدقة وأخرى متشككة.
يتبع:
| |
|
|
|
|
|
|
Re: مرثية ليساري يتفسخ داخل ذكرياته (Re: عبد الحميد البرنس)
|
عدت أخيرا إلى شقتي.
بدأت أتجرع كأسات العرقي على الفور. خطر لي بعد دقائق أن أقوم بواسطة خيالي الداعر بتجريد بعض المشاهد التي رأيتها قبل ساعات في ضاحية الميرلاند. حذفت صورة عادل سحلب من المشاهد كلها. أحللت نفسي في مكانه. أغمضت عينيَّ. كما لو أن تلك الصور التي ألصقها المستأجر السابق على الجدران تموت من غيرة. هكذا، شيئا فشيئا، وبعد أن قمت بتجريدها من كافة ملابسها، شرع موضوعي الخاص في التوغل ببطء وتلذذ داخل ثنايا ذلك العالم الحميم لمها الخاتم.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: مرثية ليساري يتفسخ داخل ذكرياته (Re: عبد الحميد البرنس)
|
قضية لنقاش:
هاتفني صديق منذ قليل، كان قد عاصر الكاتب في القاهرة لسنوات، فأخذ يحاول ربط بعض شخصيات أحد فصول هذه الرواية المنشور كذلك على سبيل التجريب في عدد صحيفة الأهرام المسائي الأحد الماضي بشخصيات واقعية. وهذا منافيا لمنهجي في الكتابة. إنني فقط أستلهم روح الواقع العامة وأذهب بعدها مع الخيال أينما ذهب. فمثلا حين أكتب عن شخصية نمّام أوقوال أولخبات فلا أكتب عن شخصية بعينها بقدر ما أفضي في شكل خطوط قابلة لتكوين الصورة/ النموذج بما استقر في وعيي منذ مراحل حياتي الباكرة كأكثر ما تنطوي عليه تلك الشخصية من دلالات. لعل ذلك ما جعل الطيب صالح يزهد في الكتابة على اعتبار أن الأمر أشبه بانفاق حياة كاملة لصناعة الأكاذيب. وأكثر من ذلك، يرى ريلكه في هذا السياق أنك إذا كنت قادر على العيش من غير كتابة، فلا تكتب.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: مرثية ليساري يتفسخ داخل ذكرياته (Re: عبد الحميد البرنس)
|
قلت عزيزي البرنس،طارحا قضية للنقاش:
Quote: هاتفني صديق منذ قليل، كان قد عاصر الكاتب في القاهرة لسنوات، فأخذ يحاول ربط بعض شخصيات أحد فصول هذه الرواية المنشور كذلك على سبيل التجريب في عدد صحيفة الأهرام المسائي الأحد الماضي بشخصيات واقعية. وهذا منافيا لمنهجي في الكتابة. إنني فقط أستلهم روح الواقع العامة وأذهب بعدها مع الخيال أينما ذهب. فمثلا حين أكتب عن شخصية نمّام أوقوال أولخبات فلا أكتب عن شخصية بعينها بقدر ما أفضي في شكل خطوط قابلة لتكوين الصورة/ النموذج بما استقر في وعيي منذ مراحل حياتي الباكرة كأكثر ما تنطوي عليه تلك الشخصية من دلالات. لعل ذلك ما جعل الطيب صالح يزهد في الكتابة على اعتبار أن الأمر أشبه بانفاق حياة كاملة لصناعة الأكاذيب. وأكثر من ذلك، يرى ريلكه في هذا السياق أنك إذا كنت قادر على العيش من غير كتابة، فلا تكتب. |
و قال صالح في حوار مع قرائه:
Quote: لذلك يمكن أن يكون البحث عن الكاتب في كتاباته ضربا من العبث أحيانا.نحن نعلم الآن أشياء كثيرة عو فيرجينيا وولف و خلفية بلومزبري.هذه الأشياء يتوق الناس إلى معرفتها وقد تنير السبيل أحيانا.و لكني أعتقد أن حياة الإنسان الخاصة و هو ما يزال على قيد الحياة مهمة بالنسبة للقارئ.و لا أعتقد أنها يمكن أن تكون مفيدة له في قراءاته أعمال الكاتب. |
