حين سعى عمر وراء جيسيكا بخراج روح

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-09-2024, 11:32 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الرابع للعام 2010م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
11-06-2010, 01:00 PM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
حين سعى عمر وراء جيسيكا بخراج روح

    فصل آخر من رواية قيد المراجعة.

    (الدعوة)، وهو العنوان المعتمد للفصل داخل الرواية.
                  

11-06-2010, 01:05 PM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حين سعى عمر وراء جيسيكا بخراج روح (Re: عبد الحميد البرنس)

    ذات مساء صيفيّ، كنت أجلس في صالة شقة عادل سحلب الواسعة صحبة رفاق سبق أن تعرّفت على عدد منهم في القاهرة. كان هناك، على سفرة كبيرة، خمر، طعام طيب ترفده الونسة، فتشعر بين ولحظة وأخرى وكأن العداء لا وجود له في هذا العالم. فجأة، رن جرس الهاتف جالبا معه الصمت.

    تابعت عادل سحلب وهو يمسك أخيرا بالسماعة المتحركة. أخذ يقطِّب حاجبيه كمن يتعرّف على هوية المتصل قبل أن يمررها لي قائلا "هذه المكالمة لك، يا حامد". قلت وسط صمتهم الفضوليّ "مرحبا". لكي أزيد من سعير ذلك الفضول، أخذت أتلاعب بنبرات صوتي، متسائلا "هل ما تقوله الآن صحيحا". كانت المكالمة بالفعل أشبه بتلك الخطى التي تقلب مسار حياة كاملة رأسا على عقب.

    على الجانب الآخر من الخطّ، بدا صوت عمر حرا طليقا مطهما بالبهجة. طلب مني أن أحضر إلى شقته في الحال. بل "على جناح الصاروخ، يا حامد". سألته بدهشة "لماذا يا عمر". قال إن جارتين ثملتين له "كما الحور العين" تزورانه للمرة الأولى من دون سابق موعد أومعرفة وهما "كنديتان لا تتحدثان لحكمة الله إلا باللغة الإنجليزية". وقد أحضرتا معهما من الشراب ما يجعل جيشا يسير بعد ساعات معدودة على رأسه. قال إنه كان يجلس "في أمان الله ورعايته"، عندما طرقتا الباب واقتحمتاه. أخذت السماعة آنئذ منسحبا إلى غرفة داخلية. قلت له وأنا أوصد الباب ورائي "لكنك لا تشرب، يا عمر". قال اشرب أنت فقط معهما وأنا سأنتظر. "وقتما تضحكون أضحك، حين تصمتون أصمت، يعني كما لو أنني مثلكم بالضبط، أفهم كل شيء باللغة الانجليزية". سألته بينما أغالب ضحكة كعادتي حين يبدو لي العالم على ذلك القدر من الطيبة قائلا ما الذي تنتظره يا عمر في أعقاب نهاية شرابي مع ضيفتيك. انتهرني وهو يمضي في صدقه الى نهاية الشوط قائلا بالبراعة القديمة الفجة نفسها في محو الحدود القائمة بين الناس "حامد، يا أخي، إنت بليد ولا شنو"؟.

    كانت علاقتي بعمر قد أخذت تترسخ نوعا ما. دعاني إلى شقته خلال إقامتي المؤقتة في عمارة كمبرلاند أكثر من مرة. قال في إحدى تلك المرات إن الغربة أخذت "يا حامد" تأكل "أمعائي وبطيني الأيسر". الشيطان وحده يعلم ما كان يتفوه به في تلك اللحظة. أثناء ذلك، أراني صورة قديمة له مع زوجته وبناته الثلاث. يجيد الطبخ. قال إنه تعلَّم ذلك في "مدرسة الغربة الثانوية العليا للبنين". بعد دقائق أخرى من الشد والجذب بيني وبين عمر، عدت إلى الصالة، حيث كان أصدقائي كسياسيين سابقين قد أخذوا يتداولون بصخب أمرا ما حول أسعار قطع الأراضي السكنية "هذه الأيام" في الخرطوم، بعد أن فرغوا للتو من الحديث بضجة جماعية حميمة عن الشراك "الواجب توافرها" لإغواء "بنت خواجية" تسير مقطبة الجبين بصحبة ك ل ب أسود ذي أنياب قاطعة في شارع عام. ضحك عادل سحلب، قائلا "بالفعل، هذه قضية تبدو كقصيدة حداثية"!.

    كانت جلستهم في سبيلها إلى أن تتحول إلى شيء آخر حزين، عندما أخذ إثنان منهما والخمر كما يقال "فتّاشة الرجال" في التراشق اللفظي فجأة. بالنسبة لي، بدا ذلك بمثابة مدعاة للخلو بنفسي خلسة في البلكونة ومحاولة التطلع من فوق فروع شجرة الآش القريبة إلى منحنى الشارع البعيد المعتم. أوضحت لعمر أنني لا أستطيع الحضور "الآن" للأسف الشديد. ثم طلبت منه أن يدع إحدى الفتاتين تتحدث إليَّ. حين أنهيت مكالمتي الأولى مع أماندا، مرت نحو دقيقة على الأكثر، قبل أن يأتيني صوت عمر مرة ثانية حاملا كل تلك الحسرة على أمل بدا قريبا ثم ابتعد إلى حين، قائلا "يعني الليلة نبيت من غير عشاء، يا حامد"؟.

    وبدأت المفاوضات الشائكة لتأجيل رغبة رجل يكاد يقتله ظمأ الشهوة على قيد خطوة واحدة من نبع امرأة جميلة. قال "من باب الكفر بالنعمة أن ترفض طعاما ساقه الله لك إلى باب بيتك". أكدت له أنه ليس من "باب العدل" طالما "أنت يا عمر قمت بفتح أبواب أخرى" أن أترك دعوة أقامها لي أصدقاء في عيد ميلادي الخامس والثلاثين على وجه الخصوص. الوغد، لم يجد غير تلك الكلمات كمتنفس لغضبه "لا تخبرني عن صداقة في الدنيا دي، يا حامد". ثم أغلق السماعة ككائن مُزج من طينتين: "قساوة المدن وجلافة الريف"!.


    يتبع:

    (عدل بواسطة عبد الحميد البرنس on 11-06-2010, 01:07 PM)

                  

11-06-2010, 01:16 PM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حين سعى عمر وراء جيسيكا بخراج روح (Re: عبد الحميد البرنس)

    جلست لفترة داخل تلك الغرفة، محاولا لسبب مشوب بحسرة داخلية عميقة تجنب التفكير فيما حدث من سوء طالع ما أمكن، "اللعنة!، لم تجد أمّي سوى هذا اليوم كيما تعطي أولئك الأوغاد مبررا للاحتفال بميلادي". كانوا على أية حال بحاجة ماسة إلى أية مناسبة تزيد من مساحة الفرح القليل في نفوسهم قيد أنملة. كنت أتطلع لأول مرة إلى محتويات غرفة عادل سحلب. "غريمي الذي لا يعلم أنه غريمي". كانت غرفته أشبه ما تكون بحيِّز متواضع لطالب في سكنَى جامعية. لا ملامح خاصة. وقد بدت لي خالية تماما من الحنان. كانت أصواتهم المرحة المتقاطعة تتناهى مكتومة من داخل الصالة. ميزت من بينها صوت عادل سحلب بوضوح. قال أحدهم "هيا، إلينا، بالخمر، يا سادة". قال عادل سحلب لسبب ما "نموت ويحيا الوطن". وقال آخر بصوت عال مستثار "يا أصدقائي، حين خرجت من السودان لأول مرة، وكنت قد ذهبت إلى سوريا، وجدت هناك فاكهة عجيبة، لم أرها في حياتي من قبل، لا أذكر اسمها الآن، ولا أعرف كيف أصفها لكم، فاكهة سحرية، ما إن تضعها داخل فمك حتى تبدأ في الضحك من غير سبب". وبدأ قلبي وسط ضحكاتهم المتصاعدة يخفق بشدة. لقد أرعبتني الفكرة تماما. ومع ذلك، لم أستطع مقاومة إغراء الفضول. وقد رأيت باب دولاب ملابس عادل سحلب مواربا. نظرت إلى باب الغرفة الموصد من غير قفل داخلي. لا أدري كيف واتتني الجرأة. وجدتني أمد نحو الدولاب يدا مرتعشة. وقد خيل إليَّ أنني سأجد في الداخل شيئا حميما ما قد يخصّ مها الخاتم. وقد كان: صورة تجمعهما معا هي وعادل سحلب أمام قلعة صلاح الدين في القاهرة. كما لو أنها مرت على آلاف الأيدي.

