روّاس مراكب القدرة ضو البيت: وداعا أيها الزين!! طارق جبرين وزيادة حمور علينا جاى!

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-08-2024, 02:11 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الرابع للعام 2010م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
11-23-2010, 07:45 AM

jini
<ajini
تاريخ التسجيل: 02-05-2002
مجموع المشاركات: 30720

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
روّاس مراكب القدرة ضو البيت: وداعا أيها الزين!! طارق جبرين وزيادة حمور علينا جاى!

    Quote: روّاس مراكب القدرة





    عرضحال واعتذار:

    للأخوات والأخوة القراء الكرام إعتذاري عن تباعد أزمان نشر أجزاء هذا العمل..وكما لا يخفى الجميع فإن للقلم، كما القدم، رافع وللزمان تصاريف ولسبل كسب العيش أولويات فالمشيئة فوق الجميع والله غالب.

    هذا الجزء هو خاتمة أخوانه ومتمم العمل..وكما هو الحال عند ختام كل عمل تبقى في النفس شيء من حتى...وإنني إذ أضع قلم تحرير هذه السداسية لا املك إلا ان أحمد الله على ما حبتني هذه الأجزاء من تواصل حميم مع أعزة نجباء وأحمده على ما نالني من بركات شيخنا الطيب الذي فتحت لي الكتابة عنه آفاقا رحبة لقراءة متواصلة في فضاءات مختلفة وتلك نعمة كبرى...ولعل من فيوضات شيخنا الطيب كذلك أن هيأ المولى لهذا العمل إحساس وريشة فنان مبدع محب في قامة شيخنا وحبيبنا التشكيلي الفذ حسين جمعان الذي أعمل أدواته المشرقة في قماشة هذا العمل فزيَّنها وجَّملها بأحسن ما يبذل فنان مبدع متفرد فأحال أشتات الأجزاء إلى كتاب نتمنى ان يرى النور قريبا وعلى الوجه الذي يلبى تطلعات القراء المحبين ويعيننا على رد بعض جميل سابق ودين مستحق وواجب لشيخنا الطيب غشت قبره شأبيب المزن الهَّطال غفرانا ورحمة.



    المدارج والعتبات:



    رواس مراكب القدرة:

    يقول الطاهر ود الروّاس إن الاسم الوحيد الذي ورثه عن أبيه كان لقبا لم يناده به إلا الكاشف ود رحمة الله، كان ود رحمة الله يقول إن بلال روّاس ويسألونه روّاس ماذا؟ فيجيب:"بلال روّاس مراكب القدرة". ويقسم أنه رآه عدة مرات بين العشاء والفجر وهو قائم وحده في مركب ينقل قوما غريبي الهيئة إلى الشاطئ الآخر. ويقول الطاهر إن أباه حين مات أخذ أسماءه جميعًا معه. كأنه كان بالفعل روحًا مفردًا ليس من أرواح هذا الزمان ولا هذه الأرض".

    (مريود : طبعة دار العودة: الصفحة 48)



    العشق:



    "وملْ إلي البان من شرقّي كاظمة فلي إلى البان من شرقيِّها أربُ

    وكلما لاح معنى من جمالهم لباه شوقٌ إلى معناه منتسبُ

    أظلُّ دهري ولي من حبهم طربٌ ومن أليم إشتياقي نحوهم حَرَبُ""

    (إبن الخيمي)



    المحبة :

    "الإنسان يا محيميد ... الحياة يا محيميد ما فيها غير حاجتين اتنين... الصداقة والمحبة. ما تقولي حسب ونسب، لا جاه ولا مال.. ابن آدم إذا كان ترك الدنيا وعنده ثقة إنسان واحد.. يكون كسبان".

    (الطاهر ود الرواس : مريود الصفحة 432، الأعمال الكاملة ، طبعة دار العودة)



    الإنتماء:

    "السَمكةُ،

    حتَّى وهي في شباكِ الصيادين

    تَظلُ تحملُ

    رائِحة البَحر"

    (مريد البرغوثي: رأيت رام الله، الصفحة 181)



    إهداء وعزاء خاص:



    إلى أستاذيَّ وشيخيَّ:

    إبراهيم حسن عبد الجليل ومهدي أمين التوم



    في رحيل الطيب صالح خسارة كبيرة لقيم إنسانية رفيعة، موروثة ومكتسبة، تربيا وعاشا عليها وكانا، وما زالا، مهمومين بإشاعتها وترسيخها في وجدان وسلوكيات من أحبوهم:

    الأطر والضوابط الأخلاقية غير المساومة نبراسها

    والتعفف ممزوجاً بالتواضع الحقيقي رمانة ميزانها

    وزجر النفس ولجمها عن وعند الهوى صمام أمانها



    وإلى روح أخينا وأستاذنا العميد حقوقي "م" عبد المنعم حسين عبد الله:

    آمن بما رأى أنه الحق فكان عقله وقلبه حيث آمن..

    ثبت على عمله والتزم الجماعة..

    كما الطيب ...كان إنسانا نادرا على طريقته..

    اتخذ من المحبة "جلابية" ومن النقاء والبراءة "عِمة" و"شال"...

    داره بحي النسيم بمدينة الرياض السعودية وبحلفاية الملوك بالخرطوم البحرية كانتا واحة إنسانية وقبلة وطنية...

    رحل موفور الإباء ليختال بإذن ربه زاهياً في بساتين البهاء..

    رحمة الله تغشاك يا أبا محمد



    وإلى روح خالي وصديقي حسن إبراهيم دبلوك:

    سَيج حياتنا بعزة النفس والأنفة والكبرياء

    عاش "لوردا" بطبائع شيخ قبيلة

    منه علمنا بيانا "إن السايقة واصلة ومحل رهيفة التنقد"

    عند رحيله تملكني شعور لا فكاك منه بأن زينب بت بشارة كانت في استقباله في الجانب الآخر

    كانت في استقباله و"الركابيات" الماجدات ستي نور وليلى وآسيا ينشدن في مقدمه عليهن:

    "الآلاف درجن ولدا نجيض ماك ني

    البجرجر فى أم صقير وحدي"

    حزني عليك مقيم يا أبا المهند



    الفصل السادس



    ما بين كرمكول ومقابر البكري: دليل المرء كي يبقى أحدوثة حسنة بعد رحيله



    مدارج الرحيل ومسالك العرفان:

    بعد ثمانين حافلة رحل شيخنا الطيب...عاد لإمدرمان بعد ستين عاماً ليوارى الثرى بمقابر السيد البكري...ثمانية عقود من عمر الطيب صالح انقضت قبل رحيله...قضى ما يقارب الستة منها بعيدا عن السودان قريبا جدا منه ...سيرة حياة وسجل إبداع غير مسبوق لرجل جم الأدب، كثير التواضع، عالي القيمتين الإنسانية والإبداعية.

    في رحيله أحس كل بيت سوداني بالفقد الكبير..لم يكن أحد يدري، ربما الطيب نفسه، كم يعني هذا الرجل الشامخ البديع لأبناء وطنه...به تشرفوا وعبره جاءت السيرة الطيبة الخيرة للبلد، من خلال وجوده المشرف في المنتديات الإبداعية عرف الناس الوجه الرائع لبلاده...أحب بلاده وتبتل في حبها فبادلته البلاد وابناؤها الشرفاء حبا بحب وودا بود وحفظوا له جميله الذي لم يتوقف في إعلاء شأنهم وشأن بلادهم في أزمان عز فيها العطاء وفشت في الناس فاشية الأنانية حين أطبقت خلائق شح النفس وغلبة الهوى وخساسة الانفس على البشر وحيواتهم ..في ظل تقلبات الزمان وأهله بقى الطيب أيقونة بلاده وحجابها وموئل روحها الأصيلة التي تغالب الإندثار تحت وطأة سنابك التردي الأخلاقي الكبير في منظومة القيم والاخلاق.

    غادر الطيب بلاده في عام 1953 وهي على أعتاب تقرير مصير..وحدة مع مصر أم استقلال؟ ...وبعد رحيله بعام واحد ترتد البلاد إلى محطة أخرى لتقرير المصير...هل يا ترى تبقى بلاده موحدة كما تركها أم يروح نصف شعبها وترابها؟... قبل أكثر من خمسمائة عام استدعى فرديناند وإيزابيلا آخر ملوك الطوائف أبو عبد الله محمد الثاني عشر لتسليم غرناطة التي تم حصارها حتى استسلمت..حين وقف الملك المهزوم والمأزوم على هضبة "زفرة العربي الأخيرة" وهو يولى بلاد أجداده ظهره في رحلة الخروج الكبير للعدوة الأخرى ذرف دمعات...انتهرته والدته عائشة الحرة بكلمتها التي حفظها التاريخ بعد ان ضيع أبناؤها الاندلس:"ابك كالنساء ملكاَ مضاعا لم تحافظ عليه مثل الرجال".

    في أعقاب رحيل الطيب صالح وحين تصبح البلاد على حد سيف الإنفصال سيقف بعض أقزام السياسة السودانية التي امتحن الله بهم بلاد عظيمة وأمة عملاقة يزرفون دموع لا تعني شيئا وقد أعملوا معول الهدم لا البناء منذ ان تسنموا سلطة البلاد وأمر العباد فبل ستين عاماً...ستون إلا قليلاً والبلاد تخرج من حفرة لتقع في "دحديرة" جزاء وفاقاً على سعي أدخلها في نفقه المظلم كل من لم يانس في نفسه كفاءة في مهنة أو خدمة سوى إمتطاء خيل السياسة التي لا تحتاج سوى الغليظ من الصوت والحس والإحساس... أمتطوا خيلهم البائسة العرجاء ويمموا شطر الفشل فأفقروا بلاداً غنية وأذلوا شعباً عزيزاً..تساوى في إدقاعهم السياسي وؤسهم المعرفي والأخلاقي المدنيون من رجالات الأحزاب والعسكريون المؤدلجون ..يبابا زرعوا، هشيما حصدنا ولا نزال.



    في رحيل الطيب فقدنا أحد مناراتنا السامقة التي كنا نأمل أن تساعد حكمته في دعم النابهين الخيرين لتجنيب بلادنا الويلات ولكنها النكبات ...نسأل الحنان المنان أن يقى بلادنا الفتن ما ظهر منها وما بطن وأن يهيء لها من يسلك بها دروب الرفعة والمنعة والرشاد.



    في معنى أن يبقى المرء أحدوثة حسنة بعده: بعض ما علمنا التاريخ



    أياس بن معاوية:

    "سأل إياس بن معاوية شيخاً: ما أفادك الدهر؟ قال: العلم به.

    فقال إياس: فماذا رأيت أحمد؟

    قال: أن يبقى المرء أحدوثة حسنة بعده".



    الإمام علي كرم الله وجهه وعامله عثمان بن حنيف الانصاري:

    "ولو شئت لاهتديت الطريق، الى مصفى هذا العسل، ولباب هذا القمح، ونسائج هذا القز، ولكن هيهات أن يغلبني هواي، ويقودني جشعي الى تخير الاطعمة، ولعل بالحجاز او باليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشبع ،أو ابيت مبطانا وحولي بطون غرثى، واكباد حرى؟! أو اكون كما قال القائل:

    وحسبك داء ان تبيت ببطنة *** وحولك اكباد تحن الى القد

    أأقنع من نفسي بأن يقال : امير المؤمنين، ولا أشاركهم في مكاره الدهر، أو أكون اسوة لهم في جشوبة العيش، فما خلقت ليشغلني اكل الطيبات، كالبهيمة المربوطة همها علفها، أو المرسلة شغلها نفسها، تكترش من أعلافها وتلهو عما يراد بها، أو أترك سدى،أو أهمل عابثا، أو أجر حبل الضلالة، أو أعسف طريق المتاهة.

    اتمتلىء السائمة من رعيها فتبرك؟! وتشبع الربيضة من عشبها فتربض؟! ويأكل علي من زاده فيهجع؟!...قرت اذن عينه، اذا اقتدى بعد السنين المتطاولة بالبهيمة الهاملة، والسائمة المرعيه!!

    طوبى لنفس ادت الى ربها فرضها، وعركت بجنبها بؤسها، وهجرت في الليل غمضها، حتى اذا غلب الكرى عينها افترشت أرضها، وتوسدت كفها، في معشر أسهرعيونهم خوف معادهم، تجافت عن مضاجعهم جنوبهم، وهمهمت بذكر ربهم شفاههم، وتقشعت بطول استغفارهم ذنوبهم (أُولئِكَ حِزْبُ الله، أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

    فاتق الله يا بن حنيف، ولتكفف أقراصك، ليكون من النار خلاصك".



    (من كلام أبي الحسنين الإمام علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه) ضمن كتاب له بعثه الى عامله على البصرة: عثمان بن حنيف الانصاري بعد ان بلغه انه دعي الى وليمة قوم من أهلها فمضى اليهم)



    بيرم التونسي والمهاتما غاندي:



    "الســلام لك والسلامه

    من هنا ليــوم القيامــه

    ياللى أظهرت الكرامـــه

    بعد عهد المرسليـــــــن

    ....

    ياللى من لعبك بمغــزل

    تطلع البورصات وتنـــزل

    فوق دماغ لندن وتعــزل

    لا نكشــــير الغزالـــــــين

    ...

    فيلسوف مايخيبش قولك

    كل فلسفتك فى نولـــــك

    والتلاميذ اللى حولـــــــــك

    بالمكاكيــــــك شغاليـــــــن"

    (بيرم التونسي مادحا المهاتما غاندي)



    في حديث الشيخ مع أياس بن معاوية وبين ثنايا كتاب أبي الحسنين لعثمان بن حنيف وفي شعر بيرم المادح للزعيم غاندي إشارات بليغة في تبيان كيف بقي بعض بني البشر أحدوثة حسنة بعد رحيلهم..طال الزمان بالناس واستطال قرونا أثر قرون..أندثرت الحضارات والدول... تبدلت كتب التاريخ وصفحات السير ولكن بقيت هناك رموز إنسانية لا يتغشاها الزمان ولا تغطيها ذاكرة النسيان..بقيت هذه الرموز حية في الخاطر والوجدان الإنساني... بقيت على مر الدهور والحقب ..تسترجعها الذاكرة الإنسانية عند الملمات وفي أوان العبر...رجال ونساء من كل الملل والنحل استعصوا على النسيان لأنهم جددوا ذاكرة الدنيا بالفعل الحسن...قاوموا الإندثار لأنهم رمموا وجددوا بناء الجسد والوعي والفكر الإنساني...تداعت وهوت القصور المشيدة والقلاع الحصينة وعجائب الدنيا وبقوا عنوانا للمجد ورمزا للخلود...إذا كانت إهرامات الجيزة وسور الصين العظيم وحدائق بابل المعلقة وبرج بيزا المائل قد بقيت كعجائب للدنيا القديمة فإن بشرا عاشوا من آلاف السنين لا تزال مآثرهم ماثلة في الوعي والوجدان الإنسانيين..رحلوا جسدا وبقوا رموزا شامخة بعدهم...في سعينا لإنارة سبيل الطيب صالح يبقى أحدوثة حسنة بعد رحيله نطوف في سير بعض من ترسمت خطاهم خطى الباحثين عن المجد والعدل.



    عطيل والباحثون عن المجد والعدل: اوبرا وينفري تستضيف شي جيفارا وأسامة بن لادن:



    ترى ما الذي يجمع إبنة الحلاق أوبرا وينفري مع شخصيتين أثارتا من الضجة والتأثير ما لم يثره غيرهما من شخصيات التاريخ المعاصر؟...ما الذي يجمع راية للتوحيد والجهاد العابر للحدود رفعها بن لادن مع علم للنضال الأممي يتقدم ثورة للمهمشين تبتغي تحقيق مجتمع اشتراكي يهتدي بالمادية الجدلية والديالكتيك مع رؤية إعلامية متطورة تطرحها اوبرا وينفري؟.

    الإختلافات أكثر من ان تحصي بين الثلاثة..اختلافات في الخلفيات والمباديء والأيدولوجيات والادوات والغايات..رغم التباين في كل شيء إلا ان هناك رابط خفي متين..الثلاثة تحركهم دافعية التميز وتؤجج فعلهم يقينية الإخلاص للفكرة ويرفد شرايين مثابرتهم إيمان لا يتزعزع بسمو الغاية التي ينهدون لتحقيقها...يجمعهم السعي الدؤوب في طريق المجد وتتركز غاياتهم في الإسهام الإيجابي في تحقيق العدل الإنساني، كل من منظوره..تظاهر كل هذا الفعل الواعي بمتطلبات غاياته كاريزيمية شخصية ليست محل جدال...في كل مسعاهم وعلى اختلاف ألسنتهم كان تلهمهم أبيات أبي الطيب الخالدة:

    إذا كانت النفوس كبارا تعبت في مرادها الأجسام

    و:

    كل ما لم يكن، من الصعب في الأنفس سهل فيها إذا ما هو كانا



    ولدت أوبرا وينفري لحلاق فقير وأم تعمل في خدمة البيوت..عاشت طفولة يظللها الإدقاع والحرمان...لم تستسلم لواقعها وحفرت بأظافرها على هوامش العمل الإعلامي المحلي وظلت تواصل تعليمها الجامعي من خلال المنح الحكومية حتى انتقلت إلى بالتيمور لتبدا برامجها الخاصة ثم تتعاقد مع محطة تلفزيون شيكاغو لتقدم برنامجها الصباحي "صباح الخير شيكاغو"... بدأت العمل في برنامجها الشهير "أوبرا وينفري شو" الذي يتم بثه في أكثر من مائة دولة ويشاهده الملايين اسبوعيا...برنامجها يسلط الضوء على عالم الاغنياء والفقراء في المجتمع الأمريكي والعالمي ويتطرق إلى العديد من مشاكل المجتمع الأمريكي بهدف ايجاد الحلول لها..

    البنت التي خرجت من قاع المدينة في حواري مسيسيبي لتحتل عرش الإعلام المؤثر في العالم بلغت ثروتها عام 2003 مليار دولار مما جعلها تحتل المرتبة التاسعة ضمن 20 شخصية من النساء الأكثر نفوذا على صعيد وسائل الاعلام والسلطة الاقتصادية. كما احتلت المركز الثاني حسب تصنيف مجلة فوربس لعام 2005 في قائمة أكثر الشخصيات تأثيرا في العالم ..في كل برامجها واوجه نشاطها الإعلامي تستهدف أوبرا مد يد العون للفئات المحرومة وتستغل الكوة الإعلامية المتاحة لها في التنبيه على مخاطر التفاوت الاجتماعي وإنعكاساته وتعمل بقدر ما تستطيع على فعل شيء بأتجاه تحقيق العدالة الإنسانية لإنسان العالم المقهور...هذه ملامح من سيرة اوبرا وينفري التي بدأت من القاع فثابرت واجتهدت مرتقية إلى ذراري المجد.



    ولد إرنيستو تشي جيفارا في الأرجنتين وحين أتم بنجاح دراساته الطبية قويت صلته بأكثر الناس فقرا وحرمانا وبالمرضى مثل المصابين بالجذام، وكان لسفره المتواصل عبر أمريكا اللاتينية، أثره الكبير على تطور وعيه بالتفاوت الاجتماعي وبالظلم كما كشفت له هذه الرحلات عن بؤس الفلاحين الهنود واستغلال العمال في مناجم النحاس بشيلي والتي تملكها شركات أمريكية. وفي عام 1953 زار بوليفيا والبيرو ثم باناما .

    رغم انه إمتهن الطب، إلا أنه ظل مولعاَ بالأدب والسياسة والفلسفة، سافر أرنستو تشي غيفارا إلى غواتيمالا التي كانت تشهد غليانا ديمقراطيا في ظل حكومة جاكوب أربنز عام 1954 على أمل الانضمام إلى صفوف الثوار لكن حكومة كاستيلو أرماس العميلة للولايات المتحدة الأميركية قضت على الثورة...انتقل بعد ذلك إلى المكسيك حيث التقى بفيدل كاسترو الذي كان قد لجأ إلى ميكسيكو بعد الهجوم الفاشل على ثكنة مونكادا في سانتياغو دو كوبا. وجنده كاسترو طبيبا في البعثة التي ستحرر كوبا من ديكتاتورية باتيستا. وهناك سمي بتشي وهو تعبيير تعجب يستعمله الأرجنتينيون عمليا في نهاية كل جملة...ساهم في إشعال الثورة ضد نظام حكم "باتيستا" الرجعي حتى سقوطه سنة 1959. وتولى منصب رئيس المصرف الوطني سنة 1959. ووزارة الصناعة (1961 -1965)...في يوم 9 أكتوبر 1967 مات تشي غيفارا إذ اغتاله الجيش البوليفي ومستشارو وكالة المخابرات المركزية الأمريكية..مات جيفارا فصدح أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام في "حوش قدم" بإحدي حواري القاهرة العتيقة:



    مات المناضل المثال

    ياميت خسارة على الرجال

    مات الجدع فوق مدفعه جوه الغابات

    جسد نضاله بمصرعه

    ومن سكات

    لا طبالين يفرقعوا

    ولا اعلانات

    ما رايكم دام عزكم

    ياانتيكات

    يا غرقانين فى المأكولات

    والملبوسات

    يا دافيانين

    ومولعين الدفايات

    يا محفلطين يا ملمعين

    ياجيمسنات



    ترى ما الذي أجبر تشي جيفارا على ترك بلده الأرجنتين وتخصصه في الطب وثراء أسرته ليجوب العالم مجيشَّأ الجيوش في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية ومن ثم ليدخل احراش بوليفيا ليقود بنفسه حرب العصابات حتى تصرعه مدافع الحكومة في تلك الاحراش؟...هل كان يبحث عن المجد؟.

    ماذا عن ثالث الثلاثة أسامة بن لادن الذي ولد في الرّياض في المملكة العربية السعوديّة لأب ثري وهو محمد بن لادن والذي كان يعمل في المقاولات وأعمال البناء وكان ذا علاقة قوية بعائلة آل سعود الحاكمة في المملكة العربية السعودية ...درس أسامة في جامعة الملك عبد العزيز في جدة وتخرج ببكالوريوس في الاقتصاد ليتولي إدارة أعمال شركة بن لادن وتحمّل بعض من المسؤولية عن أبيه في إدارة الشّركة. وبعد وفاة محمد بن لادن والد أسامة، ترك الأول ثروة تقدّر بـ 900 مليون دولار.

    بدأ أسامة بن لادن في دعم المجاهدين الأفغان ضّد الغزو السوفييتي لأفغانستان في سنة1979م. ثم أسس "معسكر الفاروق" " كمركز للخدمات" وقاعدة للتدريب على فنون الحرب والعمليات المسلحة وذلك لدعم وتمويل المجهود الحربي "للمجاهدين الأفغان" (وللمجاهدين العرب والأجانب فيما بعد)...في ذلك المسعى استفاد من الدعم المالي والتقني والفني من حكومات أمريكا وباكستان والسعودية.

    في عام 1988 بدأ بن لادن في جهاده العابر للقارات بإنشاء سجلات القاعدة لتسجيل بيانات المتطوعين من كافة الدول الإسلامية ....بانسحاب القوّات السوفييتيّة من أفغانستان بدأ التحول الكبير في فكر وعمل القاعدة بإعادة تعريف مواقع استهدافات القاعدة .. بمهاجمته للأنظمة التي ساندته في حرب افغانستان أضطر بن لادن للجوء للسودان الذي تزامن مع بداية تصدير الثورة الإسلامية إلى كل من جنوب شرق آسيا، والولايات المتحدة، وأفريقيا، وأوروبا...محطته التالية بعد السودان كانت افغانستان الطلبانية التي أعلن منها الحرب على الولايات المتحدة الأمريكية. وبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وجّهت الولايات المتحدة أصابع الاتهام إلى ابن لادن والقاعدة...منذ هاجمت القوات الأمريكية افغنستان وسقوط حكومة طالبان لا يزال أسامة بن لادن يعيش متخفيا ما بين افغانستان وباكستان.

    كما في حالة جيفارا يبقى التساؤل قائما ومشروعا :ما الذي دفع بأسامة بن لادن ليركل كل الثروة اللا محدودة والعز والرياش وحياة الدعة والقصور في السعودية وغيرها من العواصم ليلتحق بفيالق الدعوة الإسلامية المجاهدة في أفغانستان مجاهدا مع المجاهدين حتى انتصارهم على الحكم المدعوم من الاتحاد السوفيتي؟..ومن ثم الخروج للدعوة للجهاد وتكوين القاعدة حتى سقوط حكومة الطالبان ومن ثم العيش في كهوف تورا بورا ملاحقا من الولايات المتحدة وغيرها؟..هل هو أيمان مطلق بقضية الجهاد أم توق شخصي للمجد؟.

    ما بين شي جيفارا وبن لادن من اختلافات أكثر من ان تحصى ولسنا بصدد مقارنات أيدولوجية أو مواقف فكرية لاي منهما ولكن هناك رابط ولا شك ..الإيمان بدعوة وقضية والزود عنها بكل ما لدى المرء وأقصى ما يقدمه وهو روحه وحياته فداءاً لفكرته...ما هي القواسم المشتركة بين الرجلين على تباعدهما أيدولوجيا وفكريا ونفسيا؟ ..هل من سبيل للمقاربة في سعيهما للمجد؟..ما هي أصل الدوافع المحركة لكل منهما؟.

    إذا كانت الدوافع هي محرك الفعل الإنساني فدعونا ندلف لصومعة شيخنا ابراهام ماسلو صاحب الهرم الشهير..ترى هل نجد عنده ما يفسر لنا كيف سعت أوبرا وينفري للمجد أو ما يحدد لنا طبيعة الغايات التي خرج كل من أسامة بن لادن وتشي جيفارات لتلبيتها؟.



    في معاني تحقيق الذات: إبداع القناديل بين احتياجات هرم ماسلو وتطبيقات غازي القصيبي



    "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (١) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (٢) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (٣) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (٤)"

    (سورة قريش: مكية :السورة 106)



    "عجبت للرجل لا يجد القوت في بيته كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه"

    (الصحابي الجليل المنفي إلى الربذة أبو ذر الغفاري رضي الله عنه)



    "يا ريما، نحن الفقراء لا نملك الشيء الكثير سوى كنز الكلمات الذي نورًثه لأصدقائنا وأحبتنا. ونتذكرهم به، ويتذكروننا به،أمًا الحكام هؤلاء الذين يملأون الشوارع بنصبهم التذكارية، والتلفزات بوجوههم، سيندثرون...من يتذكر اليوم طغاة الدنيا منذ بدء الخليقة، لكن من ينسى اليوم: شكسبير، فلوبير، الحلاًج، بشار بن برد، سرفانتس، عمر الخيام، من يتذكر قاتل بوشكين؟...هؤلاء هم ذاكرتنا وذاكرة الدنيا التي تعيشنا ونعيشها".

    (واسيني الاعرج: رواية ذاكرة الماء: محنة الجنون العاري، ورد للطباعة، دمشق، 2008 ،الصفحة 24)



    عدَّدت سورة قريش منن المولى على عباده التي جاءت بتراتيب آلهية عرفت احتياجات الخلق ومكامن دوافعهم..إن الجوع والخوف ظلا هاجس الإنسان منذ بدء الخليقة ودون كفايتهما وأشبعاهما يظل الإنسان في لهاثه الأبدي.. ذات المنظور جعل الصحابي الكبير أبو ذر الغفاري يطلق صرخته قبل ألف وخمسمائة عام ..عجب الصحابي الجليل للرجل لا يجد القوت في بيته كيف لا يخرج على الناس شاهرا سيفه..تعاليم القرآن الكريم وسنن النبي المصطفى عليه أفضل الصلاة والتسليم جعلت سد حاجة الناس وأمنهم من الخوف والجوع من أولويات الولاة قبل أن تكون هناك حقوق إنسان ومنظمات دولية لها.

    بعيداً عن التعاليم الدينية وقريباً منها في آن جاءت كلمات واسيني الاعرج وهو يقف على مسببات وعلامات خلود رجال ونساء زَّينوا العالم وجَّملوه بعطائهم وإبداعهم في كافة ما يسهم في أنسه وأنسنته قبل أن يغادروه ليبقوا لوامع ونجوما مضيئة يعاود الناس الرجوع إليها الفينة بعد الأخرى.

    الزمان قديم والعطاء الإنساني يسرى مسرى أنهار العالم السرمدية موجة أثر أخرى ومد يعاون مدا فيفيضون على البشرية من عطائهم النبيل وإبداعهم المتواتر ما يجعل الكون أكثر أشراقا وإلفة وألقا...كتب التاريخ وسيره ألمت بأطراف من عطاء رجال من لدن أكتشاف الإنسان الأول للنار وحتى عبقريات بيل غيتس والألياف البصرية..علماء ومكتشفون اراحت عقولهم العالم من مشاق الحياة وأوضار الأمراض تيسييرا وتمهيدا ..أدباء وشعراء وتشكيليون وكتاب فتحوا آفاق العقل ومسارب الإبتكار أمام قوافل الإنسانية ففجروا طاقات الإبداع ..مبدعون من شاكلة سوفوكليس وشكسبير وموليير عالميا ويوسف بك وهبى حتى الفكي عبد الرحمن أقليميا ومحليا ..شعراء تناسلوا من ما قبل أبيات النابغة وعروة بن الورد وأبي الطيب المتنبيء وأبو القاسم الشابي وحتى أحمد فؤاد نجم وحميد ومحمد طه القدال...روائيون سجلوا حياة الشعوب وإنسان العالم من لدن الكاتب المصري الجالس القرفصاء وجراهام جرين وتوماس مان وألان باتون وحتى الطاهر وطار ونقوقي واثينغو ومحمد شكري وشينوا أشيبي وعبده خال .. فنانون عبروا بعواطف جياشة عن أحلام الإنسانية وأفراحها وأحزانها من تواشيح الأندلس وأغاني الجنوب الامريكي على أيام العبودية وجاز لويس أر مسترونج وحتى غناء الهداي في مضارب بادية كردفان بغرب السودان...أصوات وعقول وإضافات إبداعية بقيت وترسخت في الذاكرة الشعبية العالمية فخلد أصحاب العطاء.



    يبقى أهل السلطة والجاه والمال في واجهة الحياة محض ومضة في عمر الشعوب ثم يذوون سريعا كالنيازك ...يسقطون من الذاكرة ويتلاشون تماما وتتجدد في الذاكرة عطاء كل من بقى أحدوثة حسنة بعده.يبقى أحدوثة حسنة كل من كان الناس منبع عطائه وملهم إبداعه ..بقى في الذاكرة من كانت البشرية مهوى فؤاده وكعبة ارتحاله...يبقون كما بقى تليستوي وكافكا وهيمنجواي وناظم حكمت..يبقون كما بقيت الأم تريزا وهوشي منه وشي جيفارا و"المعلمو" جولويوس نايريري ..يبقون كما بقي وسيبقى سيدنا وأبونا نيلسون مانديلا...يبقون كما بقي عبد الخالق محجوب ومهدي عامل وأغستينو نيتو وفرحات حشاد وتوم مبويا وكوامي نكروما .. يبقون كما بقي كرومة وأم كلثوم وسيد درويش وفيروز وصالح عبد السيد أبو صلاح ..يبقون وسيبقون كما بقي وسيبقى الطيب صالح..بقى هؤلاء رموزا خالدة لعطاء إنساني إستثنائي كانت محركات دفعه كامنة في ثنايا هرم ماسلو..من ماسلو؟ وما هي قصة هرمه؟



    هرم ماسلو :توربينات الإبداع الإنساني

    خلال تعاملي مع مادة سلوكيات الإدارة ،معلماً ومتعلما، ظللت اتساءل طويلاً عن دلالات نظرية (أو الإنشاء الذهني) لأبراهام ماسلو حول هرم الاحتياجات الإنسانية..ورغم القيمة العالية لرؤية ماسلو للإحتياجات الإنسانية وتراتبيتها وسبل استخدامها كمحفز ودافع للفعل الإنساني إلا أن نقد النظرية أثبت قصورا في بعض جوانبها كما اوضحته دراسات ومراجعات واستدراكات دارسين وممارسين مثل وهبة وبريدجويل اللذان شككا في ترتيب الاحتياجات بل في وجود سلم لها أصلاً..من جانب آخر أشارت دراسات وابحاث الأقتصادي والمفكر الشيلي مانفرد ماكس-نيف أن الاحتياجات الأساسية الإنسانية، بطبيعتها، ليست هرمية وإنها من الناحية الأنطولوجية عالمية وغير متنافرة بطبيعتها كمكون وحالة إنسانية ويدلل على ذلك بأن الفقر يمكن أن يكون ناتجا عن عدم تحقق أو منع تحقق أي من الاحتياجات الإنسانية الأخرى...أما الفيلسوف الهولندي الذي شغل الناس كثيراً بطروحاته حول أثر الثقافة على الإدارة غيرت هوفستيد فقد رفض مبدأ هرمية الإحتياجات (الذي يعتمد تحقيق الذات كقمة لذلك الهرم) باعتبار أن الفكرة أصلاً تعاني من إشكالية كونها شعوبية المبتدأ والمنتهى.

    ورغم ما أشرنا إليه من جوانب قصور مفاهيمية ومنهجية ، تبقى القيمة النظرية لعمل ماسلو مركزة في قدرتها على بسط الموازنة للمقاربات الحياتية للفعل الإنساني..فنحن في نهاية الأمر تحركنا في الحياة دوافع محددة ..هذه الدوافع تعمل لتحقيق حاجاتنا الإنسانية بحسب تراتيب معينة في الغالب..وبحسب معرفتنا للاحتياج تكون حركتنا ودافعنا لتلبية استحقاقات ذلك الاحتياج ..وكما يقترح ماسلو فكل منا لدية خمس مجموعات من الاحتياج مرتبة من الأسفل للأعلى بحيث لا يتم الدفع باتجاه تحقيق احتياج إلا بعد تلبية متطلبات الاحتياج الذي يدنوه..أولى الاحتياجات هي الاحتياجات الفيسيولوجية من غذاء وماء وهواء ونوم.. على المستوى الثاني تاتي احتياجات الأمان والأمن. في المستوى الثالث للهرم تأتي احتياجات الحب والانتماء التي تندرج تحتها الحاجة إلى الأصدقاء والمرافقين والأسرة مع مجموعة تحديد الهوية والعلاقة الحميمة.في المستوى الرابع احتياجات احترام الذات التي تتطلب توفر مجموعة من الاحتياجات الأخرى التي يتولد عنها الاحساس بالثقة والكفاءة...وأخيرا، يتربع تحقيق الذات على قمة الهرم.

    هذا هو ماسلو وهذا هو هرمه ولكن ما العلاقة بين كل هذا والإبداع الإنساني؟... هل يبدع المبدعون لأنهم يعتاشون من إبداعهم ويعملون على تحقيق احتياجاتهم الاساسية من عائد ذلك الإبداع؟ أم أنهم يبدعون لأنهم سيبدعون في كل الاحوال والإبداع قرين وجودهم سواء حققوا احتياجاتهم في مستوياتها المختلفة أم بعضها أو حتى لم يحققوا شيئاً منها؟.بمعنى آخر: هل تحقيق أو تلبية بعض الأحتياجات الأساسية شرط ضروري للإبداع؟.

    في لقائه مع صحيفة القاهرة المصرية قال الوزير والدبلوماسي والاديب السعودي الكبير غازي القصيبي (شفاه الله وعافاه) "إن الادباء الموظفين أكثر انتاجا من المتفرغين" وكان بهذا يرد على من يطالب بتفرغ الأدباء حتى يتمكنوا من إنجاز مشاريعهم الثقافية...إن المقولة السائدة على صعيد أهمية أن يتفرغ الأدباء في العالم العربي(على الأقل) ليبدعوا ليست جديدة وتقوم على حيثية حصول المبدع على تأمين ثابت لمعاشه.. على ذات الحافر كان وقع كلمات الطيب صالح الذي يبرر إقلاله في الانتاج بقوله :"أصبحت هناك أسرة والتزامات معيشية‏، وهذه قضية يعاني منها كافة المبدعين العرب من أدباء ورسامين وموسيقيين وشعراء‏..‏ هناك المحظوظون القليلون الذين يستطيعون العيش من كتاباتهم، وأنا لسوء الحظ لست منهم‏..‏ ليس عندي الميكانيكية التي تفرض علي أن أكتب بالقلم‏،‏ لكني أكتب في رأسي باستمرار"..."الكتابة في الرأس" يصعب قياسها مقارنة ب "الكتابة في الكراس"..هذان حسابان مختلفان جداً ..نجيب محفوظ وحنا مينا كرسا كل وقتهما للكتابة وانتجا انتاجا وفيرا والطيب صالح ومحمد شكري اكتفيا ببضعة أعمال...كل هؤلاء مبدعون عالميون ولكن قضيتنا المركزية هنا تتمحور حول منشأ الإبداع وهل يكتفي المبدع أولاُ ويشبع احتياجاته (كما في تصورات ماسلو) قبل أن يبدع أم أن الأبداع يمكن ان يكون قرين المعاناة؟.

    في مقابل وجهة نظر الطيب صالح السابقة كتب محمد شكري في مقدمة منجزه الاهم "الخبز الحافي" كلمة دالة عميقة يقول فيها:"صباح الخير أيها الليليون، صباح الخير أيها النهاريون، صباح الخير يا طنجة ... لقد علمتني الحياة أن أنتظر أن أعيَ لعبة الزمن بدون أن أتنازل عن عمق ما استحصدته، قل كلمتك قبل أن تموت فإنها ستعرف حتماً طريقها.. لا يهم ما ستؤول إليه,الأهم هو أن تُشعل عاطفة أو حزناً أو نزوة غافية، أن تشعل لهيباً في المناطق اليباب الموات، فيا أيها الليليون والنهاريون.. أيها المتشائمون والمتفائلون.. أيها المتمردون.. أيها المراهقون.. أيها العقلاء لا تنسوا.. لا تنسوا أن لعبة الزمن أقوى منا، لعبة مميتة لي، لا يمكن أن نواجهها إلا بأن نعيش الموت السابق لموتنا بإماتتنا أن نرقص على حبال المخاطرة نشداناً للحياة، أقول: يخرج الحي من الميت، يخرج الحي من النتن والمتحلل، يخرجه من المثخن والمنهار، يخرجه من بطون الجائعين ومن صلب المتعيّشين على الخبز الحاف".(مقدمة رواية الخبز الحافي: طنجة- 17/5/ 1982).

    إن السؤال حول مكمن الإبداع الإنساني ينطوى على تعقيدات جمة وابتداءاً فإن أي أجابة متسرعة قمينة باستصحاب أخطاء العجلة وزلل التسرع..الإبداع حالة إنسانية فريدة يصعب تماما تطبيقها وتعميمها دون توخي المحاذير ..إن إبداع محمد شكري كان نتاج معاناة حقيقية لرجل عاش الفقر الحقيقي والإدقاع بكل صنوفه ومعانيه..رجل تخلص من الأمية وهو في العشرين ..هذه حالة نادرة حقاً ..عبد الله البردوني كف بصره وهو دون العاشرة ومن ثم عاش حتى الثمانين وملأ أفق اليمن السعيد والثقافة العربية بشعر إنساني عظيم.. سيدي أبو العلاء أبدع "سقط الزند" والدرعيات وهو رهين المحبسين بمعرة النعمان .. عمار الشريعي ملأ الأذن العربية بموسيقى غير مسبوقة بل وبموسيقى تصويرية لأعمال درامية لا يراها بل توصف له..عبد الله حامد الأمين لم تقعد به الإعاقة الجسدية عن إدارة أهم منتدى ثقافي عرفه السودان في الستينات والسبعيات ..الإعاقة الحسية والمعنوية والفقر والإملاق كلها عوائق عاشها المبدعون كما غيرهم ..عاش أحمد شوقي حياة مترفة وعاش حافظ إبراهيم حياة عادية ليس فيها من الرياش والدعة ما تأتي لشوقي وانتج كلاهما شعرا إنسانيا راقيا.

    في ظلال هذه الخلفية السلوكية التي سعت لكشف ما وراء الإبداع الإنساني ومرتكزات خلود أقوام رفدوا الإنسانية بفيض من عطاء متفرد نقف أخيرا على دليل الطيب صالح في كيف يبقى الفرد أحدوثة حسنة بعده.



    الطيب صالح : التسع المنجيات كما في مرآة أدونيس ومراجعة البيسي



    على كثرة ما كتب عن الطيب صالح حياً وميتاً وجله كان محباً ورائعاً وإنسانياً إلا أن مراجعات واستدراكات كاتبين ومبدعين مهمين كشفت عن أبعاد أخرى قد تسهم في فهمنا لظاهرة أن يبقى بعض المبدعين احدوثة حسنة بعد رحيلهم... كتابة أدونيس التي جاءت في " مدارات - مكان لهجرة داخل المكان : 15 آذار 2009" ودراسة أو مراجعة الكاتبة المجيدة سناء البيسي للقاءات سابقة لها مع الطيب صالح التي وثقتها في مقالتها" الطيب صالح وداعاً يا زول: الأهرام 14/3/2009" سلطت ضوءاً ساطعا على خلفيات وسمات أصيلة للطيب صالح في ما نحن بصدد من استنكاه لبقاء المرء أحدوثة حسنة بعد رحيله.



    أدونيس وسطوة النور:

    "في شعرية الكتابة، التقينا. وكان لقاؤنا إذاً حراً كمثل كتابته التي ولدت حرة، خارج المعسكرات - أحزاباً، وأيديولوجيات، وسياسات، تلك التي كانت تولّد الرغبة في الصمم. كانت كتابات الطيب صالح تتلألأ مع وحدتها الساطعة على مأدبة الجمال والسر.

    وفي حين كانت الكتابات المهيمنة خدمة للأسماء، كلا، خدمة لألفاظ كانت تصطف، وتتقافز حولنا، وتحاصرنا، كأنها أسلحة من كل نوع، أو جيش يسهر، ويحرس، ويطارد في كتائب لا تعرف غير التمترس والتخندق والترصد وشن الحملات، كانت كتابات الطيب صالح تسير هادئة وديعة في الطريق الضيقة نحو تحرير الطاقات الاكثر عمقاً في الحياة والانسان، في الفكر واللغة.

    لا حزب وراءه، أو أمامه، أو حوله. لا يتكئ على وسادة النواح الوطني. لا يسمح لنفسه أن يستلقي على سرير تنسجه دعوى باسم التقدم. لذلك لم يكن يكتب لكي يتواصل مع جمهور جاهز يستعرض في الساحات العامة، بل كان يكتب لكي يزداد معرفة لنفسه، ولكي يزداد تواصلاً مع فضائها الانساني. كانت الكتابات المهيمنة تؤسس للسلطة، وكانت كتابته تؤسس للهوية. كان ممن لا يجرفهم الحدث، بل ممن يتأسس بهم التاريخ. لهذا لم تكن له سطوة غير سطوة النور، سطوة أن يستبصر، ويستشف، ويكتشف، ويحبّ".

    (أدونيس: مدارات - مكان لهجرة داخل المكان : 15 آذار 2009 )



    أدونيس في كلمته الباذخة الوضيئة يؤمي إلى خمسة من مقومات كتابة الطيب صالح الدالة على شخصيته وعلى خصائص أدبه..خمس ركائز يرى أدونيس أنها منحت الطيب مكانة متميزة كإنسان أولاً وكمبدع ثانياً .. كلام أدونيس لخَّص هذه المقومات والركائز في :حرية الكاتب، القدرة النافذة على تحرير الطاقات، الكتابة كمفتاح ورافعة للمعرفة، الكتابة المعرفية كمؤسس للهوية وأخيراً استشرافية الكتابة لما فيها من سطوة للنور والإشراق.