*رأي الطيب صالح ورد في كتاب محمد شاهين:تحولات لشوق في موسم الهجرة إلى الشمال-مكتبة مدبولي-2006.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: مرثية ليساري يتفسخ داخل ذكرياته (Re: osama elkhawad)
|
عزيزي أسامة:
Quote: لذلك يمكن أن يكون البحث عن الكاتب في كتاباته ضربا من العبث أحيانا |
لعل إيرادك هنا لحديث الطيب (وفق ما بدا لي لاما للتعليل) يمكن أن يفهم كمعطوف على سابق قولي. لست بعيدا عنه على مستوى التصور للكتابة كأمر ينأى بدرجة عن تلك الأمانة المبتذلة لما يعرف بمصطلح (فوتوغرافية التجربة). هدف الكتابة في تصوري ولعل تصورك كذلك لا يتمثل في صياغة الواقع تعبيريا بقدر ما يتمثل في الأخير على إعادة صياغة هذا الواقع على نحو يطرح إمكانات بديلة أكثر إنسانية وقابلية للعيش. لعل أفهم هنا إشارة الطيب أعلاه للعبث ليس فقط لأن البحث عن الكاتب يشكل ضمنيا أداة رقابية وسلطة قمع ماثلة لتجنب طرق تلك المناطق الممنوع مقاربة على صعيد التجربة البشرية مثل هذا التابو وذاك، بل كذلك لأن البحث عن الكاتب يستبعد هنا الخيال بوصفه إمكانية هائلة لتوسيع أبعاد الواقع الضيق.
Quote: لكني أعتقد أن حياة الإنسان الخاصة و هو ما يزال على قيد الحياة مهمة بالنسبة للقارئ |
ربما ذلك ينبع من أننا ننظر للكاتب عادة بوصفه نجح بدرجة ما في صوغ أشياء ظلت كامنة في ما يمكن تسميته (الذات الجمعية). لست واثقا من هذا. ولكني أرى أن التطلع إلى حياة الكاتب الخاصة مهمة على مستوى تماسها مع ما هو عام ومشترك. هذا إذا تحدثنا مثلا على صعيد أفكاره السياسية والاجتماعية. أحيانا بالنسبة للساردين مثلا يكون ذلك البون الشاسع ما بين منتجهم الجمالي الخارق وموقفهم الخاص تجاه ما يحدث كمواطنيين على نحو ما لاحظ مثلا جورج لوكاتش بالنسبة لبلزاك وما أسماه وقتها مفهوم (الموهبة العمياء). لكننا في الأخير كما أرى نجد من الأهمية بمكان لحظة النظر إلى حياة الكاتب الخاصة التمييز ما بين هذه الحياة كمعطى واقعي وبين التصورات القائمة تجاه تلك الحياة. وهي تصورات في كثير من الأحيان لا تخلو من غبار آيديولوجي لسبب أوآخر.
Quote: لا أعتقد أنها يمكن أن تكون مفيدة له في قراءاته أعمال الكاتب |
لعل ذلك يؤكد بقوة على سابقه.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: مرثية ليساري يتفسخ داخل ذكرياته (Re: عبد الحميد البرنس)
|
Quote: نحن نعلم الآن أشياء كثيرة عو فيرجينيا وولف و خلفية بلومزبري.هذه الأشياء يتوق الناس إلى معرفتها وقد تنير السبيل أحيانا |
فاتني هنا الإشارة إلى أنني أتفق حول مسالة إنارة السبل تلك. مثلا، مع أن هذا المثال صار ينطبق على كثير من الشعوب، نجد أن معرفة شخصية الكاتب كيهودي قد تردنا بدرجة ما إلى إدراك ذلك الطابع الكوزموبوليتاني لرؤيته العامة للعالم. لكنني بالفعل في حيرة من أمري حول درجة اقتراب الكاتب من أمر ما على مستوى المعرفة للكتابة عنه. ناهيك عما يمكن أن ندركه من سياق حوار جرى بيني وبين مذيع إحدى القنوات الفضائية العراقية قبيل بث ذلك البرنامج على الهواء حيث أشار إلى أنه التقى كاتبا سودانيا من قبل يرغب في تأسيس عالم روائي بأكمله عن العراق مع أنه لم يعش في العراق يوما واحدا. لا أدري قد تتفاوت قدرات الناس هنا وهناك. بالنسبة لي هذه مسألة مدهشة حقا. فحتى مثلا لو حدث وأن كتبت في يوم ما عن الفاطميين في مصر أعتقد أن ذلك ربما قد يحتوي على بنية رمزية على المستوى الكلي للرواية بحيث تلامس جوهريا ذلك العالم الذي أتنفس من خلاله. مجرد رأيي ربما لم أقم بفحصه جيدا.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: مرثية ليساري يتفسخ داخل ذكرياته (Re: osama elkhawad)