    كان لسان حال عمر، في مساء اليوم التالي، خلال تلك الجلسة المشهودة داخل شقتي ذات الغرفتين، يتمثل في هذا السؤال "ألم يحن الوقت بعد كيما أقوم بدفع هذه القحبة لأقرب سرير، يا حامد". كان يقصد صديقة أماندا ذات الأربع والعشرين ربيعا: جيسيكا. فعل يومها كل شيء تقريبا لقتل الوقت. لم يترك نافذة إلا أطل عبرها. دخل الحمام بضجة مفتعلة أكثر من مرة. وفي مرة، توضأ. أدى صلاة العشاء في غرفة أستخدمها عادة كمكتب. أكل وشرب عصير برتقال وشرع يدندن بتواشيح دينية قديمة. أخذ الهاتف وأجرى مكالمة دولية. سمعته وهو ينفجر بالضحك مزلزلا سكينة الليل. قال مؤكدا على حديث المتكلم الآخر "إذا كان الوقت نهارا لديكم في السودان فالليل يُغرق كندا الآن، طبعا طبعا، ربنا قدرته عظيمة، طبعا طبعا، الله قادر حتى على جعل الذئب يرعى مع الغنم ويغفر خطايا العصاة". بدا لي أخيرا أنها زوجته على الطرف الآخر من الخطّ، حين علا صوته، مازحا بين ثرثرة الفتاتين الخافتة "استحميتي، يا أمّ البنات"؟.

    مثل حوض رمل جاف في نهار قائظ. فمع كل مساعيه الحميدة تلك لقتل الوقت وسحله، ظلت الفتاتان تواصلان الشرب بنفس الوتيرة التي بدأاتا بها عند بداية المساء. وقد كاد ذلك كله أن يذهب بعقل عمر المتلهف للمضاجعة من غير رجعة. أجل، لقد اتضح لي جليّا في تلك الليلة بما لا يدع أبدا مجالا للشك أن عمر لا يعرف إلى ما بين فخذي المرأة سبيلا آخر سوى سبيل ديك الجن. كِيج كِيج، بُوووف بُوووف، ويرفع سرواله لأعلى. لا عجب أنه لم لم يفقه معنى عبارة "فاتحات الشهية" حتى في لغة الضَّاد.


    يتبع:
                  

11-06-2010, 04:07 PM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حين سعى عمر وراء جيسيكا بخراج روح (Re: عبد الحميد البرنس)

    قابلتُ وليم لأول مرة في صيف العام 2003 عن طريق صديق يدعى عمر لم يمض على معرفتي به وقتذاك الكثير. أخبر عمر وليم أنه تعرَّف على فتاتين رائعتين. بعدها تم التنسيق فيما بيننا على أن نتقابل أربعتنا في شقة وليم في اليوم التالي لتناول شيء من الشراب وتبادل حديث ودي.

    في وقت متأخر من تلك الليلة، أحسستُ في قرارة نفسي أن وليم شخصية جذابة. كان في صوته وهو يتحدث معي عبر الهاتف في الليلة السابقة شيء آسر جعلني أتقبل دعوته على الفور. لا أدري، فقط أخذت أشعر ليلتها بشيء ظلّ يجذبني إلي وليم بقوة. شيء غامر، لذيذ. وجدتني فجأة أسأله مصاحبته أثناء الطريق إلى جلب المزيد من الشراب. فلم يمانع.

    كانت شهيتي مفتوحة تماما.

    أثناء الذهاب والاياب، ظللنا نتحدث بلا ترابط، عن أشياء كثيرة، ودونما توقف، مثل صديقين قديمين التقيا بعد طول غياب. لحظة عودتنا، إلى شقة وليم، وجدنا عمر وجيسيكا يواصلان لغة الإشارة نفسها فيما بينهما. لم يكن عمر يمتلك أدنى قدر يمكنه من التواصل باللغة الانجليزية. كانت جيسيكا تواصل معنا الشرب ولكن كالعادة بشراهة تامة. أما عمر الذي لا يشرب قطّ، لأسباب متعلقة بطقوس طائفة وثنية كما أوضح لي وليم أثناء ذهابنا لجلب ذلك الشراب، فقد لاذ حتى النهاية بصمته النافد وتحركاته الكثيرة داخل الشقة هنا وهناك بينما لا ينفك يرسل من حين لحين نظرات عينيه الجائعتين إلى جيسيكا. كنت كلما تقدم الوقت أشعر بمزيد من تلك الخيوط والأواصر المتينة وهي تربطني مع وليم باحكام. في الحقيقة، شعرت بذلك على نحو غامض.

    بحلول شهر فبراير من العام 2005 أدركت تماما أن ما يربط بيننا هو الحبّ. ربما ما منعني في البدء من إدراك ذلك أنني كنت صغيرة لحظة لقائنا الأول وبي رغبة عميقة لعيش الحياة من غير قيود. لا يزال لدي وقتها الكثير من البحار لأسبح عبرها قبل أن ترسو سفينتي أخيرا على مرفأ. أعتقد أنني مهيأة الآن، والآن فقط، لإقامة حياة مع حبيبي وليم. حياة مستقرة ودائمة.


    يتبع:
                  

11-06-2010, 05:13 PM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حين سعى عمر وراء جيسيكا بخراج روح (Re: عبد الحميد البرنس)

    عدنا، أنا وأماندا، إلى الشقة أخيرا، بمزيد من الشراب. كان يبدو على وجه عمر أنه قضى وطره أخيرا من جيسيكا. لم يتبق له شيء آخر في عرفه سوى تناول الطعام والعودة بصحبتهما أو وحيدا إلى شقته القريبة. أماندا لا تعطي نفسها بسهولة. ذلك ما رسخ في ذهني أثناء ذهابنا لجلب ذلك الشراب. كان عليَّ لأغوص عميقا في ظلمة النبع أن أنتظر لقرابة العامين. كانت تشير إلى السابعة مساء حين رن جرس الهاتف في شقتي. جاءني صوت عمر كالبشير قائلا إنهم الآن في الطريق. قلت له "أبشر، يا سيدي، فالطعام طيب، الشراب وفير، الإضاءة حالمة، المكان نظيف، وبي توق إلى ونسة عجمية وغناء أعجمي ورقصة عجمية، ثم الذوبان مع سيدة الغيب في لغة عالمية حتى مطلع الفجر". كنت متخما ساعتها بقراءة مئات الروايات والكتبِ والشعرُ في وطني صنارة المثقفين على بوابة الإغواء. أخيرا جاءني صوته كضحكة أطلقها فم صائم في أعقاب نهار قائظ، قائلا "يا أخوي، كلامك تمام، علة يا زول جنس شِعرك دا، الليلة دي، سيبو تب، وعلي كمان الله إن شوفتهن بعد شوية علة تبول في لباسك عديل، يا زول أنا شغلة ما نجيضة ما بسويها تب، إنت عارفني كويس، وأقول لك تاني، يا حامد عثمان: الشغل كلو حا يكون الليلة دي أمسك لي وأضبح ليك من غير ففلصة كتيرة". هكذا بدأ عمر منذ الوهلة الأولى ينسج بقوة عين لا يحسد عليها أسطورته الخاصَّة في الإيقاع بالفتاتين، متناسيا أن الصدفة وحدها قد أوقعت بهما في طريقه ليلة أمس القريبة كمسافة تمتد من المائدة بين يدٍ وفم، لكنها الرغبة العميقة التي كانت تظهر في ونساته أحيانا للقيام بعمل بطوليّ خارق برغم فقر الوسائل والمتاح.

    جلسنا حول مائدة داخل صالة المعيشة، كانت تطل علينا، من جوانب مختلفة لوحة فان جوخ "نجوم الليل"، زيتية لرينوار تصور أوراقا نباتية تطفو فوق بحيرة ساكنة أول الفجر، لكنها تبدو متعبة بعد رحلة مع تيار كسول توقف بعد مسيرة استغرقت الليلة كلها، بينما مثلت صورة بيكاسو الأصلع قبل عقد من موته نشازا لا يحتمل، ولا أعرف كيف قمت بوضعها بيدي نفسها على الحائط الأوسط للصَّالة. كان لبيكاسو في تلك الصورة هيئة محتال من نواحي تورنتو، لاحقا أخبرتني أماندا أن ملامحه تكاد أن تتطابق مع ملامح رئيسها السابق في العمل. كان من المستحيل عليَّ تماما، وأنا أسبح في وجه أماندا ذي البراءة، أن أتخيل، ولو للحظة واحدة، أنها كانت تعمل لبعض الوقت كتاجرة مخدرات صغيرة. مَن ينتظر من وراء عمر غير المصائب؟!.