    أولى العُمد التي كشف عنها حديث أدونيس تمحورت حول الحرية في كتابات الطيب..يقول أدونيس إن كتابات الطيب صالح "ولدت حرة، خارج المعسكرات- أحزاباً، وأيديولوجيات، وسياسات"...وأنها كانت"تتلألأ مع وحدتها الساطعة على مأدبة الجمال والسر" شهادة عظيمة من كاتب عظيم في حق مبدع عظيم... القيمة الحقيقية لمثل هذا الشهادة تتبدى لنا أكثر إذا تذكرنا أن بدايات التعارف بينهما كانت في ستينات القرن الماضي في بيروت التي كانت تعج وقتئذ بالتيارات والإيدولوجيات والأحزاب..في مثل الأجواء السائدة حينها نقدر تماماً قدر وقيمة الكتابة الحرة الفردانية المعبرة عن ذات الكاتب لا الجماعة..في زمن العصبيات والأدلجة ودوائر الاستقطاب والأستقطاب المضاد يبدو مستحيلا أن يعمل المبدع في إطار من الحرية إلا من كانت له جدارة احترام الذات والموضوع..يقول أدونيس في نصه السابق:" كان لقاؤنا إذاً حراً كمثل كتابته التي ولدت حرة، خارج المعسكرات - أحزاباً، وأيديولوجيات"..كتابة الطيب الواثقة العميقة كانت تعير عن ذاته لا عن جماعته ..كانت أنعكاساً لصوته هو وضميره هو وقناعاته هو لذا كان انتقال حروفه العارفة اليانعة من أعين القراء إلى قلوبهم سلسلاً دفاقاً بالمشاعر الإنسانية الصادقة التي لا تخفيها الأدلجة ولا تزينها المداهنة ولا تبرقعها رجاءات التوسل ولا التسول..كتابة الطيب الحرة مهدت دربه ليبقى أحدوثة حسنة بعده.



    على مستوى آخر ينبيء نص أدونيس عن مكَّون خطير آخر في إبداع الطيب صالح بقوله:"كانت كتابات الطيب صالح تسير هادئة وديعة في الطريق الضيقة نحو تحرير الطاقات الاكثر عمقاً في الحياة والانسان، في الفكر واللغة"...هذا درب شاق وعر..السير المنفرد في فلوات الإبداع الناهد لتجديد الفكر الإنساني واحياء اللغة تحريراً لهما وإمداداً لهما بزاد القيم المضافة أمر لا يقدر عليه إلا العصبة من أولى البأس الفكري الشديد وكان الطيب مقدما في هذا ...الكتابة الراكزة على السائد والمتداول تمر مرورا عابرا كما يمر صاحبها دون ان يترك أثراً ..الكتابة التي تتخير شق الدروب الجديدة تقنية ولغة وأسلوبا للإرتقاء بطاقات الإبداع الإنساني هي التي تبقي في ذاكرة الدائرة الثقافية إذ هي مصدر دفعها المستقبلي ..على هذا المنحى وفي هذا الاتجاه بقيت في ذاكرة الإبداع الإنساني أعمال عبد الرحمن منيف وهو يستخدم الرواية ليسجل أثر البترول على التقاليد والثقافة الخليجية..بقي فيها نجيب محفوظ وهو يرصد تحولات ما قبل الحرب الكونية الثانية على المجتمع المصري القاهري كما في الثلاثية الأشهر ..بقي فيها إبراهيم الكوني وهو ينقب في الذاكرة الصحراوية ..بقيت فيها أعمال شينوا أشيبي ونور الدين فارح وماركيز ..بقي فيها الطيب صالح في ربطه للواقع المحلي بالأطر الفنية للرواية العالمية حيث أرتقى به منهجه وطريقه لدرج الإبداع الأسمى وكان ذلك معبره ليبقى أحدوثة حسنة بعده.



    في زماننا هذا يكتب الناس الكلمة والكلمتين ثم يمدون أرجلهم احتفاءً واحتفالاً وكأنهم بلغوا سدرة منتهى العلم والإبداع..الطيب فيما يرى ادونيس كان مختلفا .."كان يكتب لكي يزداد معرفة لنفسه، ولكي يزداد تواصلاً مع فضائها الانساني" ونعم الكاتب والكتابة..لعل كتابات الطيب في مرحلة ما بعد الرواية (عمله "منسي إنسان نادر على طريقته" وما تبعته من "مختارات") كشفت عن معدن عالم متعلم يزداد مع الأيام والتجربة علما ومعرفة وإنسانية ..إحاطته بالإبداع والفكر العالمي أورثته موهبة التثاقف الراقي والرؤية الإنسانية العميقة.."التثاقف" كان رافعة الطيب نحو الكتابة التي تقوم عل المعرفة وتستشرفها في آن معاً ...الكتابة كمفتاح للمعرفة كانت وسيلة الطيب لمقاربة الآخر من باب إضافة القيمة المشتركة للتجربة الإبداعية الإنسانية ...تلك الرؤية وهذا التثاقف جعلاه أيقونة المحافل العربية ..يحتفون به في الجنادرية كأنه سعودي من نجد او الحجاز ويرفعون قدره في المغرب كأنه ابن أصيلة أو الدار البيضاء وفي قاهرة المعز وفي بيروت وفي الدوحة يجلونه إذ هو عندهم كأنه أحد أعز ابنائهم وقد كان كذلك ..فضاؤه إنساني أولاً وأخيراً لذا كان قبوله نعمة من الله عليه وعليهم ..كتابة الطيب الراكزة على المعرفة كغيرها من الكتابات المعرفية تجعل المرء أحدوثة حسنة بعد رحيله.



    من أقوال أدونيس الذكية المدهشة عن الطيب قوله :"كانت الكتابات المهيمنة تؤسس للسلطة، وكانت كتابته تؤسس للهوية"...نعم على هذا الصعيد كان الطيب صالح الحقيقي ..كان طيب الناس ..طيب البسطاء.. التزامه التام في أدبه وفي حياته جانب أهله وحياتهم وتقديره لهم واحتفائه بهم كلها علامات دالة على وعيه بالهوية وسعيه للتأسيس لها..العودة للجذور عنده ليست حركة إنكفائية مناقضة للإنفتاح الإنساني بل داعمة واعية له..عودة مصطفى سعيد ومحيميد للمنبع ليست دعوة "لغسل اليدين" من المدينة أو للإنكفاء بل كانت صيحة واعية للتعايش المعافى بين الأجيال والثقافات..بين التقليدي والحديث من أجل إرساء قواعد مجتمعات أكثر وعيا وأكثر إلماما بتطورات العصر..الكلمات والحكم والأقوال التي جرت على ألسنة أبطاله الذين اختارهم من غمار الناس كانت معبر الطيب للربط بين التقليد والماضي والحداثة الراشدة ..على لسان الطاهر ود بلال الرواس وسعيد القانوني لخص الطيب رؤية البسطاء لقيم وطبيعة ووتائر التخلف والتقدم في المجتمعات..سخر عبرهم من كل حديث زائف في مؤسساتنا وسلوكياتنا..في ذلك كان الطيب حقا وصدقا يؤسس للهوية ..كانت "موسم الهجرة" و"بندر شاه" رسائل ذات مضامين رائعة في العودة لتأسيس الهوية وفق معطيات العصر.. في سياق متصل يقول الروائي اللبناني جبور الدويهي :"لعل البعض يلومني لو قلت إنني أحبه أكثر من نجيب محفوظ، لكنني معه أشعر بأنني في مكان رحب وعالم متسع. لقد استطاع الطيب صالح أن يقدم إنجازا لم يقدر عليه غيره، فلقد استطاع تحويل المحلي إلى عالمي. ليس سهلا أنه تمكن من أن يجعل هذه القرية السودانية النائية التي كتب عنها، مكانا يجسّد حالة عالمية وإنسانية فياضة"...(الطيب صالح) "رجل أصيل وبلا عقد. أصيل في أسلوبه وسرده، ولا يتعامل بموقف مسبق مع الرواية الغربية. فروايته تتمتع بحرية تشبه تلك التي يتمتع بها هو نفسه في تعاطيه مع ذاته، وكل هذا ينمّ عن ثقة كبيرة في النفس. صحيح أنه مقل، لكن كل ما قرأته له كان يمتعني، فهو أديب يمد يده إلى قارئه"...شهادة الدويهي تقول ان الرجل يتمتع بثقة كبيرة بالنفس ولكنه لا يأبه لكل هذه الضوضاء ولا تلك الشهرة" ... في حديث الجبوري حول أصالة الطيب وفي ما قدمنا من دعوته لإعادة النظر في مسألة الهوية وقواعد تأسيسها أمثلة لما أراد أدونيس ان يبلغنا من قدرات الطيب الخلاَّقة ..في كل هذا يجد المرء دليله في كيف له أن يبقى أحدوثة حسنة بعده.



    خامسة خصائص الطيب كما في كلمة أدونيس المترعة بالحب هي أكثرها أشراقا وعمقا ..يقول أدونيس:"كان ممن لا يجرفهم الحدث، بل ممن يتأسس بهم التاريخ. لهذا لم تكن له سطوة غير سطوة النور، سطوة أن يستبصر، ويستشف، ويكتشف، ويحبّ"...الأحداث تجرف أصحاب الرؤية القاصرة ...أصحاب البصيرة النافذة يتاملون الاحداث في سياقات اشمل وأكثر ترابطا ..يتأملونها في إطار الصورة الكبيرة كما يقول الفرنجة..هؤلاء هم دارسو التاريخ الإنساني في منظوره الأشمل ..من هؤلاء كان شيخنا الطيب ..سطوة النور في كتاباته أبرزتها مقالته "من أين جاء هؤلاء؟" ..نقده لنظام الحكم القائم في السودان لم يذهب مذهب أهل السياسة الآنية الذين ركزوا على احداث بعينها كمآخذ على سلوكيات النظام السياسي القائم ..الطيب تعامل مع المسألة من باب الرؤية المتكاملة فكان نقده للنظام مبنيا على مجافاة أسسه وطرائقه مع منظومة القيم والأخلاق السودانية الأصيلة ..سطوة النور الكشًاف في حديثه هي التي أوجعت أهل النظام وأهل السياسة المعارضين لهم على السواء ..في مقالته البليغة أوجز برؤية شفافة المقابلة غير متعادلة بين أطروحات تقوم على الحدث ورؤية تقوم على منظومة الأحداث وإطارها القيمي والأخلاقي...في هذا الجانب كانت لكتابات الطيب كما وصفها أدونيس:" سطوة أن يستبصر، ويستشف، ويكتشف، ويحبّ"..عبر هذه السطوة الرؤيوية بقي الطيب أحدوثة حسنة بعد رحيله.



    البيسي وهامشية المركز!:



    "أنا شخص علي الهامش وأفضل أن أكون كذلك فهذا الوضع يريحني‏..‏ أعتبر بكل صدق أنني لست جزءا من الحركة الأدبية‏..‏ لست ملتزما بالكتابة إلي حد كبير لاعتقادي الجازم بأن في الكتابة شيئا من عنصر اللعنة‏,‏ فكيف بالله أشجع أحدا علي أن يصاب بهذه اللعنة‏..‏ أنا لست من الذين ينبسطون من عملية الكتابة لأن الحياة تضيع في سبيل حياة وهمية مع الورق‏.‏ وعلاقتي بالأدب أحاول أن أجعلها ــ إذا صح التعبير وإذا لم تثر ثائرة أحد ــ مثل العلاقة بالخليلة وليس الزوجة. ... إذا جاء ناقد ولم يعجبه ما أكتب فلا يهمني كثيرا‏..‏ وتمر الشهور وأحيانا السنون ولا أكتب‏..‏ لا أحب الكتابة حقيقة‏..‏ لاأحب الجلوس إلي ورق أبيض في الليل والناس نيام لأخلق عالما معقدا ومشكلات‏، وأقول بعدها ان ليس لي شأن‏،‏ والذي يقرأ أعمالي بإمعان يجد إحساسي هذا موجودا فيها‏..‏ الفن يأكل الحياة‏..‏ ولم أعرف أني سأكون كاتبا ولكني أصبحت كاتبا‏، ولو كنت أعرف لرتبت حياتي بشكل مختلف‏، لكن التضحيات بعد الارتباط تعلقت بأناس آخرين‏..‏ أصبحت هناك أسرة والتزامات معيشية‏، وهذه قضية يعاني منها كافة المبدعين العرب من أدباء ورسامين وموسيقيين وشعراء‏..‏ هناك المحظوظون القليلون الذين يستطيعون العيش من كتاباتهم‏،‏ وأنا لسوء الحظ لست منهم‏..‏ ليس عندي الميكانيكية التي تفرض علي أن أكتب بالقلم‏، لكني أكتب في رأسي باستمرار". (خطوط التأكيد من عندي)‏.‏

    (سناء البيسي: "الطيب صالح وداعاً يا زول: الأهرام 14/3/2009")



    القيمة الحقيقية للقاء البيسي مع شيخنا الطيب أنه استخرج الدر المكنون في حكم ومقولات الطيب ..تقرأ إجاباته على أسئلتها العميقة فتقف على مسألة غاية في التعقيد تتصل بعلاقة المبدع بعمله وعالمه والآخر والذات...في إفادات الطيب حول ذاته وادبه وموقع إضافاته في الخارطة الإبداعية العالمية والعربية وفي رؤيته للآخر نقف على أربعة أبعاد هامة تؤسس، بالإضافة إلى ما عدده ادونس من سمات، إلى دليل المبدع ليبقى أحدوثة حسنة بعد رحيله.



    في هذه الأبعاد الأربعة يقول الطيب عن نفسه :أنه على الهامش ويفضل أن يكون كذلك..يقول أنه ليس جزءاً من الحركة الادبية..يقول أنه لا يحب الكتابة..ويقول إن الفن يأكل الحياة..هذا هو الطيب الصالح الطبيعي الخالى من أي منكهات أو اضافات تفرضها دبلوماسية عرجاء أوتؤكد عليها قيم التعلل السائدة في المنتديات الإبداعية العربية....هذا هو الطيب الصالح في مرآة ذاته ...رجل صوفي يزن نفسه وعمله بميزان دقيق صارم .. ميزان من يرى نفسه قطرة في كون ..تقييمه لذاته لا يندرج ضمن التقاويم والمقاييس السائدة والممتلئة نرجسية والتي تعاني من علل تضخم الذات..موازين الطيب خالية تماما من التطفيف إذ هي بالغة الدقة الإنسانية والفلسفية.



    "هامشية" الطيب التي يؤكد عليها هنا ليست هامشية أغلب مبدعي السودان ..فالرجل كان له حضوره المميز في سوح ومنتديات الثقافة العربية ..."الهامشية" التي يصف الطيب بها نفسه هنا تتجذر في تركيبة الرجل الصوفية التي أورثته تواضع أهل العلم فوضع نفسه في هامش الحركة الأدبية ولم يكن كذلك على الإطلاق....أنت في هامشها فمن يا سيدي في بؤرة مركزها؟؟... السؤال الذي يتقافز هنا هو هل كان الطيب يتعمد الإنزواء لكون بلاده قصية وبعيدة عن مراكز الإبداع العربي والثقافي في القاهرة وبيروت؟؟..ربما، ولكنه كفرد مبدع كان في المحافل..كان في القاهرة وفي الدوحة والشارقة وبيروت وأصيلة والجنادرية وفي نواكشوط أيضاً ... يقول أنه يفضل أن يكون في الهامش وهذا أيضا غريب بمقاييس الزمان الذي يشتكي فيه المبدعون من شح الومضة الإعلامية..يريد الطيب أن يبقى في الظل ..في الهامش وبعيدا عن الأضواء ..الطيب صالح لا يود أن يكون في الظل فقط ولكنه يجترح معادلا موضوعيا صعبا، وغير مسبوق، للشهرة..ذات الشهرة التي يذل الوصول إليها أعناق الرجال والنساء هي عند الطيب مدعاة لتوبيخ الذات وتقريعها على قصور ما...ذات الشهرة التي يتسابق الناس إليها بالحق والباطل تأتي ذلولة لهذا الطيب فلا يرى فيها إلا عنوانا للتقصير ...تسأله الأستاذة البيسي (في ذات اللقاء): "اختيرت روايتك موسم الهجرة إلي الشمال ضمن أفضل مائة عمل في تاريخ الإنسانية،‏ واحتفي بك في أنحاء العالم شخصا وعملا‏، فعلي سبيل المثال نقل الألمان جميع أعمالك من العربية إلي اللغات العالمية‏، وتحرص مصر علي وجودك الشخصي والأدبي الدائم علي أرضها‏،وكانت بريطانيا الحاضنة الأولي لك مع أنك صاحب الرواية الناقدة للاستعمار الإنجليزي وصدام الحضارات‏،‏ وكنت النجم الدائم في الجنادرية السعودي‏، واهتم بك القطريون منذ أيام فقرهم‏، وحول الليبيون أحد أعمالك لدراما‏، والكويت حولت إحدي رواياتك لفيلم سينمائي؟‏..‏ دوائر الحفاوة تلك منحتك الشهرة الواسعة‏....‏ أنت والشهرة؟‏!!"...هذا حديث يملأ كل إنسان فخرا وزهوا ..حديث مملوء بنشوة الإنجاز عند كل الناس..كاذب مداهن من قال أنه يمكن ان يسمع كل هذا الإطراء ثم لا يمسسه شيء من زهو يكبر أو يصغر ...لقامات أدنى كثيرا من قامة الطيب كانت كلمات كثيرة ستقال في هكذا مقام أما تمريرا ذكياً للإشادة أو دفعاً لها بإتجاه رفض معلل يتواضع غير حقيقي..هنا أزمة الطيب الحقيقية...رده كان مشابها لموقفه من الشهرة مذ اتت إليه وهو فار منها...يقول الطيب:"‏-‏ أقول صادقا ليس لدي أي إحساس بأهمية ما كتبت‏، ولا أشعر بأنني هذا المهم‏، وهذا ليس تواضعا لكنها الحقيقة،‏ إذا اعتقد الناس أن ما كتبته مهما فهذا شأنهم لكنني قطرة في بحر،‏ فقصيدة واحدة للمتنبي تساوي كل ما كتبته وأكثر‏..‏ لدي شعور قد لا يستوعبه كثيرون أن الشهرة توبخني لذا لا أحس بأية متعة لها‏.‏ أحس بهذا التأنيب الداخلي إذ أنني أدرك أن الشهرة جاءتني بسبب خروجي عن بيئتي ومحاولة إقامة جسور معها من خلال الكتابة فقط‏، إلا ان هذا لا يعني جلد الذات‏، والأمر لا يصل إلي حد القسوة‏، لكنه إحساس قوي بالتقريع‏..‏ وكل إنسان يجد مبررات لأخطائه ولذلك عندما نقرأ السير الذاتية نجد أصحابها يبررون دائما أفعالهم بمبررات واهية ليست مقنعة علي الإطلاق‏،‏ ونادرا ما نجد من يقدم نفسه بشكل حقيقي"‏...هذا إنسان نادر حقا يوبخ نفسه ويقرعها في لحظة مجده الكبرى ..كيف يبقى المرء أحدوثة حسنة بعده؟ دونك دليل الطيب الذكي لكل ذلك.

    ‏في قول الطيب صالح أنه "ليس جزءاً من الحركة الادبية" شيء غامض ما ..ظني أن الرجل هنا يؤكد على ما لاحظه ادونيس من التزامه بحرية الكتابة..الحركة الأدبية العربية توزعت بين المدارس والعواصم والزعامات...والطيب كان أذكي من ربطه بمدرسة أبداعية أو محور ثقافي أو رابطة أدبية يظللها أو يرعاه نظام أو أيدولوجية أو جماعات منتمية او تيارات عقائدية .. الحركات الادبية العربية (بل حتى العالمية) ليست مبرأة من الشبهات ..هذه الحركات تقوم على تمويل ورعاية توفرها مؤسسات لا تبتغي وجه الله ولا رعاية الأدب ..منذ ان ابتليت الامة العربية بأنظمة صمدية شمولية دخلت كل مؤسسات المجتمع المدنى في عباءة السلطة ونالت حظها من الجزرة ومن فارق الجماعة شذ ، ومن شذ كانت العصا حاضرة..هكذا كان الحال وسيظل فالحركة الادبية العربية ظلت منذ الستينات سجينة الانظمة السياسية الحاكمة منها او المعارضة وقد نأى الرجل بنفسه عن المحاور الإقليمية وحتى الوطنية..وإذا كانت فترة الستينات قد شهدت الأستقطاب الإقليمي الأشد فإن فترة التسعينات قد شهدت استقطابا وطنيا كبيرا على الساحة السياسية السودانية..وفي الفترتين وما بينهما ظل الرجل حرا في كلمته وموقفه ...بعده عن المحاور جعله يقف عملاقا فوق الجميع .. القضية هنا ليست لها علاقة بالالتزام أو بالموقف من ثنائية "الفن للفن او الفن للحياة" وفق المنظور الوجودي أو الماركسي ..القضية في جانبها الأخلاقي تعني الموقف من قضايا الحياة وهنا كان للطيب مواقف ..حسنها حسن وغير ذلك غير ذلك ولكن كان له موقف من قضايا الحريات والديموقراطية والحكم الراشد ..في كل ذلك لم يلتزم جماعة إلا بمقتضيات الموافقة في موقف ما ...صفوة القول إن فردانيته وابتعاده عن المحاور وإقراره بأنه "ليس جزءاً من الحركة الأدبية" (على طريقته) كانت سبيله ليبقى أحدوثة حسنة بعد رحيله.



    في بوحه للبيسي صرح الطيب بأنه لا يحب الكتابة.. حقيقة الأمر ان له رأي يستحق التأمل في المسألة..يقول في ذات المقابلة:"ليس علي أن أثبت وجودي باستمرار‏،‏ وعندما أقرأ عملا جيدا لأي كاتب أقول لنفسي إنه قد وجد أشخاص يكتبون أشياء جميلة فلماذا أتعب نفسي أنا بالكتابة‏..‏ ليس عندي حمي الرغبة لإثبات ذاتي الأدبية في الوجود‏,‏ وهذا نابع من طبيعتي كسوداني‏,‏ وفي داخل السودانيين عامة زهد لعله عندي بسبب وراثي‏,‏ حيث أهلي زهاد وعلماء دين‏..‏ وعموما فالعمل الأدبي ليس سلعة‏..‏ ليس مثل مصنع الشيكولاتة أو القماش أو الصابون‏..‏ لست مطالبا بأن أقدم كل ساعة كمية من المنتجات التي يطلبها الآخرون‏..‏ الإنتاج الأدبي مرهون بأوقات خاصة‏، ثم إنني لست موظفا كأديب عند أي أحد‏، ولقد احتفي بي وكنت محظوظا إلي حد كبير من النقاد عربا وأجانب‏، وفي مصر قدمني رجاء النقاش ولم يكن يعرفني وقتها وبشر بي وأصبحنا صديقين‏..‏ وأنا أقرأ النقد للمتعة الذهنية لا لأتعلم منه وقد يغضب هذا البعض مني‏"...هذا حديث خطير..الرجل الزاهد يقول بلا مواربة ‏:" إنه قد وجد أشخاص يكتبون أشياء جميلة فلماذا أتعب نفسي أنا بالكتابة؟"..ويقول بكل صراحة ممكنة:" وأنا أقرأ النقد للمتعة الذهنية لا لأتعلم منه!!"..هذه المقولات لو أخذناها بعيدا عن مصدرها (الطيب صالح) ربما تسلل إلينا إحساس بأن القائل فيه من الغرور ومن عدم تقدير الآخر ما يكفي لأن يصنف في باب " لايعول عليه" !..حقيقة الأمر إن الطيب ظل يؤكد على أن الكتابة هواية لدية يمارسها متى تأتت له شروطها التي لم يتردد في تفصيلها لمن يهمه الأمر ..هذا رجل يكسب عيشه وعيش عياله من وظائف مهنية احترافية الأدب ليس عمدتها ولا مركاز مصادرها ..إن جلبت له الهواية كل هذا المجد فإنها يشكر ما اتاحته من سوانح ولكنها تظل هواية ..فإذا أضفنا طبيعة الرجل ترجمنا حديثه للبيشي على أنه حديث رجل الزهد بعض منه بل يتسربل زهدا في الكتابة وما يتصل بها من نقد وأضواء وشهرة..وكما ذكرنا ،لأقوام لا يعرفون الرجل ربما كان هذا من باب الغرور المتدثر بزهد غير حقيقي ولمن يعرفونه بل هذا هو الطيب صالح وهذا بعض من سيرته وسماته التي جعلته أحدوثة حسنة بعد رحيله.

    مما يشير بوضوح إلى واقعية الطيب صالح قوله للبيسي:" إن الفن يأكل الحياة"..مثل هذا القول يقترن عندي بما لاحظته الكاتبه المقتدرة عنه حيث تقول له:"في ثرثرتك معنا تعكس لنا رغبتك الحقيقية بعدم الالتزام بالأدب يا من تكمن روعته في الكيف وليس الكم‏، ومن كان في أدبه ينظر إلي الناس كما نظر أبوالعلاء منذ أكثر من ألف سنة‏:‏

    نالوا قليلا من اللذات وارتحلوا برغمهم

    فاذا النعماء باساء ".

    يقول لها الطيب : تمر الشهور وأحيانا السنون ولا أكتب‏..‏ لا أحب الكتابة حقيقة‏..‏ لاأحب الجلوس إلي ورق أبيض في الليل والناس نيام لأخلق عالما معقدا ومشكلات،‏ وأقول بعدها ان ليس لي شأن، والذي يقرأ أعمالي بإمعان يجد إحساسي هذا موجودا فيها‏..‏ الفن يأكل الحياة‏..‏ ولم أعرف أني سأكون كاتبا ولكني أصبحت كاتبا‏، ولو كنت أعرف لرتبت حياتي بشكل مختلف،‏ لكن التضحيات بعد الارتباط تعلقت بأناس آخرين‏..‏ أصبحت هناك أسرة والتزامات معيشية‏، وهذه قضية يعاني منها كافة المبدعين العرب من أدباء ورسامين وموسيقيين وشعراء‏..‏ هناك المحظوظون القليلون الذين يستطيعون العيش من كتاباتهم‏، وأنا لسوء الحظ لست منهم‏..‏ ليس عندي الميكانيكية التي تفرض علي أن أكتب بالقلم‏,‏ لكني أكتب في رأسي باستمرار"...من آيات فضل الله ومننه على الطيب أنه ظل هاويا للكتابة طوال حياته..من أحترف الكتابة في الوطن العربي، وبإستثناءات لا تذكر، كان مآله إلى إحدي السيئتين: إما ترسا في ماكينة إعلامية لنظام سلطوي جائر أو منعزل لا يجد لقمة عيشه يعيش محروما منسيا.. نعم الفن يأكل الحياة لمن أراد ان يعيش على إبداعه في العالم الثالث. إدراكه بتبعات الاعتماد على الإبداع سبيلا لكسب العيش كان منجاة الطيب من الزلل ومن التورط ومن النسيان والتناسي. حكمته كانت حجابه ورقيته من المصير الذي لا قاه معظم مبدعي جيله ومن سبقوهم ومن لحقوهم..حكمته أبقته أحدوثة حسنة بعد رحيله.

    من بين ركائز أصيلة في كتابة وشخصية الطيب عددَها أدونيس ولخصها في الحرية والقدرة على تحرير الطاقات والكتابة المعرفية وتأسيس الهوية والرؤيوية وما بين رؤى مغايرة حول الذات والآخر لخصتها البيسي في موقف الطيب من الحركة الأدبية (مركزا وهامشا) ومن الكتابة وما تستبعها للشهرة.. نقول ما بين هذه وتلك نمسك ببعض أدلة ومقومات ان يبقى المرء أحدوثة حسنة بعد رحيله..راجع ما أورده الكتابان لتقف على منجيات الطيب التسع اللائي كن تميمته من عاديات الإبداع وسوالب الشهرة وعواقب الغرور فعاش سعيداً محبوباً ورحيل سعيداً محبوباً.
                  

11-23-2010, 07:49 AM

jini
<ajini
تاريخ التسجيل: 02-05-2002
مجموع المشاركات: 30720

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: روّاس مراكب القدرة ضو البيت: وداعا أيها الزين!! طارق جبرين وزيادة حمور علينا جاى! (Re: jini)

    Quote:


    المدارج والعتبات:



    رواس مراكب القدرة:



    يقول الطاهر ود الروّاس إن الاسم الوحيد الذي ورثه عن أبيه كان لقبا لم يناده به إلا الكاشف ود رحمة الله، كان ود رحمة الله يقول إن بلال روّاس ويسألونه روّاس ماذا؟ فيجيب:"بلال روّاس مراكب القدرة". ويقسم أنه رآه عدة مرات بين العشاء والفجر وهو قائم وحده في مركب ينقل قوما غريبي الهيئة إلى الشاطئ الآخر. ويقول الطاهر إن أباه حين مات أخذ أسماءه جميعًا معه. كأنه كان بالفعل روحًا مفردًا ليس من أرواح هذا الزمان ولا هذه الأرض".



    مريود : طبعة دار العودة: الصفحة 48













    العشق:



    "وملْ إلي البان من شرقّي كاظمة فلي إلى البان من شرقيِّها أربُ

    وكلما لاح معنى من جمالهم لباه شوقٌ إلى معناه منتسبُ

    أظلُّ دهري ولي من حبهم طربٌ ومن أليم إشتياقي نحوهم حَرَبُ""



    إبن الخيمي





    المحبة :







    "الإنسان يا محيميد ... الحياة يا محيميد ما فيها غير حاجتين اتنين... الصداقة والمحبة. ما تقولي حسب ونسب، لا جاه ولا مال.. ابن آدم إذا كان ترك الدنيا وعنده ثقة إنسان واحد.. يكون كسبان".





    الطاهر ود الرواس : مريود الصفحة 432، الأعمال الكاملة ، طبعة دار العودة





    الإنتماء:

    "السَمكةُ،

    حتَّى وهي في شباكِ الصيادين

    تَظلُ تحملُ

    رائِحة البَحر"

    مريد البرغوثي: رأيت رام الله، الصفحة 181





    إهداء وعزاء خاص:

    إلى أستاذيَّ وشيخيَّ:

    إبراهيم حسن عبد الجليل ومهدي أمين التوم

    في رحيل الطيب صالح خسارة كبيرة لقيم إنسانية رفيعة، موروثة ومكتسبة، تربيا وعاشا عليها وكانا، وما زالا، مهمومين بإشاعتها وترسيخها في وجدان وسلوكيات من أحبوهم:

    الأطر والضوابط الأخلاقية غير المساومة نبراسها

    والتعفف ممزوجاً بالتواضع الحقيقي رمانة ميزانها

    وزجر النفس ولجمها عن وعند الهوى صمام أمانها

    وإلى روح أخينا وأستاذنا العميد حقوقي "م" عبد المنعم حسين عبد الله:

    آمن بما رأى أنه الحق فكان عقله وقلبه حيث آمن..

    ثبت على عمله والتزم الجماعة..

    كما الطيب ...كان إنسانا نادرا على طريقته..

    اتخذ من المحبة "جلابية" ومن النقاء والبراءة "عِمة" و"شال"...

    داراه بحي النسيم بمدينة الرياض السعودية وبحلفاية الملوك بالخرطوم البحرية كانتا واحة إنسانية وقبلة وطنية...









    رحل موفور الإباء ليختال بإذن ربه زاهياً في بساتين البهاء..

    رحمة الله تغشاك يا أبا محمد

    المناداة: مرجانة في تماهي الذات في الوطن

    "كثيرون من العشاق يأتون حيّك

    الدم في قلوبهم يسَّرب من عيونهم، ثم يرحلون

    وحدي، عند أعتابك أبقى كالغبار

    فيما الآخرون يأتون كالريح ويمضون"

    مولانا جلال الدين الرومي: "حين أناديك يا أنت، فندائي بيني وبينك حجاب"





    "إن أي مسعى يبدأ دائما بحظ المبتدئ وينتهي دائما باختبار المقتحم"

    باولو كويلو : الخيميائي





    "ليلنا أسودَّ وطال

    نَهارُنا بالكدحِ والإملاقِ

    داج

    هيئوا أنفسكم ..

    مُلكنا من دونِ مُلكٍ

    مُلكنا من غيرِ تاج

    افتحوا أعينكم..

    شوّش الرؤية في أرواحكم

    هذا السناج..

    وأنا قد بِتُّ أُدركُ مَنْ أنا

    وأنا قد بتُّ أفهم



    ما الذي يعنيه كنهُ الوردةِ..







    النبضِ .. السنا



    وأنا قد بتُّ أفهمُ

    ما الذي يمليه.. قيدُ

    القٍبلةِ .. الوطنِ .. الزجاجْ"

    إيمان آدم خالد: من قصيدة "وطن زجاج" :ديوان "تجاوز بغابة الخيزران"





    هادئا كطبعه أناخ شيخنا الطيب الركاب....لطيفا كالنسيم عبر إلى الشاطئ الآخر ..كالطيف انسرب من بين أعين قراء أدمنوا حرفه اليانع ولغته الجزلة الحية وآذان مستمعين سكنت وجدانهم كلماته المضيئة الحكيمة.. ذهب الرجل مخلفا الباقيات الصالحات الطيبات من أعماله والذكر الحسن ...غادر الفانية بعد أن بقي احدوثة حسنة بعده.





    رحل “ضو البيت” بعد أن سعى جهده لإنجاز مشروعه الوطني الكبير في ترسيخ دعائم عشق الوطن ورفعة شأنه...ذهب بعدما حقق لوطنه ما عجزت عنه حكومات وأحزاب ومنظمات وجيوش وأنظمة.. غادر الفانية وقد نجح في ربط وجوده الكوني الفاعل بالسودان في إيجابية مجيدة بناءة قصرت دونها همة وخيال الرعاة الذين ساسوا الديار فقوضوا قواعدها وهدموا أركانها وأورثوها الدمار.





    من رحمة الله على البلاد وأهلها أن هيأ لها من أبنائها مثل الطيب ضواً للبيت ليضيء لها شمعة باهرة في دياجير ظلمة إخفاقاتها ونكساتها السياسية والإنسانية.. “ضو البيت” كان، ضمن كوكبة نيرة خيرة من أبناء البلاد، ترياق أهل السودان لمتلازمات الفشل وعناوين التقصير...كان حالة استثنائية نادرة لمن سعى فرداً مفرداً لرتق ما تهتك من جسد وروح بلاد لم يبدع أبناؤها في شيء كإبداعهم في تطوير آليات تدميرها والفتك بها...سعى “ضو البيت” فرداً مفرداً لنصرة بلاده، عِدَّتُه مواهب ربانية في العقل والروح فأحبه الخلق من مشارق الأرض ومغاربها ..عجمهم وعربهم..أحبه الناس وأحبوا من وراءه بلادا تنجب مثل “ضو البيت” :





    "في مطلع الثمانينات من القرن الماضي وأنا أجلس بمقهى في مدينة الدار البيضاء المغربية اقترب مني شاب مغربي..قال لي :"أنت من السودان؟" قلت نعم"..قال لي:"السودان لا بد أن يكون بلدًا رائعًا لينجب الطيب صالح"..ملأني حديثه زهواً فدعوته للجلوس..قال لي :" قرأت أعمال الطيب صالح كلها وهو عندي أعظم روائي عربي" .. جالسته قرابة الساعة وكان أعجب ما سمعت منه :"إن شخوص الطيب صالح – وعدَّد بعضًا منها – موجودة في الريف المغربي"..حينها فقط أدركت معنى أن يكون الكاتب عالمياً والأدب إنسانياً ...حينها استوعبت معنى أن تتناسل طنجة من مروي وأن تندغم ود حامد في مراكش وان تتواصل الشكينيبة و"الزريبة" مع فاس ومكناس وأن يتآخي في الله أبو هاشم سيدي علي وسيدي أبو الحسن الشاذلي، ومعنى أن ينشد العارف بالله سيدي عبد الرحيم وقيع الله البرعي:





    القوم بتجيك من بلاد بلجيك لبنان ومصر ومراكش ديك

    ذاك كان حديث شاب مغربي مثقف أكدت عليه بعد رحيل الطيب كلمات الأستاذ مأمون فندي في بكائيته وهو ينعي الطيب: "في يوم الخميس الفائت، وفي مكالمة هاتفية مع أبي القابع عند جبال الأقصر، قال لي: «لقد حزنت على صاحبك». صمتُّ وهمهمتُ بشيء من القرآن، فعرف ما في القلب من وجع وغيَّر الموضوع. كنت أقرأ له من روايات الطيب، وهو الرجل الذي لا يقرأ ولا يكتب ولا يعرف معنى الرواية الحديثة، فكان يحبها لما فيها من روح ورائحة مكان وناس يشبهونه. حكايات فيها رائحتنا، وفيها من نفسنا ونفوسنا".





    ذات النقطة ركز عليها الأديب سعيد الكفراوي في رسالته الدامعة في نعى الطيب صالح..يقول:"رحل السوداني الطيب.. يرحل الأحبة فتغيب برحيلهم ألفة الوطن.. رحل أحد المؤسسين الكبار لفن الرواية العربية الحديثة.. أذكر في أواخر الستينات حين نشر الراحل رجاء النقاش ـ كلهم رحلوا ـ رواية «موسم الهجرة إلى الشمال»، في القاهرة، كنا في ذلك الوقت نحاول الإسهام في كتابة جديدة، فصدرت الرواية ونبهتنا للقيمة الحقيقية للكتابة، وكشفت عن ثراء الواقع باعتباره المادة الأولى للفن. صحبني «مصطفى سعيد، وبت مجذوب وضو البيت ، وبندر شاه، ومريود»، أهم شخصيات رواياته، وقادوني إلى اكتشاف ما يوازيهم في واقعي المصري الذي لا يختلف كثيرا عن الواقع السوداني".





    وإذا كانت بيئة الطيب السودانية قريبة من البيئة المصرية فإنها كانت أيضا قريبة من البيئة الموريتانية...يقول الكاتب والدبلوماسي الموريتاني محمد محمود ودادي: "بعد قراءتي لـ"موسم الهجرة إلى الشمال" و"عرس الزين" شعرت وكأني قرأت في سفر حياتي في الحي البدوي الذي عشت فيه، وفي قرية وادي الرشيد، بشخوصها وهمومها وتفاصيل العلاقات اليومية بين البشر والأشياء، وصراعهم الدءوب...وكان "الزين" بالذات في رواية "عرس الزين" تجسيدا لشخصية عشت معها في القرية، جعلتني كلما حننت إلى صبوتي، أعيد قراءة هذه الرائعة".



    عظمة الطيب وقيمته الحقيقية أنه بذل نفسه للسودان وأهله من باب فرض العين الذاتي الواجب...مهامه الوطنية لم تندرج –كما عند غيره- ضمن منظومة المندوبات والكفائيات بل فرضت نفسها وقد جاءت تلقائية خالصة متحررة من ربقة الالتزامات السياسية وإسار الانتماءات الأيدولوجية وتعقيدات الارتباطات الجهوية كما لم تحركها الطموحات الذاتية..جاءت تلبيته لنداء الوطن من باب قناعة داخلية راسخة بأولوية المسئولية الوطنية، وهذا باب من البذل وجهاد النفس أسقطه المثقفون من أجندتهم مع رحيل المستعمر وهم يتهافتون، وما فتئوا ،على خيرات بلادهم ومقدراتها حتى أتلفوها إتلاف وارثٍ سفيهٍ أحمق.. الطيب كان من تركيبة أخرى ولعل هذا من أسرار تعلق الناس به وحبهم لسعيه وتقديرهم لعطائه. لقد تماهى الرجل في وطنه إذ تبتل في محرابه حباً وعشقاً.





    الطيب طاف العالم حاملاً معه السودان تراثاً وثقافة وأدبا وطبعاً وأخلاقاً ..في أعماله المتعددة جمع طيب الكلم السوداني فأوعى..حفظ ديوان الشعر السوداني الفصيح والشعبي ..عرف المأثور وسبر غور المثل السائر ...أوغل في البيئة السودانية ممتطياً صهوة المحلية المنفتحة فقادته، والأدب السوداني، إلى العالمية ... في رواياته - كما في مقالاته التي فتحت آفاقا جديدة للكتابة الراتبة - ذات المضامين الأدبية والفنية الراقية عرض الطيب للمكون السوداني المحلي فرأى الناس عجباً... قدم الطيب للثقافة السودانية والأدب الشعبي السوداني خدمات قصرت عنها وزارات وأجهزة ..عبْر الطيب ألمَّ الناس بتضاريس السودان الشمالي وبشره وعاداته وطقوسه ...الطيب أو "سيدي الطيب" كما يقول محمد بن عيسى وزير خارجية المغرب وصديق الطيب وصفيه :"هو ذاكرة السودان المتنقلة، يحفظ لكتابه وشعرائه، زجاليه بالخصوص، ويحن إلى وطنه الأم ويحس بأحشائه تتمزق وهو يتحدث عن السودان. مجالسه التي يستحليها هي مجالسه مع السودانيين، من خيرة مفكريها وعلمائها ممن عرفت، ولكن الطيب صالح هو إنسان كل الدنيا، يستسيغ الثقافات ويقرأ لكل الكبار وفي مقدمتهم الإنجليز".



    ولعل من جوانب فرادة الطيب أنه ظل منافحاً عن رؤى إنسانية عميقة في الحريات والحقوق العامة وطرائق الحكم وأساليب السياسة ..هذه الرؤى كانت ثمرة وجوده الطويل والفاعل والأصيل (ولا أقول اغترابه) في المهاجر، لا سيما الغربية منها...ظل الطيب ينادي بذات القيم الداعية لاحترام الشعوب والنزول عند إرادتها...الطيب لم تستطع قوى سياسية حاكمة أو معارضة أن تستميله إليها لا بذهب المعز ولا بسيفه .. حين القطاف، ولات ساعة قطاف، هرولت الصفوة ميمنة وميسرة فيما بقي هو "كالسيف وحده" يتغزل في "فينوسه" على طريقته...وفي حين راح شيخه أحمد محمد صالح يستحث جماعة المثقفين على القيام بواجب التنوير :



    يا وارث المجد التليد وباني الأدب الأجد

    علم شباب الواديين خلائق الرجل الأشد

    علمهم أن الخنوع مذلة والجبن يردي







    مضى الطيب يقدم ذلك صحائف ناصعة من البيان بالعمل .







    الطيب من فئة قليلة حافظت على احترامها لنفسها ولموقفها من الدنيا وأحوالها وتقلباتها فاحترمها الناس ...كم من مثقف نادي بطيب الكلم وسامق الشعار فلما نادته ساحرات السلطة الغانيات أتاهن مهرولا ...أتاهن مهرولا وقد تأبط الخبائث فعلاً والمتدني من الحديث قولاً..عند الاختبار سقطت منارات كثيرة ولم تقوى على نار التجمر فتبين للشعب خيط النقاء الأبيض من رصيفه كالح الملمح ...حين ورود ساحات المجد وعند أوان الزحف تولت جماعات عديدة ولم يقف على سداد الثغور سوى العصبة ومنهم ““ضو البيت” ” ....كم من أسفار سودت وصحائف دونت رفعها الطيبون الآملون مكاناً علياًً فلما أقبلت الدنيا فجع الناس في مدونيها ورواتها الذين تهاووا كأعجاز نخل خاوية إذ صرعتهم خسة الأنفس وهوانها وإمرة النفس بالسوء ..تقلب أهل العلم والثقافة وتأرجحوا مع إيقاعات ودف السلاطين إلا من رحم ربك ولكن "ضو بيتنا" هذا غير...قال لا في ميقاتها.. وقال نعم في أوانها.. لم يحركه مطمع ولم يمنعه مغرم وتلك وأيم الله شنشنة لم نألفها في أخزم السوداني المتعلم.









    كتابات الطيب صالح تعكس صورة السودان على شكل عبقري ...ولعل كلمة الأستاذ معاوية البلال كانت أكثر دقة وهي تشير إلى أن الطيب:



    "اختزل تاريخنا في خمسة روايات ترجمت إلى أكثر من 20 لغة سكب فيها ملامحنا وشهواتنا وأشواقنا وعذاباتنا وتصوراتنا وأحزاننا ومراراتنا وأحلامنا وتجلياتنا في مرآة كلماته الروائية، كأرواح في التاريخ وكبشر عصفت بنا الصراعات مع أنفسنا ومع الغرباء ومع العالم."