|
عزيزي البرنس أحاول منذ الظهر أن أجد خيار "عدّل"،ولم أوفق. يقرأ كلام الطيب صالح بإضافة لا"سقطت سهوا"،ليصبح كلامه كالآتي:
Quote: و لكني لا أعتقد أن حياة الإنسان الخاصة وهو ما يزال على قيد الحياة مهمة بالنسبة للقارئ العادي. |
| |
|
|
|
|
|
|
Re: مرثية ليساري يتفسخ داخل ذكرياته (Re: osama elkhawad)
|
Quote: لكني ((أعتقد)) أن حياة الإنسان الخاصة و هو ما يزال على قيد الحياة مهمة بالنسبة للقارئ |
Quote: ((ربما)) ذلك ينبع من أننا ننظر للكاتب عادة بوصفه نجح بدرجة ما في صوغ أشياء ظلت كامنة في ما يمكن تسميته (الذات الجمعية). ((لست واثقا من هذا)). ولكني أرى أن التطلع إلى حياة الكاتب الخاصة ((مهمة على مستوى تماسها مع ما هو عام ومشترك)). هذا إذا تحدثنا ((مثلا ))على ((صعيد أفكاره السياسية والاجتماعية)). أحيانا بالنسبة للساردين مثلا يكون ذلك ((البون)) الشاسع ما بين ((منتجهم الجمالي)) الخارق و((موقفهم الخاص تجاه ما يحدث كمواطنيين)) على نحو ما لاحظ مثلا جورج لوكاتش بالنسبة لبلزاك وما أسماه وقتها مفهوم (الموهبة العمياء). لكننا في الأخير كما أرى نجد من الأهمية بمكان لحظة النظر إلى حياة الكاتب الخاصة التمييز ما بين هذه الحياة كمعطى واقعي وبين التصورات القائمة تجاه تلك الحياة. وهي تصورات في كثير من الأحيان لا تخلو من غبار آيديولوجي لسبب أوآخر. |
Quote: يقرأ كلام الطيب صالح بإضافة لا"سقطت سهوا"،ليصبح كلامه كالآتي: Quote: و لكني ((لا أعتقد)) أن حياة الإنسان الخاصة وهو ما يزال على قيد الحياة مهمة بالنسبة للقارئ العادي.
|
عزيزي أسامة:
ربما لذلك أخذت ما أوردتموه بقدر ما من الشك، لا لأنه بمثابة خلل مطبعي ما، بل لأنني أولا وقبل كل شيء لا أمتلك يقينا، ناهيك أن أعلن إعجابي هنا كذلك باستخدام الطيب لتلك اللغة ذات الطابع العقلاني متمثلة سواء في (أعتقد) والتي فهمتها في المرة الأولى بمثابة تصور خاص لا يلزم أحدا من الناس بقبوله أو في (لا أعتقد) وهي تتيح كذلك في تصوري إمكانية تأويلها كمدرك إنساني متغير. ومع هذا وذاك، بالنسبة لي لم أر راهنا ضرورة ما لتعديل تعليق سابقا هنا على جملة وردت على سبيل الخطأ الطباعي منسوبة للطيب، اللهم إلا على سبيل الإشادة بتحري الدقة. على أية حال، يقوم السرد في جانب منه وفق بعض التصورات على محاولة حماية تلك الحياة الخاصة ليس للكاتب فحسب بل لكل إنسان من خلال إشباع الفضول البشري المتطلع لمعرفة ما هو خاص وغير مرئي على مستوى عام مثل تلك الحياة التي تجري عادة وراء الأبواب المغلقة وداخل الأعماق السحيقة للفرد. السرد هنا في تصوري حتى وهو يستحضر على سبيل الإيهام ما هو عام وتاريخي مشترك إلا أنه يسعى جوهريا لكشف أبعاد التاريخ الشخصي مهتما بما أسقطه التاريخ الرسمي بوصفه حسب تصوراته هامشيا وغير جدير بالتسجيل (يا له من تاريخ سلطوي). السلطة تنظر عادة للناس كمجموع أرقام وهو ما عناه لوكاتش بمفهوم (التماثلية). أنا لا يجذبني عادة مثل ذلك المطرب المتصدر لخشبة المسرح بقدر ما يجذبني أحد أفراد الكورس (الشياليين) لأن هذا يحمل في رأيي عادة جمالا غير مكتشف وربما يكون أكثر إنسانية ونبلا. مادة الأدب عادة تكون محجوبة ببريق المركز الأخَّاذ.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: مرثية ليساري يتفسخ داخل ذكرياته (Re: عبد الحميد البرنس)