    يتبع:
                  

11-06-2010, 06:31 PM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حين سعى عمر وراء جيسيكا بخراج روح (Re: عبد الحميد البرنس)

    قررت بيني وبين نفسي قضاء السهرة مع جيسيكا. لا يعقل أن أستأثر بالفتاة الأجمل: أماندا. كانت نظرتي إلى جهود عمر في هذا الشأن أقرب إلى نظرة مؤمن مغرم بقراءة باب فضائل الإيثار. لقد أنفق عمر جهدا طيبا برغم حائط اللغة وهذه ساعة الغنائم. لكن إدمان أفيون العيش في مكان ومراقبته في آن، قد جعلني ألمح أماندا خطفا وهي توميء لصديقتها جيسيكا أن تقوم من مكانها حول المائدة وتجلس مجاورة لمقعد عمر الذي فرغ في تلك اللحظة لقيامه بإعداد طبق طعام لجيسيكا التي أعلنت منذ الوهلة الأولى عن شراهة بدائية للطعام. أماندا عللت ذلك فيما بعد بأنها شعرت تجاهي في تلك اللحظة ودفعة واحدة بوجود شيء حميم أشبه بالحبّ من النظرة الأولى أخذ يتكون داخل أحشائها مع مرور الوقت كالجنين، وأضافت بكثير من الصراحة أنها أحبت دائما رجالا من ذوي القامات الطويلة. خفت أن تعلن رأيها هذا لعمر بصورة أو أخرى. بوسع البشر التواصل من غير لغة. لشقائه كان لا يعشق على قصر قامته سوى المرأة الطويلة. أنا أعشقها كيفما كانت. صفراء، أم حمراء، أم بيضاء، أم سوداء، أم خلاسية، بدينة أم هيفاء. لا أبالي حتى بوجود عاهة واضحة في موقع ما من جسدها الملغز مثل سرٍّ مكوَّنٍ من آلاف الطبقات. لكل طبقة مفاتيحها الخاصة وأنغامها المختلفة ومذاقها المدهش.

    لحداثة عهدي بالمكان، ولربما لجهلي بأساليب عيش القوم، بدا لي بُعيد حضورهم أن اختياري لصانع الفرح، موتسارت، كخلفية موسيقية شديدة العذوبة، كان خطوة غير موفقة تماما، عندما أخرجت أماندا من حقيبة يدها أسطوانة غنائية جديدة للأمريكي فيفتي سنتس. وطلبت مني بلباقة أن أقوم بتجريبها على الجهاز. خطفتها جيسيكا من بين يدي. كانت قد شرعت منذ وقت في دفع جرعات متتالية إلى بطنها من فودكا محلية بمذاق البرتقال. "سآخذكِ لدكان الحلويات.. أشتري لكي مصاصة". وجيسيكا عائدة متمايلة مع لحن "الراب"، رفعت رأسها بغتة، ورأت قبالتها صورة بيكاسو الأصلع مفكرا، سألتني بجدية تامة عما إذا كان بيكاسو "هذا الرجل العجوز" وكانت تجهله تماما ينتمي لي بصلة قرابة ما. لم يكن مثل ذلك السؤال في كندا من الغرابة بمكان. لكن تلك الملاحظة، بعد أن قمت بترجمتها سريعا، دفعت بصديقي عمر إلى الضحك بصوت فج دفع بالفتاتين إلى التطلع إليه بحيرة وذهول وتساؤل. حين أخبرتهما أنه يُصاب أحيانا بداء الضحك المباغت، نظرتا إليه بشيء من العطف، وقد كاد عمر أن يموت وقتها ليعلم بالضبط أي هراء قلته بشأنه للفتاتين. أخذت أدرك، مع مرور الوقت، أن أماندا قد شرعت تلعب منذ فترة دور مندوبة مبيعات ماهرة، بينما تسوِّق لي مفاتن أنوثتها، على نحو بدا لي غامضا وقتها، لا كسلعة إستهلاكية عابرة، ولكن كشيء دائم وباق مدى الحياة. كنت سعيدا في قرارة نفسي برغم شبح المبيت بلا عشاء. لقد آن الوقت أخيرا ليعثر المنفيّ الغريب على مَن ستفتح له باب بيته من الداخل وتسأله إذ ذاك في غضب أنثوي مصطنع "أين تأخرت كل هذا الوقت".

    يتبع:
                  

11-06-2010, 11:05 PM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حين سعى عمر وراء جيسيكا بخراج روح (Re: عبد الحميد البرنس)

    أفتقدك كثيرا، يا صغيري. أرغب الليلة في أن تأكلني حيّة على مخدة!. ها ها ها. تعرف ذلك؟. فكرت فقط أن أبعث إليك برسالة الكترونية مختصرة بينما تعمل الآن. أقضي هذا النهار في بيت شقيقتي مليسا. أراقب بنتيها وولديها التوءم بينما أجلس إلى الكومبيوتر. أماندا.

    العصر يقترب حثيثا من نهايته. هذه لحظة يتجلى فيها إله الأسى على سويداء القلب. الشقة لا يزال يلفها سكون ثقيل. حتى صوت أزيز الثلاجة الرتيب توقف منذ فترة. كانت أماندا قد أغلقت ألبوم الصور، ووضعته على منضدة الزجاج القصيرة أمام الكنبة في هدوء، ألقت بعدها برأسها على كتفي وراحت تغط بعد دقائق قليلة في النوم مثل طفلة. قبل كل ذلك، بدت ساكنة كميتة، وهي تتطلع في شرود إلى تلك الأشياء البعيدة الثاوية داخلها، وعيناها معلقتان على لوحة فان جوخ "نجوم الليل"، لا تكادان تطرفان. كنت ملتزما الصمت. لم اتخيل أبدا، أنا المغموس في نار الألم، لحظة أن رأيتها لأول مرة، أن الحزن يمكن أن يتوسد سرير جمالها، ويرمي برأسه هكذا على وسادتها الحريرية الناعمة. ظلّ هذا الغرب يفيض على الجانب الآخر من العالم بمليارات الصور والأفلام. بعضنا لحظة أن رأى صورة الغرب البهيّة عن نفسه قال "الأرض جنتهم وفراديس السماء لنا". هناك، ونحن لا نزال في قاهرة المعز، ذات الغرب، عرض وقتها على المنفيين الغرباء الدخول، عبر بوابة اللجوء السحرية، إلى فسيح جناته. لم يكن يطلب منهم زكاة أوصياما أوحجا أوصلاة. كان يتحدث بمكره التاريخي القديم نفسه حاجبا حاجتة إلى عمالة محلية وتوسيع سوق داخلية تحت ستار كثيف من هراء الدعاوى الإنسانية الفاتنة. كان أولئك المنفيون الغرباء يتسابقون إلى مكتب الأمم المتحدة والسفارات فرادى وجماعات. الأعمى شايل المكسر. التاجر المفلس تجددت آماله. الشيوعي تبرأ من ماركسيته على طلبات الدخول إلى جنة أتقن بناء قواعدها دهاقنة هوليوود وتفننوا في رسمها. سيدات من بيوت كبيرة على مرمى خطوة واحدة من أزواجهن بكين أمام المحلفين داخل تلك السفارات. لم يبكين من قصة اغتصابهن المفبركة. بكين من شبح الضياع في مدينة كبيرة مثل القاهرة تضيق حتى بسكانها. وثمة رجال زعموا أن النظام أفقدهم ذكورتهم فما عادوا يصلحون لشيء. لعل بعضهم كان صادقا، ولا ريب. لكنَّ الدخول إلى رحاب الفردوس كان لا بد له أن يتم بأية وسيلة. وقد كان.
                  

11-13-2010, 10:35 AM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حين سعى عمر وراء جيسيكا بخراج روح (Re: عبد الحميد البرنس)

    وضعت رحالي عصر ذلك اليوم على مقهى يقع على أحد جوانب شارع الشهيد أحمد عصمت بحيّ عين شمس الشرقية في القاهرة. جسد منهك. قلب يضج بالحنين. ورأس مثقلة بالأفكار.

    أقبل نحوي جرسون بوجه شاحب وعينين جاحظتين. في مشيته عتب خفيف. سألته عن السيدة "نواعم". مالكة المقهى وسمسارة في مجال العقارات والشقق المفروشة. قال "زمانها جاية في السكة". طلبت "شاي كشري سكر زيادة". وضعه أمامي بعد دقائق وانصرف لخدمة زبون آخر.

    كانت عمليات نقل الكتب أكثر ما يشق على نفسي أثناء التجوال بين تلك الشقق. كيف لا وهي متاعي الوحيد تقريبا في هذا العالم. ثمة رفيق من بين أولئك المنفيين أخذ يطلق عليَّ متهكما لقب "ملك الشقق الحقيرة". لست أبالي طالما وجدت لي مركزا في مدينة كبيرة مثل القاهرة أنطلق منه وأعود إليه وقتما أشاء. خاصية التكيف عندي تعمل بمعدل كفاءة لا بأس به. قِلّة من أصحاب تلك الشقق المؤجرة وجدت متسعا في ذاكرتي، لكنَّ الكثيرين منهم أخذت ملامحهم تضمحل في داخلي، وتتلاشى بتعاقب الأيام والشهور والسنوات. كان بعضهم يحرص على تأمين ممتلكاته، قائلا "الحرامي ما تسهلوش المهمة بتاعته".