    تماهي الذات المفردة في الوطن يستدعي صوراً وتصورات متعددة للوطن ...ورغم تعدد هذه الصور إلا أن أجلها وأعظمها وأكثرها إنسانية هي صورة الأم بكل عشقها وجنونها وولهها ببنيها ..وككل أم لها مراتب متفاوتة ودرجات متراوحة لبنيها حباً واشتياقاً ..حب مضمر وسر مكنون لا يعرفه سواها ومن ترغب وتريد من بنيها...أمثال الطيب لا تني الأوطان تناجيهم عند الخطوب..تناجيهم معددة شمائلهم وقيمهم وقيمتهم عندها ...هموم الأوطان تجري على السنة الموهوبين من بناتها وأبنائها .. ومَن أكثر موهبة من فاطمة بت حمد خير لمناجاة الطيب:





    "انت يا سيد البسوق ارقوق موازين

    انت يا سيد الجزيرة تكاكي وزين

    انت يا سيد الحصص صمد النمرتين

    انت يا سيد الشتيل التكه العراجين

    انت ماك عارف قليبن لي مجينين

    ما بترسل لي جوابا فيه سطرين

    وما بتقول لي نعيم صباح امو اشتغل وين"





    لقد كان كل ذلك وأكثر لقد "ساق أرقوق" وله جزائر وليست جزيرة واحدة صادحة بكل جمال وكان "صمدا" على قرى الرواية العالمية ودساكر الثقافة الإنسانية ونجوع الفكر الحر ...لقد أثمرت شتلات غرسه، بإذن ربه، فاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة....كان يعرف قلب الوطن الأم وكان باراًً بوطنه محباً للسودان وأهله ....واظب على إرسال الرسائل ...رسائل العشق والمحبة للوطن والإنسان..ولعل القضية الأسمى التي انتظمت رواياته وأعماله كلها تمحورت حول المحبة .. وعلى كثرة وتنوع شخوص أعمال الطيب وأبطاله إلا انه رمى بكامل ثقل المحبة وكلكلها على واحد من أقل الناس شأنا بموازين أهل الدنيا...الطيب قال على لسان الطاهر ود الرواس أجمل قصائد العشق والمحبة بإنسانية شفيفة نابعة من وجدان حقيقي لا قصصي روائي...لا أدري ولكني ظللت أتصور الطيب قد عاش في جلباب الطاهر ود الرواس حياته كلها:





    "ويوم الحساب، يوم يقف الناس بين يدي ذي العزة والجلال، شايلين صلاتهم وزكاتهم وحجهم وصيامهم وهجودهم وسجودهم، سوف أقول: يا صاحب الجلال والجبروت ، عبدك المسكين، الطاهر ود بلال، ولد حواء بت العريبي، يقف بين يديك خالي الجراب مقطع الأسباب، ما عنده شيء يضعه في ميزان عدلك سوى المحبة".





    زمردة في شأن ملامح بندر شاه أو :البورتريه المستحيل:

    "وأصيلة وهي تكرم سيدي الطيب إنما ترد للرجل بعضاً مما أعطى للعرب أولاً، وللفكر والإبداع العالميين ثانيًا. في أصيلة تنوب ثلة من المفكرين والأدباء والباحثين من الوطن العربي ومن خارج الوطن العربي عن كل من قرأ للطيب صالح وقدره وأحبه، تماما كما كرمت أصيلة قبله الشاعر محمد الحلوي، والشيخ المكي الناصري، والشاعر الرئيس السنغالي السابق ليوبولد سيدار سنغور، وغيرهم ممن أعطوا من أنفسهم للإنسانية وللفكر والإبداع.. مثل سيدي الطيب صالح".



    محمد بن عيسى في تكريم الطيب صالح بمهرجان أصيلة

    "كادت سرائر سري لا تبوح به وكاد خوفي عليه لا يسميه

    ينأى ويقرب مجلواً ومستتراً كالغيب أجمل ما في الغيب ما فيه

    من ذا هو الرجل العالي ولست أرى إلا بريــق نجــوم في أعاليـه

    يلقي على السهل ظلاً من عباءته فينبت العشب في أقصى حواشيه

    يكاد يلمس قلب الماء مبسمه ويهطل الغيث إن صلى على التيه"

    محمد علي شمس الدين: دموع الحلاج





    "من لزم العبودية لزمه أثنان: يأخذه الخوف من ذنبه، ويفارقه العجب من عمله"

    أبو يزيد البسطامي: "العبودية" كتاب الشذرات





    إن رسم بورتريه ل"ضو البيت" يبدو أمراً أقرب للمستحيل...الناس أنماط ونماذج ولكن تنميط الطيب صالح ونمذجته في إطار السائد من قوالب التصنيفات أمر صعب في أدنى درجاته، مستحيل في أقصاها..إن قوافي الشعر قد تتباين ولكنها، في نهاية الأمر، تظل خاضعة لأطر علم العروض للخليل بن أحمد الفراهيدي وتابعه الأخفش ..وقد تأتي الألحان متنوعة ولكنها تظل ترتبط بوتد المقامات والسلالم الموسيقية ..وقد تتباين السلوكيات البشرية ولكنها غالباًً ما تؤطر في قوالب مدارس علم النفس المعروفة من بنائية ووظيفية وسلوكية بافلوفية ..ولكن "ضو البيت" عصي على القوالب الجاهزة ...الطيب روائي من الطبقة الأولى عالمياً وكاتب مقالة من طراز رفيع ومثقف كوني يأخذ من الثقافتين العربية والأوربية (الإنجليزية) بذات المقدار والاقتدار..مثقف مهموم بقضايا وطنه ..وإنسان نادر على طريقته...قلَّ أن تجد مثقفاً يجمع عليه نقاد الأدب وأهل الثفافة والمعرفة كما هو الحال عند "ضو البيت" ...هو من قلائل المثقفين السودانيين (بل نكاد نقول الوحيد) المعروفين في كافة منتديات الثقافة والمعرفة العربية..ولكن ما هي ملامح وسمات بورتريه هذا الطيب الصالح؟.



    عقب رحيل الطيب سال مداد كثير ناعياً الفقيد معدداً مآثره مبيناً شمائله.. وفي خضم هذا الدمع المدرار توقفت عند صورتين للطيب تركزان على احدي السمات الأساسية لشخصيته ...الصورة الأولى صورة عرفانية رسمها مامون فندي في مقالته عالية القيمة "الطيب مر من هنا" ..يقول فندي : ""كان وجوده يومها شفافًا، وكأنه يقف على الحد الفاصل بين الحضور والغياب، كان ضيفًا عابراً أشبه بذلك الغريب الأبيض أخضر العينين الذي يطلع من النهر في روايته «“ضو البيت” »، بندر شاه مضى كالحلم وكأنه ما كان.. “ضو البيت” اختفى، لا خبر ولا أثر، ذهب من حيث أتى، من الماء إلى الماء.. كأن المولى ـ عز وجل ـ أرسله إلينا ليحرك حياتنا ويمضي في حال سبيله. الطيب صالح لم يكن أبيض البشرة ولا أخضر العينين، بل كان روحًا عالية تسكن ملامح رجل سوداني أسمر، روح مرت من هنا بعد أن علمتها «فاطمة بنت جبر الدار» آيات من سورة الضحى. كان الطيب صالح كبطل قصته «“ضو البيت” » يقدر على الحركة في الزمان والمكان، «كأن الطفل ولد عند الشروق، وتم ختانه وقت الضحى، وصار للزواج بعد صلاة العصر».. الطيب ولد روائيا في صباحنا، وغدا قامة كبرى في الضحى، واختفى في المساء".



    أما الصورة الثانية فرسم ملامحها الوزير محمد بن عيسى إذ يقول عن لقائه الأول به :"ذهبت إليه بروح الصوفي الذي يقصد شيخه ليستشفّه وليتبرك بمكرُماته، وينهل من صنيعه الفكري والروحي.... يا الله ما أبدع هذا الرجل بتواضعه وبساطته وقناعته ...وليّ صالح حتى دون عمامته...أاسميه سيدي الطيب كما نسمي في المغرب الأولياء والصالحين".



    الصوفي سمة اتفق عليها فندي ومحمد بن عيسى كعلامة دالة في بورتريه الطيب صالح الذي جمع فأوعى.. سره الأعظم كان في مخبره كما كان في مظهره ...من عرفوه عن قرب لمسوا فيه الإنسانية في أسمى معانيها الصوفية ..ذلك التواضع الحقيقي وتلك الإلفة المعدية لا بد أنها تجذرت في صوفية الطيب ...الغالبية أحبت فيه الخفر الرباني والوداعة التي لا تخطئها العين ..فيه حنو غريب ...يحدث الناس على استحياء وهو العارف ويخاطبهم بصوت خفيض وبصر غضيض وهو العالم ..يمجد إنجازات الناس ويتعمد إغفال منجزه ..مَن قال إن الأفاضل من الناس لا يربحون شيئاً؟ ..كذبوا ورب محمد ...هذا رجل ضو بيت ..ضو بلاد بحالها ..كان فاضلاً جميلاً وكسب كل ما يتمناه البشر الأسوياء..حب الناس لوجه الله تعالى.





    مواهب كبيرة وقدرات فذة وروح سمحة جمعت له قلوب العالمين وأفئدتهم ومآقيهم التي سح دمعها مدراراً من ضفاف الخليج إلى شواطئ نواذيبو في بلاد شنقيط ومن الدنيا القديمة في اللندرة وحتى أقاصي الدنيوات الجديدة في كاليفورنيا ونيوزيلندا واستراليا وما والاها من جزر كوك وهاواي ...بكت الطيب أصيلة والدوحة ونهنهت بالبكاء الراعش أديبات الرياض وبيروت والقاهرة .. بكاه الحكام والوزراء والمسؤولون والمثقفون وعامة الناس.





    حدثني عن مثقف شامخ وطود معرفة أشم فتحت له صدور مجالس وديوانيات السلاطين ودهاليزهم فعافاها ولاذ بمجالس غمار الناس؟...أحكِ لي عن روائي نادر الصنو قالت له جوائز الدنيا هيت لك فقال معاذ الله لست أهلا لك؟..خبرني عن عالم إعلامي خبر دروب الإعلام وهالاته وأضوائه فإزوّر عنها وأشاح دونها يختلق المعاذير ليخلف مواعيدها قائلا :غري غيري؟..الطيب كان ذلك المثقف الروائي الإعلامي...يقول محمد بن عيسى:"لم يستسغ قط فكرة تكريمه: «لا يا راجل، والله لا أستحق التكريم، هناك غيري ممن يستحقونه»، كان يردد لي ذلك كلما فتحت الموضوع معه حتى أحسست أنه فعلا لا يرغب في أن يكرم وأنه فعلا غير قادر على الرفض، وصارحته بذلك، واعترف، وأخيرا قبل". في ذات السياق تأتي إفادة الأديبة اللبنانية رشا الأمير:"مشكلة الطيب صالح وسره في خجله وخفره. رجل لا يحب الضوء، لا، بل يهرب منه ويتحاشاه. ومن البديع أن الناس كرموه دون أن يطلب أو حتى يبحث عن ذلك، لا، بل كان زاهداً ومتعففًا. هذا جيل آخر، غير جيل الأدباء الجديد الذي يستجدي الشهرة ويطاردها، الطيب صالح كانت النجومية هي التي تطارده". تواضع الطيب صالح حقيقة بارزة في حياته ومسيرته المهنية والإبداعية. يقول طلحة جبريل :"وعلى الرغم من أن روايته «موسم الهجرة إلى الشمال» اختيرت ضمن أفضل مائة عمل في تاريخ الإنسانية، يقول الطيب بتواضعه الجم «أقول لك صادقاًًً ليس لديّ أي إحساس بأهمية ما كتبت، ولا أحس أنني مهم، هذا ليس تواضعاً لكنها الحقيقة، إذا اعتقد الناس أن ما كتبته مهم فهذا شأنهم لكنني قطرة في بحر، قصيدة واحدة للمتنبي تساوي كل ما كتبته وأكثر".





    تواضع الطيب ميسم آخر ومفتاحي لشخصيته الآسرة ورغم محاولته نفي الميسم إلا أنه يفضحه في كل حال وعند كل مجلس...في يقيني إن شيمة التواضع عند الطيب من الموروثات التي عالجها وثقفها بالتجربة والترحال والإطلاع ...في رواياته وكتاباته ميل واضح لرفعة قيم التواضع والتسامح ..انحيازه لهذه القيم النبيلة لا تخطئه عين القارئ ولا أذن المستمع لأحاديثه ...الطيب قارئ متدبر لسيرة السلف الصالح ..أوقف فصلاً رائعاً في "مختاراته" الموسومة "المضيئون كالنجوم" لفيوض العارفين..كشف الفصل عن حب جارف لآل البيت وللأئمة العارفين...في هذا الفصل تحديداً تتبدى دون غطاء جذور صوفية شفيفة للطيب..يحدث القارئ عن الإمام جعفر الصادق وسفيان الثوري والإمامين مالك وأبي حنيفة النعمان ..يحدثه عن أخبار بشر بن الحارث الحافي وسري السقطي وأبي حازم الأعرج ومالك بن دينار وأبي القاسم الجنيد وأبي بكر الشبلي..قرأ نهج البلاغة بشروحات الشريف الرضي والإمام محمد عبده فانتبه ...من بديع كلام أبي الحسنين الأمام علي كرم الله وجه أخذ الطيب في مدونته نبراسه للتواضع :"بكثرة الصمت تكون الهيبة. وبالنصفة يكثر المواصلون. وبالأفضال تعظم الأقدار. وبالتواضع تتم النعمة. وبأحتمال المؤن يجب السؤدد وبالسيرة العادلة يقهر المناوئ، وبالحلم عن السفيه تكثر الأنصار عليه".



    صوفية الطيب وتواضعه منحته إهاب وروح أهل الله ...تنضح كتاباته ببهاء وحلل الأنوار الشعشعانية التي تجذب أرباب العقائد وأصحاب المواجد العرفانية ...يتقلب على إرث صوفي عميق وتحس في بعض فيوض كتاباته وكأنه يتأرجح مع دفوف أهل الذكر وترجيع إنشاد الذاكرين..كلما قرأت للطيب شيئاً في الأدب الصوفي وأحاديث العارفين تراءت لي صورة "ود طمبل" خليفة خلفاء السادة الختمية الأشراف بالخرطوم البحرية..كالطيب كان الخليفة محمد احمد وجيهاً وسمحاً سمتاً ومعنى ..كلاهما شرب من سلسبيل ماء الحضرة وورد حياض الصالحين فدقَّ أسلوباً ورقَّ سلوكاً وتحضراً..تجيئني صورة خليفة الخلفاء وأنا أطالع "مريود" أعظم ما خطه يراع الطيب صالح ..هذا السفر العظيم ينوء بحمولة من العشق والمحبة تكفي لتليين جلاميد القلوب وغلاظها وتكفي لتلطيف جوامد الحواس وإحياء ميت الشعور.. يكتب الطيب (مريود:طبعة دار العودة :الصفحة 88 ):



    "لقد أحب بلا ملل، وأعطى بلا أمل، وحسا كما يحسو الطائر، وأقام على سفر، وفارق على عجل، حلم أحلام الضعفاء، وتزود من زاد الفقراء، وراودته نفسه على المجد فزجرها"....





    أقرأ مريود فتحضرني صورة ود طمبل كاملة رونق البهاء إذ المنشد المجود يملأ فضاء الحضرة بأناشيد العرفان وترانيم "الهاء" البهية فالنون نصف دائرة الأكوان:





    صلّوا على بَحَرَ الصّفا المُصْطَفَى

    صلّوا عليه

    وآلهِ والصّحبِ أهلِ الوَفَاَ





    مدائح السادة الختمية تشنف آذان الحضرة وتشجي أفئدة الحاضرين بشجن أزلي وسمو عرفاني يجعل من الروح كائناً أثيرياً طائفاً سابحاً في ملكوت ودنيوات آخرى إذ الشيخ الخليفة يزلزل النفوس بصوته الريان المضمخ ببديع النفحات المدنية في المداِئح المصطفوية:











    صلّوا عليه

    ما لاحَ بَرقُُ أو أُزيلَ الجفََا

    وما سَرى السّاري لدَى المُقْتَفَى

    باللهِ يا ريحَ الصّبَا هل نبـا

    عَن الحبيبِ الّذْ لنا قد سَبَا

    حُلوَ اللما معسُولَه الطيّبَا

    من حلّ في وسطِ الجوَى طنّبَا

    حاوي الجمالِ نعمَ الجمالُ يا فتَى

    مَنْ حُسْنُهُ لم يأتِ أي ما أتى

    فاقَ البدرْ قد صَحَّ ذا مُثْبَتَا

    والشّمسُ مِن نُورهِ تُضيئ ثابِتا

    صلّوا على بَحَرَ الصّفا المُصْطَفَى

    صلّوا عليه

    وآلهِ والصّحبِ أهلِ الوَفَا



    صوفية الطيب عبر كتاباته لا شك استوقفت الكثيرين ...يقول مأمون فندي "ذات يوم حكى لنا عجوز من قريتنا في صعيد مصر، أنه رأى سيدنا الخدر (البعض يكتبها الخضر) ماراً في القرية، رآه سارحًا على حصان أبيض تفوح منه رائحة الطيب والمسك، كان العجوز لتوه قد فرغ من صلاة الفجر، وفي محاولة منه لمعرفة سر هذا الرجل الغريب، اقترب منه وسأله: أين صليت الفجر؟، فأجاب الرجل بأنه قد صلاه للتو في الكوفة، فبان للعجوز أنه أمام رجل من أهل الخطوة ممن تُطْوَى لهم البيد طيًا، وكان العجوز يقول لنا بأنه تأكد وقتئذ من أن هذا الرجل القادر على قطع المسافات بسرعة الضوء، يحضر ويغيب برمشة عين، هو سيدنا الخدر عليه السلام...هكذا كنت أتخيل الطيب"....ليس الأستاذ فندي وحده وكذلك كنت أتخيل الطيب ..منشداً في حضرة محضورة ...تستنيمه عن الخلق أبيات عرفانية وتوقظه على الحق كلمات جادت بها قرائح شيوخ جافت جنوبهم المضاجع قياماً لناشئة الليل التي هي أشد وطأ وأقوم قيلا:





    يا ليلي ليلك جن معشوقك اوه وانّ

    ام مرحى فوق جبلنا اصلو الاكسير معدنا

    الشرب بالكوب والدنه وكل الغشاهو تهنا





    بندر شاه نهل من النبع العرفاني فجرت كلمات الحق وصفات الاستقامة والزهد والتعفف على لسان أبطاله ...يقول محمود ل”ضو البيت” في بندر شاه : "يا عبدالله نحن كما ترى نعيش تحت ستر المهيمن الديان، حياتنا كد وشظف، لكن قلوبنا عامرة بالرضا، قابلين بقسمتنا التي قسمها الله لنا، نصلي فروضنا، ونحفظ عروضنا، متحزمين ومتلزمين على نوائب الزمان وصروف الدهر، الكثير لا يبطرنا، والقليل لا يقلقنا، حياتنا طريقها مرسوم ومعلوم من المهد إلى اللحد، القليل العندنا عملناه بسواعدنا، ما تعدينا على حقوق إنسان، ولا أكلنا ربا ولا سحت، ناس سلام وقت سلام، وناس غضب وقت الغضب الما يعرفنا يظن إننا ضعاف إذا نفخنا الهوا يرمينا لكننا في الحقيقة مثل شجر الحراز النابت في الحقول".... هذه صفات عبيد الله الذين تحسبهم أغنياء من التعفف...هذه صفات الرضا في أعلى درجاته والوسطية في أسمى معانيها ..يعرفون حدود الله وواجبات المسلم وأخلاقياته ..الطيب جاء ابناً صالحاً من صلب مثل هذه القيم ومن ترائب تلك الشيم والصفات.













    ملامح ومكونات بورتريه الطيب تشي بوقوفه المدرك على الموروث الصوفي الإنساني حيث عب منه وملأ جراب التجربة والحياة...عرف كلمات البسطامي والحلاج وسيدي محمد بن عبد الجبار النفري الذي يقول في المواقف والمخاطبات (موقف قلوب العارفين) : "وقال لي: إلتقط الحكمة من أفواه الغافلين عنها كما تلتقطها من أفواه العامدين لها ..إنك تراني وحدي في حكمة الغافلين لا في حكمة العامدين...وقال لي: اكتب حكمة الجاهل كما تكتب حكمة العالم."



    عملا بنصيحة بن عبد الجبار التقط الطيب حكمة الغافلين ودونها كما التقط حكمة العامدين لها ودونها ...حكم نصر الله ود حبيب والشيخ الحنين من عباد الله الصالحين استذكرها الطيب كما استذكر حكم ومقولات الطاهر ود الرواس وسعيد عشا البايتات القوى ومحيميد ومحجوب وأحمد إسماعيل وعبد الحفيظ وسعيد القانوني وبت مجذوب وحمد ود الريس وحسنة بت محمود... استوعب نصائح وحكم العارفين فأجراها على السنة أبطاله بخيرهم وشرهم فرسم لوحات إنسانية سامية ستبقي قوية نابضة بالحياة في ذاكرة الرواية العربية والعالمية...يقول الكاتب الأديب الروائي الدكتور سليمان الشطي : "إن الأدباء مثل الطيب صالح ضمائر متوثبة تنفض فينا الجذور فتدب الحياة من حولنا...أذكر تلك الظهيرة الساخنة، فيها كانت الرحلة المذهلة معه في موسم رحلته الشمالية، رحلت مع بطله مصطفى سعيد، وجين موريس إلى الشمال البارد، تجولت في خلايا أرض السودان...وبدا لي، بل رسخ في فكري، وتغلغل في ثنايا وجداني تصور لقيمة هذا المبدع الذي كان يتفرد سلوكًا وأدبًا. فيه تلازمت مجتمعة رؤى متعددة، كما بدا من روايته موسم الهجرة إلى الشمال، حيث معضلة اللقاء مع الآخر، وهو لقاء متجدد دائمًا قديمًا وحديثًا، التقط عن معاناة ما سبقه آخرون قريبون منه، الحكيم ويحيى حقي وسهيل إدريس، عالج كل واحد منهم طرفاً من الأطراف أما هو فقدم اللقاء فالصدام فالانكماش. كانت معالجته موغلة ضاربة في أعماق النفس، لذلك يمد يده، أو مدها من قبل، ليقبض قبضة من طين أرضه فتستوي شخصية (الزين) في روايته (عرس الزين) لتقدم كمال الصورة.. ويستمر التكوين والصقل في أعماله المعروفة، مركزة، مشيرة، مستوعبة، ناضجة...كان الطيب صالح تراثياً موغلاً في التراث، شعبيًا متذوقًا للحس الشعبي البارز الظاهر، وفي الوقت نفسه لا تراه إلا ويقربك من روح الصوفي الهائم.... هكذا كان الطيب صالح، أديبًا وإنساناً وللناس في أسمائها دلالة"( انتهى). ..نعم سيدي الدكتور للناس في أسمائها دلالة ولها في أسماء وعناوين أعمالها نصيب وأي نصيب.."مريود".."ضو البت" .."بندر شاه".



    انتهى الجزء الاول ويليه الجزء الثاني: "اللؤلؤة في خبر استواء ظل تمام الزاوية مع جيب تمامها: الطيب صالح مراوحا بين الطاهر ود بلال الروّاس ومصطفى سعيد


    Quote: * Home
    *
    * SudaMediCa
    *
    * عيادات سودادريمز
    *
    * أقلام

    رواس مراكب القدرة .. ضو البيت: وداعا أيها الزين 1
    PostDateIcon السبت, 27 فبراير 2010 14:04 | PostAuthorIcon الكاتب: د.محمد عثمان الجعلي | PDF طباعة إرسال إلى صديق

    المدارج والعتبات:



    رواس مراكب القدرة:



    يقول الطاهر ود الروّاس إن الاسم الوحيد الذي ورثه عن أبيه كان لقبا لم يناده به إلا الكاشف ود رحمة الله، كان ود رحمة الله يقول إن بلال روّاس ويسألونه روّاس ماذا؟ فيجيب:"بلال روّاس مراكب القدرة". ويقسم أنه رآه عدة مرات بين العشاء والفجر وهو قائم وحده في مركب ينقل قوما غريبي الهيئة إلى الشاطئ الآخر. ويقول الطاهر إن أباه حين مات أخذ أسماءه جميعًا معه. كأنه كان بالفعل روحًا مفردًا ليس من أرواح هذا الزمان ولا هذه الأرض".



    مريود : طبعة دار العودة: الصفحة 48













    العشق:



    "وملْ إلي البان من شرقّي كاظمة فلي إلى البان من شرقيِّها أربُ

    وكلما لاح معنى من جمالهم لباه شوقٌ إلى معناه منتسبُ

    أظلُّ دهري ولي من حبهم طربٌ ومن أليم إشتياقي نحوهم حَرَبُ""



    إبن الخيمي





    المحبة :







    "الإنسان يا محيميد ... الحياة يا محيميد ما فيها غير حاجتين اتنين... الصداقة والمحبة. ما تقولي حسب ونسب، لا جاه ولا مال.. ابن آدم إذا كان ترك الدنيا وعنده ثقة إنسان واحد.. يكون كسبان".





    الطاهر ود الرواس : مريود الصفحة 432، الأعمال الكاملة ، طبعة دار العودة





    الإنتماء:

    "السَمكةُ،

    حتَّى وهي في شباكِ الصيادين

    تَظلُ تحملُ

    رائِحة البَحر"

    مريد البرغوثي: رأيت رام الله، الصفحة 181





    إهداء وعزاء خاص:

    إلى أستاذيَّ وشيخيَّ:

    إبراهيم حسن عبد الجليل ومهدي أمين التوم

    في رحيل الطيب صالح خسارة كبيرة لقيم إنسانية رفيعة، موروثة ومكتسبة، تربيا وعاشا عليها وكانا، وما زالا، مهمومين بإشاعتها وترسيخها في وجدان وسلوكيات من أحبوهم:

    الأطر والضوابط الأخلاقية غير المساومة نبراسها

    والتعفف ممزوجاً بالتواضع الحقيقي رمانة ميزانها

    وزجر النفس ولجمها عن وعند الهوى صمام أمانها

    وإلى روح أخينا وأستاذنا العميد حقوقي "م" عبد المنعم حسين عبد الله:

    آمن بما رأى أنه الحق فكان عقله وقلبه حيث آمن..

    ثبت على عمله والتزم الجماعة..

    كما الطيب ...كان إنسانا نادرا على طريقته..

    اتخذ من المحبة "جلابية" ومن النقاء والبراءة "عِمة" و"شال"...

    داراه بحي النسيم بمدينة الرياض السعودية وبحلفاية الملوك بالخرطوم البحرية كانتا واحة إنسانية وقبلة وطنية...









    رحل موفور الإباء ليختال بإذن ربه زاهياً في بساتين البهاء..

    رحمة الله تغشاك يا أبا محمد

    المناداة: مرجانة في تماهي الذات في الوطن

    "كثيرون من العشاق يأتون حيّك

    الدم في قلوبهم يسَّرب من عيونهم، ثم يرحلون

    وحدي، عند أعتابك أبقى كالغبار

    فيما الآخرون يأتون كالريح ويمضون"

    مولانا جلال الدين الرومي: "حين أناديك يا أنت، فندائي بيني وبينك حجاب"





    "إن أي مسعى يبدأ دائما بحظ المبتدئ وينتهي دائما باختبار المقتحم"

    باولو كويلو : الخيميائي





    "ليلنا أسودَّ وطال

    نَهارُنا بالكدحِ والإملاقِ

    داج

    هيئوا أنفسكم ..

    مُلكنا من دونِ مُلكٍ

    مُلكنا من غيرِ تاج

    افتحوا أعينكم..

    شوّش الرؤية في أرواحكم

    هذا السناج..

    وأنا قد بِتُّ أُدركُ مَنْ أنا

    وأنا قد بتُّ أفهم



    ما الذي يعنيه كنهُ الوردةِ..







    النبضِ .. السنا



    وأنا قد بتُّ أفهمُ

    ما الذي يمليه.. قيدُ

    القٍبلةِ .. الوطنِ .. الزجاجْ"

    إيمان آدم خالد: من قصيدة "وطن زجاج" :ديوان "تجاوز بغابة الخيزران"





    هادئا كطبعه أناخ شيخنا الطيب الركاب....لطيفا كالنسيم عبر إلى الشاطئ الآخر ..كالطيف انسرب من بين أعين قراء أدمنوا حرفه اليانع ولغته الجزلة الحية وآذان مستمعين سكنت وجدانهم كلماته المضيئة الحكيمة.. ذهب الرجل مخلفا الباقيات الصالحات الطيبات من أعماله والذكر الحسن ...غادر الفانية بعد أن بقي احدوثة حسنة بعده.





    رحل “ضو البيت” بعد أن سعى جهده لإنجاز مشروعه الوطني الكبير في ترسيخ دعائم عشق الوطن ورفعة شأنه...ذهب بعدما حقق لوطنه ما عجزت عنه حكومات وأحزاب ومنظمات وجيوش وأنظمة.. غادر الفانية وقد نجح في ربط وجوده الكوني الفاعل بالسودان في إيجابية مجيدة بناءة قصرت دونها همة وخيال الرعاة الذين ساسوا الديار فقوضوا قواعدها وهدموا أركانها وأورثوها الدمار.





    من رحمة الله على البلاد وأهلها أن هيأ لها من أبنائها مثل الطيب ضواً للبيت ليضيء لها شمعة باهرة في دياجير ظلمة إخفاقاتها ونكساتها السياسية والإنسانية.. “ضو البيت” كان، ضمن كوكبة نيرة خيرة من أبناء البلاد، ترياق أهل السودان لمتلازمات الفشل وعناوين التقصير...كان حالة استثنائية نادرة لمن سعى فرداً مفرداً لرتق ما تهتك من جسد وروح بلاد لم يبدع أبناؤها في شيء كإبداعهم في تطوير آليات تدميرها والفتك بها...سعى “ضو البيت” فرداً مفرداً لنصرة بلاده، عِدَّتُه مواهب ربانية في العقل والروح فأحبه الخلق من مشارق الأرض ومغاربها ..عجمهم وعربهم..أحبه الناس وأحبوا من وراءه بلادا تنجب مثل “ضو البيت” :





    "في مطلع الثمانينات من القرن الماضي وأنا أجلس بمقهى في مدينة الدار البيضاء المغربية اقترب مني شاب مغربي..قال لي :"أنت من السودان؟" قلت نعم"..قال لي:"السودان لا بد أن يكون بلدًا رائعًا لينجب الطيب صالح"..ملأني حديثه زهواً فدعوته للجلوس..قال لي :" قرأت أعمال الطيب صالح كلها وهو عندي أعظم روائي عربي" .. جالسته قرابة الساعة وكان أعجب ما سمعت منه :"إن شخوص الطيب صالح – وعدَّد بعضًا منها – موجودة في الريف المغربي"..حينها فقط أدركت معنى أن يكون الكاتب عالمياً والأدب إنسانياً ...حينها استوعبت معنى أن تتناسل طنجة من مروي وأن تندغم ود حامد في مراكش وان تتواصل الشكينيبة و"الزريبة" مع فاس ومكناس وأن يتآخي في الله أبو هاشم سيدي علي وسيدي أبو الحسن الشاذلي، ومعنى أن ينشد العارف بالله سيدي عبد الرحيم وقيع الله البرعي:





    القوم بتجيك من بلاد بلجيك لبنان ومصر ومراكش ديك

    ذاك كان حديث شاب مغربي مثقف أكدت عليه بعد رحيل الطيب كلمات الأستاذ مأمون فندي في بكائيته وهو ينعي الطيب: "في يوم الخميس الفائت، وفي مكالمة هاتفية مع أبي القابع عند جبال الأقصر، قال لي: «لقد حزنت على صاحبك». صمتُّ وهمهمتُ بشيء من القرآن، فعرف ما في القلب من وجع وغيَّر الموضوع. كنت أقرأ له من روايات الطيب، وهو الرجل الذي لا يقرأ ولا يكتب ولا يعرف معنى الرواية الحديثة، فكان يحبها لما فيها من روح ورائحة مكان وناس يشبهونه. حكايات فيها رائحتنا، وفيها من نفسنا ونفوسنا".





    ذات النقطة ركز عليها الأديب سعيد الكفراوي في رسالته الدامعة في نعى الطيب صالح..يقول:"رحل السوداني الطيب.. يرحل الأحبة فتغيب برحيلهم ألفة الوطن.. رحل أحد المؤسسين الكبار لفن الرواية العربية الحديثة.. أذكر في أواخر الستينات حين نشر الراحل رجاء النقاش ـ كلهم رحلوا ـ رواية «موسم الهجرة إلى الشمال»، في القاهرة، كنا في ذلك الوقت نحاول الإسهام في كتابة جديدة، فصدرت الرواية ونبهتنا للقيمة الحقيقية للكتابة، وكشفت عن ثراء الواقع باعتباره المادة الأولى للفن. صحبني «مصطفى سعيد، وبت مجذوب وضو البيت ، وبندر شاه، ومريود»، أهم شخصيات رواياته، وقادوني إلى اكتشاف ما يوازيهم في واقعي المصري الذي لا يختلف كثيرا عن الواقع السوداني".





    وإذا كانت بيئة الطيب السودانية قريبة من البيئة المصرية فإنها كانت أيضا قريبة من البيئة الموريتانية...يقول الكاتب والدبلوماسي الموريتاني محمد محمود ودادي: "بعد قراءتي لـ"موسم الهجرة إلى الشمال" و"عرس الزين" شعرت وكأني قرأت في سفر حياتي في الحي البدوي الذي عشت فيه، وفي قرية وادي الرشيد، بشخوصها وهمومها وتفاصيل العلاقات اليومية بين البشر والأشياء، وصراعهم الدءوب...وكان "الزين" بالذات في رواية "عرس الزين" تجسيدا لشخصية عشت معها في القرية، جعلتني كلما حننت إلى صبوتي، أعيد قراءة هذه الرائعة".



    عظمة الطيب وقيمته الحقيقية أنه بذل نفسه للسودان وأهله من باب فرض العين الذاتي الواجب...مهامه الوطنية لم تندرج –كما عند غيره- ضمن منظومة المندوبات والكفائيات بل فرضت نفسها وقد جاءت تلقائية خالصة متحررة من ربقة الالتزامات السياسية وإسار الانتماءات الأيدولوجية وتعقيدات الارتباطات الجهوية كما لم تحركها الطموحات الذاتية..جاءت تلبيته لنداء الوطن من باب قناعة داخلية راسخة بأولوية المسئولية الوطنية، وهذا باب من البذل وجهاد النفس أسقطه المثقفون من أجندتهم مع رحيل المستعمر وهم يتهافتون، وما فتئوا ،على خيرات بلادهم ومقدراتها حتى أتلفوها إتلاف وارثٍ سفيهٍ أحمق.. الطيب كان من تركيبة أخرى ولعل هذا من أسرار تعلق الناس به وحبهم لسعيه وتقديرهم لعطائه. لقد تماهى الرجل في وطنه إذ تبتل في محرابه حباً وعشقاً.





    الطيب طاف العالم حاملاً معه السودان تراثاً وثقافة وأدبا وطبعاً وأخلاقاً ..في أعماله المتعددة جمع طيب الكلم السوداني فأوعى..حفظ ديوان الشعر السوداني الفصيح والشعبي ..عرف المأثور وسبر غور المثل السائر ...أوغل في البيئة السودانية ممتطياً صهوة المحلية المنفتحة فقادته، والأدب السوداني، إلى العالمية ... في رواياته - كما في مقالاته التي فتحت آفاقا جديدة للكتابة الراتبة - ذات المضامين الأدبية والفنية الراقية عرض الطيب للمكون السوداني المحلي فرأى الناس عجباً... قدم الطيب للثقافة السودانية والأدب الشعبي السوداني خدمات قصرت عنها وزارات وأجهزة ..عبْر الطيب ألمَّ الناس بتضاريس السودان الشمالي وبشره وعاداته وطقوسه ...الطيب أو "سيدي الطيب" كما يقول محمد بن عيسى وزير خارجية المغرب وصديق الطيب وصفيه :"هو ذاكرة السودان المتنقلة، يحفظ لكتابه وشعرائه، زجاليه بالخصوص، ويحن إلى وطنه الأم ويحس بأحشائه تتمزق وهو يتحدث عن السودان. مجالسه التي يستحليها هي مجالسه مع السودانيين، من خيرة مفكريها وعلمائها ممن عرفت، ولكن الطيب صالح هو إنسان كل الدنيا، يستسيغ الثقافات ويقرأ لكل الكبار وفي مقدمتهم الإنجليز".



    ولعل من جوانب فرادة الطيب أنه ظل منافحاً عن رؤى إنسانية عميقة في الحريات والحقوق العامة وطرائق الحكم وأساليب السياسة ..هذه الرؤى كانت ثمرة وجوده الطويل والفاعل والأصيل (ولا أقول اغترابه) في المهاجر، لا سيما الغربية منها...ظل الطيب ينادي بذات القيم الداعية لاحترام الشعوب والنزول عند إرادتها...الطيب لم تستطع قوى سياسية حاكمة أو معارضة أن تستميله إليها لا بذهب المعز ولا بسيفه .. حين القطاف، ولات ساعة قطاف، هرولت الصفوة ميمنة وميسرة فيما بقي هو "كالسيف وحده" يتغزل في "فينوسه" على طريقته...وفي حين راح شيخه أحمد محمد صالح يستحث جماعة المثقفين على القيام بواجب التنوير :



    يا وارث المجد التليد وباني الأدب الأجد

    علم شباب الواديين خلائق الرجل الأشد

    علمهم أن الخنوع مذلة والجبن يردي







    مضى الطيب يقدم ذلك صحائف ناصعة من البيان بالعمل .







    الطيب من فئة قليلة حافظت على احترامها لنفسها ولموقفها من الدنيا وأحوالها وتقلباتها فاحترمها الناس ...كم من مثقف نادي بطيب الكلم وسامق الشعار فلما نادته ساحرات السلطة الغانيات أتاهن مهرولا ...أتاهن مهرولا وقد تأبط الخبائث فعلاً والمتدني من الحديث قولاً..عند الاختبار سقطت منارات كثيرة ولم تقوى على نار التجمر فتبين للشعب خيط النقاء الأبيض من رصيفه كالح الملمح ...حين ورود ساحات المجد وعند أوان الزحف تولت جماعات عديدة ولم يقف على سداد الثغور سوى العصبة ومنهم ““ضو البيت” ” ....كم من أسفار سودت وصحائف دونت رفعها الطيبون الآملون مكاناً علياًً فلما أقبلت الدنيا فجع الناس في مدونيها ورواتها الذين تهاووا كأعجاز نخل خاوية إذ صرعتهم خسة الأنفس وهوانها وإمرة النفس بالسوء ..تقلب أهل العلم والثقافة وتأرجحوا مع إيقاعات ودف السلاطين إلا من رحم ربك ولكن "ضو بيتنا" هذا غير...قال لا في ميقاتها.. وقال نعم في أوانها.. لم يحركه مطمع ولم يمنعه مغرم وتلك وأيم الله شنشنة لم نألفها في أخزم السوداني المتعلم.









    كتابات الطيب صالح تعكس صورة السودان على شكل عبقري ...ولعل كلمة الأستاذ معاوية البلال كانت أكثر دقة وهي تشير إلى أن الطيب:



    "اختزل تاريخنا في خمسة روايات ترجمت إلى أكثر من 20 لغة سكب فيها ملامحنا وشهواتنا وأشواقنا وعذاباتنا وتصوراتنا وأحزاننا ومراراتنا وأحلامنا وتجلياتنا في مرآة كلماته الروائية، كأرواح في التاريخ وكبشر عصفت بنا الصراعات مع أنفسنا ومع الغرباء ومع العالم."

    تماهي الذات المفردة في الوطن يستدعي صوراً وتصورات متعددة للوطن ...ورغم تعدد هذه الصور إلا أن أجلها وأعظمها وأكثرها إنسانية هي صورة الأم بكل عشقها وجنونها وولهها ببنيها ..وككل أم لها مراتب متفاوتة ودرجات متراوحة لبنيها حباً واشتياقاً ..حب مضمر وسر مكنون لا يعرفه سواها ومن ترغب وتريد من بنيها...أمثال الطيب لا تني الأوطان تناجيهم عند الخطوب..تناجيهم معددة شمائلهم وقيمهم وقيمتهم عندها ...هموم الأوطان تجري على السنة الموهوبين من بناتها وأبنائها .. ومَن أكثر موهبة من فاطمة بت حمد خير لمناجاة الطيب:





    "انت يا سيد البسوق ارقوق موازين

    انت يا سيد الجزيرة تكاكي وزين

    انت يا سيد الحصص صمد النمرتين

    انت يا سيد الشتيل التكه العراجين

    انت ماك عارف قليبن لي مجينين

    ما بترسل لي جوابا فيه سطرين

    وما بتقول لي نعيم صباح امو اشتغل وين"





    لقد كان كل ذلك وأكثر لقد "ساق أرقوق" وله جزائر وليست جزيرة واحدة صادحة بكل جمال وكان "صمدا" على قرى الرواية العالمية ودساكر الثقافة الإنسانية ونجوع الفكر الحر ...لقد أثمرت شتلات غرسه، بإذن ربه، فاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة....كان يعرف قلب الوطن الأم وكان باراًً بوطنه محباً للسودان وأهله ....واظب على إرسال الرسائل ...رسائل العشق والمحبة للوطن والإنسان..ولعل القضية الأسمى التي انتظمت رواياته وأعماله كلها تمحورت حول المحبة .. وعلى كثرة وتنوع شخوص أعمال الطيب وأبطاله إلا انه رمى بكامل ثقل المحبة وكلكلها على واحد من أقل الناس شأنا بموازين أهل الدنيا...الطيب قال على لسان الطاهر ود الرواس أجمل قصائد العشق والمحبة بإنسانية شفيفة نابعة من وجدان حقيقي لا قصصي روائي...لا أدري ولكني ظللت أتصور الطيب قد عاش في جلباب الطاهر ود الرواس حياته كلها:





    "ويوم الحساب، يوم يقف الناس بين يدي ذي العزة والجلال، شايلين صلاتهم وزكاتهم وحجهم وصيامهم وهجودهم وسجودهم، سوف أقول: يا صاحب الجلال والجبروت ، عبدك المسكين، الطاهر ود بلال، ولد حواء بت العريبي، يقف بين يديك خالي الجراب مقطع الأسباب، ما عنده شيء يضعه في ميزان عدلك سوى المحبة".





    زمردة في شأن ملامح بندر شاه أو :البورتريه المستحيل:

    "وأصيلة وهي تكرم سيدي الطيب إنما ترد للرجل بعضاً مما أعطى للعرب أولاً، وللفكر والإبداع العالميين ثانيًا. في أصيلة تنوب ثلة من المفكرين والأدباء والباحثين من الوطن العربي ومن خارج الوطن العربي عن كل من قرأ للطيب صالح وقدره وأحبه، تماما كما كرمت أصيلة قبله الشاعر محمد الحلوي، والشيخ المكي الناصري، والشاعر الرئيس السنغالي السابق ليوبولد سيدار سنغور، وغيرهم ممن أعطوا من أنفسهم للإنسانية وللفكر والإبداع.. مثل سيدي الطيب صالح".



    محمد بن عيسى في تكريم الطيب صالح بمهرجان أصيلة

    "كادت سرائر سري لا تبوح به وكاد خوفي عليه لا يسميه

    ينأى ويقرب مجلواً ومستتراً كالغيب أجمل ما في الغيب ما فيه

    من ذا هو الرجل العالي ولست أرى إلا بريــق نجــوم في أعاليـه

    يلقي على السهل ظلاً من عباءته فينبت العشب في أقصى حواشيه

    يكاد يلمس قلب الماء مبسمه ويهطل الغيث إن صلى على التيه"

    محمد علي شمس الدين: دموع الحلاج





    "من لزم العبودية لزمه أثنان: يأخذه الخوف من ذنبه، ويفارقه العجب من عمله"

    أبو يزيد البسطامي: "العبودية" كتاب الشذرات





    إن رسم بورتريه ل"ضو البيت" يبدو أمراً أقرب للمستحيل...الناس أنماط ونماذج ولكن تنميط الطيب صالح ونمذجته في إطار السائد من قوالب التصنيفات أمر صعب في أدنى درجاته، مستحيل في أقصاها..إن قوافي الشعر قد تتباين ولكنها، في نهاية الأمر، تظل خاضعة لأطر علم العروض للخليل بن أحمد الفراهيدي وتابعه الأخفش ..وقد تأتي الألحان متنوعة ولكنها تظل ترتبط بوتد المقامات والسلالم الموسيقية ..وقد تتباين السلوكيات البشرية ولكنها غالباًً ما تؤطر في قوالب مدارس علم النفس المعروفة من بنائية ووظيفية وسلوكية بافلوفية ..ولكن "ضو البيت" عصي على القوالب الجاهزة ...الطيب روائي من الطبقة الأولى عالمياً وكاتب مقالة من طراز رفيع ومثقف كوني يأخذ من الثقافتين العربية والأوربية (الإنجليزية) بذات المقدار والاقتدار..مثقف مهموم بقضايا وطنه ..وإنسان نادر على طريقته...قلَّ أن تجد مثقفاً يجمع عليه نقاد الأدب وأهل الثفافة والمعرفة كما هو الحال عند "ضو البيت" ...هو من قلائل المثقفين السودانيين (بل نكاد نقول الوحيد) المعروفين في كافة منتديات الثقافة والمعرفة العربية..ولكن ما هي ملامح وسمات بورتريه هذا الطيب الصالح؟.