|
السوسيولوجي التونسي:الطاهر لبيب
عزيزي البرنس يجنح النقد الحديث إلى توسيع ماعون "الذات الكاتبة" ليفتحها على أفق أكثر "توهيطا" وتعقيدا،مثلما حاول غولدمان اجتراح مصطلحي "الوعي الفعلي"كتعبير عن الذات الكاتبة الضيقة،و"الوعي الممكن" باعتبار الكاتب يمثل رؤية للعالم عند طبقة اجتماعية محددة. و أكثر التطبيقات العربية توفيقا في هذا الشأن الطبقي كتاب التونسي السوسيولوجي "الطاهر لبيب" "سوسيولوجيا الغزل العربي"-الشعر العذري نموذجا-ترجمة مصطفى المسناوي-الطبعة الأولى-دار الطليعة و عيون-الدار البيضاء-1987.و الكتاب عبارة عن ترجمة ثانية للعربية لأطروحة الطاهر لبيب للسلك الثالث و التي انجزها عام 1972 . و دعني أورد من حوار الطيب صالح السالف ذكره ما يرينا الفارق الكبير بين التجربة الشخصية،و كيف يتم توسيعها و جعلها أكثر ثراءً. يقول الطيب صالح عن "جين موريس":
Quote: أما كم يوجد في رواياتي من حياتي فهذه،كما يعلم الأستاذان عصفور وشاهين،قضية شائكة في الأدب..أعتقد أن الكاتب موجود في كتاباته ولكن ليس بالطريقة التي يراها القارئ أحيانا.سأقول لكِ شيئا،و هو سر كبير أقوله لكِ الآن و لم أبح به لأي أحد من قبل.و أقوله لكِ لأنك سألتني عن بناتي.السرّ الذي أفصح عنه هو في "موسم الهجرة إلى الشمال" هنالك هذه الشخصية العجيبة و اسمها جين موريس.جين موريس شخصية حقيقية،و لكنها ليست نفسها في الرواية.تعرّفت عليها في الشهر الأول من وصولي لندن عام 1952 في المتحف الوطني.قابلت فتاة جذابة حقاًو كانت...(صمت)كان في المتحف آنذاك معرض عن الفن الانطباعي impressionistic exhibition و بعدين..(صمت) تحدثنا مع بعض و سألتني من أين أِنا إلى آخر ذلك...و كنت في ذلك الحين فتى يافعا،لا بد أن تعترفوا بذلك و بعد أن خرجنا من المعرض و ذهبنا إلى مقهى و أمضينا بعض الوقت في الحديث عن أمور عامة،و بعد ذلك لم أراها قط،و اسم الفتاة جين موريس.و قد أحببت ذلك الاسم،و من ذلك اللقاء عَلِقَ اسمها في ذاكرتي و أدخلته في الرواية:الاسم و بعض الأمور الأخرى يعلم الله بها.لذلك فالعمل الروائي،أو القصيدة،مليئ بالإشارات التي يحتاج الكاتب إلى أن ينفذ منها إلى ما هو أبعد و أعمق.لذلك يمكن أن يكون البحث عن الكاتب في كتاباته ضربا من العبث أحيانا. |
| |
|
|
|
|
|
|
Re: مرثية ليساري يتفسخ داخل ذكرياته (Re: عبد الحميد البرنس)
|
عزيزي أسامة:
الطيب صالح، واضح لي جدا الآن، حتى في حواراته يمتلك تلك المقدرة الجبارة في الذهاب بالقاريء إلى نهاية العالم من غير مشقة، كيف تجذب محاورا بدا أنه يفتش داخل خزائنك الخاصة في محاولة السبق لبيان تطابق ما هو معاش مع ما هو جمالي. أتأمل فقط في سحر تلك العبارات التي أعقبها كشف عن سرّ يدركه المحاور نفسه في النهاية بوصف جين موريس إيهاما بالواقع وليس الواقع نفسه.