    لمدى ثلاثة أشهر بالتمام، لم أقم بدفع إيجار الشقة السابقة من نواحي الجيزة. لم تكن صناعة تلك الأعذار بالمهمة السهلة. كان ذهني مشوشا إلى الدرجة التي أجريت معها عملية الزائدة الدوديّة أكثر من مرة. قتلت والدي مرتين في ظرف أقلّ من شهرين. كنت قد نسيت في المرة الثانية أيهما رحل أولا إلى رحمة مولاه، هو أم أمّي؟. حتى الآباء لا يسعفون أحيانا. الوغد، قال لي وقتها:

    "كم مرة ستقتل أباك حتى تقوم بدفع قيمة ما عليك من إيجار"؟.

    كان مالك تلك الشقة عجوزا أمامه وقت ضيق جدا قبل الذهاب إلى دار البقاء الأبدي. لكنه، لحكمة لا يعلمها إلا الله، ظلّ يتشبث بدار الفناء هذه بأظافر قطّ سيئ الطباع. كانت له لعجبي خطط تمتد لعشرين سنة مقبلة. أنا لم أفكر إلى أبعد من حدود يومي. كنت راغبا في العمل على تخليص العجوز من عذاب تأجيل الإيجار المتراكم شهرا بعد شهر. فكرت مرة أنه إذا أنفق ربع الوقت الذي قضاه في ملاحقتي صباح مساء في طلب الدخول إلى الجنة لكان أرحم لي وله. ذات ليلة، تركت له داخل الشقة كتبا كثيرة – كان من بينها كتاب فضائل الجنة- كوصل أمانة، ورحلت من دون أن ألقي عليه تحية الوداع. أنا واثق تمام الثقة أنه ظلّ بعد هروبي المتقن في تلك الليلة يشكوني إلى الله بحقد دفين مرددا بين تسبيحة وأخرى "أخذ الله ذلك النَصَّاب إلى جواره حالا"!.


    يتبع (تفاصيل فصل آخر):
                  

11-13-2010, 11:07 AM

محمد يوسف الزين
<aمحمد يوسف الزين
تاريخ التسجيل: 02-08-2008
مجموع المشاركات: 1968

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حين سعى عمر وراء جيسيكا بخراج روح (Re: عبد الحميد البرنس)

    ..
                  

11-13-2010, 12:29 PM

ابو جهينة
<aابو جهينة
تاريخ التسجيل: 05-20-2003
مجموع المشاركات: 22493

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حين سعى عمر وراء جيسيكا بخراج روح (Re: محمد يوسف الزين)

    البرنس

    تحية غامرة

    تابعن السرد ثم إنقطعت لغياب قسري
    ثم عدت من حيث إنتهيت

    كانت شهيتي مفتوحة تماما.

    أثناء الذهاب والاياب، ظللنا نتحدث بلا ترابط، عن أشياء كثيرة، ودونما توقف، مثل صديقين قديمين التقيا بعد طول غياب. لحظة عودتنا، إلى شقة وليم، وجدنا عمر وجيسيكا يواصلان لغة الإشارة نفسها فيما بينهما. لم يكن عمر يمتلك أدنى قدر يمكنه من التواصل باللغة الانجليزية. كانت جيسيكا تواصل معنا الشرب ولكن كالعادة بشراهة تامة. أما عمر الذي لا يشرب قطّ، لأسباب متعلقة بطقوس طائفة وثنية كما أوضح لي وليم أثناء ذهابنا لجلب ذلك الشراب، فقد لاذ حتى النهاية بصمته النافد وتحركاته الكثيرة داخل الشقة هنا وهناك بينما لا ينفك يرسل من حين لحين نظرات عينيه الجائعتين إلى جيسيكا. كنت كلما تقدم الوقت أشعر بمزيد من تلك الخيوط والأواصر المتينة وهي تربطني مع وليم باحكام. في الحقيقة، شعرت بذلك على نحو غامض.

    هذا البورتريه ينقلني تماما لأيامي في دنفر كلورادو
    واصل
                  

11-13-2010, 02:25 PM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حين سعى عمر وراء جيسيكا بخراج روح (Re: ابو جهينة)

    شكرا، أخي محمد زين.



    "المعلمة نواعم". أشار الجرسون بصوت راعش إلى سيدة في منتصف العمر أخذت تقبل ناحية المقهى بدأب وعزم غريبين. أحسست وأنا أراها لأول مرة على ذلك القصر في القامة والإمتلاء البدني وكأن أحدهم قام بركل كرة من اللحم في اتجاهنا. وأنا أتطلع إليها أثناء حديثي معها من عل، وهي تبذل جهدا واضحا لترى من خلال تلك الوقفة أثر كلامها على وجهي، لم أتوصل أبدا إلى تخيل وضع جنسي محدد يمكنني من خلاله أن أراها بعين خيالي لاحقا. قالت إنها لن تتحرك من مكانها قيد خطوة واحدة قبل أن أدفع لها مقدما مبلغ عشرة جنيهات لا ترد سواء راقتني إحدى تلك الشقق المفروشة أم لم ترقني. كانت على درجة عالية من التصميم وقوة الإرادة. وافقتها بإذعان المغلوب وبي حاجة لا تقهر إلى ثوان قليلة من الصمت ريثما أبتكر لها في طيات خيالي الماجن إحدى تلك الوضعيات الساحرة على سرير الوحدة. لكنها أخذت تثرثر بلا فواصل من الصمت إلى أن توقفنا أخيرا أمام بناية صغيرة مكوَّنة من أربعة طوابق. طلبتْ مني أن أنتظر إلى اليسار قليلا من البوابة الحديدية القديمة المشرعة، ريثما تخبر مالك العقار في أحد طوابق البناية العليا.

    رأيتها وهي تصعد السلالم الأولى بخفة كرة مطاطية. كما لو أن الأمر برمته يتم خارج قانون الجاذبية. "لا شك أنها سمسارة موهوبة"، قلت في نفسي، مندهشا من تلك الحيوية التي هبطت عليها من السماء على حين غرة. شأن المواهب الأخرى في كل زمان ومكان. لا ترى ما يميزها عن بقية الناس في حياتها العادية. ما إن تتوغل داخل مجالها الخاص حتى تريك من أمرها عجبا. مايكل جاكسون، في حواراته يبدو رقيقا كعذراء، ساذجا كطفل، وهو يتحدث بنبرة تجعلك تظن أنه لا يصلح لمضاجعة نملة، ما إن يعتلي خشبة مسرح، ويبدأ في الرقص والغناء، حتى تظن لوهلة وكأن عواصف رعدية تقصف بهدوء هذا العالم، زلازل تتفجر، قنابل تهوي من شاهق، أقدام حالم مترع بالنشوة تسير سابحة فوق سطح القمر، نسائم تغسل هجير صحارى منطوية على أسرارها منذ ألف عام، ومعارك غامضة تدور رحاها على بعد أميال قليلة من رعاية الإله.

    كنت أضع كلتا يديّ داخل جيبي بنطال الجينز الأزرق الوحيد. أحدق في تفاصيل الحارة هنا وهناك. أمامي، عبر الشارع الضيق القصير المترب، بدا سروجي سيارات ومحل نجارة و"بقالة نور التقوى والايمان". ثمة مخبز عند الناصية الشمالية الشرقية من الحارة. إلى اليسار، بدا "جزار الأمانة" منهمكا في سلب ساق كثيرة الدهن، بينما أخذ يبتسم في وجهي الحلاق المجاور له، ناظرا إلى هيئتي العامة، متوقفا عند شعري الخشن على وجه الخصوص. هؤلاء الحرفيون، لعجبي المتزايد، يتفحصون بوقاحة حتى المشية، الإيماءة، درجات الشهيق والزفير في الهواء، ما يوجد داخل أكياس الطعام، يلوون أعناقهم لقراءة عناوين الكتب المحمولة على يدي، ولو وجد أحدهم الفرصة الملائمة لقياس فاعلية عمل الخصيتين لما تردد. أكثر ما ظلّ يثير أعصابي عند رؤية هؤلاء تلك الإبتسامة الخفيّة التي تظلل شفاههم لحظة أن أضبطهم وهم يمارسون هواياتهم العتيدة على ذلك النحو. لقد غدا من رابع المستحيلات والحال تلك أن تدلف امرأة إلى داخل شقتي خلسة.

    كانت نواعم، قبيل صعودها، قد أشارت إلى شقة في الطابق الأرضي، لا تقابلها شقة أخرى، على بابها ذي الطلاء البني القاتم بدا قفل رمادي متآكل الحواف. قالت "هذه هي الشقة المعروضة للإيجار". كان لها فتحة صغيرة قرب حدود السقف تشبه كوَّة زنزانة من عصر سحيق. أشعلت النصف الآخير المتبقي من تلك السيجارة بآخر عود ثقاب. بدأت أتطلع عبر مساحة الشارع إلى بلكونات وأبواب ونوافذ شقق البنايات المقابلة. وقد خيل إليَّ للحظة وكأن مئات الأعين المختبئة خلفها تتفحصني كفريسة محتملة من أعلى قمة رأسي حتى أخمص قدميَّ. أخيرا، أقبلت نواعم هابطة السلالم الأخيرة مثل كرة قدم تم ركلها هذه المرة من ضربة حرة مباشرة. كانت تلهث وفي أعقابها أقبل مالك العقار، رجل خمسيني، بدين، ربعة، على جبهته علامة سوداء من أثر السجود الطويل. كان في هيئته العامة أشبه بقواد من عهد هارون الرشيد.


    يتبع:
                  

11-13-2010, 06:18 PM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حين سعى عمر وراء جيسيكا بخراج روح (Re: عبد الحميد البرنس)

    Quote: هذا البورتريه ينقلني تماما لأيامي في دنفر كلوراد


    أبا جهينة:

    أكثر ما لفت إنتباهي، من قراءتي المتأخرة لإدوارد سعيد مفهوم الطباقية، contrapuntalism، وهو مصطلح قام سعيد باستعارته من مجال الموسيقى إلى تطبيقات تختص بحقول أدبية وثقافية وحتى سياسية، حيث يشير في حقله الأساسي إلى "الإستعمال المتزامن للحنين أوأكثر بغية إنتاج المعنى الموسيقي، بما يسمح بالقول عن أحد اللحنين إنّه في حالة تضاد مع لحن آخر"، وفق إشارة ثائر ديب في سياق ترجمته الممتازة لكتاب سعيد "تأمّلات حول المنفى 1"، وهو ذات المعنى الذي ورد في كتاب سعيد الثقافة والإمبريالية: "في النقطة الطباقية للموسيقا العريقة الغربية، تتبارى وتتصادم موضوعات متنوّعة إحداهما مع الأخرى، دون أن يكون لأيّ منها دور امتيازي إلاّ بصورة مشروطة مؤقتة؛ ومع ذلك يكون في التعدد النغمي الناتج تلاؤم ونظام، تفاعل منظّم يُشتق من الموضوعات ذاتها لا من مبدأ لحنيّ صارم أو شكلي يقع خارج العمل". على المستوى السردي، يتجلى عمل وفاعلية ذلك المصطلح بجلاء في ما أشرت إليه أنت هنا باسم (البورتريه) بينما يعقله سعيد باسم (المشهد) بوصفه حالة تضاد جدلي قائمة في داخل المشهد بنسبة أوأخرى سواء على مستوى "التوتر المقيم بين الحاضر إما الماضي أوالمستقبل"، غني عن القول هنا أن سعيد يصف ويحلل عملية بناء المشهد أوإنتاج المعنى ليس بوصفه انعكاسا "فالديالكتيك" عبر توتر ناشيء بين أكثر من خيط زمني ومنظومة ثقلفية وأحداث داخل المشهد "دائم، ومُخصب".
                  

11-13-2010, 07:29 PM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حين سعى عمر وراء جيسيكا بخراج روح (Re: عبد الحميد البرنس)

    قامت نواعم بفتح باب الشقة بينما ظلّ القواد في الخارج ينتظر ريثما ننهي معاينتنا. كانت من الداخل أشبه بمغارة منسية. دولاب خشبي متداع. صور ممثلات وعارضات أزياء ملصقة على أحد الحوائط الرمادية الكالحة. ديمي مور. كلوديا شيفر. ناعومي كامبل. جوليا روبرتس. صوفيا لورين في شبابها. مارلين مورنو. سعاد حسني. الأميرة ديانا. وحتى غادة السمّان في صورتها العابرة للأجيال والعصور. ثمة عتبة تفصل الغرفة عن الحمّام الصغير وأخرى تفصل الأخير عن حيِّز ضيق يقع إلى الداخل أشارت إليه نواعم بشيء من الرصانة قائلة إنه "المطبخ"، وثمة مرآة جانبية كبيرة علاها غبار كثيف. كانت رائحة الرطوبة المحبوسة لفترة طويلة لا تُحتمل. كما لو أنها رائحة ذكرى مشينة. الإضاءة الكابية لم تفلح كثيرا في إخفاء ذلك النشاط المحموم لتلك العناكب المنتشرة بكثرة. "حامد عثمان، أعرفه يا حاج من زمان". غني عن القول هنا إن السيدة نواعم كانت تكذب. "هو بتاع ربنا". قسما بالله، لم ألتقِ هذه السيدة من قبل. "أصله زبون عندي من زمان". ها، ستكتب عند الله كذابة، ولا ريب. "من السودان الشقيق طبعا". أثناء ذلك، ظلّ الحاج صامتا لا يعلق على حديث السيدة نواعم بشيء. وبدأت أقلق. قال أخيرا في شرود بينما يمسح على لحيته الشهباء "اعتبر نفسك المستأجر الجديد، يا ولدي، ولكن بشرط". قلت "ما هو، يا حاج"؟. قال "أولا، حضرتك منين؟، الخرطوم، ولا أم درمان"؟. قلت "أنا من شرق النيل". قال "ما علينا، المهم، في سنة 67، جرى إيه في الخرطوم"؟. قلت "لا أذكر، يا حاج". قال "أقول لك، مؤتمر اللاءات الثلاث بين الزعماء العرب". قلت "طبعا، يا حاج، دي حقيقة تاريخية هامة، لا تُنسى". عندئذ، قالت نواعم مقاطعة تسلسل الحوار "بسم الله ما شاء الله، الحاج إبراهيم فاهم كل حاجة".

    رأيته يبتسم خطفا. قال مشددا على كلماته كما لو أن قطعا معدنية صلبة يتم طحنها داخل فمه "أنا عندي كمان تلات لاءات، وهي شروطي لكل ساكن جديد". كدت أن أسأله "ما هي، يا حاج". في اللحظة الأخيرة أفسحت مجالا لصديقي الصمت. وشرعت أصغي إليه بذهولِ مَن لا حيلة له "لا نسوان، لا خمر، ولا ازعاج للجيران". كانت نواعم تنصت إليه هذه المرة بمبالاة مصاغة على يد المهنة بعناية شديدة. كان الحاج اللعين قد أخذ يتطلع في صمت إلى صفحة وجهي بنظرة تحاول سبر مكنوناتي الخفية بلا جدوى. كنت لا أزال صامتا أزن الأمور في سري "هذا المأفون، ماذا أبقى لي إذن من متع الحياة القليلة"؟.


    يتبع:
                  

11-13-2010, 08:40 PM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حين سعى عمر وراء جيسيكا بخراج روح (Re: عبد الحميد البرنس)

    "ادخلوا من الباب الضيق. لأنه واسع الباب ورحب الطريق الذي يؤدي إلى الهلاك. وكثيرون هم الذين يدخلون منه. ما أضيق الباب وأكرب الطريق الذي يؤدي إلى الحياة. وقليلون هم الذين يجدونه".

    يتبع:
                  

11-14-2010, 00:28 AM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حين سعى عمر وراء جيسيكا بخراج روح (Re: عبد الحميد البرنس)

    كنت أترنم بتلك الآيات من انجيل متى، حين تناهى طرق على باب الشقة، ومثل تلك الترانيم لم يكن سوى أحد أصناف مقاومة المنفيّ، يتعاطاها كلما تشقق جدار روحه، فحتى الهرم إذا لم يتم ترميمه دوريا يتداعى ويسقط. فتحت الباب، أخيرا، وكنت قبلها على وشك التبول، فإذا بي أقف أمام الحاج إبراهيم العربي، مالك العقار شخصيا، وقد قدرت في نفسي أنها ولا بدّ إحدى زياراته المفاجئة تلك التي ظل يتفقد خلالها الوضع داخل الشقة بخصوص تلك اللاءات اللعينة. لا خراء.. لا تبول.. لا تمخط.

    ألقى نظرة مروحية شاملة وفاحصة على المكان قبل أن يستقر به المقام على كرسي الخيزران الذي قمت بوضعه له قبالة سرير الحديد الضيق، حيث أجلس ناظرا إليه كالعادة بترقب وإبتسامة بلهاء، بينما أُغالب في الخفاء تلك الرغبة الملحة في التبول، وباب الشقة موارب.

    ما ظلّ يثير حيرتي، في كل مرة، أنه لم يعطني الإحساس أبدا أنه على علم بوجود تلك الصور الماجنة التي ألصقها المستأجر السابق على امتداد أحد تلك الجدران.