    عقب رحيل الطيب سال مداد كثير ناعياً الفقيد معدداً مآثره مبيناً شمائله.. وفي خضم هذا الدمع المدرار توقفت عند صورتين للطيب تركزان على احدي السمات الأساسية لشخصيته ...الصورة الأولى صورة عرفانية رسمها مامون فندي في مقالته عالية القيمة "الطيب مر من هنا" ..يقول فندي : ""كان وجوده يومها شفافًا، وكأنه يقف على الحد الفاصل بين الحضور والغياب، كان ضيفًا عابراً أشبه بذلك الغريب الأبيض أخضر العينين الذي يطلع من النهر في روايته «“ضو البيت” »، بندر شاه مضى كالحلم وكأنه ما كان.. “ضو البيت” اختفى، لا خبر ولا أثر، ذهب من حيث أتى، من الماء إلى الماء.. كأن المولى ـ عز وجل ـ أرسله إلينا ليحرك حياتنا ويمضي في حال سبيله. الطيب صالح لم يكن أبيض البشرة ولا أخضر العينين، بل كان روحًا عالية تسكن ملامح رجل سوداني أسمر، روح مرت من هنا بعد أن علمتها «فاطمة بنت جبر الدار» آيات من سورة الضحى. كان الطيب صالح كبطل قصته «“ضو البيت” » يقدر على الحركة في الزمان والمكان، «كأن الطفل ولد عند الشروق، وتم ختانه وقت الضحى، وصار للزواج بعد صلاة العصر».. الطيب ولد روائيا في صباحنا، وغدا قامة كبرى في الضحى، واختفى في المساء".



    أما الصورة الثانية فرسم ملامحها الوزير محمد بن عيسى إذ يقول عن لقائه الأول به :"ذهبت إليه بروح الصوفي الذي يقصد شيخه ليستشفّه وليتبرك بمكرُماته، وينهل من صنيعه الفكري والروحي.... يا الله ما أبدع هذا الرجل بتواضعه وبساطته وقناعته ...وليّ صالح حتى دون عمامته...أاسميه سيدي الطيب كما نسمي في المغرب الأولياء والصالحين".



    الصوفي سمة اتفق عليها فندي ومحمد بن عيسى كعلامة دالة في بورتريه الطيب صالح الذي جمع فأوعى.. سره الأعظم كان في مخبره كما كان في مظهره ...من عرفوه عن قرب لمسوا فيه الإنسانية في أسمى معانيها الصوفية ..ذلك التواضع الحقيقي وتلك الإلفة المعدية لا بد أنها تجذرت في صوفية الطيب ...الغالبية أحبت فيه الخفر الرباني والوداعة التي لا تخطئها العين ..فيه حنو غريب ...يحدث الناس على استحياء وهو العارف ويخاطبهم بصوت خفيض وبصر غضيض وهو العالم ..يمجد إنجازات الناس ويتعمد إغفال منجزه ..مَن قال إن الأفاضل من الناس لا يربحون شيئاً؟ ..كذبوا ورب محمد ...هذا رجل ضو بيت ..ضو بلاد بحالها ..كان فاضلاً جميلاً وكسب كل ما يتمناه البشر الأسوياء..حب الناس لوجه الله تعالى.





    مواهب كبيرة وقدرات فذة وروح سمحة جمعت له قلوب العالمين وأفئدتهم ومآقيهم التي سح دمعها مدراراً من ضفاف الخليج إلى شواطئ نواذيبو في بلاد شنقيط ومن الدنيا القديمة في اللندرة وحتى أقاصي الدنيوات الجديدة في كاليفورنيا ونيوزيلندا واستراليا وما والاها من جزر كوك وهاواي ...بكت الطيب أصيلة والدوحة ونهنهت بالبكاء الراعش أديبات الرياض وبيروت والقاهرة .. بكاه الحكام والوزراء والمسؤولون والمثقفون وعامة الناس.





    حدثني عن مثقف شامخ وطود معرفة أشم فتحت له صدور مجالس وديوانيات السلاطين ودهاليزهم فعافاها ولاذ بمجالس غمار الناس؟...أحكِ لي عن روائي نادر الصنو قالت له جوائز الدنيا هيت لك فقال معاذ الله لست أهلا لك؟..خبرني عن عالم إعلامي خبر دروب الإعلام وهالاته وأضوائه فإزوّر عنها وأشاح دونها يختلق المعاذير ليخلف مواعيدها قائلا :غري غيري؟..الطيب كان ذلك المثقف الروائي الإعلامي...يقول محمد بن عيسى:"لم يستسغ قط فكرة تكريمه: «لا يا راجل، والله لا أستحق التكريم، هناك غيري ممن يستحقونه»، كان يردد لي ذلك كلما فتحت الموضوع معه حتى أحسست أنه فعلا لا يرغب في أن يكرم وأنه فعلا غير قادر على الرفض، وصارحته بذلك، واعترف، وأخيرا قبل". في ذات السياق تأتي إفادة الأديبة اللبنانية رشا الأمير:"مشكلة الطيب صالح وسره في خجله وخفره. رجل لا يحب الضوء، لا، بل يهرب منه ويتحاشاه. ومن البديع أن الناس كرموه دون أن يطلب أو حتى يبحث عن ذلك، لا، بل كان زاهداً ومتعففًا. هذا جيل آخر، غير جيل الأدباء الجديد الذي يستجدي الشهرة ويطاردها، الطيب صالح كانت النجومية هي التي تطارده". تواضع الطيب صالح حقيقة بارزة في حياته ومسيرته المهنية والإبداعية. يقول طلحة جبريل :"وعلى الرغم من أن روايته «موسم الهجرة إلى الشمال» اختيرت ضمن أفضل مائة عمل في تاريخ الإنسانية، يقول الطيب بتواضعه الجم «أقول لك صادقاًًً ليس لديّ أي إحساس بأهمية ما كتبت، ولا أحس أنني مهم، هذا ليس تواضعاً لكنها الحقيقة، إذا اعتقد الناس أن ما كتبته مهم فهذا شأنهم لكنني قطرة في بحر، قصيدة واحدة للمتنبي تساوي كل ما كتبته وأكثر".





    تواضع الطيب ميسم آخر ومفتاحي لشخصيته الآسرة ورغم محاولته نفي الميسم إلا أنه يفضحه في كل حال وعند كل مجلس...في يقيني إن شيمة التواضع عند الطيب من الموروثات التي عالجها وثقفها بالتجربة والترحال والإطلاع ...في رواياته وكتاباته ميل واضح لرفعة قيم التواضع والتسامح ..انحيازه لهذه القيم النبيلة لا تخطئه عين القارئ ولا أذن المستمع لأحاديثه ...الطيب قارئ متدبر لسيرة السلف الصالح ..أوقف فصلاً رائعاً في "مختاراته" الموسومة "المضيئون كالنجوم" لفيوض العارفين..كشف الفصل عن حب جارف لآل البيت وللأئمة العارفين...في هذا الفصل تحديداً تتبدى دون غطاء جذور صوفية شفيفة للطيب..يحدث القارئ عن الإمام جعفر الصادق وسفيان الثوري والإمامين مالك وأبي حنيفة النعمان ..يحدثه عن أخبار بشر بن الحارث الحافي وسري السقطي وأبي حازم الأعرج ومالك بن دينار وأبي القاسم الجنيد وأبي بكر الشبلي..قرأ نهج البلاغة بشروحات الشريف الرضي والإمام محمد عبده فانتبه ...من بديع كلام أبي الحسنين الأمام علي كرم الله وجه أخذ الطيب في مدونته نبراسه للتواضع :"بكثرة الصمت تكون الهيبة. وبالنصفة يكثر المواصلون. وبالأفضال تعظم الأقدار. وبالتواضع تتم النعمة. وبأحتمال المؤن يجب السؤدد وبالسيرة العادلة يقهر المناوئ، وبالحلم عن السفيه تكثر الأنصار عليه".



    صوفية الطيب وتواضعه منحته إهاب وروح أهل الله ...تنضح كتاباته ببهاء وحلل الأنوار الشعشعانية التي تجذب أرباب العقائد وأصحاب المواجد العرفانية ...يتقلب على إرث صوفي عميق وتحس في بعض فيوض كتاباته وكأنه يتأرجح مع دفوف أهل الذكر وترجيع إنشاد الذاكرين..كلما قرأت للطيب شيئاً في الأدب الصوفي وأحاديث العارفين تراءت لي صورة "ود طمبل" خليفة خلفاء السادة الختمية الأشراف بالخرطوم البحرية..كالطيب كان الخليفة محمد احمد وجيهاً وسمحاً سمتاً ومعنى ..كلاهما شرب من سلسبيل ماء الحضرة وورد حياض الصالحين فدقَّ أسلوباً ورقَّ سلوكاً وتحضراً..تجيئني صورة خليفة الخلفاء وأنا أطالع "مريود" أعظم ما خطه يراع الطيب صالح ..هذا السفر العظيم ينوء بحمولة من العشق والمحبة تكفي لتليين جلاميد القلوب وغلاظها وتكفي لتلطيف جوامد الحواس وإحياء ميت الشعور.. يكتب الطيب (مريود:طبعة دار العودة :الصفحة 88 ):



    "لقد أحب بلا ملل، وأعطى بلا أمل، وحسا كما يحسو الطائر، وأقام على سفر، وفارق على عجل، حلم أحلام الضعفاء، وتزود من زاد الفقراء، وراودته نفسه على المجد فزجرها"....





    أقرأ مريود فتحضرني صورة ود طمبل كاملة رونق البهاء إذ المنشد المجود يملأ فضاء الحضرة بأناشيد العرفان وترانيم "الهاء" البهية فالنون نصف دائرة الأكوان:





    صلّوا على بَحَرَ الصّفا المُصْطَفَى

    صلّوا عليه

    وآلهِ والصّحبِ أهلِ الوَفَاَ





    مدائح السادة الختمية تشنف آذان الحضرة وتشجي أفئدة الحاضرين بشجن أزلي وسمو عرفاني يجعل من الروح كائناً أثيرياً طائفاً سابحاً في ملكوت ودنيوات آخرى إذ الشيخ الخليفة يزلزل النفوس بصوته الريان المضمخ ببديع النفحات المدنية في المداِئح المصطفوية:











    صلّوا عليه

    ما لاحَ بَرقُُ أو أُزيلَ الجفََا

    وما سَرى السّاري لدَى المُقْتَفَى

    باللهِ يا ريحَ الصّبَا هل نبـا

    عَن الحبيبِ الّذْ لنا قد سَبَا

    حُلوَ اللما معسُولَه الطيّبَا

    من حلّ في وسطِ الجوَى طنّبَا

    حاوي الجمالِ نعمَ الجمالُ يا فتَى

    مَنْ حُسْنُهُ لم يأتِ أي ما أتى

    فاقَ البدرْ قد صَحَّ ذا مُثْبَتَا

    والشّمسُ مِن نُورهِ تُضيئ ثابِتا

    صلّوا على بَحَرَ الصّفا المُصْطَفَى

    صلّوا عليه

    وآلهِ والصّحبِ أهلِ الوَفَا



    صوفية الطيب عبر كتاباته لا شك استوقفت الكثيرين ...يقول مأمون فندي "ذات يوم حكى لنا عجوز من قريتنا في صعيد مصر، أنه رأى سيدنا الخدر (البعض يكتبها الخضر) ماراً في القرية، رآه سارحًا على حصان أبيض تفوح منه رائحة الطيب والمسك، كان العجوز لتوه قد فرغ من صلاة الفجر، وفي محاولة منه لمعرفة سر هذا الرجل الغريب، اقترب منه وسأله: أين صليت الفجر؟، فأجاب الرجل بأنه قد صلاه للتو في الكوفة، فبان للعجوز أنه أمام رجل من أهل الخطوة ممن تُطْوَى لهم البيد طيًا، وكان العجوز يقول لنا بأنه تأكد وقتئذ من أن هذا الرجل القادر على قطع المسافات بسرعة الضوء، يحضر ويغيب برمشة عين، هو سيدنا الخدر عليه السلام...هكذا كنت أتخيل الطيب"....ليس الأستاذ فندي وحده وكذلك كنت أتخيل الطيب ..منشداً في حضرة محضورة ...تستنيمه عن الخلق أبيات عرفانية وتوقظه على الحق كلمات جادت بها قرائح شيوخ جافت جنوبهم المضاجع قياماً لناشئة الليل التي هي أشد وطأ وأقوم قيلا:





    يا ليلي ليلك جن معشوقك اوه وانّ

    ام مرحى فوق جبلنا اصلو الاكسير معدنا

    الشرب بالكوب والدنه وكل الغشاهو تهنا





    بندر شاه نهل من النبع العرفاني فجرت كلمات الحق وصفات الاستقامة والزهد والتعفف على لسان أبطاله ...يقول محمود ل”ضو البيت” في بندر شاه : "يا عبدالله نحن كما ترى نعيش تحت ستر المهيمن الديان، حياتنا كد وشظف، لكن قلوبنا عامرة بالرضا، قابلين بقسمتنا التي قسمها الله لنا، نصلي فروضنا، ونحفظ عروضنا، متحزمين ومتلزمين على نوائب الزمان وصروف الدهر، الكثير لا يبطرنا، والقليل لا يقلقنا، حياتنا طريقها مرسوم ومعلوم من المهد إلى اللحد، القليل العندنا عملناه بسواعدنا، ما تعدينا على حقوق إنسان، ولا أكلنا ربا ولا سحت، ناس سلام وقت سلام، وناس غضب وقت الغضب الما يعرفنا يظن إننا ضعاف إذا نفخنا الهوا يرمينا لكننا في الحقيقة مثل شجر الحراز النابت في الحقول".... هذه صفات عبيد الله الذين تحسبهم أغنياء من التعفف...هذه صفات الرضا في أعلى درجاته والوسطية في أسمى معانيها ..يعرفون حدود الله وواجبات المسلم وأخلاقياته ..الطيب جاء ابناً صالحاً من صلب مثل هذه القيم ومن ترائب تلك الشيم والصفات.













    ملامح ومكونات بورتريه الطيب تشي بوقوفه المدرك على الموروث الصوفي الإنساني حيث عب منه وملأ جراب التجربة والحياة...عرف كلمات البسطامي والحلاج وسيدي محمد بن عبد الجبار النفري الذي يقول في المواقف والمخاطبات (موقف قلوب العارفين) : "وقال لي: إلتقط الحكمة من أفواه الغافلين عنها كما تلتقطها من أفواه العامدين لها ..إنك تراني وحدي في حكمة الغافلين لا في حكمة العامدين...وقال لي: اكتب حكمة الجاهل كما تكتب حكمة العالم."



    عملا بنصيحة بن عبد الجبار التقط الطيب حكمة الغافلين ودونها كما التقط حكمة العامدين لها ودونها ...حكم نصر الله ود حبيب والشيخ الحنين من عباد الله الصالحين استذكرها الطيب كما استذكر حكم ومقولات الطاهر ود الرواس وسعيد عشا البايتات القوى ومحيميد ومحجوب وأحمد إسماعيل وعبد الحفيظ وسعيد القانوني وبت مجذوب وحمد ود الريس وحسنة بت محمود... استوعب نصائح وحكم العارفين فأجراها على السنة أبطاله بخيرهم وشرهم فرسم لوحات إنسانية سامية ستبقي قوية نابضة بالحياة في ذاكرة الرواية العربية والعالمية...يقول الكاتب الأديب الروائي الدكتور سليمان الشطي : "إن الأدباء مثل الطيب صالح ضمائر متوثبة تنفض فينا الجذور فتدب الحياة من حولنا...أذكر تلك الظهيرة الساخنة، فيها كانت الرحلة المذهلة معه في موسم رحلته الشمالية، رحلت مع بطله مصطفى سعيد، وجين موريس إلى الشمال البارد، تجولت في خلايا أرض السودان...وبدا لي، بل رسخ في فكري، وتغلغل في ثنايا وجداني تصور لقيمة هذا المبدع الذي كان يتفرد سلوكًا وأدبًا. فيه تلازمت مجتمعة رؤى متعددة، كما بدا من روايته موسم الهجرة إلى الشمال، حيث معضلة اللقاء مع الآخر، وهو لقاء متجدد دائمًا قديمًا وحديثًا، التقط عن معاناة ما سبقه آخرون قريبون منه، الحكيم ويحيى حقي وسهيل إدريس، عالج كل واحد منهم طرفاً من الأطراف أما هو فقدم اللقاء فالصدام فالانكماش. كانت معالجته موغلة ضاربة في أعماق النفس، لذلك يمد يده، أو مدها من قبل، ليقبض قبضة من طين أرضه فتستوي شخصية (الزين) في روايته (عرس الزين) لتقدم كمال الصورة.. ويستمر التكوين والصقل في أعماله المعروفة، مركزة، مشيرة، مستوعبة، ناضجة...كان الطيب صالح تراثياً موغلاً في التراث، شعبيًا متذوقًا للحس الشعبي البارز الظاهر، وفي الوقت نفسه لا تراه إلا ويقربك من روح الصوفي الهائم.... هكذا كان الطيب صالح، أديبًا وإنساناً وللناس في أسمائها دلالة"( انتهى). ..نعم سيدي الدكتور للناس في أسمائها دلالة ولها في أسماء وعناوين أعمالها نصيب وأي نصيب.."مريود".."ضو البت" .."بندر شاه".



    انتهى الجزء الاول ويليه الجزء الثاني: "اللؤلؤة في خبر استواء ظل تمام الزاوية مع جيب تمامها: الطيب صالح مراوحا بين الطاهر ود بلال الروّاس ومصطفى سعيد


                  

11-23-2010, 07:53 AM

jini
<ajini
تاريخ التسجيل: 02-05-2002
مجموع المشاركات: 30720

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: روّاس مراكب القدرة ضو البيت: وداعا أيها الزين!! طارق جبرين وزيادة حمور علينا جاى! (Re: jini)

    Quote:

    روّاس مراكب القدرة ضو البيت: وداعا أيها الزين 2


    المدارج والعتبات:

    رواس مراكب القدرة:





    اللؤلؤ في خبر استواء ظل الزاوية مع جيب تمامها: الطيب صالح مراوحا بين الطاهر ود بلال الروّاس ومصطفى سعيد:

    "الناسُ في بلادي جارحون كالصقورْ

    غِناؤُهم كرجفةِ الشتاءِ في ذؤابةِ الشجر

    وضَحكهم يئزُ كاللهيبِ في الحطب

    خطاهمو تريدٌ أن تسوخَ في الترابِ

    ويقتلون، يسرقون، يشربون، يجشأون

    لكنهم بشر

    وطيبون حين يملكون قبضتي نقود

    ومؤمنون بالقدر".





    صلاح عبد الصبور : الناس في بلادي











    "وجْهُ مهيار نارْ

    تحرقُ أرض النجوم الأليفه،

    هوذا يتخطّى تخومَ الخليفه

    رافعًا بَيْرَق الأفولْ

    هادمًا كلّ دارْ ،

    هوذا يرفُض الإمامَهْ

    تاركًا يأسَه علامهْ

    فوق وجه الفصولْ"





    أدونيس: وجه مهيار







    قبل الغوص:

    قد يكون مهما بل واجبا توضيح ان ما يرد في هذا الجزء ليس (ولا ينبغي له أن يكون) قراءة نقدية لأعمال الطيب فما لهذا نهدنا ولسنا من أهل الاختصاص في أي من جهاته، مجالاته أو درجاته. ما تستهدفه هذه الجزئية من العمل هي محض مقاربة إنسانية لبعض شخوص رواياته توسلا وحيلة من جانبنا للإقتراب، بصنعة لطافة كما يقول خيري شلبي، من بورتريه الرجل...أهمية ووجوب هذا التنويه، في تقديري، تنبع من رغبتنا في إستباق ما قد ينشأ من إتهام بالتهجم على فضاءات لسنا من روادها وكذلك في فتح أبواب ومخارج للطواريء قد نحتاجها إذا تعثرت منا الخطى خاصة ونحن بين يدي أعمال رجل عالي الجناب وافر القيمة الأدبية والإنسانية ..وليغفر لنا المولى إن رأى أهل التخصص أننا بفعلنا المتهور هذا إنما نكون قد دسنا بنعال الجهل على أبسطة العلم.







    محارة اللؤلؤ:

    النقاد المتخصصون سعوا جهدهم للبحث في خصائص وسمات شخصية الطيب صالح والربط بينها وبعض مقومات شخصية مصطفي سعيد في "موسم الهجرة إلى الشمال"... يقول طلحة جبريل :"كثيرون يعتقدون أن مصطفى سعيد بطل "موسم الهجرة إلى الشمال" فيه بعض ملامح الطيب صالح نفسه.. وفي هذا السياق يقول الطيب:"الذي يطرح أفكاره على الناس علناً عليه أن يتحمل تبعات ذلك، لذلك لا يزعجني أحياناً حين يسألني بعض الناس هل مصطفى سعيد يشكل جزءاًً من سيرتي الذاتية"...ويضيف الطيب:"يبدو لي أحياناً أن البشرية تائهة وأنا تائه معها، لذلك لا أطالب الناس بأن تفهمني كما أريد، الكاتب نفسه لا يعرف ماذا يقول وماذا يكتب".





    حين ازعجت الكاتب المحاولات المستمرة للربط بينه وبين بطل روايته الأشهر استجار ب"الزين" كشخصية دالة عليه وأقرب...هذا عندي، وأقر بأنني قاريء عادي جدا، يدخل من باب اعتساف واختزال الطيب صالح لسماته كإنسان .."الزين"، على الوجه الذي صوره الطيب صالح في "عرس الزين"، درويش من عامة الناس...لعب فيه الطيب على وتر وسامة الروح ..وهذا باب في الجمال معروف ومتداول وخاصة عند أهل الوجد الصوفي..يوسمون من هم على شاكلة "الزين" بأنه "أب سماحتن جوه"...لا،..لا، الطيب لم يكن "الزين" ولكنه أيضا لم يكن مصطفي سعيد ..عبقرية الطيب أنه نأى بنفسه عن كل هذا الجدال ووقف منه موقف سيده وسيدنا أبي الطيب المتنبي:







    أنامُ ملء جِفوني عن شوارِدها ويسهرٌ الخلقٌ جرَّاها ويختصمٌ

    رحم الله شيخنا أحمد بن الحسين كان عبقرياً مغروراً ...ورحم الله شيخنا الطيب صالح كان عبقرياً متواضعاً ..جمعتهما عبقرية إبداعية وفرقت بينهما السمات الشخصية ورغم ذلك ظل الطيب أسيراً محباً مدنفاً بعشق أبي الطيب ... لا أظن أن الأدب الحديث عرف مثقفاً محباً لأبي الطيب كالطيب صالح..كان حبا نابعا من دراسة متعمقة دقيقة لشعر الرجل وعصره وسماته الشخصية ..الطيب صالح ونزار قباني بلغ من حبهما وتبجيلهما لأبي الطيب أنهما لا يذكران اسمه إلا مسبوقا بصفات التجلة والاحترام .. هذان الهرمان كانا يقولان "سيدنا" و"الأستاذ"...الطيب صالح كان كحماد في راوية شعر أبي الطيب ..حفظ الديوان بشروحات العكبري والبرقوقي واليازجي والمعري...يستظهر العيون ويعرف مواقع الإعجاز البياني ومكامن النكت البلاغية ... حفظ شعر المتنبي عن وعي وحب فأبدع ومن ثم نام ملء جفونه وترك النقاد في جدل وسؤال سيستمر ما بقي نقاد للأدب وللرواية :أين الطيب صالح من أبطاله؟.







    أغلب ظني أن الطيب قد راوغ الدنيا بشخوصه اللامعة...العبقري البائس مصطفى سعيد والسياسي السلطوي غير القابل للتطور محجوب والشاب الطامح للسلطة على حساب العشيرة والقرابة الطريفي ود بكري.. مجموعات الظل عبد الحفيظ، وأحمد إسماعيل أبو البنات وسعيد القانوني، حمد ود الريس وبت مجذوب. الطيب أضاف لشخوص روايته بعدا آخر باستنطاق الرواة ...إبراهيم ود طه حافظ ذاكرة ود حامد وشهود عصر رواياته: محيميد الأفندي العائد للجذور ومن ثم الراوي المجهول في رواية مصطفي سعيد (ولعله محيميد). في تنويع آخر وهام أضاف الطيب حشدا من مجموعة التقلبات: سعيد البوم (عشا البايتات لاحقا) وسيف ود العمدة في تجلياته المختلفة.





    في خضم هذه الشخوص المتباينة اجتماعيا واقتصاديا يسترعي الانتباه المحبة البائنة التي أولاها الطيب للطاهر ود الرواس والذي ظل محوريا في أعماله منذ "الرجل القبرصي" ولكنه بلغ بالشخصية قمة بنائها الدرامي والإنساني في "مريود" حيث العشق والصفاء الإنساني يبلغان شأواً بعيداً.







    هذا الجزء من العمل يبحث في بناء الشخصيات المحورية في اعمال الطيب صالح بتركيز شديد على مصطفى سعيد والطاهر ود بلال الرواس.. وعلى خلفية ما قدمنا من بورتريه للطيب نبحث في مفاصل العلاقة (إن كانت ثمة واحدة) بين الكاتب وأبطاله.







    مخاطر صيد اللؤلؤ: أرخبيل التضاد ومحاولة للتوافق:

    ممر الصدق:

    "ولكن الطاهر ود الرواس طول حياته لم يقل إلا كما رأى وسمع"

    مريود : طبعة دار العودة : الصفحة 37







    مضيق الكذب:

    "أليس صحيحا أنك في الفترة ما بين أكتوبر 1922 وفبراير 1923 ...كنت تعيش مع خمس نساء في آن واحد؟"...بلى..وأنك كنت توهم كلا منهن بالزواج؟"..."بلى.. وانك انتحلت إسما مختلفا مع كل منهن؟..بلى..وانك كنت حسن وتشارلز وأمين ومصطفى ورتشارد؟..بلى"







    سير آرثر هغنز في محاكمة مصطفى سعيد: موسم الهجرة :دار العودة : الصفحة 41







    ما بين الممر والمضيق: باب مندب العبور

    "الأولاد أخدتهم الحكومة والبنات أخدوهم الأفندية، حلال عليهم...دخلوا عالم العربيات والتلاجات والدرجات. عاوزين يجوا هنا أهلا وسهلا، عاوزين يقعدوا هناك اعتبرهم مني هدية لزمن الحرية والمدنية والديموقراطية . أما انا يا ود الرواسي ، أفندي بالغلط ، مزارع زي ما قلت، هام على وجهه ورجع لنقطة البدء. رجعت عشان أدفن هنا .أقسمت ما اعطي جثماني أرض غير أرض ود حامد."







    محيميد في بندر شاه: طبعة دار الطليعة: الصفحة 86







    أولاً بالتبادي: الروائيون وأبطالهم:

    "الحياة ليست ما يعيشه أحدنا، وإنما هي ما يتذكره، وكيف يتذكره ليرويه"



    جابريل جارثيا ماركيز: عشت لأروي: ترجمة صالح علماني، 2004







    لا أظن كاتبا أو روائيا أضطره النقاد والقراء للإفصاح عن ماهية شخوص رواياته كما الطيب صالح... لقد ظل الرجل في غرفة التشريح الأدبي طيلة حياته الروائية...من مجموع شخوصه وأبطاله وحدها شخصية مصطفى سعيد هي التي قادت الطيب صالح إلى حراسات الأمن الروائي واقفاص الاتهام الأدبي..حوالي نصف قرن من الزمان والقراء والنقاد والمحلفون في المحاكمات الأدبية ينتاشون الطيب بذات السؤال الحارق: من هو مصطفى سعيد وما علاقتك به؟.







    ابتداءً وعلى المستوى الكلى هناك ثمة اتفاق على ان "التيمة" الأساسية لرواية "موسم الهجرة" هي الصراع بين الشمال والجنوب...يقول ابراهيم درويش في دراسته "الطيب صالح: ملحمية التجربة والحنين الدائم للطفولة ومواجهة القاتل في قلب الامبراطورية" إن"موسم الهجرة جاءت في ظروف الاستقلال وما بعد الاستعمار ومن هنا يرى فيها إدوارد سعيد رحلة معاكسة لبطل جوزيف كونراد ‘قلب في الظلام" فيما يراها نقاد اخرون رواية عن اللقاء بين الشرق والغرب جاءت في مرحلة انتهت فيها روايات الألق والصدمة التي قدمها روائيون عرب منذ مفتتح القرن العشرين، مع وجود اختلافات بين مصطفى سعيد وابطال روايات سهيل ادريس ويحيى حقي وتوفيق الحكيم".(أهـ).







    هذا حديث حسن لا غبار عليه أما الغبار، وما يعلوه من "هبباي" و"كتاحة" فيبقى معلقا في سماء واشجة لا تنفصم عند النقاد بين شخصية مصطفى سعيد والكاتب...البحث، بل الحفر والتنقيب، المستمر في سمات شخصية مصطفي سعيد ومحاولات الربط بينها والسيرة الذاتية للطيب صالح تلخص مدلول السؤال المركزي حول مسئولية الكاتب عن المكونات الأخلاقية والإنسانية لأبطاله...ورغم سرمدية السؤال وترحاله في تاريخ الفن الروائي العالمي إلا أن قصة ارتباط الطيب بالمستر مصطفى سعيد تبدو مخالفة نوعا ما... إن التطابق الجزئي (مكانا وزمانا) بين بعض مراحل حياة الكاتب وترحاله بين الجنوب (شمال السودان) والشمال (إنجلترا) وبعض مراحل حياة بطله الأشهر مصطفى سعيد المنتقل ما بين ذات الأتجاهين والموقعين الجغرافيين قد أدى إلى إجتراح حالة قبول رائجة لفكرة "الرواية داخل الرواية" وهو ما أفضى، في تقديرنا، إلى التساؤل الدائم عن العلاقة بين الكاتب وبطله.







    كأرضية عامة لبحث هكذا علاقة قد يكون مهما ان نستدعى أسئلة موازية أخرى كمدخل للتأسيس لما نود بحثه وتوضيحه... الأسئلة تتمحور حول علاقة الكٌتاب بأبطال رواياتهم..وللتدليل والتمثيل نسوق أمثلة من جنس: ما هي علاقة نجيب محفوظ بالقيم الاخلاقية والسلوكية للسيد أحمد عبد الجواد "سي السيد" في "الثلاثية"؟ أو محجوب عبد الدائم في "القاهرة الجديدة"؟..إلى أي مدى رشحت السمات السلوكية والخيارات السياسية والاجتماعية لخيري شلبي في تصرفات "حسن أبو ضب" في "ثلاثية الأمالي"؟.. ماذا يريد واسيني الاعرج ان يقول على لسان بطله مقطوع اللسان "حسيسن" في "حارسة الظلال" وهو يصور جزائر العنف والدم والموت؟ ...ويمكن على ذات النول غزل تساؤل أشمل حول علاقة روائيين من طبقة ماركيز وباولو كوليو وشينوا أشيبي ونقوقي ثينقو وولي سوينكا وجمال محجوب ونور الدين فارح والطاهر وطار ويوسف القعيد وجمال الغيطاني واحلام مستغانمي وأمين معلوف بالمكون الثقافي والسلوكي لأبطال رواياتهم وقصصهم؟.







    بكلام آخر فإن ذات السؤال السابق يمكن إعادة صياغته ليدور حول علاقة الروائي (كمبدع) بمجتمعه الذي يتعامل مع قضاياه...هل هو محض شاهد على العصر يقتصر دوره على التدوين التاريخي وعلى رصد وتصوير ديناميات الحراك الاجتماعي؟ ..هل المطلوب من هؤلاء الروائيين أن يكونوا شهودا عدولا ينهضون باستخدام ملكاتهم وقدراتهم الإبداعية في تصوير عصورهم ومجتمعاهم؟ أم أن لهم الحق (في نطاق هذه الإمكانات الإبداعية) في إعادة صياغة واقع افتراضي موازي لهم ان يحشدوا له مواقفهم ورؤاهم واخلاقياتهم وسلوكهم؟؟.







    بعيدا عن السؤال الفلسفي حول الإبداع والإلتزام (كما عند سارتر وكامو) ومع تقريرنا وتقديرنا أن المبدع الروائي ليس مطلوبا منه، بالضرورة، أن يكون راوية للتاريخ أو داعية لأخلاقيات وسلوكيات معينة إلا أننا نرى أن الرؤية الإبداعية لا تخلو من الأيديولوجية والحمولة التاريخية والأطر الأخلاقية الجمالية...في هذا السياق يبدو مشروعا جدا أن يراجع الناس أعمالاً مفصلية ذات توجهات ومواقف واضحة من مجتمعاتها ونظمها والأيدولوجيات السائدة في تلك المجتمعات وآثارها...في هذا الخصوص تبرز أمثلة من لدن "مزرعة الحيوان" و"1984" لجورج اورويل وبعض أعمال "النوبليين" من طبقة الكسندر سولسنجتين ("أرخبيل الغولاق" و"الدائرة الأولى") وباسترناك ("دكتور زيفاجو") ونجيب محفوظ ("ثرثرة فوق النيل") وغير "النوبليين" :الطاهر وطار ("اللاز" و"العشق والموت في الزمن الحراشي") والطاهر بن جلون ("تلك العتمة الباهرة")، أمثلة لا حصرا بالقطع.







    مستصحبين ما تقدم ندعي أن حياة الطيب صالح القادم من التخوم الأستوائية في عاصمة الضباب لنصف قرن من الزمان ربما أوحت للقراء أن جوانبا من شخصية مصطفى سعيد لها علاقة ما بسيرة الكاتب بذات القدر الذي نرى فيه لسيرة توفيق الحكيم الذاتية ظلالا وآثارا على بطله "محسن" في "عصفور من الشرق" ونلمح فيه تقاطعا لبعض سمات وسلوكيات يحي حقي مع سمات وسلوكيات "إسماعيل" بطل روايته المهمة "قنديل ام هاشم" ونقترح فيه أن "مارلو" قد حمل بعض رؤى جوزيف كونراد وامانيه وتصوراته للعالم وهو يخوض مغامراته الكونغولية في "قلب في الظلام"؟...دعونا نحتقب كل ذلك ونحن نبحث في حفريات العلاقة بين الكاتب وأبطاله وخاصة مستر مصطفى سعيد.







    ثنينا بالصلاة على النبي: الطيب صالح وأبطاله: مصطفى سعيد وودالرواس وبينهما محيميد:

    "لا تبح لـ(لسانك) بمكنون صدرك

    ولا تعجل بتنفيذ رأي لم يتم نضجه

    كن متوددا إلى الناس، ولكن إياك أن تكون مبتذلا

    وإن كان لك أصدقاء وبلوّتهم وخبِرتهم

    فضمهم إلى نفسك بأطواق الفولاذ

    أما الرفيق الغر الذي لم تهذبه السنون

    فلا تتعب كفك بمصاحبته والاحتفاء به

    حاذر أن تشتبك في عراك، ولكن قدر إن اشتبكت

    فاحتمله، حتى يتقيك الخصم ويخشاك

    أعر سمعك لكل الناس ولكن لا تسمع صوتك إلا للقليل منهم

    أنصت إلى دعوى كل إنسان ولكن لا تتسرع في الحكم"



    نصائح بولونيوس إلى يا لايرتس: مسرحية هامليت،شكسبير







    داخل ما سبق طرحه من أطر لعلاقة الكاتب بأبطاله، ننظر في علاقة الطيب صالح بمصطفى سعيد لنقول ربما كان الكاتب مسئولا في بعض الجوانب عن هذه العلاقة الملتبسة او "الغميسة" (كما يقول حسن موسى) .. في دراسته الموسومة :"مصطفى سعيد بين الواقع والفن" يقول عبد المنعم عجب الفيا :"لقد عبر الطيب صالح في كتاب "على الدرب .. ملامح من سيرة ذاتية" عن فلسفته في الكتابة الروائية بقوله : "تجدني دائما أقول أنني أعتمد على أنصاف الحقائق والأحداث التي يكون جزء منها صحيحا والآخر مبهمـا.. هـذا يلائمنـي تمامـا.. بمعنى آخر يكفيني جملة سمعتها عرضا في الشارع لأستوحي منها فكرة للكتابة، ليس بالضرورة أن أجلس مع صاحب الجملة لأستمع إلى قصة كاملة … تكفي جملة واحدة أسمعها وأنا في الطريق ، فقد تثيـر فـي نفسـي أصـداء لا حـدود لها"....ولكن ما مدى هذه الأصداء؟ ...يواصل عجب الفيا فيقول :"خلصت (...) إلى أن الطيب أضفى بعض من ميوله الفكرية والأدبية على شخصية بطله مصطفى سعيد مثل ميوله إلى الاشتراكية الفابية ودراسته الاقتصاد بالمدرسة التي أنشأها حزب العمال وانضمامه إلى أحد أندية الكويكرز وحبه لشعر أبي نواس ومسرح شكسبير. فإذا كان الطيب صالح قد استمد بعض ميول مصطفى سعيد الفكرية والأدبية من تجاربه وميوله الشخصية فهل استمد مغامراته وغزواته النسائية من حكايات ومغامرات "علي أبو سن" التي كان يلح في الاستماع إليها؟ هل كانت هذه الحكايات والمغامرات تمثل أنصاف الحقائق والأحداث التي صاغ منها جزءاً من شخصية مصطفى سعيد؟"(انتهى حديث عجب الفيا).







    جيرزلدا الطيب من جانبها برأت الطيب صالح من تهمة "الصلة والقرابة" من شخصية مصطفى سعيد مؤكدة إن "موسم الهجرة" ليس ولا يمكن أن يكون سيرة ذاتية للكاتب....جريزلدا ترى" ان مصطفى سعيد بطل متخيّل على عدة مستويات في ذهن المؤلف وانه قد صنع من مزج عدة شخصيات التقاهم بالتأكيد الطيب صالح أو سمع بهم عندما ذهب لأول مرة إلى لندن عام 1952" ..وتواصل جيرزلدا تحليلها لتقول:"ولكن قبل أن نمعن أو ننطلق في هذه الفرضية علينا أن ننظر الى شخصية البطل ونقسمها الى ثلاثة محاور:

    · مصطفى سعيد- الأكاديمي السوداني الذي يعيش في لندن.

    · مصطفى سعيد- "دون جوان لندن".

    · مصطفى سعيد – "وعودته الى موطنه الأول".







    وترجح الكاتبة ان مصطفى سعيد الأكاديمي هو شخصية «متكوّنة» من ثلاثة أعضاء في دفعة السودانيين النخبة الذين اختيروا بعناية، وأرسلوا بواسطة الحكومة السودانية عام 1945 لجامعات المملكة المتحدة ....، وكلهم يمثلون شخصيات بطولية في الوعي الوطني الباكر للسودانيين، أحدهم هو د. سعد الدين فوزي وهو أول سوداني يتخصص في الاقتصاد بجامعة أكسفورد ...عبدالله الطيب الحاصل على درجة الدكتوراه من جامعة لندن في اللغة العربية والذي عيّن بعدها محاضرا في كلية الدراسات الأفريقية والشرقية بالجامعة نفسها...الثالث الذي اقتبس الطيب صالح جزءاً من شخصيته لتمثل الصفة الثالثة عند مصطفى سعيد وهي "الدون جوان"، الى حد ما، فهو الدكتور أحمد الطيب. هذا الرجل كان جذابا وشخصية معقدة ومفكرا رومانسيا".(انتهى حديث جريزلدا)







    وسواء كان مصطفى سعيد قد اكتسب بعض الجينات الثقافية من الطيب صالح كما في رأي عجب الفيا أو وهبه الطيب صالح بعض الجينات السلوكية من سودانيين آخرين كما اقترحت جيرزلدا الطيب إلا انه بقي شخصية محيرة تماما ..ولعل هذا ما دعا عادل الباز ليطرح إشكالية "الجلاد –الضحية" كحالة معبرة عن واقع مصطفي سعيد ..يقول الباز في مقالته "مصطفى سعيد ...لعنة الله عليك": عاش مصطفى سعيد حياة مليئة بالتناقضات والصراعات والغموض...ينتابنى احياناً احساس ان مصطفى سعيد ليس اكثر من مجرم ذكى بل هو افاك عظيم...ليس اكثر من داعر فى حانات ومقاهى لندن.. مصطفى سعيد شخصية ########ة لا يستحق ان يُكتب عنها سطر. وهب الله مصطفى سعيد عقلا عظيما ولكنه حوّله إلى آلة حادة لقتل وتدمير عشرات الشخصيات"....من ناحية ثانية يتراجع الباز ليقول :"مصطفى سعيد ضحية لظروف واقدار لا يد له فيها . مصطفى سعيد ضحية لليتم وضحية للاستعمار وضحية للحضارة الغربية. مصطفى سعيد لم يذهب للغرب غازيا لم يكن «عطيل»، عطيل كان اكذوبة كما قال هو نفسه . مصطفى سعيد حينما ادرك ان الحضارة الغربية دمرته حاول الانتقام فاستخدم اداته التى استخدمها للانتقام من جين مورس ومسز روبنسون وغيرهما"(انتهى كلام الباز).







    ما يستفاد مما سبق من حديث أن الطيب صالح قد أضفى بعضا من مكونه العقلي وأفقه المعرفي ورؤاه السياسية على بطله مصطفى سعيد ..أما المكون الأخلاقي والسلوكي والعاطفي لذات البطل فلا علاقة له بسمات الكاتب ومنظومة سلوكياته والتي أشرنا إلي بعضها في الجزء الاول من هذا العمل..بهذا الفهم فإن الطيب صالح كان فاعلا في شق من تكوين مصطفى سعيد وشاهدا عليه في شق آخر...الطيب صالح المتواضع الصوفي كان شاهدا على عبقرية مصطفى سعيد واعتزازه بعقله الجبار ..ذلك الاعتزاز الذي جعله يوقن أن الحق والباطل شقيقان نختلف في رؤيتنا لما يمثلانه ...أليس هو القائل"ورغم ادراكى اننى اكذب فقد كنت احس اننى بطريقة ما اعنى ما اقول، وانها ايضاً رغم كذبها فان ما قالته هو الحقيقة. كانت لحظة من لحظات النشوة النادرة التى ابيع عمرى بها كله. لحظة تتحول فيها الاكاذيب امام عينيك الى حقائق، ويصير التاريخ قواداً، ويتحول المهرج الى سلطان" (145)....هذا رجل منبت سلوكيا ...كل وسيلة توصله لمآربه فهي قمينة بالتجريب ومن ثم المباهاة بالنجاح في استخدامها:""الطائر يا مستر سعيد قد وقع في الشرك، النيل، ذلك الاله الافعى، قد فاز بضحية جديدة، المدينة قد تحولت إلى إمرأة" (صفحة 49)....مصطفى سعيد اللندني عاش حياة شعارها:"أنا لست عطيلا..عطيل كان أكذوبة"..لا ..لا ..لا .. المكون الأخلاقي للطيب صالح صاغ ملامح مصطفى سعيد السلوكية بكل قسوتها العاطفية وعدم انتمائها ليبلغ بالبناء الدرامي لبطله على ذلك البعد مداه.



    وفي حين عاش مصطفى سعيد حياته الروائية منذ صدور موسم الهجرة إلى الشمال في قلب الأضواء انزوت شخصيات أكثر تعبيرا عن سلوكيات الطيب المشتهاة (المتخيلة) والحقيقية (الواقعية) ..ونستدعي اثنتين من هذه الشخصيات للمماثلة ولتبيان المساواة والتوازن بين ظل الزاوية وجيب تمامها في هندسة بناء الشخصية عند الطيب...أول هذه الشخصيات هي الطاهر ود الرواس وثانيتهما شخصية محيميد.