Quote: سأقول لكِ شيئا،و هو سر كبير أقوله لكِ الآن و لم أبح به لأي أحد من قبل.و أقوله لكِ لأنك سألتني عن بناتي.السرّ الذي أفصح عنه هو في "موسم الهجرة إلى الشمال" هنالك هذه الشخصية العجيبة و اسمها جين موريس.جين موريس شخصية حقيقية،و لكنها ليست نفسها في الرواية. |
ذلك ما أدركه شخصيا، ولم يحل بيني وبين إدراكه كقاريء محاولة المحاور المستميتة لأن يسدر في غيّه محاولا تخفيف صدمته الخاصة أن مسعاه لم يطابق غايته عبر ممارسة فراغات الصمت عبر رسم النقاط بل والتصريح بصمت الطيب نفسه في صياغة الحوار كما لو أنه يوحي أن الطيب يسكت عن بعض الأشياء عن عمد. مع أن المسألة في تصوري أشبه بالبحث في قاع ذاكرة وأحداث مر عليها الكثير من التفصيلات المشكلة لما يسميه الطيب نفسه في سياق آخر (ركام الحياة).
Quote: و كانت...(صمت)كان في المتحف آنذاك معرض عن الفن الانطباعي impressionistic exhibition و بعدين..(صمت) تحدثنا مع بعض و سألتني من أين أِنا إلى آخر ذلك... |
مسألة أخرى، يثيرها حوار الطيب هذا:
Quote: لذلك يمكن أن يكون البحث عن الكاتب في كتاباته ضربا من العبث أحيانا. |
عدم اليقين أن الكتابة عامة ضربا من الخيال البحت. لكن حتى أولئك الذين يعلنون منذ البداية أن ما يقدمونه للقاريء ضربا من السيرة الذاتية، كما هو الحال بالنسبة لمحمد شكري (الخبز الحافي) وصمويل شمعون (عراقي في باريس)، لا أعتقد أن منتجهم في النهاية مجرد عكس أمين لواقع. ماركيز نفسه، رجته أمه تأجيل نشر تفاصيل حادث واقعي لأسباب تتعلق بمشاعر بشر على قيد الحياة لهم صلة بذلك الحادث، لكنه حين عاد بعد ثلاثين سنة لنشر تلك التفاصيل في (سرد أحداث موت معلن) صرح أن النشر وقتها كان من الممكن أن يكون بمثابة كارثة إذ لم يضف إليه (جنون الشعر وكيمياء الحنين). الواقع حين نعود إلى تأمله لا يعود نفس الواقع الذي عايشناه من قبل حتى لو مشينا عبر طرقاته مرة أخرى. ولعل ذلك ما قام ماركيز نفسه بتصويره عبر شخصية فيرمينا داثا في (الحب في زمن الكوليرا) .
| |
|
|
|
|
|
|
Re: مرثية ليساري يتفسخ داخل ذكرياته (Re: عبد الحميد البرنس)
|
Quote: علاقة الادب بالحياة علاقة جدلية .. لانه ابنها البار .. يبتسم لها ليكشف عن مثل اللؤلؤ المنظوم .. تهش له .. فيقلل من غلواء تجهمها وضراء عبوسها وهي ابنته المدللة التي يرفلها بكل حلة قشيبة تسر الناظرين .. ويموسقها برخيمات المغردات فتشنف لها اذان السامعين . الادب قد يتماهى مع الحياة .. لكنه يؤسس دائماً للجزء البهيج فيها .. ويبرز مفاتنها .. ويوشيها بانواع الحلي واشكال المصوغات .. حيث ان الادب احد اعظم وسائل الخلاص من واقع مكفهر بائس .. فهو يشظي مجسات الاحساس في تلافيف الواقع ومفرداته .. لان الادب ينشط عند مفترق طرق الناس وواقعهم .. مفترق طرق الناس وذواتهم .. بل يلعب دور رجل المرور لتنظيم العلاقة وترهيفها بين الناس وواقعهم ، وبين الناس وذواتهم . الايغال بالعقلانية قد يشل الادب .. وربما يميت دوره .. اذ برغم ان ميدانه الحياة .. لكنه ينهل من الخيال .. لكي يعيد تكوين الواقع الذي لم يتحقق بعد ! يجب ان يعيش الادب في الواقع .. لكن بعيدا عن التزاماته واشتراطاته .. لان لعبته ان يخترق القيم والمفاهيم .. فتتقيأ ذواتنا ما يعتمل بدواخلها من ارهاصات ورؤى لتتزاوج مع تجليات الطبيعة املاً في ولادة واقع جديد وبقيم ومفاهيم جديدة مفعمة بالخير .. وهكذا يكون الادب فعل حياة وتغيير لان ( المفاهيم الفكرية مصنعة ، المدركات الحسية ضرورات ) . الادب قد يكون حالة حضور او حالة تجلي .. عندما يتحد الحقيقي والمتخيل .. وهي حالة من الادراك الحسي .. غير عصية على الاديب المرهف الحس .. الذي قد يقصر تفكيره على الكون وحده ، لكن التفكير فيما وراء الكون هو الذي يسجر الخيال ويؤسس للجمال النهائي . الابداع الادبي لايبنى على الواقع .. بقدر ما يشاد على تصورات تؤسس لواقع جديد من خلال الاستعارة والرمز والايحاء مطعمة بالخيال الذي يستنفد الواقع القديم . فالمبدعون هم عقل الحياة .. ووعي الروح .. وشغف الاحساس .. نصوصهم كلمات مكتوبة .. اباضاتها الفاظهم النازفة من ماقي افكارهم التي طبخت في مدركات وعيهم .. لكنها تمتد بجذورها الضاربة في لاوعي الحياة ! ... انهم يقاتلون ذواتهم من اجل الناس .. ويقيمون صروحا من الابداع تنبض .. لكنها غنية عن المعنى .. المعنى القار في النص .. بيد انها تدفع الحياة الى حافة المعنى .. بل الى فتح المعنى الى اقصاه ! .. المعنى الموجود في العالم بما يتضمن من رؤى ذاتية وتعقيد معرفي واجتماعي وسياسي وتمظهر طبيعي . فالواقع حالة فجة وممجوجة نقاضيها بالخيال الذي انتج الاسطورة .. التي تستشرف المستحيل .. وتعيد تشكيل العالم املاً في ترقيق وجه الحياة القاطب وتدرير ضرع الواقع الضامر . فالمبدع يمارس سلطته على الطبيعة من خلال الخيال ، وغيره يمارس ذات السلطة من خلال الالة .. فالخيال هو الحاضنة المتفردة للعبقرية .. التي ديدنها تحرير العقل الزاخر بالتجريد واعادة تشكيل الواقع الموبوء بالابتذال . |
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=150857
| |
|
|
|
|
|
|
Re: مرثية ليساري يتفسخ داخل ذكرياته (Re: عبد الحميد البرنس)
|
Quote: ليست رواية السيرة الذاتية ظاهرة جديدة في الأدب العربي الحديث، بل كانت على العكس واحدة من أكثر الظواهر شيوعاً، فقد استخدم رواد الرواية العربية مادة حياتهم الشخصية ليصنعوا منها رواياتهم الأولى في صيغة سير ذاتية واضحة، خلَوا فيها إلى أنفسهم، وكشفوا عن مكنوناتها ودواخلها، ودلّوا القراء على الكثير من يومياتهم وانفعالاتهم وانكساراتهم.
ولعل السيرة الذاتية هي إضافة إلى ذلك الفن الأكثر بقاءً بالنسبة إلى كاتبها، ولا شك في أن لوحة السيرة الذاتية العربية الحديثة لوحة متعددة الألوان تنبض بحياة جيل كان أبناؤه يلتقون طوراً في آلامهم وأشواقهم، ويفترقون أطواراً أخرى في رؤاهم وقدراتهم على تمثل حيواتهم وتوظيف تصوراتهم لتطوير مجتمعاتهم، ولكنهم في الحالتين كانوا يسعون جاهدين لتأسيس صورة جديدة للإنسان العربي الفاعل في تاريخه، فكان عطاؤهم الفكري والأدبي بلا حدّ.
وسواء نجحوا أو فشلوا نسبياً في مسعاهم، فيكفيهم أنهم كانوا منارات أضاءت بأنوارها عصرهم في زمن عصيب اختلطت فيه الطرق.
وليس فن السيرة الذاتية الذي أنشؤوه إلاّ دليلاً على أن الأدب العربي الحديث يدين لهم بانبعاثه وتجدده. لذلك لم تنته حياة هؤلاء المترجمين لذواتهم بكتابتهم لسيرهم الذاتية أو بموتهم، بل لعلها بدأت.