    قال بينما يمسح على لحيته التي غلب بياضها سوادها "لسه الوقت بدري على صلاة المغرب، قلت أتكلم معاك شوية". كنت لا أزال أفكر في سبب مجيئه، حين تناهى صوته، قائلا "لا مواخذة، يا أستاذ حامد، هو حضرتك مسيحي"؟!. وقد أُخذتُ تماما بمفاجأة "لا، أنا مسلم، يا حاج" قال "أصلي أنا شايف عندك كتاب المسيحيين"!. قلت "أبدا، ثقافة عامة بس، يا حاج". قال "يا ولدي، الرسول الكريم قال إن الشيطان لِيجري من الإنسان مجرى الدم من العروق، ثم إن هذا القرآن الكريم لم يغادر كبيرة ولا صغيرة إلا أحصاها، لا أنصحك يا ولدي بقراءة مثل هذه الإسرائيليات، مرة أخرى". وصمت. هناك، عند عتبة الباب، بعد دقائق بدت كدهر من تلك المواعظ الحكيمة التي لا تنتهي، قلت له في سري وأنا أودعه في طريقه للصلاة بمسكنة وطيبة آسرتين "عليك اللعنة".
                  

11-15-2010, 06:26 AM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حين سعى عمر وراء جيسيكا بخراج روح (Re: عبد الحميد البرنس)

    في وقت متأخر من صباح يوم الثلاثاء الموافق الرابع والعشرين من شهر يوليو من عام 1934، فُجِعَت مدينة وينبيك، عاصمة محافظة منيتوبا، بمصرع سيرجنت جون فيرن، أثناء مكافحة سطو مسلح على صيديلة نوربيردج في العقار رقم 11 من شارع ماري. سيرجت جون فيرن، وهو عملاق يحمل في صدره قلب طفل، كان قد ذهب إلى موقع الحادث، مستجيبا لنداء الواجب، من دون أية تغطية من أحد، أو رفيق مُساند. لم يحمل معه وقتذاك حتى مسدسه. كان ثالث رجل يلقى مصرعه من قوات البوليس. ولما يتجاوز عمره تسعة وثلاثين عاما.

    في ساعة مبكرة من ذلك الصباح، وثمة رقائق سحبية متفرقة على صفحة السماء مثل نُذر كارثة على وشك الوقوع، ولم يكن أحد من أولادهما الصغار قد استيقظ بعد، رأته زوجته لآخر مرة من خلال شرفة المطبخ الزجاجية العارية، وهو يفتح باب السياج الخشبي القصير المحيط بالبيت، ويمضي إلى عمله في بزّته الرسمية، من غير حتى وداع "يليق براحل إلى الأبد". ثمة قسّ من كنيسة قريبة تدعى "سان أندرو". زارها خلال تلك الأيام "العصيبة". علل ما حدث كتدبير "رباني". ذلك، "يا سيدتي"، أن الحصَّة المقررة لكما معا من قِبل الربّ في هذه الحياة الزائلة قد نفدت في تلك اللحظة تماما. لا تقديم. لا تأخير. لا زيادة. لا نقصان. كل شيء مقدر ومحسوب من قبل الربّ في الأعالي بدقة. لا كلمة، لا همسة، لا إيماءة فوق ما هو مقرر بالفعل في كتاب الأجل. لقد حدد الربّ منذ الأزل قسمة الأفراح والأحزان المشتركة بينكما. وفي مثل تلك الأحوال لا يجوز للمؤمن الحقّ أن يتمادى في ضلال الحسرة. فضلا أن البشر لا يحسنون غالبا تصريف الزمن الممنوح لهم. عندها فقط بدأت تدرك حقيقة وضعها الجديد كأرملة. وقد شعرت على نحو غامض كما لو أن الوجود برمته رحلة محكومة بالوحدة الأبديّة منذ لحظة الميلاد وحتى ساعة الممات. قالت للقسّ، قد أنسى يا أبانا تفاصيل أول لقاء لنا، قد أنسى معالم ليلة زفافنا، لكنني لن أنسى ما حييت أول ليلة قضيتها في أعقاب وفاته مباشرة.

    في ذلك الصباح البعيد، ظلّتْ تتابعه، وهو يمضي بتلك الخطى البطيئة المثقلة على غير العادة وحيدا صوب حتفه، كما لو أن قوى غير مرئية ما تنفك تدفع به نحو طريق اللا عودة الأبدية بلا تأخير. خفق قلبها وقتها بشدة، وأحسّت فجأة بالرغبة في الصراخ لتذكيره، عندما لاحظت أنه لم يلتفت كعادته نحوها، ويرسل لها من هناك إيماءة حبّ لم يسبق له وأن تخلى عنها من قبل حتى في ظلّ أكثر أجواء الشتاء القارس سوءا في كندا، طوال تلك السنوات العشر لزواجهما "السعيد". قالت للقسّ في بداية ذلك الحوار بينما تحاول منع نفسها جاهدة من البكاء "لعلي قد ناديته بالفعل، يا أبانا". كما لو أن "الصمم قد أصابه". في الواقع، لم يكن يا أبانا "يخرج من فمي لحظتها سوى الصمت".
    يكشف تاريخ خدمة سيرجنت جون فيرن أنه التحق بقوى صغيرة قوامها عشرة رجال تعمل في ضاحية "سان بونفيس". كان ذلك في العشرين من أغسطس من عام 1920. بعد نحو العامين تقريبا، ترقى "جون فيرن" إلى رتبة "سيرجنت". كان سعيدا وقد خالجه حسب رواية زوجته تلك شعور غامض أن الحظّ يبتسم له "مقارنة بزملائه في أمريكا" لألف سنة قادمة. كان العالم في كندا لا يزال على قدر كبير من الطيبة. لم تذكر أيا من تلك المصادر الصحفية المنحدرة من مجريات تلك الأيام شيئا على وجه الدقة عن أعمار أولئك الأطفال الأربعة الذين تركهم سيرجنت جون فيرن صباح ذلك اليوم لأرملته المنكوبة. كل ما خرجت به الأرملة وقتذاك: مرتب شهرين، أي حوالي 400 دولار، ومبلغ 40 دولارا تم تقديمها من قبل مؤسسة تعويض العاملين التي خصصت كذلك مبلغا ضئيلا لكل طفل من أولاده الأربعة حتى سنّ السادسة عشرة. بالطبع ظلّ بحوزة الأرملة بعد انصراف آخر المعزّين الكثير من الذكريات لتُنفقها بسخاء على ليالي وحدتها "القادمة". مدينة وينبيك التي روَّعها هول ما جرى أطلقت اسمه على أحد شوارعها في وقت لاحق، ولم يغب عنها في بادرة طيبة أن تتكفل كذلك بمصروفات الجنازة. كان ذلك حدثا مؤثرا في الحياة الرتيبة للمدينة. تم تنكيس الأعلام أثناء سير الجنازة. ونظرا لذلك القدر الكبير من الاحترام الذي تكنه المدينة للراحل، أغلقت معظم المؤسسات والمحلات التجارية أبوابها، بينما بدا نحو الثلاثين طفلا من مختلف مدارس وينبيك وهم يمضون مطريقين حاملين الزهور خلف أبنائه الأربعة الصغار ضمن تفاصيل أخرى داخل ذلك الموكب المكلل بالأسى. سيرجنت جون فيرن، حين تلقى في مكتبه تقريرا بالحادث في حوالي الثامنة والربع صباحا، وحتى وهو يخلِّف على مكتبه أحد رجال الإطفاء لنقص في عدد القوى اللازمة من البوليس، لم يدر بذهنه قط أن الشارع الذي سيحمل اسمه بعد حتفه الوشيك سيتحول تدريجا إلى ملتقى دائم تُعقد فيه تلك الصفقات على عجل ما بين المومسات وأولئك الباحثين عن لذة عابرة. لكن تلك لم تكن اللعبة الوحيدة فقط من ألاعيب التاريخ التي لا تحصى. ففي عصر السرعة هذا، نسي الناس تقريبا ذلك الاسم الكامل للشارع. اكتفوا مع تقادم العهد بالدلالة عليه بتلك الرتبة، سيرجنت، والتي يمكن أن تحيل ولا شك لآلاف النظاميين في هذا العالم.

    أجل، لأوعية التاريخ ثقوب واسعة.


    يتبع:
                  

11-15-2010, 01:06 PM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حين سعى عمر وراء جيسيكا بخراج روح (Re: عبد الحميد البرنس)

    كان ذلك يوما عاديا من أيام شهر سبتمبر. كنت أسير في شارع سيرجنت جون فيرن نفسه صحبة ياسر كوكو. أماندا كانت غائبة في إحدى زياراتها المتباعدة في الآونة الأخيرة لصديقتها القديمة جيسيكا. لم يكن لدي ما أفعله إلى حين عودتها في آخر ذلك المساء.