    العلاقة بين مصطفى سعيد (خاصة في إطاره السلوكي) والطاهر ود الرواس علاقة تضاد مباشر... كلاهما كان كالراعي الاندلسي "سانتياغو" في الخيميائي عند كويليو ..هما بطلا قضية الاستقرار والترحال ولب قضية "الأسطورة الشخصية"... في ثنايا كلمة الروائية والكاتبة السعودية ثريا العريض عند رحيل الطيب صالح إضاءة لما بين هاتين الشخصيتين من تناقض أساسي .. تقول العريض :""برحيله فقدنا أديبا متميزا. وتميزه ليس فقط في لغته وأسلوبه بل أيضا في عمق تواصله بانفعالات الشاب العربي الذي يقف بين شفيرين: إدراكه أن معتقدات مجتمعه لا تسمح أن يكون هناك تقبل متبادل مع من يتجاوز وعيه تلك المعتادات البسيطة بما في ذلك الخزعبلات المتوارثة، والشفير الثاني هو إدراكه أن المجتمعات البعيدة التي يجذبه إليها تطورها المعرفي لا تراه إلا مختزلا في إطار الرومانسية الاستشراقية التي تنجذب إلى تفاصيل سطحية ينفر منها هو ولا يتقبلها في ما يراه ذاته الفردية. وهنا تأتي إشكالية العبور إلى الشمال حيث هو عبور لا يتم أبدا"....وتتساءل العريض: «هل عبر الطيب صالح بعد ذلك الهوة التي فصلته في برزخ بين المجتمعين؟ هل حقق الهدنة والتصالح مع ذاته ومجتمعه ومجتمع الآخر؟» وتجيب: لا أعرف، ولكنه الآن ارتاح من مواجهة الصراع في تلك المساحة الضيقة بين الشفيرين والكتابة عنه".







    على حد أحد شفيري د. العريض يقف مصطفي سعيد الراحل إلى "المجتمعات البعيدة" ذات التطور المعرفي التي لا يرى الجنوبي نفسه فيها "إلا مختزلا في إطار الرومانسية الاستشراقية".. ولكن مصطفى سعيد، بما فيه من غربة روحية وخلو من العاطفة لم يكن يهمه حتى التطور المعرفي في الشمال....يقول عن غربته تلك" "ثلاثون عاما كان شجر الصفصاف يبيض ويخضر ويصفر في الحدائق، وطير الوقواق يغني للربيع كل عام. ثلاثون عاما وقاعة "ألبرت" تغص كل ليلة بعشاق "بيتهوفن وباخ" والمطابع تخرج آلاف الكتب في الفن والفكر.. مسرحيات برنارد شو تمثل في الرويال كورت "الهيماركت". كانت "إيدت ستول" تغرد بالشعر، ومسرح "البرنس أف ويلز" يفيض بالشباب والألق. البحر في مده وجزره في "بورنمث و براتين" ومنطقة البحيرات تزدهي عاما بعد عام. الجزيرة مثل لحن عذب سعيد حزين في تحول سرابي مع الفصول. ثلاثون عاما وأنا جزء من كل هذا، أعيش فيه ولا أحس جماله الحقيقي"...ثلاثون عاما قضاها مصطفى سعيد لخصها أثناء محاكمته بروفيسور "ماكسول فستركين" أستاذه في الجامعة :"أنت يا مستر سعيد خير مثال على أن مهمتنا الحضارية في إفريقيا عديمة الجدوى، فأنت بعد كل المجهودات التي بذلناها في تثقيفك كأنك تخرج من الغابة لأول مرة"... مصطفى سعيد كان يعرف كل ذلك واكثر:" كنت في الخامسة عشرة، يظنني من يراني في العشرين، متماسكا على نفسي كأنني قربه منفوخة. ورائي قصة نجاح فذ في المدرسة. كل سلاحي هذه المدية الحادة في جمجمتي، وفي صدري إحساس بارد جامد كأن جوف صدري مصبوب بالصخر". هذا هو مستر سعيد بعقله الجبار وقلبه الخالى عن كل جمال وعن كل حب وعن كل إنسانية.







    على الطرف الآخر تماما يقف الطاهر ود الرواس صاحب "معتقدات المجتمع" بكل احتشادها ب "المعتادات البسيطة" و"الخزعبلات المتوارثة".... ما بين الشفيرين حاول الطيب حل "شفرة دافنشي" صراع الحضارات مستخدما رموزا وأرثا مشرقيا كبيرا موكلا المهمة إلى الطاهر ود الرواس.







    إذا كانت حياة مصطفى سعيد الإنسانية قد نشأت على الفطرة ووسمتها تصاريف القدر وتشكلت بإمرة نفس أنانية مادية ذات خواء روحي محض...فإن الطيب، في سعيه لإيجاد المعادل الموضوعي (سلوكيا على الأقل) استطاع بناء شخصية موازية نشأت كذلك على الفطرة ووسمتها تصاريف القدر ولكنها امتلأت بروح إنسانية وحكمة ربانية...الطاهر ود الرواس خلافا لمصطفى سعيد بقي ملتصقا بالأرض ..يعتاش من النهر صائداً للأسماك ..اكتفي من فرض الصلاة بصلاة زوجه فاطمة بت جبر الدار..كان صادقاً محباً محبوباً ..خلق منه الطيب صالح مرآة للذين هاجروا والذين تعلموا والذين أدمنوا السلطة فاسكرتهم خمرها نشوة وظفراً واحرقتهم نارها خسراناً وهزائم.







    الطاهر ود الرواس هو حالة الثبات واليقين عند الطيب ...استمد قوته من المحبة الإنسانية لا غيرها ..يقول عن أمه حواء بنت العريبي "ما رأيـت حباً مثل حب تلك الام. وما شفت حنان مثل حنان تلك الأم. ملأت قلبي بالمحبة حتى صرت مثل نبع لا ينضب"..هذه العبارة على إيجازها حملت كل مضامين ورؤى الطيب صالح التي بشر بها : الأم والانتماء، الحب، الحنان والمحبة.







    بدأ الطيب يبني معمار هذه الشخصية منذ "الرجل القبرصي" التي يقول فيها : "جاء صديقي الطاهر "ود الرواسي" وجلس إلى جانبي على الكنبة أمام متجر سعيد كان متهلل الوجه نشطاً ممتلئاً عافية قلت له: "صحيح ليش ما كبرت أو عجزت مع أنك أكبر منهم كلهم؟". قال: "من وعيت على الدنيا وأنا متحرك ما أذكر أني وقفت من الحركة أشتغل مثل الحصان وإذا كان مافي شغل أخلق أي حاجة أشغل نفسي بيها. أنوم وقت ما أنوم بدري أو وخري، شرط أصحي على المؤذن أول ما يقول "الله أكبر الله أكبر" لصلاة الفجر".







    - لكنك لا تصلي؟. قال:"أتشهد وأستغفر بعد ما المؤذن يخلص الأذان، وقلبي يتطمن أن الدنيا ماشية زي ما كانت. آخذ غفوة مثل نص ساعة، العجيب غفوة ما بعد الأذان تساوي عندي نوم الليل كله. بعدها أصحي كأنه صحاني منبه".







    أقوال وحكم الطاهر ود الرواسي بشأن الدنيا وبشرها وعلاقاتهم الاقتصادية والاجتماعية تؤسس لمنظومة متكاملة من القيم الاخلاقية التي هي أكثر تعبيرا عن الكاتب بسماته وسلوكه المعروف...هذه الأقوال والحكم تمثل دليل الطيب صالح الذكي و"كاتلوجه" لبناء عالم من المحبة الواقعية القائمة على الإنسانية في أسمى معانيها.







    إذا كانت شخصية مصطفى سعيد قد بهرت الناس ببنائها المحكم فإن الطيب قد أجاد في تكوين خلفية وملامح وسمات الطاهر ود الرواس بالقدر والوجه الذي جعل الحكم والمقولات الصادرة عنه عنوانا لنمط سلوكي مختلف تماما وقد استطاع الطيب صالح ببنائه الدرامي الشامخ أن يهييء ود الرواس للعب دور الضمير الإنساني بصدق كبير وشفافية آسرة جميلة.



    الطاهر ود الرواس القابع في قرية في شمال السودان استطاع ان يؤسس لعلاقة إنسانية مختلفة عن السائد والمالوف ..علاقاته مع نفسه وزوجه وأصدقائه ومع من يحب من الناس ..مع الدنيا واحوالها... موقفه من السلطة ومن الدين ...هذه كلها علاقات قائمة على وحدة الرؤية لما نريد من أنفسنا ومن الدنيا ...عن طريق قناع الطاهر ود الرواسي مرر الطيب رؤاه ومواقفه الأخلاقية والإنسانية والسياسية...في الحالات التي أراد فيها الطيب تعزيز رؤاه استعان ببعض البرازخ والجسور في عمليات إكمال بناء وتصدير هذه الرؤى... هذه الجسور والبرازخ اتخذت شكل أقرب شخوص روايات الطيب إلى سيرته الذاتية ..الراوي في "موسم الهجرة إلى الشمال" ومحيميد في "ضو البيت" و"مريود" ...في مواقف أخرى استعان الطيب بشخوصه الأخرى للعب أدوار مساندة محددة لبطله الكبير الطاهر ود الرواس لمساعدته على تطوير الرؤى وإعلان المواقف.



    إن مهنة "الحواتي" كسبيل معاش للطاهر ود الرواس تم اختيارها بعناية كبيرة من قبل الطيب صالح..هذه ليست مهنة حرة فقط بل مهنة ذات حرية مطلقة ..مهنة تاريخية ..لا علاقة لها بعلاقات وعوامل ووسائل الإنتاج التقليدية وخاصة المرتبطة مباشرة بالأرض والتي تمثل القيمة الأساسية الحقيقية للإنسان في تلك المجتمعات ..يقول الطاهر عن عمله اليومي "أعمل الشاي واصحي فاطمة. هي تصلي صلاة الصبح.. نشرب الشاي. أنا أنزل أقابل الشمس فوق صفحة النيل وأقول لصباح الله حبابك ومرحبابك. أغيب ذي ما أغيب أرجع ألقى الفطور حاضر نقعد أنا وفاطمة وأي إنسان من عباد الله تجئ به لينا القسمة أكثر من خمسين سنة على هذي الحالة".





    الطاهر منبت قبليا..والده بلال روّاس مراكب القدرة ..بلال "العبد" كما يقول عن نفسه..."الحكاية مو الطاهر ود الرواس...الحكاية الجد حكاية الطاهر ود بلال ..ولد حواء ..العبد".. الطاهر واعٍ تماما بموقعه في منظومة التراتيب الإجتماعية ..يدرك تماما أين يقف من مجتمعه ذاك وماذا يريد منه... لقد تحرر من ربقة علاقات الانتاج السائدة في ذلك المجتمع :"ما دام الواحد ضامن عشا ليلته، عليك أمان الله ما يهمه حكمدار ولا سردار ..الكلام انت يا محيميد . ضيعت عمرك في التعليم ولفيت ورجعت لي ود حامد السجم دي بخفي حنين. كانك بقيت أفندي بالغلط ،من زمان وأنت نفسك في زراعة الرماد دي"...تحرر من علاقات الإنتاج كما تحرر أيضا من إحساس العبودية الذي قايضه –في إطار تصالحه مع ذاته ومحيطه- بالمحبة فربح ونال النعمة مزدوجة :"أنا المولى عز وجل أكرمني بالحيل ..انعم علي بدل النعمة نعمتين..أداني صداقة محجوب وحب فاطمة بت جبر الدار".







    إذا كان الطاهر سليل بلال "العبد" أقل شأنا بمكاييل أهل الدنيا المطففين فإن الطيب صالح قد جعل له الرجحان بموازيين أعدل وأكثر عرفانا..الحوار بين الشيخ نصر الله ود حبيب وبلال والد الطاهر في "مريود" يضيء الامر برمته: "يابلال، أنت عبد الله كما انا عبدالله نحن أخوة في شأن الله . أنا وأنت مثل ذرات الغبار في ملكوت الله عزوجل . ويوم لا يجزي والد عن ولده يمكن أنت كفتك ترجح كفتي في ميزان الحق جل جلاله . كفتي أنا أرجح من كفتك في موازين أهل الدنيا ولكن كفتك يا بلال سوف ترجح كفتي في ميزان العدل. أنا أجري جري الابل العطاش يا بلال لكي أحظى بقطرة من كأس الحضرة، وأنت شربت إلى أن أرتويت يا بلال.. أنت سمعت ورأيت، أنت عبرت وعديت، ولما ناداك الصوت قلت نعم، قلت نعم، قلت نعم".







    صفاء النفس والروح وخلوها من الغرض والمرض وهبت الطاهر تلك الرؤية الثاقبة والبصيرة النافذة التي ترى ما وراء الأشياء ... آراؤه في البشر وقدرية المصائر:"تعرفوا يا جماعة الدنيا دى ماشيه بالعكس انت يا محيمد كنت عاوز تبقى مزارع بقيت افندى ومحجوب كان عاوز يبقى افندى بقى مزارع"...مقولاته النابعة عن معرفة أخرى كانت مطية الطيب صالح وزاملته في رحلة مراجعة الذات ...وجود الطاهر ود الرواس كان محفزا للطيب صالح( مرتديا قناع محيميد) لمراجعة ما فات من زمان وما انطوت من سيرة ماضوية اتسمت بقلة الحيلة امام الخيارات الحياتية والمسارات المهنية...هل يا ترى كان المتكلم محيميد أم الطيب صالح في "ضو البيت"(الصفحة 83):"وبعد داك كل شيء مشى بالعكس، الإنسان لازم يقول لا من أول مرة ...كنت فرحان في ود حامد..أزرع بالنهار وأغنى للبنات بالليل..أشرك للطير وأبلبط في النيل زي القرنتي..القلب فاضي وراضي.. بقيت أفندي لان جدي أراد, ووقتين بقيت أفندي كنت عاوز أبقى حكيم، بقيت معلم، وفي التعليم قلت ليهم: اشتغل في مروي قالوا: تشتغل في الخرطوم. وفي الخرطوم قلت لهم ادرس الأولاد قالوا تدرس البنات. وفي مدرسة البنات قلت ليهم ادرس تاريخ، قالو تدرس جغرافيا، وفي الجغرافيا قلت ليهم ادرس أفريقيا، قالوا تدرس أوروبا وهلمجرا".







    هذه لوحة سيريالية أكثر وأدق تعبيرا عن واقعية مسارات أجيال كاملة من اهل السودان...حين أطالع هذه اللوحة اتذكر شيخنا ابراهام ماسلو وأركان المدرسة السلوكية في علوم الإدارة... هذه سيرة تخرج لسانها طويلا هازئة بنظريات وقواعد واسس تؤكد على إختيارات المسارات المهنية والرضا الوظيفي وسلم الحاجات الإنسانية...أطالع حديث محيميد فترتد إلىّ حسيرة اجتهادات فريدريك هرزبرج حول نظرية العاملين وأوليات هاكمان واولدمان بشأن نظرية سمات الوظيفة...ومن على البعد يترنح سلم شيخنا ماسلو ... على يد الطاهر ود الرواس تعلمنا، يتقدمنا محيميد والطيب صالح، أن سبل كسب العيش في السودان تخضع لكل شيء إلا ما خططنا له.







    من إشراقات حوارات الطاهر ود الرواس التي تستوقف القاريء تلك المتعلقة بالسلطة مصدرا واستغلالاً وتلك المتعلقة بممارسات السلطة الوطنية ومقارنتها بممارسات الإدارة البريطانية ..كل تلك الآراء الخطيرة عمل الطيب صالح على تمريرها بمهارة شديدة من خلال الديالوج البديع بين ود الرواس ومحيميد العائد إلى المنبع في ود حامد بعد ان نال معاشه:"وشن قالولك يا محيميد؟ قالوا الحكام ألاد البلد صعبين اجارك الله. زمان الإنجليزي كان ينهرك ويقول لك أتلا باره (أطلع بره)..هسع قالوا أولاد البلد يضربو بالشلوت"!.







    لم يكتف الطيب بسوء استغلال السلطة بل عمد إلى إكمال رسم صورة الممارسات اللامسئولة من قبل السلطة الوطنية في تقسيم غنائم السلطة حيث أورد الطيب على لسان الطاهر ود الرواس رؤاه الثاقبة التي تلخص عبث أهل السياسة بالسلطة في سودان ما بعد الإستقلال حتى اليوم ..حين استفسر محيميد (المتعلم والموظف الكبير المحال للمعاش) عن إمكانية إيجاد وزارة للطريفي ود بكري قائلا:"من وين يجيبوا ليه وزارة البلد ما فضل فيها جنس وزارة؟؟" كان رد الطاهر ( وقد ارتدى قناع الطيب صالح) :"ما بيغلبوا حيلة يعملوه وزير الجمعيات الخيرية أو وزير الإجزخانات او وزير الوابورات اى شئ من جنس اللغاويص البنسمع بيها".







    لم يكتف الطيب صالح (على لسان بطله ود الرواس) بالسخرية من عبث السياسيين بالسلطة بل ذهب أبعد ليسبر غور معايير وأسس التعيينات السلطوية ...قال محجوب:"الطريفى ولد بكرى الجمعية التعاونية ما هو قادر عليها عاوز تعمله وزير؟"...كان رد الطاهر باهرا وقاطعاً:" إنت تفتكر الحكاية بالكفاءة الموضوع كله اونطة فى اونطة المهم تبقى فصيح لسان وقليل احسان بس كتر من يحيا ويعيش شوف الحزب القوى أدخل فيه شئ خطب وشئ عوازيم وشئ براطيل شويتين شويتين تلقى نفسك بقيت نائب فى البرلمان وبعد داك ارقد قفا"...مأساة السلطة في السودان منذ استقلاله وحتى يوم الناس هذا ونحن نسود هذه الصفحات أوجزها الطاهر ود الرواس في عبارته البليغة الدالة.







    بعد ان شرح كيفية الوصول للسلطة استمر الطاهر في إضاءة كيفية تعامل المسؤولين معها...قال له محيميد :"واذا كان ما دخلت البرلمان ما عملوك وزير تعمل شنو؟ قال ود الرواسى:"إذا ما عملونى وزير جملة الايمان اعمل فيهم انقلاب... قال محيميد:"وبعدين؟".. قال الطاهر:"وبعدين كمان شنو ..أرقد قفا اى حاجة عاوزها اضرب الجرس.. ادخل يا فلان وامرق يا علان.. فلان عينتك حكمدار فلان سويتك باشمفتش ..فلان حكايتك بايظة معاى دخلتك السجن.. فلان ما تورينى خلقتك، فلان حبابك عشرة ..وقتين امرق بالعربية الشفرولية وسط البلد الناس تهتف: يعيش ود الرواس يحيا الطاهر ود الرواس خلاص بقيت حاكم عام".







    الطيب صالح بعبقريته المسرحية قال على لسان الطاهر ود الرواس الكثير من وجهات نظره بشأن الشعارات السياسية ..سخريته تبلغ أوجها في حوار شديد الذكاء بين الطاهر وحاج سعيد (القانوني):"قلت لى يا حاج سعيد انت ياحاج العمال والفلاحين ديل بلدهم وين؟ قال لى:"يا مغفل العمال والفلاحين مو ياهن نحن"..أنا اخوك هسع نحنا اسمنا العمال والفلاحين؟.. قال لى:"ايوه"..."اها وزيادة الانتاج يعنى شنو؟".. قال لى:"الانتاج مو ياهو السجم البنسوى فيه ده وزيادة الانتاج يعنى تخت السجم فوق الرماد"...هذا مسرح كوميدي ساخر لخص رؤية قطاعات كبيرة من الناس بشان الشعارات الساسية الضخمة التي تقول كثيرا ولا تنجز شيئاً.





    ولعل أقرب مقولات ود الرواس ورؤاه التي اقترب بها كثيرا من الطيب صالح هي تلك المتصلة بالعودة للجذور..حوار ود الرواس مع محيميد العائد للإستقرار في ود حامد بعد رحلة العلم والعمل بعيدا عنها ربما تعبر بصورة أقرب لأشواق الطيب وحنينه الدائم للإستقرار في السودان...نعم محيميد لم يغادر السودان كالطيب ولكن قضية الغربة والابتعاد عن المنبع واحدة بكل حسابات أرباحها وخسائرها...ما ردده ود الرواس في مقام العائدين للأصول والجذور (الراوي في "موسم الهجرة إلى الشمال" ومحيميد في "ضو البيت") تمثل محاولات الطيب لبناء وتمديد الجسور بين المرتع والمنبع... عبر هذا الحوار استطاع الطيب توظيف تلقائية وبساطة ود الرواس لردم الهوة بين الشفيرين.. حديث ود الرواس المتسم بالمباشرة يكشف الغطاء عن ذرائع الطيب لسد باب التناقض بين المحلي والعالمي ..بين موقع القدم ومحط الآمال .. مناداة الطاهر ود الرواس لمحيميد الراغب في العودة للجذور ضربت على وتر استعادة الزمان لإعمار المكان..."أنت يا محيميد أما شاعر أو مجنون"..محيميد كان الصنو المحلي لمصطفي سعيد ..كان رمزا للهجرة الداخلية جنوبا..كان يحكي لود الرواس مسببات العودة للجذور: "وقتين طفح الكيل، مشيت لاصحاب الشأن قلت ليهم خلاص. مش عاوز.. رافض.. ادوني حقوقي عاوز اروح لي اهلي، دار جدي وابوي.. ازرع واحرث زي بقية خلق الله، اشرب الموية من القلة وآكل الكسرة بالويكة الخضرا من الجروف، وارقد على قفاي بالليل في حوش الديوان.. أعاين السما فوق صافية زي العجب والقمر يلهلج زي صحن الفضة".. محيميد يريد العودة للماضي لأوقات ولت ولن تعود "عاوز اعود للماضي ايام كان الناس ناس، والزمان زمان"...هل كان الطيب يكتب عن امانيه التي لم تغادره ... رد الطاهر ود الرواسي كان موجعا ليس لمحيميد ولكن لكل من غادر موطنه وقايض شبابه وعمره بأوطار وأماني ...فلما قضى وطره وحقق مطلوبه (أو لم يقضه ولم يحققها) وأزفت المواعيد نشد الجذور على هواه ...يريدها في انتظاره على وعدها القديم وأمكنتها التي درست وأزمنتها التي ولت:







    "انت يا محيميد اما شاعر أو مجنون او خرف الشيخوخة، لكن اهلاً بيك ومرحباً. ودحامد مسجمة ومرمدة. في الصيف حرها ما بينقعد، وفي الشتا بردها اجارك الله، النمتي وقت لقوح التمر، والضبان وقت طلوع المريق، فيها الدبايب والعقارب ومرض الملاريا والدسنتاريا، حياتها كد ونكد، ومشاكلها قدر سبيب الرأس، اسألنا نحن خابرنها زين .. الولادة بي كواريك، والموت بي كواريك، جنابك قضيت حياتك كلها منجعص في مكتب تحت المروحة، الموية بالحنفية والنور بالكهرباء والسفر درجة أولى....هلا ..هلا ! ما وقفت قَرَّاع عز الشتا، ما ركبت الحمير لامن جعباتك ورسن ...ما قعدت تعاين للتمر لا من ينجض.. يا الله السلامة، تصب عليه مطره واللا تحته هبوب، ما حرست القمح وايدك فوق قلبك يصيبه طير واللا دانقيل، وهسع وقت الصعيد جاب الهبوب مقلوبة، جيت تكوس رقدة الديوان تعاين للقمر يلالي في سابع سما، مرحبتين حباك وألف أهلاً وسهلاً".







    رسالة الطاهر ود الرواس ليست رسالة مخصوصة لمحيميد بل هي رسالة لكل منا ..لكل من اقتنص فرصة في زمن ما واختار الغربة ...عند منحنى العمر نقبض على مكامن الوجع ..نريد إرجاع الزمان والعودة لأزمنة وأمكنة وعلاقات اندثرت وطوتها تراكمات السنين ... نجاهد لنستعيد ومض بروق لمعت في سالف الأوان وترجيع رنين ضحكات جلجلت في خالي الاوان..أقاصيص واحلام طواها الزمان كما يطوي ملاح مرهق اشرعته في نهاية الرحلة... نتأمل وصايا مصطفى سعيد للراوي بشأن مستقبل ابنيه بعد تجربته المريرة في الاغتراب المهلك "أن تجنبهما ما استطعت مشقة السفر" ...قضي الأمر مستر سعيد ...ورحم الله سيدنا الشريف الرضي وهو يردد من "وَلَقَدْ مَرَرْتُ عَلى دِيَارِهِمُ":







    وَلَقَدْ مَرَرْتُ عَلى دِيَارِهِمُ وطلولها بيد البلى نهب

    فوقفت حتى ضج من لغب نضوي ولج بعذلي الركب

    وَتَلَفّتَتْ عَيني، فَمُذْ خَفِيَتْ عنها الطلول تلفت القلب



    غفر الله لنا ورحم الله الطيب وسيدي الشريف وآله والعترة الشريفة الطاهرة.



    انتهى بحمد الله الجز الثاني ويليه الجزء الثالث: "الياقوت في فصوص منظومة "ضو البيت": المتنبيء واللورد بتلر يترنمان مع التاج مصطفى في حضرة حاج الماحي والحاردلو وود
                  

11-23-2010, 07:57 AM

محمد عبدالرحمن محمد
<aمحمد عبدالرحمن محمد
تاريخ التسجيل: 10-13-2010
مجموع المشاركات: 1556

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: روّاس مراكب القدرة ضو البيت: وداعا أيها الزين!! طارق جبرين وزيادة حمور علينا جاى! (Re: jini)

    Quote: هذا الجزء هو خاتمة أخوانه ومتمم العمل

    العزيز جني؛
    ياخي تابعت جزءين في <سودانايل> وما لميت في الباقي،
    وهسع انت جايبلنا الأخير فيهن!
    كدي استهدى بالله، وقبل ما يجوك ناس حمور وودجبرين*،
    شوفلنا الخمسه الأولانيات ينوبك ثواب!
    ___________
    * واحد مشغول مع خالو والتاني انبقى في [شبا] ما ظنيتو يفتحلو نِتْ!

    مشكور مقدماً..
                  

11-23-2010, 08:20 AM

jini
<ajini
تاريخ التسجيل: 02-05-2002
مجموع المشاركات: 30720

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: روّاس مراكب القدرة ضو البيت: وداعا أيها الزين!! طارق جبرين وزيادة حمور علينا جاى! (Re: محمد عبدالرحمن محمد)

    Quote:


    الجزء الثالث



    دبي :يونيو 2009



    المدارج والعتبات:



    رواس مراكب القدرة:



    يقول الطاهر ود الروّاس إن الاسم الوحيد الذي ورثه عن أبيه كان لقبا لم يناده به إلا الكاشف ود رحمة الله، كان ود رحمة الله يقول إن بلال روّاس ويسألونه روّاس ماذا؟ فيجيب:"بلال روّاس مراكب القدرة". ويقسم أنه رآه عدة مرات بين العشاء والفجر وهو قائم وحده في مركب ينقل قوما غريبي الهيئة إلى الشاطئ الآخر. ويقول الطاهر إن أباه حين مات أخذ أسماءه جميعًا معه. كأنه كان بالفعل روحًا مفردًا ليس من أرواح هذا الزمان ولا هذه الأرض

    (مريود : طبعة دار العودة: الصفحة 48)



    العشق:



    "وملْ إلي البان من شرقّي كاظمة فلي إلى البان من شرقيِّها أربُ


    وكلما لاح معنى من جمالهم لباه شوقٌ إلى معناه منتسبُ


    أظلُّ دهري ولي من حبهم طربٌ ومن أليم إشتياقي نحوهم حَرَبُ""



    (إبن الخيمي)




    المحبة :



    "الإنسان يا محيميد ... الحياة يا محيميد ما فيها غير حاجتين اتنين... الصداقة والمحبة. ما تقولي حسب ونسب، لا جاه ولا مال.. ابن آدم إذا كان ترك الدنيا وعنده ثقة إنسان واحد.. يكون كسبان".



    (الطاهر ود الرواس : مريود الصفحة 432، الأعمال الكاملة ، طبعة دار العودة)



    الإنتماء:



    "السَمكةُ،



    حتَّى وهي في شباكِ الصيادين



    تَظلُ تحملُ



    رائِحة البَحر"



    (مريد البرغوثي: رأيت رام الله، الصفحة 181)



    إهداء وعزاء خاص:



    إلى أستاذيَّ وشيخيَّ:



    إبراهيم حسن عبد الجليل ومهدي أمين التوم



    في رحيل الطيب صالح خسارة كبيرة لقيم إنسانية رفيعة، موروثة ومكتسبة، تربيا وعاشا عليها وكانا، وما زالا، مهمومين بإشاعتها وترسيخها في وجدان وسلوكيات من أحبوهم:



    الأطر والضوابط الأخلاقية غير المساومة نبراسها



    والتعفف ممزوجاً بالتواضع الحقيقي رمانة ميزانها



    وزجر النفس ولجمها عن وعند الهوى صمام أمانها



    وإلى روح أخينا وأستاذنا العميد حقوقي "م" عبد المنعم حسين عبد الله:



    آمن بما رأى أنه الحق فكان عقله وقلبه حيث آمن..



    ثبت على عمله والتزم الجماعة..



    كما الطيب ...كان إنسانا نادرا على طريقته..



    اتخذ من المحبة "جلابية" ومن النقاء والبراءة "عِمة" و"شال"...



    دارتاه بحي النسيم بمدينة الرياض السعودية وبحلفاية الملوك بالخرطوم البحرية كانتا واحة إنسانية وقبلة وطنية...



    رحل موفور الإباء ليختال بإذن ربه زاهياً في بساتين البهاء..



    رحمة الله تغشاك يا أبا محمد



    "الياقوت في فصوص منظومة "ضو البيت": المتنبيء واللورد بتلر يترنمان مع التاج مصطفى في حضرة حاج الماحي والحاردلو وود الرضي"



    "حسن ود بليل الركابي مسكنه دنقلا العفاض، أخذ من حبيب نسي وكان مجذوباَ غرقان إذا قامت عليه الحالة يغطس في البحر أياماً وأصبح ماء البحر يوماَ في دنقلا دافياً فسيل (فسُئل) عن ذلك الشيخ عووضة شَّكَال القارِح فقال ود بليل قامت عليه الحالة فغطس في البحر فأصبح دافياً وأيضاً هو قد مشى على البحر كالأرض وقال يا حي "يا كيوم" بالكاف من العجمة وحواره معه نطق بالقاف فغرق في الماء فقال له :قل مثلي فقال مثله فمشى في الماء".



    (الشيخ محمد ضيف الله بن محمد: كتاب الطبقات، ترجمة الشيخ حسن ود بليل الركابي)



    "ويترفع صوت كرومة بكل ما يحمل من نبرات ساحرة (بحة) ..آسرة:



    يا لِيلْ ...صَار ليك مُعاهِد



    طرفي اللى منامو زاهد



    يا ليلْ!



    دنا ليَّ سهرك..وأشاهد



    فوق لي نجمك ظنوني



    يا ليلْ"



    ويهتز الشيخ..ويرتفع صوته في صيحة من تملكته نشوة الليل...ليل الصوفي العابد ...صاح: الله! ..ويسمع كل من في الحجرة صيحة الشيخ ...الله!...وقد انكفأ على "التَبَروقةْ" مغشياً عليه."



    (أستاذ الأجيال حسن نجيلة يصور اللقاء بين سيدي الشيخ قريب الله والفنان العبقري كرومة: ملامح من المجتمع السوداني، الجزء الثاني، الصفحة 162)



    الموسوعيون: بانوراما الفنان الشامل



    " فقط هؤلاء الموسوعيون من النخبة يمكنهم تفسير واكتشاف الحقيقة وراء المعلومات المتجمعة

    (الفيلسوف والمحارب والبطل القومي الصيني سو تسو: 490 قبل الميلاد)



    "كان تيجاني الماحي موسوعى النزعة.. ألمَّ من كل علم بطرف .. إلى جانب اللغات الحية التي أجاد أغلبها دَرَس لشامبليون فعرف أسرار حجر رشيد .. فك رموز الهيروغليفية فعلم "كلام الطير" .. ألمَّ بشيء من السومرية فقرأ مسلة حمورابي .. كان دارسًا متمكناً للأدب العربي وللشعر العربي ..يروى عيون الشعر طارفه وتليده .... يحدث الناس عن "اليتيمة" .. يحدثهم عن خطب الحجاج وسحبان وائل وزياد بن أبيه .... كان يحدثهم عن السحر عند الفراعنة وعن الشمس وعلاقاتها بأهل النيل .. يحدثهم عن أصول ومنشأ الحلي السودانية .. ويحدثهم عن شخصية هتلر وأتاتورك وأثر الأمراض النفسية في الشخصيات التاريخية .. إلى جانب كل ذلك كان تيجاني الماحي مهتما بالمحفوظات والحاجيات ذات القيم التاريخية واللوحات الفنية .. كان عازفاً على العود والكمان وأفاد منها في دراساته عن الأنغام وصلاتها بالمرض النفسي والعصبي"



    ("الشيخ الرئيس تيجاني الماحي": من كتابنا: رَحِيل النَّوار خِلسة: دار عزة للطباعة والنشر،2003)



    "رحم الله الشيخ الطيب السراج .فقد كان يعمد إلى أرصن ما يقدر عليه من الأساليب ويوشعه بالمحسنات التي إنما يستطيعها المتمكن من لغة الضاد نحو قوله :



    ماذا تنوط بثوبي أيها الشاني ليس الذي نطت يا لاشيء بالشاني



    ومع هذا كان ينظم بالعامية ويحرص على أن يكون رصيناً فيها ثم قد يزين ذلك بمحسنات بديعية، وسمعت منه كلمة قافيتها "عارضة" وذكر فيها الشلخ الذي فوق "المطارق عارضة".



    وأحسب إن له هذه الكلمة التي أولها:



    جدي العُزاز الرقَبَة َقَزاز يا عُزاز انا نومي خَزَاز"



    (العَّلامة عبد الله الطيب المجذوب يثمن اجتهادات الشيخ الموسوعي الطيب السرَّاج: من كتابنا :حواش على متون الإبداع، تحت الطبع)



    في كلمة منصفة جزلة تنضح بالعرفان أسماها "محمود العالم: رائد موسوعي لم يمل" كتب الأستاذ هاني نسيرة:"لم يكن الأستاذ محمود العالم الذي رحل عن عالمنا يوم السبت الماضي مفكراً ورائدا فلسفيا ونقديا من طراز خاص فقط، ولكن كان كذلك إنسانا فريدا في إنسانيته وتواضعه، في سمته وشخصيته، كان وراء اكتشاف الكثيرين وإنصاف الكثيرين ليس أولهم نجيب محفوظ وصلاح عبد الصبور كما لا يعرف آخرهم...كان يتابع كل شئ، لا يجد الحرج، وهو من كانت معركته مع طه حسين والعقاد وزكي نجيب محمود وعبد الرحمن بدوي وغيرهم مسطورة ومحفوظة في كتب التأريخ الأدبي والفكري دائما، أن يتابع كل جديد وأن يقرأ كل مستجد، فأتت قراءاته لمشاريع الجابري وحسن حنفي والطيب تيزيني ونصر حامد أبو زيد كما قرأ مشاريع سمير أمين وأنور عبد الملك وقسطنطين زريق وعبد الوهاب المسيري وحسين مروة وغيرهم.. اهتم بالجميع من أجل الجميع دون استعلاء أو إقصاء!"(أ.هـ)...محمود أمين العالم أحد أهم الموسوعيين من المثقفين العرب المعاصرين..هذه الفئة النادرة ظلت أعدادها تتناقص باستمرار في خضم التنامي المتواتر في ولوج عالم التخصصات الدقيقة والرغبة العارمة في جني فوائد هكذا تخصص..التخصص الضيق للعلماء أودى بهم إلى غيابات وكهوف الإنكفاء العلمي وأدى إلى تمزق اواصر وجسور التواصل بين حقول المعرفة الإنسانية.



    كمحمود أمين العالم كان الطيب صالح موسوعيا ضمن مجموعة متفردة من العلماء السودانيين الموسوعيين..في كتابنا الموسوم "حواشِ على متون الإبداع"، أوقفنا فصلا للموسوعيين من أهل السودان بعنوان:"فصل في محاسن أهل العصر: كلية غردون وموسوعية العلم" اشرنا فيه إلى أن "الثقافة الموسوعية، كانت، بتباين طبيعى متوقع في نوعها ودرجتها، سمة أجيال كاملة..والثقافة الموسوعية، في نهاية الأمر، هى نتاج استعداد فطرى وعادات مكتسبة، ومناخ عام داعم للاجتهاد والاستعداد الفردى". في ذاك الفصل عرضنا لإضافات ومواهب موسوعيين من طبقة "الشيخ الرئيس" تيجاني الماحي الذي اقترب من حقول المعرفة "فاقتطف من كل بستان زهرة وأنشأ مجمرة علمية فيها من كل وقد جمرة" كما تلمسنا جوانب من إضافات أعجوبة زمانه الفلكى المتقدم الريح العيدروس والعالم البحر اللجى الطيب السراج والقانونى الضليع محمد احمد أبو رنات، والنطاسى البارع الموسيقى محمد أدهم والفيلسوف الصوفي شهيد الفكر الأستاذ محمود محمد طه.



    الطيب صالح قطعاً واحد من هؤلاء الرجال الأفذاذ .. في مراجعته لمختارات الطيب صالح التي صدرت في تسعة أجزاء عن دار رياض الريس للكتب والنشر، علق الكاتب أحمد بابانا العلوي بأن "كل جزء منها يضم باقة من الأدب الرفيع مقالات، وأحاديث، وخواطر تحيط بأهم القضايا كما تقدم للقارئ ألواناً من الفكر الراقي، والرؤى العميقة والصور الفنية الجميلة … والخلاصة أننا أمام حديقة غناء، تحتوي على أفضل ثمرات الفكر التي تغذي العقول وتنعش الذهنيات، وتشحذ المدارك، وتفتح البصر على الآفاق، ما يعطينا القدرة على فهم وإدراك جوهر المعاني، وحقائق العالم من حولنا".. حديث العلوي أوجز لب قضية المختارات التي كشفت الغطاء عن موسوعية الطيب صالح وكونية ثقافته العالية الراقية.



    مراجعة العلوي توقفت عندها لأنها تجاوزت المألوف في مراجعات الكتب والتي تكتفي منها بنظرة عين الطائر خطفاً وتعليقاً.. أما هذا الألمعي فقد تمهل عندها ونظر في الدلالات الكبيرة لهذه المختارات ولعل أبرز ملاحظاته تتلخص في أنه ربطها برسالة الكاتب الرشيد والتي يرى انها "تكمن أساساً في الرقي الحضاري بتقويم الذهنيات وصقل العقول، وتحرير الإرادات، والكشف عن مواطن القصور من أجل تحفيز الهمم وذلك بإلغاء المثبطات التي تمنع تطور المجتمعات وتعوق مساهماتها في تطور الحضارة الإنسانية".



    يمضي العلوي ليصف مختارات الطيب صالح بأنها "شهادة الأديب على عصره بأسلوب الأدب الراقي والفن الجميل، والأخلاق العالية التي تميز أهل السودان والصفوة منهم خاصة، وهي دليل بلا شك على عراقة مجتمعهم وعمق تدينهم وعلو هاماتهم ..شمائل وفضائل غرستها البيئة في نفس الأديب الكبير فكانت زاداً له وهو يجوب الآفاق ويحتك بضروب من الحضارات والثقافات".



    في ذات المنحى ذهبت كلمة الأستاذ محمود صالح عثمان صالح في تقديمه لهذه المختارات حيث وصف الطيب صالح بأنه:" كاتب "شامل"، مكنته ثقافته العميقة والمتنوعة واطلاعه الواسع باللغتين العربية والانجليزية على علوم اللغة، والفقه، والفلسفة، والسياسة، وعلم النفس، وعلم الأجناس، والأدب، والشعر، والمسرح، والإعلام، أن يروي، ويحكي، ويخبر، ويوصف، ويحلل، ويقارن، وينقد، ويترجم بأسلوب سهل عذب ينفذ الى الوجدان والفكر كما تشهد هذه المجموعة من "مختارات من الطيب صالح".



    العلوي ومحمود لم يبالغا في وصف الطيب بشمولية العلم وموسوعية المعرفة ..ولعل الجزء الثاني من هذه المختارات والموسوم "المضيئون كالنجوم: من أعلام العرب والفرنجة" هو الدليل الأوضح على صحة، ودقة، وصفهما..هذا العمل المتميز يتألف من قسمين. أولهما "من أعلام العرب" يستعرض سيراً عطرة لسيدنا عمر الفاروق وابنه الصحابي الجليل عبدالله بن عمر كما يطوف بنا في " فيوض العارفين"..في هذا القسم تتبدى عمق ثقافة الطيب الإسلامية ورؤيته للقيم السلوكية الإنسانية الراقية التي أرساها الخليفة الفاروق وابنه عبد الله وحفيده وسميه عمر بن عبد العزيز..أما فيوض العارفين فهذه مسألة أخرى..تطواف الطيب على إشراقات الإئمة والصالحين وكبار أهل العرفان من شيوخ الصوفية متعة عميقة للنفس وغذاء طيب للروح..السمة الغالبة لاهتمام الطيب بهذا الرهط الكريم من الصحابة وأهل العرفان يتلخص في موقفهم من قضايا إنسانية مركزية كالعدل والشورى والمحبة والوسطية والتوافق مع الذات والآخر.



    أما القسم الثاني الذي أوقفه الطيب لأعلام الفرنجة فقد اشتمل على تسعة فصول تناولت سير وإضافات بعض أبرز رجال السياسة كاللورد بتلر (راب بتلر) والأدباء كالإنجليزي ساميول بيبز والفرنسي مارسيل بروست. من جانب ثالث عرض الطيب لبعض أبرز إضافات المورخين من البريطانيين (واي. ج. تيلور، وريتشارد كمب) والفرنسيين (فيرناند برودل) ولم ينس الصحفيين (مايكل آدمز) كما كرَّس فصلين لاستعراض بعض مفاهيم وأطروحات فلاسفة اجتماعيين من طبقة الفرنسيَّين الذين طبقت شهرتهما الآفاق رولان بارت وميشيل فوكو.



    عند استعراضه لإضافات هؤلاء العمالقة لم ترهبه هالات العلم والشهرة..لم تأخذه الرعدة التي غشت أجيال كاملة من المثقفين العرب عند تعاملهم مع تيارات الفلسفة والنقد الغربية التي استجدت في مرحلة ما بعد الحرب الكونية الثانية وتداعيات الحرب الباردة من بنيوية وتفكيكية وحداثة وما بعدها... إضافات رولان بارت وميشيل فوكو ونعوم شومسكي تعامل معها الطيب إطلاعاً ونقداً تعامل كل فاعل واعٍ مدركٍ في الحراك الثقافي الكوني... قرأ اعمالهم قراءة نقدية ناجزة مثمناً ما رأى أنه يستحق وناقدا بل ساخراً من إضافات بعض هذه الرموز العصية ولعل أبرز مواقفه كانت عند تناوله إضافات الفيلسوف الفرنسي رولان بارت الذي كان حتى وفاته عام 1980 ماليء الدنيا وشاغل الناس في دنيوات النقد والتنظير الاجتماعي وكانت إضافاته بالغة الأثر حيث تركت آثاراً بعيدة في تطور مدارس البنيوية والماركسية وما بعد البنيوية والوجودية، بالإضافة إلى تأثيره في تطور علم الدلالة....رجل بهذه الضخامة لم يجد الطيب حرجا في وصف منهجه بأنه "لغو مملوء بالمغالطات والعجرفة"..وأن بارت"رجل يتيه بعلمه، وهو فيما يتعلق بنا على أي حال، علم لا فائدة منه ولا خير فيه"...الخبر هنا ليس في رأي الطيب فرأيه كرأي غيره من المثقفين، يؤخذ منه ويرد عليه، ولكن الخبر في الإطلاع الناقد لمثقف عربي وتبنيه لموقف مدرك من رؤية كبار المفكرين من قضايا الادب والإبداع عموماً.



    في هذا الجزء نلقى الضوء على بعض الإهتمامات الموسوعية للطيب صالح ..نتنزه معه قليلاً في بساتين المعرفة وحقول العلوم والثقافة الإنسانية ..كغيره من الموسوعيين، طاف الطيب على كثير من فروع المعرفة الإنسانية وفنونها وآدابها ...توقف عند بعضها محباً وعند بعضها عاشقاً وعند البعض الآخر معجباً ...وما بين الحب والعشق والإعجاب تسربت و"تشرنقت" وشائج المعرفة التي كتب عنها الطيب أو أشار إليها أو تلمسها من قرأوا له أو استمعوا له.