ولا شك في أن أدب السيرة الذاتية فضاء تنشط فيه الذاكرة الفردية، وفيه يمارس الأديب الكاتب عملية استرجاع تفاصيل حياته بشكل مكثف، لذلك فإنه غالباً ما يلجأ إلى عملية الربط بين ذكرياته الواقعية في محاولة منه لسدِّ ما يصادفه من فراغات في سرد حياته المسترجعة، ومن ثم فإن الإبداع في رواية السيرة الذاتية يقوم على المزج بين حمولة الذاكرة الفردية من الواقع وبين عنصر الخيال.
وتعكس كتابة رواية السيرة الذاتية واقعاً ذاتياً غير مطلق، وذلك لكون هذا الواقع يجمع بين الحقيقة والتخيل في حدود معينة، وهي ازدواجية تقيم صلب الحياة الواقعية للذات الفردية، ولهذا السبب نرى كاتب السيرة الذاتية يجد نفسه مضطراً إلى ترميم ماضيه الواقعي المسترجع بنسجٍ تخيُّليٍّ، لكن بشرط ألاّ يخل بدعامة الصدق.
شرطُ تَدخُّل الخيال في رواية السيرة الذاتية: قد يفهم البعض أن المخيلة قد تسمح لفضاء خيالنا أن يبتدع أحداثاً ووقائع لم تقع لنا، وهذا لو حدث فإنه يخرج برواية السيرة الذاتية عن مسارها، ويحولها إلى جنس أدبي آخر، فالمخيلة التي تفتح فضاء خيالنا، لا تعني استحداث شخصيات أو أحداث لا وجود لها في الواقع.
وإنما هي تضيء بعض الجوانب التي غشيها ضباب الذاكرة، فحجبها عن الإدراك، أو لطرح بعض الاستفسارات عن بعض الأمور التي تلبدت من حولها الغيوم في أعماق الذاكرة، فحجبت عنها وضوح الرؤيا ولو لبعض الوقت. إن الذاكرة الواقعية المعتمدة على مزج الحقيقة بالخيال لهي الأرض الخصبة التي تنبت فيها السيرة بسلاسة، لتكون قادرة على نقل تجربة صاحبها إلى الآخرين، ولتشد انتباه القارئ ليتعاطف معها أو ينفر منها، والسيرة الذاتية الفنية بشكل أو بآخر هي التي يصوغها صاحبها في صورة مترابطة، على أساس من الوحدة والاتساق في البناء والروح.. وفي أسلوب أدبي قادر على أن ينقل إلينا محتوى وافياً كاملاً عن تاريخه الشخصي، على نحو موجز حافل بالتجارب والخبرات المنوعة الخصبة.
وهذا الأسلوب يقوم على جمال العرض وحسن التقسيم وعذوبة العبارة وحلاوة النص الأدبي وبث الحياة والحركة في تصوير الوقائع والشخصيات وفيما يتمثله في حواره، مستعيناً بعناصر ضئيلة من الخيال لربط أجزاء عمله حتى تبدو ترجمته الذاتية في صورة متماسكة محكمة على ألا يسترسل مع التخيل والتصور حتى لا ينأى عن السيرة الذاتية.
إن الشرط الأهم لاستخدام الخيال في رواية السيرة الذاتية هو ضبط الخيال، وذلك لأن كاتب السيرة الذاتية إذا أغرق في الاسترسال مع التخيل فإنه يدخل في إطار التحريف، أو يكون عمله أقرب إلى الرواية العادية والأعمال التخييلية منه إلى السيرة الذاتية، فالصدقُ يجعل من رواية السيرة الذاتية وسيلةً لإقامة جسور من التعاطف والصداقة بين القارئ والكاتب، ولكي يستطيع الكاتب أن يكسب ثقة القارئ لا بد من أن يلتزم الصدق والصراحة.
وتختلف رواية السيرة الذاتية عن الرواية العادية بخيالها المقيد، فالروائي يستطيع أن يستخدم الخيال كما يشاء، ولكن خيال كاتب رواية السيرة الذاتية ممسوك الزمام لأن السيرة هي إعادة تقديم صورة لحياة إنسانية، وعندما يريد الفنان أن يكتب روايته يجد نفسه حراً في استخدام إمكانيات خياله كافة، أما إذا أراد أن يكتب سيرة ذاتية فإنه يجد أن مادته قصيرة ومحدودة، ودور الخيال هو في جمع هذه المادة وتشكيلها.