    كان الوقت يعبر منتصف عصره حين تجاوزنا تقاطع سيرجنت مع شارع تورنتو. ياسر كوكو لا يزال يسبقني في السير بخطوة أويقل. لم يكن ثمة ما يشغله في تلك اللحظة سوى أننا غادرنا شقتي إلى حيث سنقابل بعد دقائق بعض المنفيين الغرباء على مائدة للدردشة من موائد بورتيج بليس.

    كنت أسير كعهدي على شوارع أخرى في مدن أخرى وفي أزمنة أخرى ملتقطا في طريقي أدق تلك التفاصيل المنسية.. أعقاب السجائر، فتات الطعام، غنج النسوة حين تشي به الخطوة، حيرة العصافير على رؤوس الأعمدة، آثار الأقدام على بقعة مبتلة، الأحاديث المتسللة عبر النوافذ المشرعة، رائحة الهواء عند الأزقة أوالميادين المفتوحة، العوازل الطبية التي يرمي بها المشردون أسفل دغل كثيف أوركن معتم، شظايا زجاجية صغيرة عند منتصف الأسفلت في نهار مشمس تجاوز ثلثه الثاني بقليل أويكاد، ماركة العربات وتاريخ إنتاجها، وجه عجوز يطل من وراء نافذة زجاجية متسخة، أحاديث المارة العابرة، لوحات الدعاية، الشجر، البيوت، المحلات التجارية، الأغنيات الهاربة من نوافذ عربة مسرعة، وقع خطى الغرباء، وغيرها. لعلي بكل هذا كنت ولا أزال أقاوم في داخلي وطأة ذلك الثقل الذي يدعونه "الحنين".

    يتبع:
                  

11-15-2010, 11:57 PM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حين سعى عمر وراء جيسيكا بخراج روح (Re: عبد الحميد البرنس)

    لقد تغير ياسر كوكو كثيرا. حتى غدا أكثر شبها بمغني الراب الشهير "فيفتي سنتس": الرأس الحليقة، غطاء الرأس، النظارات السوداء التي أخذ يرتديها حتى أثناء الليل، السلاسل الفضية الطويلة، البنطلون يكاد يسقط في أية لحظة، "التي. شيرت" الواسع الفضفاض، مشية العصابات السوداء المجنَّحة في حيّ هارلم في نيويورك. وقد شرع بمرور الوقت في التقاط بعض من أسوأ تلك الكلمات الانجليزية أوالعبارات: "فك يو". "صن أوف ذا بيتش". "سي يو مظر فكر". "قو تو هيل". "آي لف يو بيتش".

    كان سعيدا ومعتزا على الدوام بمغامراته النسائية العابرة كتحايا طيبة على الطريق. وقد عرف طريقه إلى الملاهي الليلية منذ الأيام الأولى على وصولنا إلى كندا. كان على النقيض تماما من عمر الذي استسلم لجهله باللغة الانجليزية فقام بينه وبين العالم الذي يعيش فيه كل تلك الحوائط حتى غدا الأمر كما لو أنه يطالع الحياة نفسها وهي تحدث أمامه وراء شاشة تلفاز. ولم تكن الجرأة بأية حال تنقص ياسر كوكو وهو يتفاعل مع تلك البيئة الجديدة مدفوعا بوهج قوته الفطرية في بناء الجسور بينه وبين الناس وبتلك الحساسية الساحرة للعبور إلى أكثر مناطق الآخر حميمية من خلال الإيماءة وحدها إذا لزم الأمر. وكان له على الدوام ما أراد. عاد بي فجأة صوته من التوغل بعيدا داخل تلك التأملات حول مآل سيرجنت جون فيرن، قائلا "تعرف، يا حامد، أنا عبقري". سألته بدهشة وحيرة غامرين "كيف". كان يشير مرة أخرى إلى واقع وجوده في كندا كمنجز استثنائي في حد ذاته، قائلا "أنا هسي ماشي معاك في بلد دا بتاع خواجات. دا ما عبقري"؟. كتمت الضحكة اللعينة بصعوبة تامة "طبعا، يا ياسر، عبقري". قال معضّدا قصّة وصوله إلى كندا كمعجزة كونية:

    "زمان، في سودان، قلت لأخوي، يا كودي أنا زهجان ماشي مصر. قال لي يا زول الله معاك. قشة ما تعتر ليك. بس تأكل نارك هناك. ما ترسل لي تقول لي أنا عايز مساعدة. والله دينك يطلع هناك. إنت يا ياسر شايف مصر دا ممكن أي زول قادر يمشي ليهو؟، مصر دا بيأكل ناس!. المهم يا حامد أخوك ياسر دا في مصر دا تِعب تَعب الموت لغاية ما مشيت في يوم قهوة في نص بلد في القاهرة. طلبت في القهوة داك شاي وراسي ضارب. سمعت هناك سودانيين بتونسوا في تربيزة جمبي. قالوا في ناس بتسافر تعيش مع خواجات. لكين عشان تمشي بلد خواجات جميل دا لازم يكون عندك "قضية" تمشي بيهو تقنع بيهو خواجات في حتة اسمو أمم متحدة. سألتهم والقضية دا نلقاهو وين. قالوا في ناس تدفع ليهم قروش يعملوا ليك "قضية" بسهولة شديد. المهم أخوك ياسر الماشي في كندا هنا معاك دا، قام مسك واحد من السودانيين في القهوة، قلت ليهو أنا أخوك في غربة لازم تساعدني، كان زول طيب. أنا برضو يا حامد عندي وجهة نظري الخاص في الناس. قام قال لي بكرة في صباح نتقابل يا ياسر في ميدان بتاع تحرير. نقعد شوية في قهوة اسمو "وادي نيل". نَفهِمك شوية شوية قضية بتاعك. نمشي من قهوة بتاع ميدان تحرير لمكتب بتاع أمم متحدة في حتة اسمو مهندسين. نقدم ليك طلب سماع بتاع قضية بتاعك. بعدين أمم متحدة دا بيعمل معاك مقابلة عشان يشوف قضية بتاعك دا حقيقة وَلاَّ مكنة وكِضِبْ من رأسك ساكت. طوالي في القهوة داك بتاع ميدان تحرير قال لي أنا عايز يا ياسر بيانات بتاعك شخصي. يعني اسمك وتاريخ بتاع ميلاد بتاعك وكدا. بعد أيام كتيرة وطويل، وبعد ما حفظت قضية بتاعي في رأسي كويس شديد، مشيت طوالي مكتب بتاع أمم متحدة، لما البت بتاع مكتب سمع كلام بتاعي بعد مقابلة داك اقتنع بكلامي طوالي، كمان قرَّب يبكي عديل كدا عشان هو اتعاطف مع كلام بتاعي، قال لي يا ياسر إنت مظلوم في بلد بتاعك وتمشي من هنا تسافر كندا طوالي، دا ما عبقري، يا حامد"؟.


    يتبع:
                  

11-16-2010, 02:01 AM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حين سعى عمر وراء جيسيكا بخراج روح (Re: عبد الحميد البرنس)

    أفكر داخل تشابكات اللحظة. تلك جملة تحتوي على قدر من خبث. إذن موضوعة التفكير تنأى عما هو آني. ما عنَّ لي مساءلة عما إذا كانت التجربة تسبق الكتابة. ما إذا كانت الكتابة نصَّا جاهزا يبحث في الخارج عما يبرره. لكن كيف يمكن عقل التجربة لتحويلها لاحقا كتابة؟. هل تحتاج هنا الذات الكاتبة إلى شيء من مكر يجعل موضوعها يتحرك بطلاقة كما لو أنه يمسك بالخيوط كلها في يده؟. ربما يعطي الإيهام بالسيطرة للموضوع سانحة أن يتكشف طواعية عبر خيلاء مستعارة عن مختلف تمفصلاته. لكن أصلا ما التجربة؟. هل هي مقاربة محكومة سلفا بتصوراتها حول ما هي عليه أم أنها مغامرة وطريق تكتنفها المفاجأة؟. ها، نحن نقترب كثيرا من بنية العقل الآيديولوجي. لو امتلك الأخير عقلا في الأساس. لا عليك. دعنا نستكمل هذا الفصل:
                  

11-16-2010, 02:40 AM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حين سعى عمر وراء جيسيكا بخراج روح (Re: عبد الحميد البرنس)

    قبل متابعة الفصل:

    هل التجربة في جوهرها ذات نزوع فردي، أم جماعي؟. لنفترض عبر مفهوم العلاقة حضورا بين ذاتين يسعيان معا لإنتاج معنى ما. قد يستحيل أحيانا ضمن ذلك الحضور ذي المظهر الثنائي خارجيا التوصل إلى إنتاج معنى يتمتع بخصوصية ما. ربما إحدى الذاتين تفتقر إلى أصالة ما عبر تنكرها لذاتيتها وقد استحالت إلى مجرد وسيط يستمد حضوره كممثل لشبكة علاقات خارجية. أرأيت كيف يبدو البؤس هنا كوأد لمشروع معرفي حقيقي عبر الوقوع في فخ الأحكام المكونة سلفا؟. لكن الوقوع هنا شئنا أم أبينا يلعب دور الغطاء الآيديولوجي لمصلحة ما قد لا تكون كلتا الذاتين أوإحداهما على الأقل على دراية أنها تجري وفق مخططات ذات ثالثة. لعل إحدى الذاتين الأوليتين مولعة بإنتاج المعرفة فنفضت يدها من الموضوع برمته لا عن استسلام بل عن كثافة زيف لا يستحق هدر الوقت.
                  