    من بين هؤلاء تخيرنا شخوصاً واعمالاً لبعض من أحبهم الطيب او أحب أعمالهم وكتب عنهم كأبي الطيب المتنبيء واللورد بتلر والحاردلو وحاج الماحي ومحمد ود الرضي ..إلى جانب هؤلاء اضفنا فناناً غردا جميلاً هو التاج مصطفى..إضافة التاج من جانبنا، أملتها في تقديرنا، إلى جانب القدرات الإبداعية المتميزة ولا شك، ثلاث مسائل...أولها التماثل الكبير بين التاج والطيب في السمات الشخصية من حيث الوقار والرزانة ...الثانية الإشتراك في منظومة قيم تقوم على السلوك الصوفي بما فيه من تواضع ووفاء..ثالثة المسائل تركز على الأصالة التي تتبدى في التعتق مع الأيام ومنجمية المنتوج الإبداعي من حيث إمكاناته الهائلة لإعادة الاكتشاف من قبل الأجيال اللاحقة ...كلاهما بقى (وسيبقى بإذن الله) رمزاً خالداً في الذاكرة السودانية ..سيبقى الطيب ما بقيت "موسم الهجرة إلى الشمال" وأخواتها وسيبقى التاج ما بقيت "الملهمة" وأخواتها.



    مجلس الطيب: التقاء الشرق والغرب رغم أنف كبلنج :



    "الشرق شرق والغرب غرب وهيهات ان يلتقيا" مقولة روديارد كبلنج (1865-1936)،شاعر الإمبراطورية البريطانية العظمى ظلت في بؤرة التجاذب السياسي للدلالة على استحالة الالتقاء بين الحضارات الشرقية والغربية ..قائلها لم يعرف كعسكري محارب بل كشاعر وشاعر كبير ضخم وروائى إنجليزي عالي القيمة ...حقيقة الأمر أنه كان أول كاتب إنجليزي يفوز بجائزة نوبل في الآداب عام 1907 عن أعماله التي شملت "أناشيد متنوعة" (1886) و"النور الذي خبا" (1890)...هذا الأديب الذي يؤمن بإنفصال العالمين الشرقي والغربي لم يولد في بلد أجداده حيث الإمبراطورية التي لا تغيب شمسها بل هو من مواليد أرض طاغور المغني ...مولود بالهند مهد الحضارات القديمة .. شعار كبلنج عاش أزمانا وخرج على الناس بعباءات مختلفة ليس آخرها مقولات هانتغتون بشأن "صدام الحضارات" كحتمية تاريخية لا يمكن تحاشيها إلا بالذي ليس منه بد منتصر ومهزوم.. في مثل هذه الأطر كان الزج ب"موسم الهجرة إلى الشمال" كمحاولة لبحث إشكالية الذات والآخر ..الشمال والجنوب ..الشرق والغرب..كبلنج والطيب صالح.



    في ظل خلفية كهذه يكتسب مجلس الطيب أهمية خاصة ..ليس لانه يطرح فكرا بديلا ..لا ..لا.. ولكن فقط لأنه يحاول التعامل مع العطاء والإبداع الإنسانيين من منظور أشمل وأرحب وأجمل.



    مجلس الطيب هذا مجلس افتراضي يقوم على ما دونه من كلمات إعجاب ببعض اعمال المبدعين من الشرق والغرب.



    ضيفا الطيب ليسا من الضيوف العاديين ..ضيفان سامقان أمسكا بتلابيب المجد كل في ميدانه ... شاعر العربية الكبير بل سيد شعراء العربية أبو الطيب المتنبي ممثلاً للشرق يرافقه سياسي مخضرم هو اللورد بتلر ممثلاَ للغرب... بين يدي الضيفين الكبيرين يقدم الطيب شهوده على قيم الإبداع السوداني ...النقطة المركزية هنا تتمحور حول الإمكانات التعبيرية الهائلة لهذا الإبداع ووصلها بالفعل الإبداعي الإنساني...يتخير الطيب الشعر ديوان العرب وإيوانه المقيم للدلالة على قيمة هذا الإبداع متخيراً ثلاث مدارس شعرية سودانية عريقة ..مدرسة شعر البادية السودانية ممثلة في أمير هذا الضرب من الشعر وسيده، وارث صولة دولة الشكرية من مقعدها في "بطانة أب علي" الشاعر الكبير الحاردلو ..المدرسة الثانية هي مدرسة الشعر الغنائي المديني المتصل بالموروث السوداني عبر شيخها ومجددها محمد ود الرضي ..المدرسة الثالثة مدرسة يكن لها الطيب محبة استثنائية وهي مدرسة القصيد النبوي والإنشاد الديني وقد تخير لها الطيب سيدي حاج الماحي مادح المصطفى الأشهر...يستريح الضيفان والشهود على غناء أحد اهم اعمدة الغناء السوداني ومجدديه الصيدح الغريد التاج مصطفى ...ولأغراض الترجمة الفورية، ولا يحتاجها المجلس كثيراً في وجود الطيب، يستضيف مجلس الطيب دينيس جونز ديفز عقيد "التراجمة" في مجلس لو أراد المتنبي وصفه لأعاد كلمته القديمة الراسخة في وصف "شِعب بوَّان":



    ملاعب جِنة لو سار فيها سليمانٌ لسارَ بترجمانِ



    الطيب صالح وشعر المتنبي: إدمانٌ طبه في المزيد منه



    "بلى، مدح المتنبي كافوراً الأخشيدي، لا مراء في ذلك، ثم هجاه فيما بعد، فما كان صادقاً في مدحه، ولا كان صادقاً في هجائه. ولكنه كان صادقاً في شعره في الحالتين، فهذا "شاعر فنّان" وجد مادة فصنع منها "فنَّاً " أحياناً يزيد وأحيانا ينقص وقد ذهب المتنبي وذهب سيف الدولة وذهب كافور. ولم يبق إلا الشعر".



    (الطيب صالح: المختارات، الجزء الخامس: في صحبة المتنبي ورفاقه: الصفحة 83)



    "(المتنبي) ..ظن نفسه حراً ولم يكن إلا عبداً للمال، وظن نفسه أبيَّاً ولم يكن إلا ذليلاً للسلطان، وظن نفسه صاحب رأي ومذهب ولم يكن إلا صاحب تهالك على المنافع العاجلة التي كان يتهالك عليها أيسر الناس أمراً وأهونهم شأناً".



    (رأي عميد الأدب العربي طه حسين في شخصية المتنبي: المختارات (5) الصفحة 106)



    "أيَّ مَحَـــــــلٍّ أَرتَقــــــي



    أيَّ عظيـــــــمٍ أتَّقِــــــي

    وكُــلُّ مــا قــد خَــلَقَ الــلـهُ وَمـــــا لَـــــم يَخْــــلُقِ




    مُحــــتَقرٌ فــــي هِمتــــي

    كَشــــعرَةٍ فــــي مَفْــــرِقي"



    (رأي أبي الطيب في نفسه وشعره والناس جميعاً)



    "وعنــدي لَــك الشُّــرُدُ الســائِرا تُ لا يخــتَصِصنَ مــنَ الأَرض دارا




    قــواف إِذا ســرنَ عــن مِقــوَلي وَثَبــنَ الجبــالَ وخُـضنَ البِحـارا




    ولــي فيــكَ مــا لـم يَقُـل قـائِلٌ

    ومــا لـم يَسِـر قَمَـرٌ حَـيثُ سـارا"



    (رأي أبي الطيب في نفسه وشعره والناس جميعاً)



    المتنبي لا يحتاج إلى تقديم من الطيب... إذ كانت اللغة هي ميدانه والبلاغة مطيته وسحر البيان اداة إبداعه فكيف يُقدم هذا الرجل الشاعر؟..من وجهة أخرى هذا رجل فيه من الكِبر والخيلاء والغرور والزهو ما أزعج الامراء والسلاطين..أمره عجيب..شخصه وشعره اعجب..المتنبي هو القائل لسيف الدولة:



    "وَمــا الدَّهـر إِلا مـن رُواةِ قَصـائِدي إِذا قُلـتُ شِـعراً أَصبَـحَ الدَّهـرُ مُنشِدا




    فَســارَ بِــهِ مَـن لا يَسِـيرُ مُشـمِّراً وغَنَّــى بِــهِ مَـن لا يُغنّـي مُغـرِّدا




    أَجِــزْني إِذا أُنشِــدتَ شِـعراً فإنّمـا

    بِشِــعري أَتــاكَ المـادِحُونَ مُـردَّدا




    ودَعْ كُـلَّ صَـوتٍ غَـيرَ صَوتي فإنني

    أَنـا الطَّـائِرُ المَحـكِيُّ والآخَـرُ الصَدَى"



    شاعر موهوب مغرور...عبقري دخل خيمة الشعر فلم تعدْ البحور ذات البحور ولم تعدْ المعاني ذات المعاني ولا الأغراض ذات الأغراض ...اعاد ترتيب الخيمة في هيكلها ومحتواها .لم يبدل ويعدَّل أوعية الشعر وأغراضه ومعانيه فحسب بل قلب معادلة العلاقة بين الشاعر والسلطان ..حين يزهو يخجل كل التواضع الإنساني وحين يضعف يستدر كل تعاطف وتحنان الوجود:



    ولا بُــدَّ مــن يَـومٍ أغَـرَّ مُحجَّـلٍ يَطُــولُ اســتِماعي بَعْـدهُ لِلنَـوادِبِ








    يَهُــونُ عــلى مِثـلِي إِذا رامَ حاجـةً

    وُقُــوعُ العَـوالِي دُونَهـا والقَـواضِبِ




    كَثِــيرُ حَيــاةِ المَـرْءِ مِثْـلُ قَلِيلِهـا يَــزُولُ وبـاقي عَيشِـهِ مِثْـلُ ذاهِـبِ




    إِلَيــكِ فـإِنّي لَسْـت مِمَّـنْ إِذا اتَّقَـى

    عِضـاضَ الأَفـاعي نـامَ فَوقَ العَقارِبِ

    في حضرة شخصية المتنبي العبقرية المغرورة يقف الطيب صالح موقفاً ثابتاً صارماً ..يقول في المختارات (الصفحة 78) :"المتنبي شاعر إما أن تحبه وتتحمس له، وإما أن تتركه وشأنه.. أحسن النقد ما يكتب عن محبة لأن المحبة تفتح البصيرة وتزيل الحجب التي تقوم بين ما يرمي إليه الشاعر وبين فؤاد المتلقي"...لم يكن الطيب يلقى القول على عواهنه هنا بل كان يقصد أقواماً وقفوا موقف المناوأة والنقد المرير للمتنبي الإنسان والمتنبي الشاعر... يقول الطيب عنهم "رحم الله العميد (عميد الادب العربي طه حسين) وغفر له. لقد اخرجته البغضاء للمتنبي عن طوره تماماً، وجعلت بينه وبين الشاعر حجاباً مستوراً ولكنها بغضاء مثل الحب، فالعميد، رحمه الله، شأنه في ذلك شأن الشريف الرضي والصاحب بن عبَّاد وكثيرين إلى يومنا هذا، حالهم "حال المجمعين على الحمد"!!... من هؤلاء تصدى الطيب لكتابات العميد طه حسين عن المتنبي فالعميد



    بلغ في قدح المتنبي شخصاً وشعراً مبلغاً كبيرا...الطيب انفعل كثيرا بنقد العميد للأستاذ ...يقول العميد، غفر الله له:"فلم يكن المتنبي حلو الروح ولا خفيف الظل ولا جذاباً، وإنما كان مراً غليظ الذوق في أوقات الدعة والفراغ"...يجيبه الطيب وبينهما السنوات قد ألقت بظلالها:"إنما الذي يدعو إلى العجب حقاً هو تحامل الدكتور العميد على "شعر" أبي الطيب. هل نبوغ أبي الطيب وتفرده، وإذا شئت قلت عبقريته، هل هذا يحتاج إلى برهان؟..هذا شاعر ..ملأ الدنيا وشغل الناس، لقد فعل الأعاجيب في لغة العرب ودفع المعاني إلى أقصى حمولات تحملها وجاء منذ أكثر من ألف عام بأقوال لم تزل جديدة طريفة إلى يومنا هذا" المختارات (الصفحات 139-140).



    لعل الطيب لم يكتفْ بدفاعه عن "الأستاذ" فأتي بهيئة دفاع شملت البهاليل العماليق وأي دفاع هو؟..أتى الطيب بالأقدمين: أبي منصور الثعالبي وابن الأثير وأبي العلاء المعري وسيدي عبد الرحمن البرقوقي ...أتى الطيب بالمحدثين العلاًّمة محمود محمد شاكر والعَّلامة عبد الله الطيب المجذوب ..أنعم بذلك من دفاع وأكرم بهم وبالطيب من رجال.



    الطيب صالح، وهو يقدم هيئة الدفاع عن شاعر العربية الضخم لا يتردد في نفي الحياد عن موقفه من الشاعر: "يطربني الأديب العبقري يتحزب للأديب العبقري، وعلى هذا البعد في الزمان ، ما اجمل ما يبدو لنا تحزب أبي العلاء المعري لأبي الطيب المتنبي، وما أسخف ما تبدو لنا غيرة الشريف الرضي" (المختارات:الصفحة 47).



    يقول الثعالبي إن شعر أبي الطيب قد اشتمل على "نوادر لم تأت في شعر غيره، وهي مما تخرق العقول" ويقول ابن الأثير:" وعلى الحقيقة فإنه خاتم الشعراء، ومهما وصف به فهو فوق الوصف وفوق الإطراء". أما شيخنا البرقوقي فيقول :"وشأن المتنبي كشأن نوابغ الدنيا، فالشاعر النابغة لا يُمهر بإرادته ولا ينبغ بأن يخلق في نفسه مادة ليست فيها ، وإنما هو يولد مُهياً بقوى لا تكون إلا فيه وفي أمثاله، وهو زائد بها على غيره ممن لم يرزق في النبوغ كما يزيد الجوهر على الحجر أو الفولاذ على الحديد او الذهب على النحاس".



    ولعل قيمة المتنبي الإنسان أنه اتخذ موقفاً من السلطان مخالفاً تماماً للسابقين واللاحقين ...يقول الطيب صالح :"زعم أناس أن سيف الدولة الحمداني صاحب حلب هو الذي خلّد أبا الطيب المتنبي، وأن المتنبي لولاه لم يكن شيئاً مذكوراَ. إنني أرى أن المتنبي كان متواضعاً حين جعل سيف الدولة عدلاً له:



    شاعرُ المجدِ خدنُه شاعرُ اللفظِ كِلانا ربُّ المعاني الدِّقاق



    والحق أن المتنبي في كل مواقفه من السلطان، كان يقف منه موقف الند للند، يرتفع بنفسه إلى حيث يكون السلطان حينًا فيقول:



    وفؤادي من الملوك وإن كا ن لساني يرى من الشعراء



    المتنبي الشاعر والمتنبي الإنسان في مجلس الطيب صالح .. هذا مجلس محبة ..كل غرور المتنبي وصلفه يذوب والقوم يتناشدون اشعاره وحكمته وفلسفته ..وإذا طلب من الطيب إنشاداً فتلك مصيبة الإختيار..ديوان المتنبي سفر كامل من الحكمة والفلسفة والمثل السائر والسلوك الإنساني والمدح والهجاء...أما المدح والهجاء فهما غرضان حج إليهما واعتمر كل شعراء العربية..المدح المطنب والهجاء المقذع متوفر في شعر المتنبي وجيده جيد وقبيحه قبيح ولكن ريادته وقيمته الحقيقية تكمن في أغراض أخرى ..اختط فيها دروبا صعبة ومسالك وعرة قليل من جاراه ونادر من بلغها ويستحيل تجاوزها..في مجلس الطيب صالح ينشد الحضور المحبة والخير والجمال ..ينشدون الحكمة والإنسانية ..ينشدون كل ذلك فيبذل "الأستاذ" لينشد الطيب صالح في مجلسه ألوانا من الحكمة والفلسفة والمثل السائر:



    رياحين في الحكمة: يختار الطيب من الأستاذ غيضاً من فيض:



    وهَبنــي قلـت: هـذا الصبـحُ لَيـلٌ

    أَيعمــى العــالَمونَ عَـن الضّيـاء؟




    وكُـلُّ امـرِىءٍ يُـولي الجَـمِيلَ مُحببٌ وكُــل مَكــانٍ يُنبِـتُ العِـزَّ طَيـبُ




    يَمــوتُ راعـي الضَّـأَنِ فـي جَهلِـه

    مِيتـــةَ جــالِينُوسَ فــي طِبِّــهِ




    إِذا سـاءَ فِعْـلُ المَـرء سـاءَت ظُنُونُهُ

    وصَــدقَ مــا يَعْتــادُهُ مِـن تَـوَهمِ




    وإذا كـــانتِ النُفـــوسُ كِبـــاراً تَعِبَــتْ فــي مُرادِهــا الأَجســامُ




    وَمــا كُــل هـاو للجَـمِيلِ بِفـاعلٍ

    وَلا كُـــل فَعـــالٍ لَــهُ بمتَمــم




    ومَــنْ يَــكُ ذا فَــمٍ مُـرٍّ مَـريضٍ

    يَجــد مُــرّاً بــه المـاءَ الـزُّلالا

    شذرات في الدنيا واحوالها: يجتبي الطيب من كنانة الأستاذ :



    ومـن صَحِـبَ الدُنيـا طَـويلاً تَقَلَّبَـتْ

    عـلى عَينِـهِ حـتَّى يَـرَى صِدْقَها كِذْبا




    لَحَـى اللُـه ذي الدُنيـا مُناخًـا لِـراكِبٍ

    فكُــلُّ بَعِيــدِ الهَــمِّ فيهـا مُعـذَّبُ




    أظْمَتْنِـــيَ الدُّنْيــا فَلَمَّــا جئْتُهــا مُستَسِــقياً مَطَــرَتْ عَـلَيّ مَصائِبـا



    نَبكـي عـلى الدنيـا ومـا مـن مَعْشَرٍ

    جَــمَعَتهُمُ الدُّنيــا فلــم يَتَفَرّقُــوا

    نفحات في السلوك البشري: انشد أبو الطيب فاصطفى الطيب لينشد:



    ومَـــن جَـــهِلَت نَفســهُ قَــدرَهُ



    رَأًى غَــيرُهُ مِنــهُ مــا لا يَــرَى




    مَـن كـان فـوقَ مَحَلِّ الشَمسِ مَوضِعُهُ فَلَيسَ يرفَعُــهُ شَــيءٌ ولا يَضَــعُ




    وأَتعَــبُ مَـن نـاداكَ مَـن لا تُجيبُـهُ وأَغَيـظُ مَـن عـاداكَ مَـن لا تُشـاكِلُ



    إِذا الجُـودُ لـم يُرزَقْ خَلاصًا منَ الأذَى فَـلا الحَـمدُ مَكسُـوباً وَلا المـالُ باقِيـا




    واحتِمــالُ الأَذَى ورُؤْيَــةُ جــانيـه غِــذاءٌ تَضْــوَى بِــهِ الأَجْسـامُ



    ولــم تَـزَلْ قِلَّـةُ الإِنصـافِ قاطِعـةً بَيـنَ الرِجـالِ ولَـو كـانُوا ذَوِي رَحِـمِ



    كلمات في المجد والكسب: جادت قريحة المتنبي فاختار الطيب:



    ولَســتُ أُبـالي بَعْـدَ إِدراكِـيَ العُـلَى أَكــانَ تُراثـاً مـا تَنـاوَلتُ أم كَسْـبا




    لا بِقَـومي شَـرفْتُ بـل شَـرفوا بـي وبنفْســـي فَخَــرت لا بِجُــدودي




    وَلا تحْسَــبنَّ المَجْــدَ زِقًّــا وقيْنَـةً

    فَمـا المَجْـدُ إلا السَّـيْفُ والفَتْكـة البِكْرُ




    تُريــدين لُقْيــانَ المَعـالي رَخيصـة

    ولا بُـدَّ دُون الشّـهدِ مِـن إبَـرِ النَحـل



    في المثل الذي أصبح سائرا والقول الذي أضحى مأثورا: قال أبو الطيب فرددت الدنيا:



    أَعَـزُّ مَكـانٍ فـي الـدُنَى سَـرجُ سابِحٍ



    وخَــيرُ جَـليسٍ فـي الزَمـانِ كتـابُ




    وَمِـن نَكَـدِ الدنيـا عـلى الحُرِّ أَن

    عَــدُوًّا لــهُ مـا مـن صَداقَتِـه بُـدُّ








    نـامَت نواطِـيرُ مِصـرٍ عَـن ثَعالِبِهـا فقــد بَشِــمْنَ ومـا تَفْنـى العنـاقيدُ




    أعجبوا ببلاغته وحكمته فزادهم من سحر بيانه

    فَـلا مَجـدَ فـي الدُنيـا لِمَـنْ قَـلُّ مالُهُ

    وَلا مـالَ فـي الدُنيـا لِمَـن قَـلَّ مَجدُهُ




    ومَـنْ يُنْفِـق السَّـاعاتِ فـي جَمْعِ مالِهِ

    مَخافَــةَ فَقْــر فـالَّذي فَعَـلَ الفَقْـرُ




    إذا أنــت أَكــرَمتَ الكَـريمَ مَلَكتَـهُ

    وإِن أَنــتَ أكــرَمتَ اللَّئِـيمَ تمَـرَّدا




    ووضْـعُ النَدى في مَوضعِ السَيف بِالعُلَى

    مُضِـرٌّ كوَضعِ السَّيفِ في مَوضِعِ النَدَى




    والغِنــى فــي يَــدِ اللئـيم قَبيـحٌ

    قَــدرَ قُبــح الكَـرِيمِ فـي

    طلبوا المزيد فأجابهم العبقري:



    كُلَّمـــا أَنبَـــتَ الزَمــانُ قَنــاةً



    رَكَّــبَ المَــرْءُ فـي القَنـاةِ سِـنانا




    بِـذا قَضَـتِ الأَيَّـامُ مـا بيـنَ أَهلِهـا

    مَصــائِبُ قَــومٍ عِنْـدَ قَـومٍ

    مَــن يَهُــن يَسـهُلِ الهَـوانُ عَلَيـهِ



    مـــا لُجِـــرْحٍ بِمَيِّــتٍ إِيــلامُ




    ومــا انتِفـاعُ أَخـي الدُنيـا بِنـاظرِهِ

    إِذا اســتَوَتْ عِنـدَهُ الأَنـوارُ والظُلَـمُ




    إِذا رَأيــتَ نُيُــوبَ اللّيــثِ بـارِزَةً

    فَــلا تَظُنَّــنَ أَنَّ اللَيــثَ يَبْتَسِــمُ




    شَــرُّ البِـلادِ مَكـانٌ لا صَـديقَ بـهِ وشَـرُّ مـا يَكْسِـبُ الإِنسـانُ مـا يَصِمُ




    عَـلَى قَـدْرِ أَهـلِ العَـزمِ تَأتِي العَزائِمُ

    وتَــأتِي عَـلَى قَـدْرِ الكِـرامِ



    اَلــرَأْيُ قَبــلَ شَــجَاعَةِ الشُـجعانِ

    هُــوَ أَوَّلٌ وَهِــيَ المَحَــلُّ الثـاني




    طرب مجلس الطيب صالح فزادهم أبو الطيب طرباً:



    ولــم أرَ فـي عُيـوبِ النـاس شَـيئًا

    كــنَقصِ القــادِرِينَ عــلى التَّمـامِ




    فَقــرُ الجـهُولِ بـلا قَلـبٍ إلـى أَدَبٍ

    فَقْـرُ الحِمـارِ بـلا رأسٍ إلـى رَسَـنِ




    وإِذا لَــم يَكُــن مِــنَ المَـوتِ بُـدُّ فمِــنَ العَجــزِ أَنْ تَكُــونَ جَبَانــا



    كُـلَّ مـا لـم يَكُن مِنَ الصَعْبِ في الأَنْـ

    فُسِ سَــهلٌ فيهــا إِذا هــو كَانــا




    مسك الختام: خلاصة الحكمة وكلمات أبي البقاء يرحمه الله:



    قال المتنبي:



    إِذا غــامَرْتَ فــي شَــرَفٍ مَـرُومِ

    فَـــلا تَقْنَــعْ بِمــا دُونَ النُّجــومِ




    فطَعْــمُ المَــوتِ فـي أَمـرٍ حَـقِيرٍ

    كــطَعْمِ المَــوتِ فـي أَمـرٍ عَظِيـمِ




    يَــرَى الجُبَنــاءُ أَن العجـز عَقـلٌ

    وتلـــكَ خديعــةُ الطّبــع اللئــيمِ




    وكُــلُّ شَــجاعةٍ فـي المَـرء تُغنِـي

    ولا مِثــلَ الشّــجاعة فــي الحَـكِيمِ




    وكــم مــن عـائِبٍ قَـولاً صَحيحًـا

    وآفَتـــهُ مِـــنَ الفَهــمِ

    ولكِــــنْ تَـــأخذُ الآذان منـــهُ

    عــلى قَــدَرِ القَــرائِحِ والعُلُــومِ

    وقال أبو البقاء العكبري:



    "سألت شيخي أبا الحرب مكي بن ريَّان الماكْسي عند قراءتي عليه الديوان(ديوان المتنبي) سنة تسع وتسعين وخمسمائة:"ما بال شعر المتنبي في "مدح" كافور أجود من شعره في مدح عضد الدولة وأبي الفضل بن العميد؟.فقال: "كان المتنبي يعمل الشعر للناس لا الممدوح، وكان ابو الفضل بن العميد وعضد الدولة في بلاد خالية من الفضلاء، وكان بمصر جماعة من الفضلاء الشعراء، فكان يعمل الشعر لأجلهم، وكذلك كان عند سيف الدولة بن حمدان جماعة من الفضلاء والأدباء فكان يعمل الشعر لأجلهم ولا يبالي بالممدوح". (المختارات (5): الصفحة 94).



    الطيب صالح ،اللورد بتلر والسياسة: "إلى أين ذهب هؤلاء"؟



    "يظنّون أنّهم وجدوا مفاتيح المستقبل..يعرفون الحلول..موقنون من كل شئ..يزحمون شاشات التلفزيون ومكرفونات الإذاعة... يقولون كلاماً ميِّتاً في بلدٍ حيٍّ في حقيقته ولكنّهم يريدون قتله حتى يستتب الأمر.



    مِن أين جاء هؤلاء النّاس؟ أما أرضعتهم الأمّهات والعمّات والخالات؟..أما أصغوا للرياح تهبُّ من الشمال والجنوب؟...أما رأوا بروق الصعيد تشيل وتحط؟..أما شافوا القمح ينمو في الحقول وسبائط التمر مثقلة فوق هامات النخيل؟..أما سمعوا مدائح حاج الماحي وود سعد، وأغاني سرور وخليل فرح وحسن عطية والكابلي وأحمد المصطفى؟.. أما قرأوا شعر العباسي والمجذوب؟...أما سمعوا الأصوات القديمة وأحسُّوا الأشواق القديمة؟



    ألا يحبّون الوطن كما نحبّه؟إذاً لماذا يحبّونه وكأنّهم يكرهونه ويعملون على إعماره وكأنّهم مسخّرون لخرابه؟



    من الذي يبني لك المستقبل، يا هداك الله، وأنت تذبح الخيل وتُبقي العربات، وتُميت الأرض وتُحيي الآفات؟

    من أين جاء هؤلاء الناس؟ بل - مَن هؤلاء الناس؟

    (الطيب صالح : من أين أتى هؤلاء؟)




    لا أظن ان هناك مقالاً كتبه روائي مثقف من غير المشتغلين بالسياسة الحركية قد ترك أثراً على مجمل الساحة السياسية السودانية كما فعل مقال الطيب صالح الموسوم "من أين أتى هؤلاء؟"... ولعل مبعث هذا الأثر الضخم نابع من صدق الكلمات المفعمة بالوطنية الخالصة.. كلمات المقال جاءت خالصة عريانة من كل مأرب أو شعار أو إنتماء إلا للوطن... سرت الكلمة بين أهل السودان...حملتها أمواج النيل ونسمات الشمال و"رشة" البطانة" وبروق الصعيد .



    كلمات الطيب ذات المضاء الوطني العارم تلقفتها جماعات المعارضة التي أحست قيمتها الحقيقية التي فاقت كل منشوراتهم السياسية ..وتلقتها مصدات جماعة الحكم بكل شراسة من يعلم صدق كلماتها..في كلا الحالتين تمسك أهل المعارضة والحكم بكلمات الطيب النافذة دون تدبر لمعانيها ودون إدراك لمقاصدها النهائية..للمعارضة كانت مجرد سلاح آخر ومدد إضافي لمناوأة النظام القائم وحشد المعارضة له..لجماعة السلطان نفذت كلمات الطيب المنتقاة لمكامن الوجع فأوجعتهم رغم ادعاء فريق منهم بأنها مجرد تهويمات "كاتب روائي" ..حقيقة الامر إن كلمات الطيب المنتقاة قد أوجعت النظام تماماً ..فالنظام ،من بعد، يعلم مكامن ضعفه ومكامن قوة التأثير على الرأي العام...موقف النظام من الطيب صالح وأعماله بعد هذه المقالة تشي بقدرة الكتابة الصادقة على النفاذ إلى القلوب والعقول وعلى زلزلة السلطان.



    بعد ذلك المقال جرت مياه كثيرة في أنهار السياسة السودانية..مفاصلة بين القوى الإسلامية الحاكمة وإتفاقات سلام جهوية وإتفاقية سلام شاملة..قدر من الانفتاح نابع من تعلم دروس الإنغلاق..في اعقاب تزحزح السطان عن جبروته الأول وطغيانه قال الطيب صالح كلاماً طيباً في حق جزء من النظام ورموزه فهلل من كان معارضا له وغضب على الطيب مَن ظنَّ أنه مبعوث العناية الآلهية لرفع لواء المعارضة الدائمة لنظام الحكم القائم في السودان...رضى من رضى وغضب من غضب ونسي الناس المقال ومضامينه العميقة وتلك كانت المصيبة ..المقال كان في جوهره صرخة مواطن سوداني صميم تنسم عبير الحرية والديموقراطية حيث يقيم وقارن بين حالين فكتب بقلبه لا بقلمه ..كلمات نافذة مدادها دم الكاتب وليس حبر الدواة..يقول الطيب في ذات المقال:"أجلس هنا بين قوم أحرار في بلد حرٍّ ، أحسّ البرد في عظامي واليوم ليس بارداً . أنتمي الى أمّة مقهورة ودولة ########ة..أنظر إليهم يكرِّمون رجالهم ونساءهم وهم أحياء، ولو كان أمثال هؤلاء عندنا لقتلوهم أو سجنوهم أو شرّدوهم في الآفاق"...هنا نقطة المفارقة بين حال وحال وهنا سر دعوة اللورد بتلر لمجلس الطيب صالح...دعوته للمجلس دعوة للتعلم من الآخر حول كيف تكون السياسة وحول الأطر الاخلاقية للعمل السياسي حكماً ومعارضة وحول سبل التعامل مع قضايا الوطن المركزية.



    اللورد بتلر أو راب بتلر جذب اهتمام الطيب صالح كسياسي كبير وككاتب..إعجاب الطيب به دفعه لإعادة قراءة، ومن ثم مراجعة، كتابه "فن التذكر"...قال عنه: "كان بتلر من هؤلاء الإنجليز المستنيرين المتحضرين والذين لا يملك الإنسان، مهما كان رأيه،إلا أن يعجب بهم، فقد كان سياسياً على درجة عالية من الخبرة والذكاء والكفاءة"...بتلر تقلد كل الوزارات الكبرى في الدولة فكان وزيراً للتعليم ووزيراً للداخلية ووزيراً للخارجية ووزيراً للمال وفي عام 1944 حصل على موافقة البرلمان على مشروعه الذي كان بمثابة ثورة وأرسى القواعد التي يقوم عليها التعليم في بريطانيا إلى اليوم.



    ثلاثة دروس أساسية على الأقل توفرها سيرة اللورد بتلر..الدرس الاول هو كيفية تعامل الخصوم السياسيين مع بعضهم البعض في إطار العمل العام..فبتلر بعد أن فقد الفرصة لزعامة حزب المحافظين العتيد "حياه خصمه السياسي اللدود هارولد ويلسون وكان رئيساً للوزارة عن حزب العمال فجعله رئيساً لإحدي كليات جامعة أكسفورد"...هذه واحدة ، من جانب آخر وفي سياق ذات الدرس يلاحظ إن رأي أهل السياسة في عطاء اللورد لم يأتْ من داخل حزبه بل من المعسكر المناويء تماماً..يقول دنيس هيلي (الزعيم العمالي الكبير) "إن بتلر هو من أدخل حزب المحافظين القرن العشرين عندما أقنع الحزب الذي كان تقوده طبقة النبلاء وكبار الملاّك بقبول الإصلاحات التي أدخلتها حكومة العمال بزعامة "كلمنت أتلي" لمصلحة الطبقات العاملة والطبقات الفقيرة وعدم المساس بما أسموه "دولة الرفاه العام" واعتبارها مؤسسة ثابتة بصرف النظر عن الحزب الذي يحكم"...الدرس داخل الدرس هنا ليس إشادة هيلي بل تعامل بتلر مع أطروحات حزب العمال بعد الحرب بأنها أضحت أطروحات "وطنية" ليست مبذولة للتنافس الحزبي الضيق.



    الدرس الثاني في سيرة اللورد بتلر هو قدرة الجماعات الحزبية الخلاّقة على التسامي فوق الاطر الحزبية لمصلحة القضايا الوطنية الكبرى من خلال "الوفاق" و"الإجماع" ..فكما أشار الطيب فقد استطاع بتلر:"مع النخبة من حزب العمال وخاصة "هيو جيتسكل" أن يضعوا الأسس التي قام عليها الحكم في بريطانيا منذ الحرب العالمية الثانية".



    الدرس الثالث من هذه السيرة العظيمة هو القدرة على تفجير الطاقة الإبداعية في الإنسان في أكثر من مجال..فاللورد بتلر، رغم بذله وعطائه، لم تكن لديه الفرصة لخلافة ونيستون تشيرشل على زعامة حزب المحافظين لأن "أنتوني أيدن" كان يستعد لذلك .."ولأن حزب المحافظين الذي كان يحترم "بتلر" كان، في الحقيقة، يقبل أفكاره على مضض ولكنه لم يكن يطمئن إليه كل الإطمئنان. وفي تقاليدهم عدم اللجوء إلى متفوقي الذكاء إلا في الحالات الطارئة"...لاحت الفرصة لبتلر لزعامة المحافظين مرة أخرى ...يقول الطيب صالح:"بعد حرب السويس لاحت فرصته بعد استقالة إيدن ولكنهم اختاروا سياسياً ثعلبا هو هارولد ماكيملان ذي النسب النبيل..وبعده اختاروا لورد هيوم"...عدم فوزه بالمقعد القيادي الأول في حزبه لم يرغمه على الإنزواء عن العمل العام وخدمة بلاده في مجال آخر ...بعد فوز هيوم في مؤتمر الحزب العام نفض بتلر يده من الأمر كله وأورد الطيب مقولته التي أضحت مثلاً:"كان المؤتمر شيئاً مؤسفاً، خرجنا منه، انا وزوجتي، دون أضرار تذكر"...ترك بتلر السياسة ولكن آثر أن يخدم بلاده في موقع آخر فكان أن شغل منصبا أكاديمياً رفيعا في أعرق الجامعات البريطانية.



    الدروس الأساسية الثلاثة وغيرها جعلت الطيب صالح يضع اللورد في مكان عالِ كنوعية من السياسيين التي نتمناها لبلادنا حيث الإقصاء والتمترس خلف الأطر الحزبية والجهوية الضيقة والقاصرة هي ديدن السلطة ومن يتولونها ..هذه دروس لبلادنا وغيرها من بلاد العالم الثالث حيث السياسة الأحترافية في أحايين كثيرة تبدو عمل من لا عمل له ومهنة من لا مهنة له..في مثل هذه الاحوال يصبح دافع العمل السياسي الاحترافي ومحفزه المركزي ليس هو الخدمة العامة المتجردة بل شق دروب إكتناز الثروة لا يهم كثيرا من أي باب جاءت وعلى أي أساس أتت.



    دروس أخرى، أكثر عمقاً وإنسانية نستشفها من كتاب اللورد بتلر.. حين استراح الرجل من غمار السياسة وقرر تذكر المسرح السياسي والإنساني ليختار تسعة من أصدقائه للحديث عنهم ..يقول الطيب صالح:"الاختيار في حد ذاته يدل على أن بتلر كان سياسياً من طراز غير عادي، كان، كما يظهر من تنوع هؤلاء الأصدقاء، متعدد الاهتمامات، ينظر إلى القضايا من منطلق قومي عريض، متجاوزاً الولاءات الحزبية الضيقة".



    اختار اللورد بتلر من السياسيين غير البريطانيين الزعيم الهندي نهرو ..جموح الزعيم الهندي ونضاله الشرس ضد المستعمر البريطاني لم يزحزحا احترام وتقدير اللورد بتلر لقدرات نهرو وقيمه ورفعته السياسية والإنسانية.. من ناحية أخرى لم يقف التباين السياسي حاجزاً بين اللورد واختيار وليام تمبل كبير أساقفة كانتربري ...هذا قس يساري يؤمن بمباديء حزب العمال ..يقول بتلر لولاه لما استطاع هو (بتلر) أن يضم التعليم الكنسي إلى سلطة الدولة.



    من الأدباء أصطفى اللورد بتلر الشاعر الإنجليزي شارلز سورلي الذي درس وعاش في ألمانيا كان يعبر في قصائده عن حب عميق للشعب الألماني...في رسالة بعث بها من جبهة القتال مع العدو الألماني قال سورلي إنه حين سمع مجموعة من الجنود الألمان ينشدون نشيداً حماسياً .."طربت طرباً شديداً واحسست أنني مستعد لان أموت فداءً لألمانيا..هذا خطأ بالطبع، ولو انك سمعت ذلك النشيد كما سمعته انا، لعلك كنت تحس بما احسست به:..يقول بتلر: "إن حياة سورلي في المانيا جعلته يرى خصالا طيبة كثيرة في العدو".



    اختار اللورد بتلر (وهو من قادة المحافظين الكبار) زعيمين من حزب العمال..أحدهما هو "أنوارين بيفان" الذي ولج عالم السياسة من باب من بيئة عمال المناجم في ويلز ..يصفه اللورد كما أورد الطيب بأنه:"فصيح اللسان، متوقد الذكاء من الخطباء المعدودين..شديد الخصومة لحزب المحافظين فحمل عليهم حملات ما تزال تتردد أصداؤها إلى اليوم"...أما الزعيم العمالي الثاني فهو أسطورة حزب العمال البريطاني "إيرنست بيفن" ..وعن بيفن يجب أن يُسجل الخبر وتُدرس السير ويُستفاد من العبر.



    يقول الطيب عن كتابة اللورد بتلر عن بيفن :"روح الإنصاف والقدرة على النظر من الجانبين التي تميز بها بتلر تتضح في الفصل الذي كتبه عن الزعيم العمالي الضخم "إيرنست بفن" وهو فصل من أروع ما يقرأ الإنسان من شهادات الإنصاف في التاريخ المعاصر".



    ولماذا التركيز على بيفن؟...يقول تاريخه الشخصي إنه "ولد لقيطاً لا يعرف له أب ..توفيت أمه وهو في الثامنة وعندما كان في الحادية عشرة ترك الدراسة ليعمل أجيراً في مزرعة ثم حمالاً في الميناء..ثم عضواً بارزاً في نقابة عمال الشحن."...يقول الطيب نقلاً عن اللورد بتلر إن دفاع بيفن "عن حقوق عمال الشحن أمام لجنة التحكيم الحكومية برئاسة "لورد شو" دفعت به للصفوف الامامية في مجتمع النقابات التي سعى جاهداً لربطها بحزب العمال.. يصفه بتلر بأنه في ذاك المسعى كان "أكثر عزماً وتصميماً من ونستون تشيرشل"...بتلر يعتبر بيفن نداً في قدراته العقلية للاقتصادي البريطاني الشهير "جون مينارد كينز" الذي أحدث انقلابا في المفاهيم الاقتصادية.



    هذا رجل أسطورة ..لقيط عمل حمالاً في الميناء ثم صعد درجات المجد السياسي ليصفه زعيم حزب منافس بأنه "أكثر عزماً وتصميماً من ونستون تشيرشل" وانه "ند لكينز" لهو بحق رجل أسطورة ...في عام 1940 صار بيفن وزيراً للعمل في وزارة الحرب ..عبأ للمجهود الحربي اثنين وعشرين مليونا من مجموع السكان البالغ عددهم خمسة وثلاثين مليوناً بين الرابعة عشرة والرابعة والستين وتم ذلك دون قهر أو ضغط قائلاً :"إنها ارادة أمة حرة تذعن للضبط والنظام بمحض إرادتها".. بعد الحرب صار وزيراً للخارجية..كانت وزارة الخارجية حكراً على أبناء الطبقات العليا من خريجي جامعتي أكسفورد وكيمبردج لذلك كان تعيين عاملٍ ترك المدرسة في سن الحادية عشرة وزيراً لها مدعاة لدهشة عظيمة.



    هذا عن الطيب وضيفيه ولكن ماذا، غفر الله لنا ولكم، عن الحاردلو وود الرضي وحاج الماحي؟ وماذا عن التاج مصطفى؟ ذاك حديث آخر في مقال آخر...وحتى ذلك الحين أترككم مع أبي الطيب المتنبي مرة أخرى:



    "القَلْبُ أعلَمُ يا عَذُولُ بدائِهِ وَأحَقُّ مِنْكَ بجَفْنِهِ وبِمَائِهِ



    فَوَمَنْ أُحِبُّ لأعْصِيَنّكَ في الهوَى قَسَماً بِهِ وَبحُسْنِهِ وَبَهَائِهِ



    أأُحِبّهُ وَأُحِبّ فيهِ مَلامَةً؟ إنّ المَلامَةَ فيهِ من أعْدائِهِ



    لا تَعْذُلِ المُشْتَاقَ في أشْواقِهِ حتى يَكونَ حَشاكَ في أحْشائِهِ



    إنّ القَتيلَ مُضَرَّجاً بدُمُوعِهِ مِثْلُ القَتيلِ مُضَرَّجاً بدِمائِهِ"

    (القَلْبُ أعلَمُ يا عَذُولُ بدائِه)



                  

11-23-2010, 03:22 PM

jini
<ajini
تاريخ التسجيل: 02-05-2002
مجموع المشاركات: 30720

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: روّاس مراكب القدرة ضو البيت: وداعا أيها الزين!! طارق جبرين وزيادة حمور علينا جاى! (Re: jini)

    Quote:

    المدارج والعتبات:

    رواس مراكب القدرة:





    اللؤلؤ في خبر استواء ظل الزاوية مع جيب تمامها: الطيب صالح مراوحا بين الطاهر ود بلال الروّاس ومصطفى سعيد:

    "الناسُ في بلادي جارحون كالصقورْ

    غِناؤُهم كرجفةِ الشتاءِ في ذؤابةِ الشجر

    وضَحكهم يئزُ كاللهيبِ في الحطب

    خطاهمو تريدٌ أن تسوخَ في الترابِ

    ويقتلون، يسرقون، يشربون، يجشأون

    لكنهم بشر

    وطيبون حين يملكون قبضتي نقود

    ومؤمنون بالقدر".





    صلاح عبد الصبور : الناس في بلادي











    "وجْهُ مهيار نارْ

    تحرقُ أرض النجوم الأليفه،

    هوذا يتخطّى تخومَ الخليفه

    رافعًا بَيْرَق الأفولْ

    هادمًا كلّ دارْ ،

    هوذا يرفُض الإمامَهْ

    تاركًا يأسَه علامهْ

    فوق وجه الفصولْ"





    أدونيس: وجه مهيار







    قبل الغوص:

    قد يكون مهما بل واجبا توضيح ان ما يرد في هذا الجزء ليس (ولا ينبغي له أن يكون) قراءة نقدية لأعمال الطيب فما لهذا نهدنا ولسنا من أهل الاختصاص في أي من جهاته، مجالاته أو درجاته. ما تستهدفه هذه الجزئية من العمل هي محض مقاربة إنسانية لبعض شخوص رواياته توسلا وحيلة من جانبنا للإقتراب، بصنعة لطافة كما يقول خيري شلبي، من بورتريه الرجل...أهمية ووجوب هذا التنويه، في تقديري، تنبع من رغبتنا في إستباق ما قد ينشأ من إتهام بالتهجم على فضاءات لسنا من روادها وكذلك في فتح أبواب ومخارج للطواريء قد نحتاجها إذا تعثرت منا الخطى خاصة ونحن بين يدي أعمال رجل عالي الجناب وافر القيمة الأدبية والإنسانية ..وليغفر لنا المولى إن رأى أهل التخصص أننا بفعلنا المتهور هذا إنما نكون قد دسنا بنعال الجهل على أبسطة العلم.