فالروائي يمكنه أن يستدعي أحداثاً من خارج نطاقه الشخصي، وأن يتخيل أفكاراً ضمنية لم يعبر عنها الآخرون، كما يمكنه أن يعيد تشكيل الحوارات التي لا قدرة للذاكرة على الاحتفاظ بها، أضف إلى هذا أن بطل الرواية يمكن وصفه بضمير الغائب ومن كل جوانبه.
أما الميزة الأهم، فهي اختلاف المنظور العام للعمل، إذ يكون المؤلف في رواية السيرة الذاتية مستقلاً، شأن المؤلف في كل عمل فني آخر، أو فلنقل إنه لا يكون موجوداً داخل صفحات عمله، يمكنه أن يصف مراحل الحياة الأولى للشخصية، دون أن يتورط في متابعة مستقبلها، ويمكنه من حيث المبدأ أن يستدعي تجربة طفل بكل (.........)اجتها، دون أن يشير إلى ما آلت إليه أمور هذا الطفل.
في المقال اللاحق وهو المقال الأخير حول الموضوع المطروح سأحاول الإجابة على السؤال التالي: هل تَنْتَحِلُ رواية السيرة الذاتية صفةَ الوثيقةِ التاريخيَّة؟
ثم سأتحدث عن رواية السيرة الذاتية المضادة للواقع، وسألفت أيضاً إلى ما يسمى الواقع الإبداعي المتخيل، ولعلي بذلك أكون قد أوضحت بشكل أو بآخر كثيراً من الأمور الملتبسة حول رواية السيرة الذاتية. |
http://www.alukah.net/Literature_Language/0/5303/
| |
|
|
|
|
|
|
Re: مرثية ليساري يتفسخ داخل ذكرياته (Re: عبد الحميد البرنس)
|
Quote: نعم أن الأمر يبدو انه تقاسم الجوهري بين مختلف الخطابات.ففي خطابه النثري يلخص ادوارد سعيد تجربته وتجارب آخرين من المثقفين المنفيين. و من هنا تبدو عظمة فصلك الروائي الذي أحالني فور قراءته إلى ما سبق لي أن عرفته ولكن من خلال خطاب مختلف.فقلت في سري "لعلني شهدت ذلك عند ادوارد سعيد الذي قرأته قبل أكثر من عقد من الزمان.وفعلا وجدت تطابقا مدهشا في المعنى ،وليس في الشكل -بالطبع-فهو يقدم صورة عامة،بينما خطابك الروائي يقدم المنفى في سمته السوداني.و هذه-أي محاولة التوثيق الإبداعي للمنفى في صورته السوداني،محمدة تضاف إلى هذا النص الروائ |
لفت انتباهي، أسامة الخواض، في تلك المرحلة من العمل على مسودة الرواية كمعطى جمالي، إلى تقاطع ما أكتب على مستوى الرؤية للعالم مع نتاج إدورد سعيد الفكري والنقدي، وكان ذلك بالنسبة لي بمثابة المنحة الإلهية على أكثر من مستوى. أولا: كيف لي لحظة الشروع في كتابة سرد يتعلق بالمنفى أن أهمل تجربة ضخمة ممثلة في التجربة الفلسطينية كما تبدت بشكل راق لدى إدورد سعيد. ثانيا: اكتشفت أنني اقتربت في الماضي تحت تأثير الإحتفاء المتزايد بإدورد إلى الاقتراب من عالمه فهرعت الى تلك الترجمة المتحذلقة بتعقيداتها اللغوية غير المبررة التي قام بها كمال أبوديب لكتاب إدورد الاستشراق مما أقام بيني وبينه حوائط لا مرئية أبعدتني عنه لقرابة العقد ونصف العقد. ثالثا: كانت محاولة الاطلاع على إدوارد مرة أخرى من الصعوبة بمكان في ظلّ ضرورات حياتية لمنفى وسيط مثل القاهرة حيث يقترب سعر كتاب واحد لإدوارد من قيمة ما كنت أدفعه من إيجار شهري لسكني. رابعا: منذ إشارة الخواض تلك، شرعت في قراءة إدوارد بنهم منهجي وشغف متزايد متوقفا عن متابعة الكتابة إلى حين مما جعلني أكتشف وبجلاء ذلك المشترك الآخر بيني وبينه لا على صعيد المنهج العقلاني النقدي فحسب بل كذلك على صعيد المشاركة في مصادر التكوين المعرفيّ ناهيك عن مكابدة المنفى على المستوى الشخصي هنا وهناك.
| |
|
|
|
|
|
|
|