    محارة اللؤلؤ:

    النقاد المتخصصون سعوا جهدهم للبحث في خصائص وسمات شخصية الطيب صالح والربط بينها وبعض مقومات شخصية مصطفي سعيد في "موسم الهجرة إلى الشمال"... يقول طلحة جبريل :"كثيرون يعتقدون أن مصطفى سعيد بطل "موسم الهجرة إلى الشمال" فيه بعض ملامح الطيب صالح نفسه.. وفي هذا السياق يقول الطيب:"الذي يطرح أفكاره على الناس علناً عليه أن يتحمل تبعات ذلك، لذلك لا يزعجني أحياناً حين يسألني بعض الناس هل مصطفى سعيد يشكل جزءاًً من سيرتي الذاتية"...ويضيف الطيب:"يبدو لي أحياناً أن البشرية تائهة وأنا تائه معها، لذلك لا أطالب الناس بأن تفهمني كما أريد، الكاتب نفسه لا يعرف ماذا يقول وماذا يكتب".





    حين ازعجت الكاتب المحاولات المستمرة للربط بينه وبين بطل روايته الأشهر استجار ب"الزين" كشخصية دالة عليه وأقرب...هذا عندي، وأقر بأنني قاريء عادي جدا، يدخل من باب اعتساف واختزال الطيب صالح لسماته كإنسان .."الزين"، على الوجه الذي صوره الطيب صالح في "عرس الزين"، درويش من عامة الناس...لعب فيه الطيب على وتر وسامة الروح ..وهذا باب في الجمال معروف ومتداول وخاصة عند أهل الوجد الصوفي..يوسمون من هم على شاكلة "الزين" بأنه "أب سماحتن جوه"...لا،..لا، الطيب لم يكن "الزين" ولكنه أيضا لم يكن مصطفي سعيد ..عبقرية الطيب أنه نأى بنفسه عن كل هذا الجدال ووقف منه موقف سيده وسيدنا أبي الطيب المتنبي:







    أنامُ ملء جِفوني عن شوارِدها ويسهرٌ الخلقٌ جرَّاها ويختصمٌ

    رحم الله شيخنا أحمد بن الحسين كان عبقرياً مغروراً ...ورحم الله شيخنا الطيب صالح كان عبقرياً متواضعاً ..جمعتهما عبقرية إبداعية وفرقت بينهما السمات الشخصية ورغم ذلك ظل الطيب أسيراً محباً مدنفاً بعشق أبي الطيب ... لا أظن أن الأدب الحديث عرف مثقفاً محباً لأبي الطيب كالطيب صالح..كان حبا نابعا من دراسة متعمقة دقيقة لشعر الرجل وعصره وسماته الشخصية ..الطيب صالح ونزار قباني بلغ من حبهما وتبجيلهما لأبي الطيب أنهما لا يذكران اسمه إلا مسبوقا بصفات التجلة والاحترام .. هذان الهرمان كانا يقولان "سيدنا" و"الأستاذ"...الطيب صالح كان كحماد في راوية شعر أبي الطيب ..حفظ الديوان بشروحات العكبري والبرقوقي واليازجي والمعري...يستظهر العيون ويعرف مواقع الإعجاز البياني ومكامن النكت البلاغية ... حفظ شعر المتنبي عن وعي وحب فأبدع ومن ثم نام ملء جفونه وترك النقاد في جدل وسؤال سيستمر ما بقي نقاد للأدب وللرواية :أين الطيب صالح من أبطاله؟.







    أغلب ظني أن الطيب قد راوغ الدنيا بشخوصه اللامعة...العبقري البائس مصطفى سعيد والسياسي السلطوي غير القابل للتطور محجوب والشاب الطامح للسلطة على حساب العشيرة والقرابة الطريفي ود بكري.. مجموعات الظل عبد الحفيظ، وأحمد إسماعيل أبو البنات وسعيد القانوني، حمد ود الريس وبت مجذوب. الطيب أضاف لشخوص روايته بعدا آخر باستنطاق الرواة ...إبراهيم ود طه حافظ ذاكرة ود حامد وشهود عصر رواياته: محيميد الأفندي العائد للجذور ومن ثم الراوي المجهول في رواية مصطفي سعيد (ولعله محيميد). في تنويع آخر وهام أضاف الطيب حشدا من مجموعة التقلبات: سعيد البوم (عشا البايتات لاحقا) وسيف ود العمدة في تجلياته المختلفة.





    في خضم هذه الشخوص المتباينة اجتماعيا واقتصاديا يسترعي الانتباه المحبة البائنة التي أولاها الطيب للطاهر ود الرواس والذي ظل محوريا في أعماله منذ "الرجل القبرصي" ولكنه بلغ بالشخصية قمة بنائها الدرامي والإنساني في "مريود" حيث العشق والصفاء الإنساني يبلغان شأواً بعيداً.







    هذا الجزء من العمل يبحث في بناء الشخصيات المحورية في اعمال الطيب صالح بتركيز شديد على مصطفى سعيد والطاهر ود بلال الرواس.. وعلى خلفية ما قدمنا من بورتريه للطيب نبحث في مفاصل العلاقة (إن كانت ثمة واحدة) بين الكاتب وأبطاله.







    مخاطر صيد اللؤلؤ: أرخبيل التضاد ومحاولة للتوافق:

    ممر الصدق:

    "ولكن الطاهر ود الرواس طول حياته لم يقل إلا كما رأى وسمع"

    مريود : طبعة دار العودة : الصفحة 37







    مضيق الكذب:

    "أليس صحيحا أنك في الفترة ما بين أكتوبر 1922 وفبراير 1923 ...كنت تعيش مع خمس نساء في آن واحد؟"...بلى..وأنك كنت توهم كلا منهن بالزواج؟"..."بلى.. وانك انتحلت إسما مختلفا مع كل منهن؟..بلى..وانك كنت حسن وتشارلز وأمين ومصطفى ورتشارد؟..بلى"







    سير آرثر هغنز في محاكمة مصطفى سعيد: موسم الهجرة :دار العودة : الصفحة 41







    ما بين الممر والمضيق: باب مندب العبور

    "الأولاد أخدتهم الحكومة والبنات أخدوهم الأفندية، حلال عليهم...دخلوا عالم العربيات والتلاجات والدرجات. عاوزين يجوا هنا أهلا وسهلا، عاوزين يقعدوا هناك اعتبرهم مني هدية لزمن الحرية والمدنية والديموقراطية . أما انا يا ود الرواسي ، أفندي بالغلط ، مزارع زي ما قلت، هام على وجهه ورجع لنقطة البدء. رجعت عشان أدفن هنا .أقسمت ما اعطي جثماني أرض غير أرض ود حامد."







    محيميد في بندر شاه: طبعة دار الطليعة: الصفحة 86







    أولاً بالتبادي: الروائيون وأبطالهم:

    "الحياة ليست ما يعيشه أحدنا، وإنما هي ما يتذكره، وكيف يتذكره ليرويه"



    جابريل جارثيا ماركيز: عشت لأروي: ترجمة صالح علماني، 2004







    لا أظن كاتبا أو روائيا أضطره النقاد والقراء للإفصاح عن ماهية شخوص رواياته كما الطيب صالح... لقد ظل الرجل في غرفة التشريح الأدبي طيلة حياته الروائية...من مجموع شخوصه وأبطاله وحدها شخصية مصطفى سعيد هي التي قادت الطيب صالح إلى حراسات الأمن الروائي واقفاص الاتهام الأدبي..حوالي نصف قرن من الزمان والقراء والنقاد والمحلفون في المحاكمات الأدبية ينتاشون الطيب بذات السؤال الحارق: من هو مصطفى سعيد وما علاقتك به؟.







    ابتداءً وعلى المستوى الكلى هناك ثمة اتفاق على ان "التيمة" الأساسية لرواية "موسم الهجرة" هي الصراع بين الشمال والجنوب...يقول ابراهيم درويش في دراسته "الطيب صالح: ملحمية التجربة والحنين الدائم للطفولة ومواجهة القاتل في قلب الامبراطورية" إن"موسم الهجرة جاءت في ظروف الاستقلال وما بعد الاستعمار ومن هنا يرى فيها إدوارد سعيد رحلة معاكسة لبطل جوزيف كونراد ‘قلب في الظلام" فيما يراها نقاد اخرون رواية عن اللقاء بين الشرق والغرب جاءت في مرحلة انتهت فيها روايات الألق والصدمة التي قدمها روائيون عرب منذ مفتتح القرن العشرين، مع وجود اختلافات بين مصطفى سعيد وابطال روايات سهيل ادريس ويحيى حقي وتوفيق الحكيم".(أهـ).







    هذا حديث حسن لا غبار عليه أما الغبار، وما يعلوه من "هبباي" و"كتاحة" فيبقى معلقا في سماء واشجة لا تنفصم عند النقاد بين شخصية مصطفى سعيد والكاتب...البحث، بل الحفر والتنقيب، المستمر في سمات شخصية مصطفي سعيد ومحاولات الربط بينها والسيرة الذاتية للطيب صالح تلخص مدلول السؤال المركزي حول مسئولية الكاتب عن المكونات الأخلاقية والإنسانية لأبطاله...ورغم سرمدية السؤال وترحاله في تاريخ الفن الروائي العالمي إلا أن قصة ارتباط الطيب بالمستر مصطفى سعيد تبدو مخالفة نوعا ما... إن التطابق الجزئي (مكانا وزمانا) بين بعض مراحل حياة الكاتب وترحاله بين الجنوب (شمال السودان) والشمال (إنجلترا) وبعض مراحل حياة بطله الأشهر مصطفى سعيد المنتقل ما بين ذات الأتجاهين والموقعين الجغرافيين قد أدى إلى إجتراح حالة قبول رائجة لفكرة "الرواية داخل الرواية" وهو ما أفضى، في تقديرنا، إلى التساؤل الدائم عن العلاقة بين الكاتب وبطله.







    كأرضية عامة لبحث هكذا علاقة قد يكون مهما ان نستدعى أسئلة موازية أخرى كمدخل للتأسيس لما نود بحثه وتوضيحه... الأسئلة تتمحور حول علاقة الكٌتاب بأبطال رواياتهم..وللتدليل والتمثيل نسوق أمثلة من جنس: ما هي علاقة نجيب محفوظ بالقيم الاخلاقية والسلوكية للسيد أحمد عبد الجواد "سي السيد" في "الثلاثية"؟ أو محجوب عبد الدائم في "القاهرة الجديدة"؟..إلى أي مدى رشحت السمات السلوكية والخيارات السياسية والاجتماعية لخيري شلبي في تصرفات "حسن أبو ضب" في "ثلاثية الأمالي"؟.. ماذا يريد واسيني الاعرج ان يقول على لسان بطله مقطوع اللسان "حسيسن" في "حارسة الظلال" وهو يصور جزائر العنف والدم والموت؟ ...ويمكن على ذات النول غزل تساؤل أشمل حول علاقة روائيين من طبقة ماركيز وباولو كوليو وشينوا أشيبي ونقوقي ثينقو وولي سوينكا وجمال محجوب ونور الدين فارح والطاهر وطار ويوسف القعيد وجمال الغيطاني واحلام مستغانمي وأمين معلوف بالمكون الثقافي والسلوكي لأبطال رواياتهم وقصصهم؟.







    بكلام آخر فإن ذات السؤال السابق يمكن إعادة صياغته ليدور حول علاقة الروائي (كمبدع) بمجتمعه الذي يتعامل مع قضاياه...هل هو محض شاهد على العصر يقتصر دوره على التدوين التاريخي وعلى رصد وتصوير ديناميات الحراك الاجتماعي؟ ..هل المطلوب من هؤلاء الروائيين أن يكونوا شهودا عدولا ينهضون باستخدام ملكاتهم وقدراتهم الإبداعية في تصوير عصورهم ومجتمعاهم؟ أم أن لهم الحق (في نطاق هذه الإمكانات الإبداعية) في إعادة صياغة واقع افتراضي موازي لهم ان يحشدوا له مواقفهم ورؤاهم واخلاقياتهم وسلوكهم؟؟.







    بعيدا عن السؤال الفلسفي حول الإبداع والإلتزام (كما عند سارتر وكامو) ومع تقريرنا وتقديرنا أن المبدع الروائي ليس مطلوبا منه، بالضرورة، أن يكون راوية للتاريخ أو داعية لأخلاقيات وسلوكيات معينة إلا أننا نرى أن الرؤية الإبداعية لا تخلو من الأيديولوجية والحمولة التاريخية والأطر الأخلاقية الجمالية...في هذا السياق يبدو مشروعا جدا أن يراجع الناس أعمالاً مفصلية ذات توجهات ومواقف واضحة من مجتمعاتها ونظمها والأيدولوجيات السائدة في تلك المجتمعات وآثارها...في هذا الخصوص تبرز أمثلة من لدن "مزرعة الحيوان" و"1984" لجورج اورويل وبعض أعمال "النوبليين" من طبقة الكسندر سولسنجتين ("أرخبيل الغولاق" و"الدائرة الأولى") وباسترناك ("دكتور زيفاجو") ونجيب محفوظ ("ثرثرة فوق النيل") وغير "النوبليين" :الطاهر وطار ("اللاز" و"العشق والموت في الزمن الحراشي") والطاهر بن جلون ("تلك العتمة الباهرة")، أمثلة لا حصرا بالقطع.







    مستصحبين ما تقدم ندعي أن حياة الطيب صالح القادم من التخوم الأستوائية في عاصمة الضباب لنصف قرن من الزمان ربما أوحت للقراء أن جوانبا من شخصية مصطفى سعيد لها علاقة ما بسيرة الكاتب بذات القدر الذي نرى فيه لسيرة توفيق الحكيم الذاتية ظلالا وآثارا على بطله "محسن" في "عصفور من الشرق" ونلمح فيه تقاطعا لبعض سمات وسلوكيات يحي حقي مع سمات وسلوكيات "إسماعيل" بطل روايته المهمة "قنديل ام هاشم" ونقترح فيه أن "مارلو" قد حمل بعض رؤى جوزيف كونراد وامانيه وتصوراته للعالم وهو يخوض مغامراته الكونغولية في "قلب في الظلام"؟...دعونا نحتقب كل ذلك ونحن نبحث في حفريات العلاقة بين الكاتب وأبطاله وخاصة مستر مصطفى سعيد.







    ثنينا بالصلاة على النبي: الطيب صالح وأبطاله: مصطفى سعيد وودالرواس وبينهما محيميد:

    "لا تبح لـ(لسانك) بمكنون صدرك

    ولا تعجل بتنفيذ رأي لم يتم نضجه

    كن متوددا إلى الناس، ولكن إياك أن تكون مبتذلا

    وإن كان لك أصدقاء وبلوّتهم وخبِرتهم

    فضمهم إلى نفسك بأطواق الفولاذ

    أما الرفيق الغر الذي لم تهذبه السنون

    فلا تتعب كفك بمصاحبته والاحتفاء به

    حاذر أن تشتبك في عراك، ولكن قدر إن اشتبكت

    فاحتمله، حتى يتقيك الخصم ويخشاك

    أعر سمعك لكل الناس ولكن لا تسمع صوتك إلا للقليل منهم

    أنصت إلى دعوى كل إنسان ولكن لا تتسرع في الحكم"



    نصائح بولونيوس إلى يا لايرتس: مسرحية هامليت،شكسبير







    داخل ما سبق طرحه من أطر لعلاقة الكاتب بأبطاله، ننظر في علاقة الطيب صالح بمصطفى سعيد لنقول ربما كان الكاتب مسئولا في بعض الجوانب عن هذه العلاقة الملتبسة او "الغميسة" (كما يقول حسن موسى) .. في دراسته الموسومة :"مصطفى سعيد بين الواقع والفن" يقول عبد المنعم عجب الفيا :"لقد عبر الطيب صالح في كتاب "على الدرب .. ملامح من سيرة ذاتية" عن فلسفته في الكتابة الروائية بقوله : "تجدني دائما أقول أنني أعتمد على أنصاف الحقائق والأحداث التي يكون جزء منها صحيحا والآخر مبهمـا.. هـذا يلائمنـي تمامـا.. بمعنى آخر يكفيني جملة سمعتها عرضا في الشارع لأستوحي منها فكرة للكتابة، ليس بالضرورة أن أجلس مع صاحب الجملة لأستمع إلى قصة كاملة … تكفي جملة واحدة أسمعها وأنا في الطريق ، فقد تثيـر فـي نفسـي أصـداء لا حـدود لها"....ولكن ما مدى هذه الأصداء؟ ...يواصل عجب الفيا فيقول :"خلصت (...) إلى أن الطيب أضفى بعض من ميوله الفكرية والأدبية على شخصية بطله مصطفى سعيد مثل ميوله إلى الاشتراكية الفابية ودراسته الاقتصاد بالمدرسة التي أنشأها حزب العمال وانضمامه إلى أحد أندية الكويكرز وحبه لشعر أبي نواس ومسرح شكسبير. فإذا كان الطيب صالح قد استمد بعض ميول مصطفى سعيد الفكرية والأدبية من تجاربه وميوله الشخصية فهل استمد مغامراته وغزواته النسائية من حكايات ومغامرات "علي أبو سن" التي كان يلح في الاستماع إليها؟ هل كانت هذه الحكايات والمغامرات تمثل أنصاف الحقائق والأحداث التي صاغ منها جزءاً من شخصية مصطفى سعيد؟"(انتهى حديث عجب الفيا).







    جيرزلدا الطيب من جانبها برأت الطيب صالح من تهمة "الصلة والقرابة" من شخصية مصطفى سعيد مؤكدة إن "موسم الهجرة" ليس ولا يمكن أن يكون سيرة ذاتية للكاتب....جريزلدا ترى" ان مصطفى سعيد بطل متخيّل على عدة مستويات في ذهن المؤلف وانه قد صنع من مزج عدة شخصيات التقاهم بالتأكيد الطيب صالح أو سمع بهم عندما ذهب لأول مرة إلى لندن عام 1952" ..وتواصل جيرزلدا تحليلها لتقول:"ولكن قبل أن نمعن أو ننطلق في هذه الفرضية علينا أن ننظر الى شخصية البطل ونقسمها الى ثلاثة محاور:

    · مصطفى سعيد- الأكاديمي السوداني الذي يعيش في لندن.

    · مصطفى سعيد- "دون جوان لندن".

    · مصطفى سعيد – "وعودته الى موطنه الأول".







    وترجح الكاتبة ان مصطفى سعيد الأكاديمي هو شخصية «متكوّنة» من ثلاثة أعضاء في دفعة السودانيين النخبة الذين اختيروا بعناية، وأرسلوا بواسطة الحكومة السودانية عام 1945 لجامعات المملكة المتحدة ....، وكلهم يمثلون شخصيات بطولية في الوعي الوطني الباكر للسودانيين، أحدهم هو د. سعد الدين فوزي وهو أول سوداني يتخصص في الاقتصاد بجامعة أكسفورد ...عبدالله الطيب الحاصل على درجة الدكتوراه من جامعة لندن في اللغة العربية والذي عيّن بعدها محاضرا في كلية الدراسات الأفريقية والشرقية بالجامعة نفسها...الثالث الذي اقتبس الطيب صالح جزءاً من شخصيته لتمثل الصفة الثالثة عند مصطفى سعيد وهي "الدون جوان"، الى حد ما، فهو الدكتور أحمد الطيب. هذا الرجل كان جذابا وشخصية معقدة ومفكرا رومانسيا".(انتهى حديث جريزلدا)







    وسواء كان مصطفى سعيد قد اكتسب بعض الجينات الثقافية من الطيب صالح كما في رأي عجب الفيا أو وهبه الطيب صالح بعض الجينات السلوكية من سودانيين آخرين كما اقترحت جيرزلدا الطيب إلا انه بقي شخصية محيرة تماما ..ولعل هذا ما دعا عادل الباز ليطرح إشكالية "الجلاد –الضحية" كحالة معبرة عن واقع مصطفي سعيد ..يقول الباز في مقالته "مصطفى سعيد ...لعنة الله عليك": عاش مصطفى سعيد حياة مليئة بالتناقضات والصراعات والغموض...ينتابنى احياناً احساس ان مصطفى سعيد ليس اكثر من مجرم ذكى بل هو افاك عظيم...ليس اكثر من داعر فى حانات ومقاهى لندن.. مصطفى سعيد شخصية ########ة لا يستحق ان يُكتب عنها سطر. وهب الله مصطفى سعيد عقلا عظيما ولكنه حوّله إلى آلة حادة لقتل وتدمير عشرات الشخصيات"....من ناحية ثانية يتراجع الباز ليقول :"مصطفى سعيد ضحية لظروف واقدار لا يد له فيها . مصطفى سعيد ضحية لليتم وضحية للاستعمار وضحية للحضارة الغربية. مصطفى سعيد لم يذهب للغرب غازيا لم يكن «عطيل»، عطيل كان اكذوبة كما قال هو نفسه . مصطفى سعيد حينما ادرك ان الحضارة الغربية دمرته حاول الانتقام فاستخدم اداته التى استخدمها للانتقام من جين مورس ومسز روبنسون وغيرهما"(انتهى كلام الباز).







    ما يستفاد مما سبق من حديث أن الطيب صالح قد أضفى بعضا من مكونه العقلي وأفقه المعرفي ورؤاه السياسية على بطله مصطفى سعيد ..أما المكون الأخلاقي والسلوكي والعاطفي لذات البطل فلا علاقة له بسمات الكاتب ومنظومة سلوكياته والتي أشرنا إلي بعضها في الجزء الاول من هذا العمل..بهذا الفهم فإن الطيب صالح كان فاعلا في شق من تكوين مصطفى سعيد وشاهدا عليه في شق آخر...الطيب صالح المتواضع الصوفي كان شاهدا على عبقرية مصطفى سعيد واعتزازه بعقله الجبار ..ذلك الاعتزاز الذي جعله يوقن أن الحق والباطل شقيقان نختلف في رؤيتنا لما يمثلانه ...أليس هو القائل"ورغم ادراكى اننى اكذب فقد كنت احس اننى بطريقة ما اعنى ما اقول، وانها ايضاً رغم كذبها فان ما قالته هو الحقيقة. كانت لحظة من لحظات النشوة النادرة التى ابيع عمرى بها كله. لحظة تتحول فيها الاكاذيب امام عينيك الى حقائق، ويصير التاريخ قواداً، ويتحول المهرج الى سلطان" (145)....هذا رجل منبت سلوكيا ...كل وسيلة توصله لمآربه فهي قمينة بالتجريب ومن ثم المباهاة بالنجاح في استخدامها:""الطائر يا مستر سعيد قد وقع في الشرك، النيل، ذلك الاله الافعى، قد فاز بضحية جديدة، المدينة قد تحولت إلى إمرأة" (صفحة 49)....مصطفى سعيد اللندني عاش حياة شعارها:"أنا لست عطيلا..عطيل كان أكذوبة"..لا ..لا ..لا .. المكون الأخلاقي للطيب صالح صاغ ملامح مصطفى سعيد السلوكية بكل قسوتها العاطفية وعدم انتمائها ليبلغ بالبناء الدرامي لبطله على ذلك البعد مداه.



    وفي حين عاش مصطفى سعيد حياته الروائية منذ صدور موسم الهجرة إلى الشمال في قلب الأضواء انزوت شخصيات أكثر تعبيرا عن سلوكيات الطيب المشتهاة (المتخيلة) والحقيقية (الواقعية) ..ونستدعي اثنتين من هذه الشخصيات للمماثلة ولتبيان المساواة والتوازن بين ظل الزاوية وجيب تمامها في هندسة بناء الشخصية عند الطيب...أول هذه الشخصيات هي الطاهر ود الرواس وثانيتهما شخصية محيميد.



    العلاقة بين مصطفى سعيد (خاصة في إطاره السلوكي) والطاهر ود الرواس علاقة تضاد مباشر... كلاهما كان كالراعي الاندلسي "سانتياغو" في الخيميائي عند كويليو ..هما بطلا قضية الاستقرار والترحال ولب قضية "الأسطورة الشخصية"... في ثنايا كلمة الروائية والكاتبة السعودية ثريا العريض عند رحيل الطيب صالح إضاءة لما بين هاتين الشخصيتين من تناقض أساسي .. تقول العريض :""برحيله فقدنا أديبا متميزا. وتميزه ليس فقط في لغته وأسلوبه بل أيضا في عمق تواصله بانفعالات الشاب العربي الذي يقف بين شفيرين: إدراكه أن معتقدات مجتمعه لا تسمح أن يكون هناك تقبل متبادل مع من يتجاوز وعيه تلك المعتادات البسيطة بما في ذلك الخزعبلات المتوارثة، والشفير الثاني هو إدراكه أن المجتمعات البعيدة التي يجذبه إليها تطورها المعرفي لا تراه إلا مختزلا في إطار الرومانسية الاستشراقية التي تنجذب إلى تفاصيل سطحية ينفر منها هو ولا يتقبلها في ما يراه ذاته الفردية. وهنا تأتي إشكالية العبور إلى الشمال حيث هو عبور لا يتم أبدا"....وتتساءل العريض: «هل عبر الطيب صالح بعد ذلك الهوة التي فصلته في برزخ بين المجتمعين؟ هل حقق الهدنة والتصالح مع ذاته ومجتمعه ومجتمع الآخر؟» وتجيب: لا أعرف، ولكنه الآن ارتاح من مواجهة الصراع في تلك المساحة الضيقة بين الشفيرين والكتابة عنه".







    على حد أحد شفيري د. العريض يقف مصطفي سعيد الراحل إلى "المجتمعات البعيدة" ذات التطور المعرفي التي لا يرى الجنوبي نفسه فيها "إلا مختزلا في إطار الرومانسية الاستشراقية".. ولكن مصطفى سعيد، بما فيه من غربة روحية وخلو من العاطفة لم يكن يهمه حتى التطور المعرفي في الشمال....يقول عن غربته تلك" "ثلاثون عاما كان شجر الصفصاف يبيض ويخضر ويصفر في الحدائق، وطير الوقواق يغني للربيع كل عام. ثلاثون عاما وقاعة "ألبرت" تغص كل ليلة بعشاق "بيتهوفن وباخ" والمطابع تخرج آلاف الكتب في الفن والفكر.. مسرحيات برنارد شو تمثل في الرويال كورت "الهيماركت". كانت "إيدت ستول" تغرد بالشعر، ومسرح "البرنس أف ويلز" يفيض بالشباب والألق. البحر في مده وجزره في "بورنمث و براتين" ومنطقة البحيرات تزدهي عاما بعد عام. الجزيرة مثل لحن عذب سعيد حزين في تحول سرابي مع الفصول. ثلاثون عاما وأنا جزء من كل هذا، أعيش فيه ولا أحس جماله الحقيقي"...ثلاثون عاما قضاها مصطفى سعيد لخصها أثناء محاكمته بروفيسور "ماكسول فستركين" أستاذه في الجامعة :"أنت يا مستر سعيد خير مثال على أن مهمتنا الحضارية في إفريقيا عديمة الجدوى، فأنت بعد كل المجهودات التي بذلناها في تثقيفك كأنك تخرج من الغابة لأول مرة"... مصطفى سعيد كان يعرف كل ذلك واكثر:" كنت في الخامسة عشرة، يظنني من يراني في العشرين، متماسكا على نفسي كأنني قربه منفوخة. ورائي قصة نجاح فذ في المدرسة. كل سلاحي هذه المدية الحادة في جمجمتي، وفي صدري إحساس بارد جامد كأن جوف صدري مصبوب بالصخر". هذا هو مستر سعيد بعقله الجبار وقلبه الخالى عن كل جمال وعن كل حب وعن كل إنسانية.







    على الطرف الآخر تماما يقف الطاهر ود الرواس صاحب "معتقدات المجتمع" بكل احتشادها ب "المعتادات البسيطة" و"الخزعبلات المتوارثة".... ما بين الشفيرين حاول الطيب حل "شفرة دافنشي" صراع الحضارات مستخدما رموزا وأرثا مشرقيا كبيرا موكلا المهمة إلى الطاهر ود الرواس.







    إذا كانت حياة مصطفى سعيد الإنسانية قد نشأت على الفطرة ووسمتها تصاريف القدر وتشكلت بإمرة نفس أنانية مادية ذات خواء روحي محض...فإن الطيب، في سعيه لإيجاد المعادل الموضوعي (سلوكيا على الأقل) استطاع بناء شخصية موازية نشأت كذلك على الفطرة ووسمتها تصاريف القدر ولكنها امتلأت بروح إنسانية وحكمة ربانية...الطاهر ود الرواس خلافا لمصطفى سعيد بقي ملتصقا بالأرض ..يعتاش من النهر صائداً للأسماك ..اكتفي من فرض الصلاة بصلاة زوجه فاطمة بت جبر الدار..كان صادقاً محباً محبوباً ..خلق منه الطيب صالح مرآة للذين هاجروا والذين تعلموا والذين أدمنوا السلطة فاسكرتهم خمرها نشوة وظفراً واحرقتهم نارها خسراناً وهزائم.







    الطاهر ود الرواس هو حالة الثبات واليقين عند الطيب ...استمد قوته من المحبة الإنسانية لا غيرها ..يقول عن أمه حواء بنت العريبي "ما رأيـت حباً مثل حب تلك الام. وما شفت حنان مثل حنان تلك الأم. ملأت قلبي بالمحبة حتى صرت مثل نبع لا ينضب"..هذه العبارة على إيجازها حملت كل مضامين ورؤى الطيب صالح التي بشر بها : الأم والانتماء، الحب، الحنان والمحبة.







    بدأ الطيب يبني معمار هذه الشخصية منذ "الرجل القبرصي" التي يقول فيها : "جاء صديقي الطاهر "ود الرواسي" وجلس إلى جانبي على الكنبة أمام متجر سعيد كان متهلل الوجه نشطاً ممتلئاً عافية قلت له: "صحيح ليش ما كبرت أو عجزت مع أنك أكبر منهم كلهم؟". قال: "من وعيت على الدنيا وأنا متحرك ما أذكر أني وقفت من الحركة أشتغل مثل الحصان وإذا كان مافي شغل أخلق أي حاجة أشغل نفسي بيها. أنوم وقت ما أنوم بدري أو وخري، شرط أصحي على المؤذن أول ما يقول "الله أكبر الله أكبر" لصلاة الفجر".







    - لكنك لا تصلي؟. قال:"أتشهد وأستغفر بعد ما المؤذن يخلص الأذان، وقلبي يتطمن أن الدنيا ماشية زي ما كانت. آخذ غفوة مثل نص ساعة، العجيب غفوة ما بعد الأذان تساوي عندي نوم الليل كله. بعدها أصحي كأنه صحاني منبه".







    أقوال وحكم الطاهر ود الرواسي بشأن الدنيا وبشرها وعلاقاتهم الاقتصادية والاجتماعية تؤسس لمنظومة متكاملة من القيم الاخلاقية التي هي أكثر تعبيرا عن الكاتب بسماته وسلوكه المعروف...هذه الأقوال والحكم تمثل دليل الطيب صالح الذكي و"كاتلوجه" لبناء عالم من المحبة الواقعية القائمة على الإنسانية في أسمى معانيها.







    إذا كانت شخصية مصطفى سعيد قد بهرت الناس ببنائها المحكم فإن الطيب قد أجاد في تكوين خلفية وملامح وسمات الطاهر ود الرواس بالقدر والوجه الذي جعل الحكم والمقولات الصادرة عنه عنوانا لنمط سلوكي مختلف تماما وقد استطاع الطيب صالح ببنائه الدرامي الشامخ أن يهييء ود الرواس للعب دور الضمير الإنساني بصدق كبير وشفافية آسرة جميلة.



    الطاهر ود الرواس القابع في قرية في شمال السودان استطاع ان يؤسس لعلاقة إنسانية مختلفة عن السائد والمالوف ..علاقاته مع نفسه وزوجه وأصدقائه ومع من يحب من الناس ..مع الدنيا واحوالها... موقفه من السلطة ومن الدين ...هذه كلها علاقات قائمة على وحدة الرؤية لما نريد من أنفسنا ومن الدنيا ...عن طريق قناع الطاهر ود الرواسي مرر الطيب رؤاه ومواقفه الأخلاقية والإنسانية والسياسية...في الحالات التي أراد فيها الطيب تعزيز رؤاه استعان ببعض البرازخ والجسور في عمليات إكمال بناء وتصدير هذه الرؤى... هذه الجسور والبرازخ اتخذت شكل أقرب شخوص روايات الطيب إلى سيرته الذاتية ..الراوي في "موسم الهجرة إلى الشمال" ومحيميد في "ضو البيت" و"مريود" ...في مواقف أخرى استعان الطيب بشخوصه الأخرى للعب أدوار مساندة محددة لبطله الكبير الطاهر ود الرواس لمساعدته على تطوير الرؤى وإعلان المواقف.



    إن مهنة "الحواتي" كسبيل معاش للطاهر ود الرواس تم اختيارها بعناية كبيرة من قبل الطيب صالح..هذه ليست مهنة حرة فقط بل مهنة ذات حرية مطلقة ..مهنة تاريخية ..لا علاقة لها بعلاقات وعوامل ووسائل الإنتاج التقليدية وخاصة المرتبطة مباشرة بالأرض والتي تمثل القيمة الأساسية الحقيقية للإنسان في تلك المجتمعات ..يقول الطاهر عن عمله اليومي "أعمل الشاي واصحي فاطمة. هي تصلي صلاة الصبح.. نشرب الشاي. أنا أنزل أقابل الشمس فوق صفحة النيل وأقول لصباح الله حبابك ومرحبابك. أغيب ذي ما أغيب أرجع ألقى الفطور حاضر نقعد أنا وفاطمة وأي إنسان من عباد الله تجئ به لينا القسمة أكثر من خمسين سنة على هذي الحالة".





    الطاهر منبت قبليا..والده بلال روّاس مراكب القدرة ..بلال "العبد" كما يقول عن نفسه..."الحكاية مو الطاهر ود الرواس...الحكاية الجد حكاية الطاهر ود بلال ..ولد حواء ..العبد".. الطاهر واعٍ تماما بموقعه في منظومة التراتيب الإجتماعية ..يدرك تماما أين يقف من مجتمعه ذاك وماذا يريد منه... لقد تحرر من ربقة علاقات الانتاج السائدة في ذلك المجتمع :"ما دام الواحد ضامن عشا ليلته، عليك أمان الله ما يهمه حكمدار ولا سردار ..الكلام انت يا محيميد . ضيعت عمرك في التعليم ولفيت ورجعت لي ود حامد السجم دي بخفي حنين. كانك بقيت أفندي بالغلط ،من زمان وأنت نفسك في زراعة الرماد دي"...تحرر من علاقات الإنتاج كما تحرر أيضا من إحساس العبودية الذي قايضه –في إطار تصالحه مع ذاته ومحيطه- بالمحبة فربح ونال النعمة مزدوجة :"أنا المولى عز وجل أكرمني بالحيل ..انعم علي بدل النعمة نعمتين..أداني صداقة محجوب وحب فاطمة بت جبر الدار".







    إذا كان الطاهر سليل بلال "العبد" أقل شأنا بمكاييل أهل الدنيا المطففين فإن الطيب صالح قد جعل له الرجحان بموازيين أعدل وأكثر عرفانا..الحوار بين الشيخ نصر الله ود حبيب وبلال والد الطاهر في "مريود" يضيء الامر برمته: "يابلال، أنت عبد الله كما انا عبدالله نحن أخوة في شأن الله . أنا وأنت مثل ذرات الغبار في ملكوت الله عزوجل . ويوم لا يجزي والد عن ولده يمكن أنت كفتك ترجح كفتي في ميزان الحق جل جلاله . كفتي أنا أرجح من كفتك في موازين أهل الدنيا ولكن كفتك يا بلال سوف ترجح كفتي في ميزان العدل. أنا أجري جري الابل العطاش يا بلال لكي أحظى بقطرة من كأس الحضرة، وأنت شربت إلى أن أرتويت يا بلال.. أنت سمعت ورأيت، أنت عبرت وعديت، ولما ناداك الصوت قلت نعم، قلت نعم، قلت نعم".







    صفاء النفس والروح وخلوها من الغرض والمرض وهبت الطاهر تلك الرؤية الثاقبة والبصيرة النافذة التي ترى ما وراء الأشياء ... آراؤه في البشر وقدرية المصائر:"تعرفوا يا جماعة الدنيا دى ماشيه بالعكس انت يا محيمد كنت عاوز تبقى مزارع بقيت افندى ومحجوب كان عاوز يبقى افندى بقى مزارع"...مقولاته النابعة عن معرفة أخرى كانت مطية الطيب صالح وزاملته في رحلة مراجعة الذات ...وجود الطاهر ود الرواس كان محفزا للطيب صالح( مرتديا قناع محيميد) لمراجعة ما فات من زمان وما انطوت من سيرة ماضوية اتسمت بقلة الحيلة امام الخيارات الحياتية والمسارات المهنية...هل يا ترى كان المتكلم محيميد أم الطيب صالح في "ضو البيت"(الصفحة 83):"وبعد داك كل شيء مشى بالعكس، الإنسان لازم يقول لا من أول مرة ...كنت فرحان في ود حامد..أزرع بالنهار وأغنى للبنات بالليل..أشرك للطير وأبلبط في النيل زي القرنتي..القلب فاضي وراضي.. بقيت أفندي لان جدي أراد, ووقتين بقيت أفندي كنت عاوز أبقى حكيم، بقيت معلم، وفي التعليم قلت ليهم: اشتغل في مروي قالوا: تشتغل في الخرطوم. وفي الخرطوم قلت لهم ادرس الأولاد قالوا تدرس البنات. وفي مدرسة البنات قلت ليهم ادرس تاريخ، قالو تدرس جغرافيا، وفي الجغرافيا قلت ليهم ادرس أفريقيا، قالوا تدرس أوروبا وهلمجرا".







    هذه لوحة سيريالية أكثر وأدق تعبيرا عن واقعية مسارات أجيال كاملة من اهل السودان...حين أطالع هذه اللوحة اتذكر شيخنا ابراهام ماسلو وأركان المدرسة السلوكية في علوم الإدارة... هذه سيرة تخرج لسانها طويلا هازئة بنظريات وقواعد واسس تؤكد على إختيارات المسارات المهنية والرضا الوظيفي وسلم الحاجات الإنسانية...أطالع حديث محيميد فترتد إلىّ حسيرة اجتهادات فريدريك هرزبرج حول نظرية العاملين وأوليات هاكمان واولدمان بشأن نظرية سمات الوظيفة...ومن على البعد يترنح سلم شيخنا ماسلو ... على يد الطاهر ود الرواس تعلمنا، يتقدمنا محيميد والطيب صالح، أن سبل كسب العيش في السودان تخضع لكل شيء إلا ما خططنا له.







    من إشراقات حوارات الطاهر ود الرواس التي تستوقف القاريء تلك المتعلقة بالسلطة مصدرا واستغلالاً وتلك المتعلقة بممارسات السلطة الوطنية ومقارنتها بممارسات الإدارة البريطانية ..كل تلك الآراء الخطيرة عمل الطيب صالح على تمريرها بمهارة شديدة من خلال الديالوج البديع بين ود الرواس ومحيميد العائد إلى المنبع في ود حامد بعد ان نال معاشه:"وشن قالولك يا محيميد؟ قالوا الحكام ألاد البلد صعبين اجارك الله. زمان الإنجليزي كان ينهرك ويقول لك أتلا باره (أطلع بره)..هسع قالوا أولاد البلد يضربو بالشلوت"!.







    لم يكتف الطيب بسوء استغلال السلطة بل عمد إلى إكمال رسم صورة الممارسات اللامسئولة من قبل السلطة الوطنية في تقسيم غنائم السلطة حيث أورد الطيب على لسان الطاهر ود الرواس رؤاه الثاقبة التي تلخص عبث أهل السياسة بالسلطة في سودان ما بعد الإستقلال حتى اليوم ..حين استفسر محيميد (المتعلم والموظف الكبير المحال للمعاش) عن إمكانية إيجاد وزارة للطريفي ود بكري قائلا:"من وين يجيبوا ليه وزارة البلد ما فضل فيها جنس وزارة؟؟" كان رد الطاهر ( وقد ارتدى قناع الطيب صالح) :"ما بيغلبوا حيلة يعملوه وزير الجمعيات الخيرية أو وزير الإجزخانات او وزير الوابورات اى شئ من جنس اللغاويص البنسمع بيها".







    لم يكتف الطيب صالح (على لسان بطله ود الرواس) بالسخرية من عبث السياسيين بالسلطة بل ذهب أبعد ليسبر غور معايير وأسس التعيينات السلطوية ...قال محجوب:"الطريفى ولد بكرى الجمعية التعاونية ما هو قادر عليها عاوز تعمله وزير؟"...كان رد الطاهر باهرا وقاطعاً:" إنت تفتكر الحكاية بالكفاءة الموضوع كله اونطة فى اونطة المهم تبقى فصيح لسان وقليل احسان بس كتر من يحيا ويعيش شوف الحزب القوى أدخل فيه شئ خطب وشئ عوازيم وشئ براطيل شويتين شويتين تلقى نفسك بقيت نائب فى البرلمان وبعد داك ارقد قفا"...مأساة السلطة في السودان منذ استقلاله وحتى يوم الناس هذا ونحن نسود هذه الصفحات أوجزها الطاهر ود الرواس في عبارته البليغة الدالة.







    بعد ان شرح كيفية الوصول للسلطة استمر الطاهر في إضاءة كيفية تعامل المسؤولين معها...قال له محيميد :"واذا كان ما دخلت البرلمان ما عملوك وزير تعمل شنو؟ قال ود الرواسى:"إذا ما عملونى وزير جملة الايمان اعمل فيهم انقلاب... قال محيميد:"وبعدين؟".. قال الطاهر:"وبعدين كمان شنو ..أرقد قفا اى حاجة عاوزها اضرب الجرس.. ادخل يا فلان وامرق يا علان.. فلان عينتك حكمدار فلان سويتك باشمفتش ..فلان حكايتك بايظة معاى دخلتك السجن.. فلان ما تورينى خلقتك، فلان حبابك عشرة ..وقتين امرق بالعربية الشفرولية وسط البلد الناس تهتف: يعيش ود الرواس يحيا الطاهر ود الرواس خلاص بقيت حاكم عام".







    الطيب صالح بعبقريته المسرحية قال على لسان الطاهر ود الرواس الكثير من وجهات نظره بشأن الشعارات السياسية ..سخريته تبلغ أوجها في حوار شديد الذكاء بين الطاهر وحاج سعيد (القانوني):"قلت لى يا حاج سعيد انت ياحاج العمال والفلاحين ديل بلدهم وين؟ قال لى:"يا مغفل العمال والفلاحين مو ياهن نحن"..أنا اخوك هسع نحنا اسمنا العمال والفلاحين؟.. قال لى:"ايوه"..."اها وزيادة الانتاج يعنى شنو؟".. قال لى:"الانتاج مو ياهو السجم البنسوى فيه ده وزيادة الانتاج يعنى تخت السجم فوق الرماد"...هذا مسرح كوميدي ساخر لخص رؤية قطاعات كبيرة من الناس بشان الشعارات الساسية الضخمة التي تقول كثيرا ولا تنجز شيئاً.





    ولعل أقرب مقولات ود الرواس ورؤاه التي اقترب بها كثيرا من الطيب صالح هي تلك المتصلة بالعودة للجذور..حوار ود الرواس مع محيميد العائد للإستقرار في ود حامد بعد رحلة العلم والعمل بعيدا عنها ربما تعبر بصورة أقرب لأشواق الطيب وحنينه الدائم للإستقرار في السودان...نعم محيميد لم يغادر السودان كالطيب ولكن قضية الغربة والابتعاد عن المنبع واحدة بكل حسابات أرباحها وخسائرها...ما ردده ود الرواس في مقام العائدين للأصول والجذور (الراوي في "موسم الهجرة إلى الشمال" ومحيميد في "ضو البيت") تمثل محاولات الطيب لبناء وتمديد الجسور بين المرتع والمنبع... عبر هذا الحوار استطاع الطيب توظيف تلقائية وبساطة ود الرواس لردم الهوة بين الشفيرين.. حديث ود الرواس المتسم بالمباشرة يكشف الغطاء عن ذرائع الطيب لسد باب التناقض بين المحلي والعالمي ..بين موقع القدم ومحط الآمال .. مناداة الطاهر ود الرواس لمحيميد الراغب في العودة للجذور ضربت على وتر استعادة الزمان لإعمار المكان..."أنت يا محيميد أما شاعر أو مجنون"..محيميد كان الصنو المحلي لمصطفي سعيد ..كان رمزا للهجرة الداخلية جنوبا..كان يحكي لود الرواس مسببات العودة للجذور: "وقتين طفح الكيل، مشيت لاصحاب الشأن قلت ليهم خلاص. مش عاوز.. رافض.. ادوني حقوقي عاوز اروح لي اهلي، دار جدي وابوي.. ازرع واحرث زي بقية خلق الله، اشرب الموية من القلة وآكل الكسرة بالويكة الخضرا من الجروف، وارقد على قفاي بالليل في حوش الديوان.. أعاين السما فوق صافية زي العجب والقمر يلهلج زي صحن الفضة".. محيميد يريد العودة للماضي لأوقات ولت ولن تعود "عاوز اعود للماضي ايام كان الناس ناس، والزمان زمان"...هل كان الطيب يكتب عن امانيه التي لم تغادره ... رد الطاهر ود الرواسي كان موجعا ليس لمحيميد ولكن لكل من غادر موطنه وقايض شبابه وعمره بأوطار وأماني ...فلما قضى وطره وحقق مطلوبه (أو لم يقضه ولم يحققها) وأزفت المواعيد نشد الجذور على هواه ...يريدها في انتظاره على وعدها القديم وأمكنتها التي درست وأزمنتها التي ولت:







    "انت يا محيميد اما شاعر أو مجنون او خرف الشيخوخة، لكن اهلاً بيك ومرحباً. ودحامد مسجمة ومرمدة. في الصيف حرها ما بينقعد، وفي الشتا بردها اجارك الله، النمتي وقت لقوح التمر، والضبان وقت طلوع المريق، فيها الدبايب والعقارب ومرض الملاريا والدسنتاريا، حياتها كد ونكد، ومشاكلها قدر سبيب الرأس، اسألنا نحن خابرنها زين .. الولادة بي كواريك، والموت بي كواريك، جنابك قضيت حياتك كلها منجعص في مكتب تحت المروحة، الموية بالحنفية والنور بالكهرباء والسفر درجة أولى....هلا ..هلا ! ما وقفت قَرَّاع عز الشتا، ما ركبت الحمير لامن جعباتك ورسن ...ما قعدت تعاين للتمر لا من ينجض.. يا الله السلامة، تصب عليه مطره واللا تحته هبوب، ما حرست القمح وايدك فوق قلبك يصيبه طير واللا دانقيل، وهسع وقت الصعيد جاب الهبوب مقلوبة، جيت تكوس رقدة الديوان تعاين للقمر يلالي في سابع سما، مرحبتين حباك وألف أهلاً وسهلاً".







    رسالة الطاهر ود الرواس ليست رسالة مخصوصة لمحيميد بل هي رسالة لكل منا ..لكل من اقتنص فرصة في زمن ما واختار الغربة ...عند منحنى العمر نقبض على مكامن الوجع ..نريد إرجاع الزمان والعودة لأزمنة وأمكنة وعلاقات اندثرت وطوتها تراكمات السنين ... نجاهد لنستعيد ومض بروق لمعت في سالف الأوان وترجيع رنين ضحكات جلجلت في خالي الاوان..أقاصيص واحلام طواها الزمان كما يطوي ملاح مرهق اشرعته في نهاية الرحلة... نتأمل وصايا مصطفى سعيد للراوي بشأن مستقبل ابنيه بعد تجربته المريرة في الاغتراب المهلك "أن تجنبهما ما استطعت مشقة السفر" ...قضي الأمر مستر سعيد ...ورحم الله سيدنا الشريف الرضي وهو يردد من "وَلَقَدْ مَرَرْتُ عَلى دِيَارِهِمُ":







    وَلَقَدْ مَرَرْتُ عَلى دِيَارِهِمُ وطلولها بيد البلى نهب

    فوقفت حتى ضج من لغب نضوي ولج بعذلي الركب

    وَتَلَفّتَتْ عَيني، فَمُذْ خَفِيَتْ عنها الطلول تلفت القلب



    غفر الله لنا ورحم الله الطيب وسيدي الشريف وآله والعترة الشريفة الطاهرة.




                  

11-23-2010, 03:28 PM

jini
<ajini
تاريخ التسجيل: 02-05-2002
مجموع المشاركات: 30720

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: روّاس مراكب القدرة ضو البيت: وداعا أيها الزين!! طارق جبرين وزيادة حمور علينا جاى! (Re: jini)

    Quote:

    المدارج والعتبات:



    رواس مراكب القدرة:



    يقول الطاهر ود الروّاس إن الاسم الوحيد الذي ورثه عن أبيه كان لقبا لم يناده به إلا الكاشف ود رحمة الله، كان ود رحمة الله يقول إن بلال روّاس ويسألونه روّاس ماذا؟ فيجيب:"بلال روّاس مراكب القدرة". ويقسم أنه رآه عدة مرات بين العشاء والفجر وهو قائم وحده في مركب ينقل قوما غريبي الهيئة إلى الشاطئ الآخر. ويقول الطاهر إن أباه حين مات أخذ أسماءه جميعًا معه. كأنه كان بالفعل روحًا مفردًا ليس من أرواح هذا الزمان ولا هذه الأرض".



    مريود : طبعة دار العودة: الصفحة 48













    العشق:



    "وملْ إلي البان من شرقّي كاظمة فلي إلى البان من شرقيِّها أربُ

    وكلما لاح معنى من جمالهم لباه شوقٌ إلى معناه منتسبُ

    أظلُّ دهري ولي من حبهم طربٌ ومن أليم إشتياقي نحوهم حَرَبُ""



    إبن الخيمي





    المحبة :







    "الإنسان يا محيميد ... الحياة يا محيميد ما فيها غير حاجتين اتنين... الصداقة والمحبة. ما تقولي حسب ونسب، لا جاه ولا مال.. ابن آدم إذا كان ترك الدنيا وعنده ثقة إنسان واحد.. يكون كسبان".





    الطاهر ود الرواس : مريود الصفحة 432، الأعمال الكاملة ، طبعة دار العودة





    الإنتماء:

    "السَمكةُ،

    حتَّى وهي في شباكِ الصيادين

    تَظلُ تحملُ

    رائِحة البَحر"

    مريد البرغوثي: رأيت رام الله، الصفحة 181





    إهداء وعزاء خاص:

    إلى أستاذيَّ وشيخيَّ:

    إبراهيم حسن عبد الجليل ومهدي أمين التوم

    في رحيل الطيب صالح خسارة كبيرة لقيم إنسانية رفيعة، موروثة ومكتسبة، تربيا وعاشا عليها وكانا، وما زالا، مهمومين بإشاعتها وترسيخها في وجدان وسلوكيات من أحبوهم:

    الأطر والضوابط الأخلاقية غير المساومة نبراسها

    والتعفف ممزوجاً بالتواضع الحقيقي رمانة ميزانها

    وزجر النفس ولجمها عن وعند الهوى صمام أمانها

    وإلى روح أخينا وأستاذنا العميد حقوقي "م" عبد المنعم حسين عبد الله:

    آمن بما رأى أنه الحق فكان عقله وقلبه حيث آمن..

    ثبت على عمله والتزم الجماعة..

    كما الطيب ...كان إنسانا نادرا على طريقته..

    اتخذ من المحبة "جلابية" ومن النقاء والبراءة "عِمة" و"شال"...

    داراه بحي النسيم بمدينة الرياض السعودية وبحلفاية الملوك بالخرطوم البحرية كانتا واحة إنسانية وقبلة وطنية...









    رحل موفور الإباء ليختال بإذن ربه زاهياً في بساتين البهاء..

    رحمة الله تغشاك يا أبا محمد

    المناداة: مرجانة في تماهي الذات في الوطن

    "كثيرون من العشاق يأتون حيّك

    الدم في قلوبهم يسَّرب من عيونهم، ثم يرحلون

    وحدي، عند أعتابك أبقى كالغبار

    فيما الآخرون يأتون كالريح ويمضون"

    مولانا جلال الدين الرومي: "حين أناديك يا أنت، فندائي بيني وبينك حجاب"





    "إن أي مسعى يبدأ دائما بحظ المبتدئ وينتهي دائما باختبار المقتحم"

    باولو كويلو : الخيميائي





    "ليلنا أسودَّ وطال

    نَهارُنا بالكدحِ والإملاقِ

    داج

    هيئوا أنفسكم ..

    مُلكنا من دونِ مُلكٍ

    مُلكنا من غيرِ تاج

    افتحوا أعينكم..

    شوّش الرؤية في أرواحكم

    هذا السناج..

    وأنا قد بِتُّ أُدركُ مَنْ أنا

    وأنا قد بتُّ أفهم



    ما الذي يعنيه كنهُ الوردةِ..







    النبضِ .. السنا



    وأنا قد بتُّ أفهمُ

    ما الذي يمليه.. قيدُ

    القٍبلةِ .. الوطنِ .. الزجاجْ"

    إيمان آدم خالد: من قصيدة "وطن زجاج" :ديوان "تجاوز بغابة الخيزران"





    هادئا كطبعه أناخ شيخنا الطيب الركاب....لطيفا كالنسيم عبر إلى الشاطئ الآخر ..كالطيف انسرب من بين أعين قراء أدمنوا حرفه اليانع ولغته الجزلة الحية وآذان مستمعين سكنت وجدانهم كلماته المضيئة الحكيمة.. ذهب الرجل مخلفا الباقيات الصالحات الطيبات من أعماله والذكر الحسن ...غادر الفانية بعد أن بقي احدوثة حسنة بعده.





    رحل “ضو البيت” بعد أن سعى جهده لإنجاز مشروعه الوطني الكبير في ترسيخ دعائم عشق الوطن ورفعة شأنه...ذهب بعدما حقق لوطنه ما عجزت عنه حكومات وأحزاب ومنظمات وجيوش وأنظمة.. غادر الفانية وقد نجح في ربط وجوده الكوني الفاعل بالسودان في إيجابية مجيدة بناءة قصرت دونها همة وخيال الرعاة الذين ساسوا الديار فقوضوا قواعدها وهدموا أركانها وأورثوها الدمار.





    من رحمة الله على البلاد وأهلها أن هيأ لها من أبنائها مثل الطيب ضواً للبيت ليضيء لها شمعة باهرة في دياجير ظلمة إخفاقاتها ونكساتها السياسية والإنسانية.. “ضو البيت” كان، ضمن كوكبة نيرة خيرة من أبناء البلاد، ترياق أهل السودان لمتلازمات الفشل وعناوين التقصير...كان حالة استثنائية نادرة لمن سعى فرداً مفرداً لرتق ما تهتك من جسد وروح بلاد لم يبدع أبناؤها في شيء كإبداعهم في تطوير آليات تدميرها والفتك بها...سعى “ضو البيت” فرداً مفرداً لنصرة بلاده، عِدَّتُه مواهب ربانية في العقل والروح فأحبه الخلق من مشارق الأرض ومغاربها ..عجمهم وعربهم..أحبه الناس وأحبوا من وراءه بلادا تنجب مثل “ضو البيت” :





    "في مطلع الثمانينات من القرن الماضي وأنا أجلس بمقهى في مدينة الدار البيضاء المغربية اقترب مني شاب مغربي..قال لي :"أنت من السودان؟" قلت نعم"..قال لي:"السودان لا بد أن يكون بلدًا رائعًا لينجب الطيب صالح"..ملأني حديثه زهواً فدعوته للجلوس..قال لي :" قرأت أعمال الطيب صالح كلها وهو عندي أعظم روائي عربي" .. جالسته قرابة الساعة وكان أعجب ما سمعت منه :"إن شخوص الطيب صالح – وعدَّد بعضًا منها – موجودة في الريف المغربي"..حينها فقط أدركت معنى أن يكون الكاتب عالمياً والأدب إنسانياً ...حينها استوعبت معنى أن تتناسل طنجة من مروي وأن تندغم ود حامد في مراكش وان تتواصل الشكينيبة و"الزريبة" مع فاس ومكناس وأن يتآخي في الله أبو هاشم سيدي علي وسيدي أبو الحسن الشاذلي، ومعنى أن ينشد العارف بالله سيدي عبد الرحيم وقيع الله البرعي:





    القوم بتجيك من بلاد بلجيك لبنان ومصر ومراكش ديك

    ذاك كان حديث شاب مغربي مثقف أكدت عليه بعد رحيل الطيب كلمات الأستاذ مأمون فندي في بكائيته وهو ينعي الطيب: "في يوم الخميس الفائت، وفي مكالمة هاتفية مع أبي القابع عند جبال الأقصر، قال لي: «لقد حزنت على صاحبك». صمتُّ وهمهمتُ بشيء من القرآن، فعرف ما في القلب من وجع وغيَّر الموضوع. كنت أقرأ له من روايات الطيب، وهو الرجل الذي لا يقرأ ولا يكتب ولا يعرف معنى الرواية الحديثة، فكان يحبها لما فيها من روح ورائحة مكان وناس يشبهونه. حكايات فيها رائحتنا، وفيها من نفسنا ونفوسنا".





    ذات النقطة ركز عليها الأديب سعيد الكفراوي في رسالته الدامعة في نعى الطيب صالح..يقول:"رحل السوداني الطيب.. يرحل الأحبة فتغيب برحيلهم ألفة الوطن.. رحل أحد المؤسسين الكبار لفن الرواية العربية الحديثة.. أذكر في أواخر الستينات حين نشر الراحل رجاء النقاش ـ كلهم رحلوا ـ رواية «موسم الهجرة إلى الشمال»، في القاهرة، كنا في ذلك الوقت نحاول الإسهام في كتابة جديدة، فصدرت الرواية ونبهتنا للقيمة الحقيقية للكتابة، وكشفت عن ثراء الواقع باعتباره المادة الأولى للفن. صحبني «مصطفى سعيد، وبت مجذوب وضو البيت ، وبندر شاه، ومريود»، أهم شخصيات رواياته، وقادوني إلى اكتشاف ما يوازيهم في واقعي المصري الذي لا يختلف كثيرا عن الواقع السوداني".





    وإذا كانت بيئة الطيب السودانية قريبة من البيئة المصرية فإنها كانت أيضا قريبة من البيئة الموريتانية...يقول الكاتب والدبلوماسي الموريتاني محمد محمود ودادي: "بعد قراءتي لـ"موسم الهجرة إلى الشمال" و"عرس الزين" شعرت وكأني قرأت في سفر حياتي في الحي البدوي الذي عشت فيه، وفي قرية وادي الرشيد، بشخوصها وهمومها وتفاصيل العلاقات اليومية بين البشر والأشياء، وصراعهم الدءوب...وكان "الزين" بالذات في رواية "عرس الزين" تجسيدا لشخصية عشت معها في القرية، جعلتني كلما حننت إلى صبوتي، أعيد قراءة هذه الرائعة".



    عظمة الطيب وقيمته الحقيقية أنه بذل نفسه للسودان وأهله من باب فرض العين الذاتي الواجب...مهامه الوطنية لم تندرج –كما عند غيره- ضمن منظومة المندوبات والكفائيات بل فرضت نفسها وقد جاءت تلقائية خالصة متحررة من ربقة الالتزامات السياسية وإسار الانتماءات الأيدولوجية وتعقيدات الارتباطات الجهوية كما لم تحركها الطموحات الذاتية..جاءت تلبيته لنداء الوطن من باب قناعة داخلية راسخة بأولوية المسئولية الوطنية، وهذا باب من البذل وجهاد النفس أسقطه المثقفون من أجندتهم مع رحيل المستعمر وهم يتهافتون، وما فتئوا ،على خيرات بلادهم ومقدراتها حتى أتلفوها إتلاف وارثٍ سفيهٍ أحمق.. الطيب كان من تركيبة أخرى ولعل هذا من أسرار تعلق الناس به وحبهم لسعيه وتقديرهم لعطائه. لقد تماهى الرجل في وطنه إذ تبتل في محرابه حباً وعشقاً.





    الطيب طاف العالم حاملاً معه السودان تراثاً وثقافة وأدبا وطبعاً وأخلاقاً ..في أعماله المتعددة جمع طيب الكلم السوداني فأوعى..حفظ ديوان الشعر السوداني الفصيح والشعبي ..عرف المأثور وسبر غور المثل السائر ...أوغل في البيئة السودانية ممتطياً صهوة المحلية المنفتحة فقادته، والأدب السوداني، إلى العالمية ... في رواياته - كما في مقالاته التي فتحت آفاقا جديدة للكتابة الراتبة - ذات المضامين الأدبية والفنية الراقية عرض الطيب للمكون السوداني المحلي فرأى الناس عجباً... قدم الطيب للثقافة السودانية والأدب الشعبي السوداني خدمات قصرت عنها وزارات وأجهزة ..عبْر الطيب ألمَّ الناس بتضاريس السودان الشمالي وبشره وعاداته وطقوسه ...الطيب أو "سيدي الطيب" كما يقول محمد بن عيسى وزير خارجية المغرب وصديق الطيب وصفيه :"هو ذاكرة السودان المتنقلة، يحفظ لكتابه وشعرائه، زجاليه بالخصوص، ويحن إلى وطنه الأم ويحس بأحشائه تتمزق وهو يتحدث عن السودان. مجالسه التي يستحليها هي مجالسه مع السودانيين، من خيرة مفكريها وعلمائها ممن عرفت، ولكن الطيب صالح هو إنسان كل الدنيا، يستسيغ الثقافات ويقرأ لكل الكبار وفي مقدمتهم الإنجليز".



    ولعل من جوانب فرادة الطيب أنه ظل منافحاً عن رؤى إنسانية عميقة في الحريات والحقوق العامة وطرائق الحكم وأساليب السياسة ..هذه الرؤى كانت ثمرة وجوده الطويل والفاعل والأصيل (ولا أقول اغترابه) في المهاجر، لا سيما الغربية منها...ظل الطيب ينادي بذات القيم الداعية لاحترام الشعوب والنزول عند إرادتها...الطيب لم تستطع قوى سياسية حاكمة أو معارضة أن تستميله إليها لا بذهب المعز ولا بسيفه .. حين القطاف، ولات ساعة قطاف، هرولت الصفوة ميمنة وميسرة فيما بقي هو "كالسيف وحده" يتغزل في "فينوسه" على طريقته...وفي حين راح شيخه أحمد محمد صالح يستحث جماعة المثقفين على القيام بواجب التنوير :



    يا وارث المجد التليد وباني الأدب الأجد

    علم شباب الواديين خلائق الرجل الأشد

    علمهم أن الخنوع مذلة والجبن يردي







    مضى الطيب يقدم ذلك صحائف ناصعة من البيان بالعمل .







    الطيب من فئة قليلة حافظت على احترامها لنفسها ولموقفها من الدنيا وأحوالها وتقلباتها فاحترمها الناس ...كم من مثقف نادي بطيب الكلم وسامق الشعار فلما نادته ساحرات السلطة الغانيات أتاهن مهرولا ...أتاهن مهرولا وقد تأبط الخبائث فعلاً والمتدني من الحديث قولاً..عند الاختبار سقطت منارات كثيرة ولم تقوى على نار التجمر فتبين للشعب خيط النقاء الأبيض من رصيفه كالح الملمح ...حين ورود ساحات المجد وعند أوان الزحف تولت جماعات عديدة ولم يقف على سداد الثغور سوى العصبة ومنهم ““ضو البيت” ” ....كم من أسفار سودت وصحائف دونت رفعها الطيبون الآملون مكاناً علياًً فلما أقبلت الدنيا فجع الناس في مدونيها ورواتها الذين تهاووا كأعجاز نخل خاوية إذ صرعتهم خسة الأنفس وهوانها وإمرة النفس بالسوء ..تقلب أهل العلم والثقافة وتأرجحوا مع إيقاعات ودف السلاطين إلا من رحم ربك ولكن "ضو بيتنا" هذا غير...قال لا في ميقاتها.. وقال نعم في أوانها.. لم يحركه مطمع ولم يمنعه مغرم وتلك وأيم الله شنشنة لم نألفها في أخزم السوداني المتعلم.









    كتابات الطيب صالح تعكس صورة السودان على شكل عبقري ...ولعل كلمة الأستاذ معاوية البلال كانت أكثر دقة وهي تشير إلى أن الطيب:



    "اختزل تاريخنا في خمسة روايات ترجمت إلى أكثر من 20 لغة سكب فيها ملامحنا وشهواتنا وأشواقنا وعذاباتنا وتصوراتنا وأحزاننا ومراراتنا وأحلامنا وتجلياتنا في مرآة كلماته الروائية، كأرواح في التاريخ وكبشر عصفت بنا الصراعات مع أنفسنا ومع الغرباء ومع العالم."

    تماهي الذات المفردة في الوطن يستدعي صوراً وتصورات متعددة للوطن ...ورغم تعدد هذه الصور إلا أن أجلها وأعظمها وأكثرها إنسانية هي صورة الأم بكل عشقها وجنونها وولهها ببنيها ..وككل أم لها مراتب متفاوتة ودرجات متراوحة لبنيها حباً واشتياقاً ..حب مضمر وسر مكنون لا يعرفه سواها ومن ترغب وتريد من بنيها...أمثال الطيب لا تني الأوطان تناجيهم عند الخطوب..تناجيهم معددة شمائلهم وقيمهم وقيمتهم عندها ...هموم الأوطان تجري على السنة الموهوبين من بناتها وأبنائها .. ومَن أكثر موهبة من فاطمة بت حمد خير لمناجاة الطيب:





    "انت يا سيد البسوق ارقوق موازين

    انت يا سيد الجزيرة تكاكي وزين

    انت يا سيد الحصص صمد النمرتين

    انت يا سيد الشتيل التكه العراجين

    انت ماك عارف قليبن لي مجينين

    ما بترسل لي جوابا فيه سطرين

    وما بتقول لي نعيم صباح امو اشتغل وين"





    لقد كان كل ذلك وأكثر لقد "ساق أرقوق" وله جزائر وليست جزيرة واحدة صادحة بكل جمال وكان "صمدا" على قرى الرواية العالمية ودساكر الثقافة الإنسانية ونجوع الفكر الحر ...لقد أثمرت شتلات غرسه، بإذن ربه، فاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة....كان يعرف قلب الوطن الأم وكان باراًً بوطنه محباً للسودان وأهله ....واظب على إرسال الرسائل ...رسائل العشق والمحبة للوطن والإنسان..ولعل القضية الأسمى التي انتظمت رواياته وأعماله كلها تمحورت حول المحبة .. وعلى كثرة وتنوع شخوص أعمال الطيب وأبطاله إلا انه رمى بكامل ثقل المحبة وكلكلها على واحد من أقل الناس شأنا بموازين أهل الدنيا...الطيب قال على لسان الطاهر ود الرواس أجمل قصائد العشق والمحبة بإنسانية شفيفة نابعة من وجدان حقيقي لا قصصي روائي...لا أدري ولكني ظللت أتصور الطيب قد عاش في جلباب الطاهر ود الرواس حياته كلها:





    "ويوم الحساب، يوم يقف الناس بين يدي ذي العزة والجلال، شايلين صلاتهم وزكاتهم وحجهم وصيامهم وهجودهم وسجودهم، سوف أقول: يا صاحب الجلال والجبروت ، عبدك المسكين، الطاهر ود بلال، ولد حواء بت العريبي، يقف بين يديك خالي الجراب مقطع الأسباب، ما عنده شيء يضعه في ميزان عدلك سوى المحبة".





    زمردة في شأن ملامح بندر شاه أو :البورتريه المستحيل:

    "وأصيلة وهي تكرم سيدي الطيب إنما ترد للرجل بعضاً مما أعطى للعرب أولاً، وللفكر والإبداع العالميين ثانيًا. في أصيلة تنوب ثلة من المفكرين والأدباء والباحثين من الوطن العربي ومن خارج الوطن العربي عن كل من قرأ للطيب صالح وقدره وأحبه، تماما كما كرمت أصيلة قبله الشاعر محمد الحلوي، والشيخ المكي الناصري، والشاعر الرئيس السنغالي السابق ليوبولد سيدار سنغور، وغيرهم ممن أعطوا من أنفسهم للإنسانية وللفكر والإبداع.. مثل سيدي الطيب صالح".



    محمد بن عيسى في تكريم الطيب صالح بمهرجان أصيلة

    "كادت سرائر سري لا تبوح به وكاد خوفي عليه لا يسميه

    ينأى ويقرب مجلواً ومستتراً كالغيب أجمل ما في الغيب ما فيه

    من ذا هو الرجل العالي ولست أرى إلا بريــق نجــوم في أعاليـه

    يلقي على السهل ظلاً من عباءته فينبت العشب في أقصى حواشيه

    يكاد يلمس قلب الماء مبسمه ويهطل الغيث إن صلى على التيه"

    محمد علي شمس الدين: دموع الحلاج





    "من لزم العبودية لزمه أثنان: يأخذه الخوف من ذنبه، ويفارقه العجب من عمله"

    أبو يزيد البسطامي: "العبودية" كتاب الشذرات





    إن رسم بورتريه ل"ضو البيت" يبدو أمراً أقرب للمستحيل...الناس أنماط ونماذج ولكن تنميط الطيب صالح ونمذجته في إطار السائد من قوالب التصنيفات أمر صعب في أدنى درجاته، مستحيل في أقصاها..إن قوافي الشعر قد تتباين ولكنها، في نهاية الأمر، تظل خاضعة لأطر علم العروض للخليل بن أحمد الفراهيدي وتابعه الأخفش ..وقد تأتي الألحان متنوعة ولكنها تظل ترتبط بوتد المقامات والسلالم الموسيقية ..وقد تتباين السلوكيات البشرية ولكنها غالباًً ما تؤطر في قوالب مدارس علم النفس المعروفة من بنائية ووظيفية وسلوكية بافلوفية ..ولكن "ضو البيت" عصي على القوالب الجاهزة ...الطيب روائي من الطبقة الأولى عالمياً وكاتب مقالة من طراز رفيع ومثقف كوني يأخذ من الثقافتين العربية والأوربية (الإنجليزية) بذات المقدار والاقتدار..مثقف مهموم بقضايا وطنه ..وإنسان نادر على طريقته...قلَّ أن تجد مثقفاً يجمع عليه نقاد الأدب وأهل الثفافة والمعرفة كما هو الحال عند "ضو البيت" ...هو من قلائل المثقفين السودانيين (بل نكاد نقول الوحيد) المعروفين في كافة منتديات الثقافة والمعرفة العربية..ولكن ما هي ملامح وسمات بورتريه هذا الطيب الصالح؟.



    عقب رحيل الطيب سال مداد كثير ناعياً الفقيد معدداً مآثره مبيناً شمائله.. وفي خضم هذا الدمع المدرار توقفت عند صورتين للطيب تركزان على احدي السمات الأساسية لشخصيته ...الصورة الأولى صورة عرفانية رسمها مامون فندي في مقالته عالية القيمة "الطيب مر من هنا" ..يقول فندي : ""كان وجوده يومها شفافًا، وكأنه يقف على الحد الفاصل بين الحضور والغياب، كان ضيفًا عابراً أشبه بذلك الغريب الأبيض أخضر العينين الذي يطلع من النهر في روايته «“ضو البيت” »، بندر شاه مضى كالحلم وكأنه ما كان.. “ضو البيت” اختفى، لا خبر ولا أثر، ذهب من حيث أتى، من الماء إلى الماء.. كأن المولى ـ عز وجل ـ أرسله إلينا ليحرك حياتنا ويمضي في حال سبيله. الطيب صالح لم يكن أبيض البشرة ولا أخضر العينين، بل كان روحًا عالية تسكن ملامح رجل سوداني أسمر، روح مرت من هنا بعد أن علمتها «فاطمة بنت جبر الدار» آيات من سورة الضحى. كان الطيب صالح كبطل قصته «“ضو البيت” » يقدر على الحركة في الزمان والمكان، «كأن الطفل ولد عند الشروق، وتم ختانه وقت الضحى، وصار للزواج بعد صلاة العصر».. الطيب ولد روائيا في صباحنا، وغدا قامة كبرى في الضحى، واختفى في المساء".



    أما الصورة الثانية فرسم ملامحها الوزير محمد بن عيسى إذ يقول عن لقائه الأول به :"ذهبت إليه بروح الصوفي الذي يقصد شيخه ليستشفّه وليتبرك بمكرُماته، وينهل من صنيعه الفكري والروحي.... يا الله ما أبدع هذا الرجل بتواضعه وبساطته وقناعته ...وليّ صالح حتى دون عمامته...أاسميه سيدي الطيب كما نسمي في المغرب الأولياء والصالحين".



    الصوفي سمة اتفق عليها فندي ومحمد بن عيسى كعلامة دالة في بورتريه الطيب صالح الذي جمع فأوعى.. سره الأعظم كان في مخبره كما كان في مظهره ...من عرفوه عن قرب لمسوا فيه الإنسانية في أسمى معانيها الصوفية ..ذلك التواضع الحقيقي وتلك الإلفة المعدية لا بد أنها تجذرت في صوفية الطيب ...الغالبية أحبت فيه الخفر الرباني والوداعة التي لا تخطئها العين ..فيه حنو غريب ...يحدث الناس على استحياء وهو العارف ويخاطبهم بصوت خفيض وبصر غضيض وهو العالم ..يمجد إنجازات الناس ويتعمد إغفال منجزه ..مَن قال إن الأفاضل من الناس لا يربحون شيئاً؟ ..كذبوا ورب محمد ...هذا رجل ضو بيت ..ضو بلاد بحالها ..كان فاضلاً جميلاً وكسب كل ما يتمناه البشر الأسوياء..حب الناس لوجه الله تعالى.





    مواهب كبيرة وقدرات فذة وروح سمحة جمعت له قلوب العالمين وأفئدتهم ومآقيهم التي سح دمعها مدراراً من ضفاف الخليج إلى شواطئ نواذيبو في بلاد شنقيط ومن الدنيا القديمة في اللندرة وحتى أقاصي الدنيوات الجديدة في كاليفورنيا ونيوزيلندا واستراليا وما والاها من جزر كوك وهاواي ...بكت الطيب أصيلة والدوحة ونهنهت بالبكاء الراعش أديبات الرياض وبيروت والقاهرة .. بكاه الحكام والوزراء والمسؤولون والمثقفون وعامة الناس.





    حدثني عن مثقف شامخ وطود معرفة أشم فتحت له صدور مجالس وديوانيات السلاطين ودهاليزهم فعافاها ولاذ بمجالس غمار الناس؟...أحكِ لي عن روائي نادر الصنو قالت له جوائز الدنيا هيت لك فقال معاذ الله لست أهلا لك؟..خبرني عن عالم إعلامي خبر دروب الإعلام وهالاته وأضوائه فإزوّر عنها وأشاح دونها يختلق المعاذير ليخلف مواعيدها قائلا :غري غيري؟..الطيب كان ذلك المثقف الروائي الإعلامي...يقول محمد بن عيسى:"لم يستسغ قط فكرة تكريمه: «لا يا راجل، والله لا أستحق التكريم، هناك غيري ممن يستحقونه»، كان يردد لي ذلك كلما فتحت الموضوع معه حتى أحسست أنه فعلا لا يرغب في أن يكرم وأنه فعلا غير قادر على الرفض، وصارحته بذلك، واعترف، وأخيرا قبل". في ذات السياق تأتي إفادة الأديبة اللبنانية رشا الأمير:"مشكلة الطيب صالح وسره في خجله وخفره. رجل لا يحب الضوء، لا، بل يهرب منه ويتحاشاه. ومن البديع أن الناس كرموه دون أن يطلب أو حتى يبحث عن ذلك، لا، بل كان زاهداً ومتعففًا. هذا جيل آخر، غير جيل الأدباء الجديد الذي يستجدي الشهرة ويطاردها، الطيب صالح كانت النجومية هي التي تطارده". تواضع الطيب صالح حقيقة بارزة في حياته ومسيرته المهنية والإبداعية. يقول طلحة جبريل :"وعلى الرغم من أن روايته «موسم الهجرة إلى الشمال» اختيرت ضمن أفضل مائة عمل في تاريخ الإنسانية، يقول الطيب بتواضعه الجم «أقول لك صادقاًًً ليس لديّ أي إحساس بأهمية ما كتبت، ولا أحس أنني مهم، هذا ليس تواضعاً لكنها الحقيقة، إذا اعتقد الناس أن ما كتبته مهم فهذا شأنهم لكنني قطرة في بحر، قصيدة واحدة للمتنبي تساوي كل ما كتبته وأكثر".





    تواضع الطيب ميسم آخر ومفتاحي لشخصيته الآسرة ورغم محاولته نفي الميسم إلا أنه يفضحه في كل حال وعند كل مجلس...في يقيني إن شيمة التواضع عند الطيب من الموروثات التي عالجها وثقفها بالتجربة والترحال والإطلاع ...في رواياته وكتاباته ميل واضح لرفعة قيم التواضع والتسامح ..انحيازه لهذه القيم النبيلة لا تخطئه عين القارئ ولا أذن المستمع لأحاديثه ...الطيب قارئ متدبر لسيرة السلف الصالح ..أوقف فصلاً رائعاً في "مختاراته" الموسومة "المضيئون كالنجوم" لفيوض العارفين..كشف الفصل عن حب جارف لآل البيت وللأئمة العارفين...في هذا الفصل تحديداً تتبدى دون غطاء جذور صوفية شفيفة للطيب..يحدث القارئ عن الإمام جعفر الصادق وسفيان الثوري والإمامين مالك وأبي حنيفة النعمان ..يحدثه عن أخبار بشر بن الحارث الحافي وسري السقطي وأبي حازم الأعرج ومالك بن دينار وأبي القاسم الجنيد وأبي بكر الشبلي..قرأ نهج البلاغة بشروحات الشريف الرضي والإمام محمد عبده فانتبه ...من بديع كلام أبي الحسنين الأمام علي كرم الله وجه أخذ الطيب في مدونته نبراسه للتواضع :"بكثرة الصمت تكون الهيبة. وبالنصفة يكثر المواصلون. وبالأفضال تعظم الأقدار. وبالتواضع تتم النعمة. وبأحتمال المؤن يجب السؤدد وبالسيرة العادلة يقهر المناوئ، وبالحلم عن السفيه تكثر الأنصار عليه".



    صوفية الطيب وتواضعه منحته إهاب وروح أهل الله ...تنضح كتاباته ببهاء وحلل الأنوار الشعشعانية التي تجذب أرباب العقائد وأصحاب المواجد العرفانية ...يتقلب على إرث صوفي عميق وتحس في بعض فيوض كتاباته وكأنه يتأرجح مع دفوف أهل الذكر وترجيع إنشاد الذاكرين..كلما قرأت للطيب شيئاً في الأدب الصوفي وأحاديث العارفين تراءت لي صورة "ود طمبل" خليفة خلفاء السادة الختمية الأشراف بالخرطوم البحرية..كالطيب كان الخليفة محمد احمد وجيهاً وسمحاً سمتاً ومعنى ..كلاهما شرب من سلسبيل ماء الحضرة وورد حياض الصالحين فدقَّ أسلوباً ورقَّ سلوكاً وتحضراً..تجيئني صورة خليفة الخلفاء وأنا أطالع "مريود" أعظم ما خطه يراع الطيب صالح ..هذا السفر العظيم ينوء بحمولة من العشق والمحبة تكفي لتليين جلاميد القلوب وغلاظها وتكفي لتلطيف جوامد الحواس وإحياء ميت الشعور.. يكتب الطيب (مريود:طبعة دار العودة :الصفحة 88 ):



    "لقد أحب بلا ملل، وأعطى بلا أمل، وحسا كما يحسو الطائر، وأقام على سفر، وفارق على عجل، حلم أحلام الضعفاء، وتزود من زاد الفقراء، وراودته نفسه على المجد فزجرها"....





    أقرأ مريود فتحضرني صورة ود طمبل كاملة رونق البهاء إذ المنشد المجود يملأ فضاء الحضرة بأناشيد العرفان وترانيم "الهاء" البهية فالنون نصف دائرة الأكوان:





    صلّوا على بَحَرَ الصّفا المُصْطَفَى

    صلّوا عليه

    وآلهِ والصّحبِ أهلِ الوَفَاَ





    مدائح السادة الختمية تشنف آذان الحضرة وتشجي أفئدة الحاضرين بشجن أزلي وسمو عرفاني يجعل من الروح كائناً أثيرياً طائفاً سابحاً في ملكوت ودنيوات آخرى إذ الشيخ الخليفة يزلزل النفوس بصوته الريان المضمخ ببديع النفحات المدنية في المداِئح المصطفوية:











    صلّوا عليه

    ما لاحَ بَرقُُ أو أُزيلَ الجفََا

    وما سَرى السّاري لدَى المُقْتَفَى

    باللهِ يا ريحَ الصّبَا هل نبـا

    عَن الحبيبِ الّذْ لنا قد سَبَا

    حُلوَ اللما معسُولَه الطيّبَا

    من حلّ في وسطِ الجوَى طنّبَا

    حاوي الجمالِ نعمَ الجمالُ يا فتَى

    مَنْ حُسْنُهُ لم يأتِ أي ما أتى

    فاقَ البدرْ قد صَحَّ ذا مُثْبَتَا

    والشّمسُ مِن نُورهِ تُضيئ ثابِتا

    صلّوا على بَحَرَ الصّفا المُصْطَفَى

    صلّوا عليه

    وآلهِ والصّحبِ أهلِ الوَفَا



    صوفية الطيب عبر كتاباته لا شك استوقفت الكثيرين ...يقول مأمون فندي "ذات يوم حكى لنا عجوز من قريتنا في صعيد مصر، أنه رأى سيدنا الخدر (البعض يكتبها الخضر) ماراً في القرية، رآه سارحًا على حصان أبيض تفوح منه رائحة الطيب والمسك، كان العجوز لتوه قد فرغ من صلاة الفجر، وفي محاولة منه لمعرفة سر هذا الرجل الغريب، اقترب منه وسأله: أين صليت الفجر؟، فأجاب الرجل بأنه قد صلاه للتو في الكوفة، فبان للعجوز أنه أمام رجل من أهل الخطوة ممن تُطْوَى لهم البيد طيًا، وكان العجوز يقول لنا بأنه تأكد وقتئذ من أن هذا الرجل القادر على قطع المسافات بسرعة الضوء، يحضر ويغيب برمشة عين، هو سيدنا الخدر عليه السلام...هكذا كنت أتخيل الطيب"....ليس الأستاذ فندي وحده وكذلك كنت أتخيل الطيب ..منشداً في حضرة محضورة ...تستنيمه عن الخلق أبيات عرفانية وتوقظه على الحق كلمات جادت بها قرائح شيوخ جافت جنوبهم المضاجع قياماً لناشئة الليل التي هي أشد وطأ وأقوم قيلا:





    يا ليلي ليلك جن معشوقك اوه وانّ

    ام مرحى فوق جبلنا اصلو الاكسير معدنا

    الشرب بالكوب والدنه وكل الغشاهو تهنا





    بندر شاه نهل من النبع العرفاني فجرت كلمات الحق وصفات الاستقامة والزهد والتعفف على لسان أبطاله ...يقول محمود ل”ضو البيت” في بندر شاه : "يا عبدالله نحن كما ترى نعيش تحت ستر المهيمن الديان، حياتنا كد وشظف، لكن قلوبنا عامرة بالرضا، قابلين بقسمتنا التي قسمها الله لنا، نصلي فروضنا، ونحفظ عروضنا، متحزمين ومتلزمين على نوائب الزمان وصروف الدهر، الكثير لا يبطرنا، والقليل لا يقلقنا، حياتنا طريقها مرسوم ومعلوم من المهد إلى اللحد، القليل العندنا عملناه بسواعدنا، ما تعدينا على حقوق إنسان، ولا أكلنا ربا ولا سحت، ناس سلام وقت سلام، وناس غضب وقت الغضب الما يعرفنا يظن إننا ضعاف إذا نفخنا الهوا يرمينا لكننا في الحقيقة مثل شجر الحراز النابت في الحقول".... هذه صفات عبيد الله الذين تحسبهم أغنياء من التعفف...هذه صفات الرضا في أعلى درجاته والوسطية في أسمى معانيها ..يعرفون حدود الله وواجبات المسلم وأخلاقياته ..الطيب جاء ابناً صالحاً من صلب مثل هذه القيم ومن ترائب تلك الشيم والصفات.













    ملامح ومكونات بورتريه الطيب تشي بوقوفه المدرك على الموروث الصوفي الإنساني حيث عب منه وملأ جراب التجربة والحياة...عرف كلمات البسطامي والحلاج وسيدي محمد بن عبد الجبار النفري الذي يقول في المواقف والمخاطبات (موقف قلوب العارفين) : "وقال لي: إلتقط الحكمة من أفواه الغافلين عنها كما تلتقطها من أفواه العامدين لها ..إنك تراني وحدي في حكمة الغافلين لا في حكمة العامدين...وقال لي: اكتب حكمة الجاهل كما تكتب حكمة العالم."



    عملا بنصيحة بن عبد الجبار التقط الطيب حكمة الغافلين ودونها كما التقط حكمة العامدين لها ودونها ...حكم نصر الله ود حبيب والشيخ الحنين من عباد الله الصالحين استذكرها الطيب كما استذكر حكم ومقولات الطاهر ود الرواس وسعيد عشا البايتات القوى ومحيميد ومحجوب وأحمد إسماعيل وعبد الحفيظ وسعيد القانوني وبت مجذوب وحمد ود الريس وحسنة بت محمود... استوعب نصائح وحكم العارفين فأجراها على السنة أبطاله بخيرهم وشرهم فرسم لوحات إنسانية سامية ستبقي قوية نابضة بالحياة في ذاكرة الرواية العربية والعالمية...يقول الكاتب الأديب الروائي الدكتور سليمان الشطي : "إن الأدباء مثل الطيب صالح ضمائر متوثبة تنفض فينا الجذور فتدب الحياة من حولنا...أذكر تلك الظهيرة الساخنة، فيها كانت الرحلة المذهلة معه في موسم رحلته الشمالية، رحلت مع بطله مصطفى سعيد، وجين موريس إلى الشمال البارد، تجولت في خلايا أرض السودان...وبدا لي، بل رسخ في فكري، وتغلغل في ثنايا وجداني تصور لقيمة هذا المبدع الذي كان يتفرد سلوكًا وأدبًا. فيه تلازمت مجتمعة رؤى متعددة، كما بدا من روايته موسم الهجرة إلى الشمال، حيث معضلة اللقاء مع الآخر، وهو لقاء متجدد دائمًا قديمًا وحديثًا، التقط عن معاناة ما سبقه آخرون قريبون منه، الحكيم ويحيى حقي وسهيل إدريس، عالج كل واحد منهم طرفاً من الأطراف أما هو فقدم اللقاء فالصدام فالانكماش. كانت معالجته موغلة ضاربة في أعماق النفس، لذلك يمد يده، أو مدها من قبل، ليقبض قبضة من طين أرضه فتستوي شخصية (الزين) في روايته (عرس الزين) لتقدم كمال الصورة.. ويستمر التكوين والصقل في أعماله المعروفة، مركزة، مشيرة، مستوعبة، ناضجة...كان الطيب صالح تراثياً موغلاً في التراث، شعبيًا متذوقًا للحس الشعبي البارز الظاهر، وفي الوقت نفسه لا تراه إلا ويقربك من روح الصوفي الهائم.... هكذا كان الطيب صالح، أديبًا وإنساناً وللناس في أسمائها دلالة"( انتهى). ..نعم سيدي الدكتور للناس في أسمائها دلالة ولها في أسماء وعناوين أعمالها نصيب وأي نصيب.."مريود".."ضو البت" .."بندر شاه".



    العتيات والمدارج دى صعود من الاسفل الى الاعلى او هبوط من الاعلى الى الاسفل بسبب الظرف التاريخى الذى يمر به الوطن!
    جنى
                  

11-23-2010, 04:53 PM

باسط المكي
<aباسط المكي
تاريخ التسجيل: 01-14-2009
مجموع المشاركات: 5475

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: روّاس مراكب القدرة ضو البيت: وداعا أيها الزين!! طارق جبرين وزيادة حمور علينا جاى! (Re: jini)

    جني كل عام وانت بخير
    انا مدمن شخصيات الطيب صالح
    بوست عجبني
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de