11-16-2010, 08:52 AM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حين سعى عمر وراء جيسيكا بخراج روح (Re: عبد الحميد البرنس)

    فجأة، سقط قلبي تحت أقدامي. ثمة شيء ثقيل يسحب روحي إلى أسفل. ثمة غلالة ملحية تعشي عينيَّ. ولم أعد أسمعه. لم أعد أقوى حتى على الوقوف. وللحظة خيل إليَّ أن الحياة ليست سوى خيوط معلقة على ضحكة القدر الساخرة. بعد نحو شارعين، أوثلاثة، من تقاطع شارعي تورنتو وسيرجنت، توقف ياسر كوكو تماما عن الحديث. رأيته وهو يهرول بغتة نحو الجانب الآخر من الشارع. يكاد يقفز من فرحة بينما يُشرع ذراعيه نحو سمانتا رأسا. بدتْ هي في حضنه مرتبكة. وكنت أتابعهما من الجانب الآخر للشارع بكل ذلك العناء. كان صديقها الآسيوي بعينيه المبتسمتين يقف غير بعيد منهما. ولا يزال برغم دفء الجو متدثرا داخل بالطو الصوف الأسود الطويل. كما لو أن شعره المهمل أكثر ثقلا في ميزان الرهبة من سائر جسده الضامر النحيل. أخيرا، عاد ياسر يمشي إلى جواري. في عينيه فخر وتيه وإبتسامة لا نهائية ولسان حاله يقول بالنبرة القديمة الواثقة نفسها "انظر إلى أخيك، يا حامد، كيف يسحر النساء هنا، في كندا نفسها، أرأيتني، يا حامد"؟.

    ثمة خوف، لا شيء آخر سوى الخوف، الخوف يملأ جوانح نفسي، يتدفق، ووخذ الأسئلة يثقب رأسي المثقلة بقسوة في غير مكان. يا إلهي، "ما ألطفك"، قلت في نفسي. هناك، داخل تجويف صدري، لا يزال قلبي يواصل دقاته بعنفٍ وتسارع، بينما خيوط من العرق شرعت تنسكب تباعا من على جبيني كما لو أنني أقف غير بعيد من فوَّهة بركان على وشك الانفجار في أية لحظة. سألته بصوت راعش "ياسر، إنت شفت البت دي قبل كدا". قال "كتير كتير، يا حامد، ها ها ها". قلت "عملت معاها شنو، يا ياسر"؟!.

    قال "راجل ومرة في سرير واحد، يعملوا شنو"؟.

    واصلت استجوابي بصوت ميت هذه المرة:

    "كم مرة ضاجعتها، يا ياسر".

    قال "ها ها ها، كتير، كتير كتير".

    سألته متعلقا بخيط الأمل الأخير:

    "كان عندك عازل طبي".

    قال "دا بت نضيف، خلي عندك وجهة نظر، يا حامد"!.

    واقتربنا كثيرا من جامعة وينبيك.

    بدا لي بورتيج بليس القريب في ثنايا تلك اللحظة الكابوسية بعيدا ونائيا تماما. لم تعد قدماي تحملانني أكثر على المسير. حلقي جفَّ تماما. جلست على إحدى تلك الدرجات الحجرية المتعاقبة لبوابة الجامعة الخلفية مثل يتيم حار دليله. وضعت يديَّ على رأسي. وانفجرت في نوبة عالية من البكاء. كان صوته يتناهى إلى مسامعي من حين لآخر حائرا ملتاعا متسائلا في تعاطف وشفقة غامضين "حامد، يا زول، إنت كويس". كلما جاوبته في سري كلما زاد بكائي "هذه البنت مريضة بالإيدز، يا صديقي".


    يتبع:
                  

11-16-2010, 09:23 PM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حين سعى عمر وراء جيسيكا بخراج روح (Re: عبد الحميد البرنس)

    حتى الآن، لم يخالجني لحظة واحدة أدنى قدر من ندم. ولم أكشف له فيما تبقى من ذلك المساء عن سر بكائي ومرارته التي لا تطاق. تركته وهو يصارع قدره المحتوم وحيدا. لم أخبره حتى بمأزق وجوده الذي لا يحسد عليه. كان البكاء قد جعل الموقف برمته في ذهني واضحا صافيا وخاليا من شوائب العاطفة التي بدا وكأن نبعها قد جف في دواخلي في أعقاب آخر قطرة من تلك الدموع. آنذاك، استجمعت شتات نفسي بصعوبة. واصلت معه الرحلة كما هو مقرر إلى بورتيج بليس. لكأن شيئا لم يحدث. وهو لاذ بعدها بصمت كثيف كما لو أنه اطلع على حقيقة ما انطوت عليه نفسي من قرار. لم يفه مثلي بكلمة واحدة. لعل البكاء قد أيقظ كذلك في نفسه مرارة تلك الأشياء الثاوية. لكن المؤكد أن خطواته لم تعد خفيفة مرحة مثلما بدت عليه عقب لقاء سمانتا وصديقها الآسيوي منذ دقائق. كان المنفيون يتحدثون في بورتيج بليس حديثا فاترا مليئا بمرارة بدت لي غريبة عن لؤم الفلبينيين في أماكن العمل. بعضهم استقبل ياسر بالأحضان. ولو أنهم رأووا مثل ما رأيت منذ قليل لفروا من أمامه لا يلوون على شيء. كنت قد بدأت بالفعل أنظر إليه من آن لآخر نظرتي إلى رجل ميت. وهو شرع وقد عادت إليه روحه القديمة يحدثهم بكثير من المرح عن رغبته في إقامة مشروع تجاري صغير في السودان.

    كنت أعرف أنه يسعى إلى شراء ماكينة لتصليح الأحذية القديمة التالفة في أحد الأحياء العشوائية المحيطة بالخرطوم. سأله عادل سحلب بتثاؤب وضجر عما إذا كان قد أقام دراسة جدوى لمشروعه بعد أم لا. قال له قم أنت بالدراسة لنفسك وأترك لي مهمة الشراء لنفسي. أعجبني رده برغم شبح المأساة الماثل. ولم أدهش لحظة أن تقبل عادل سحلب ما بدا مهينا لأمثاله خلال سنوات القاهرة في صمت. لعله أدرك أن كل ما قد كسبه في الماضي من معارف وثقافة ودهاء سياسي قد آل في ظل لغة لا يعرف حتى أبجدياتها إلى شيء لا جدوى منه. كان ياسر كوكو يُطيب له في أحيان كثيرة أن يمازحه ضاربا على كتفه كزميل في مهنة هامشية أخرى مؤكدا له في كل مرة أنهما لو ظلا معا داخل الوطن لما ألقى عليه مجرد تحية عابرة!.

    أجل، ظلّ عادل سحلب يواصل العمل في مطعم فخم متخصص في تقديم الدجاج المشوي يدعى "سويس شاليه" كغاسل للأطباق. مطعم يؤمه عادة المتقاعدون من البيض وبعض المحتفلين بمناسبات خاصة. مطعم تسع قاعته لأكثر من خمسمائة زبون يتم خدمتهم عادة في لحظة واحدة. كان يقف يوميا لمدى ثماني ساعات وسط أرتال من الأطباق والملاعق والشوك والأكواب المتسخة وقد غمرته أبخرة حارة ما تنفك تتسرب من الغاسلات الآلية على مدى ساعات خدمته الممتدة بلا نهاية. عند حلول المساء، كان يعود عادة إلى شقته بقدمين متورمتين ورأس محترقة ونصف دزينة من بيرة تسمى "مولواكي آيس". يسند ظهره إلى كنبة في الصالة. يمدد ساقيه. يغمض عينيه. يبدأ يرتشف من علب البيرة المثلجة مباشرة. يظل على هذا المنوال نحو الساعة قبل أن يمسك بسماعة الهاتف ويتسقط آخر أخبار المنفيين في تلك الأحياء المتفرقة من المدينة.

    يتبع:
                  

11-17-2010, 06:00 AM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حين سعى عمر وراء جيسيكا بخراج روح (Re: عبد الحميد البرنس)

    عدت من بورتيج بليس في حوالي العاشرة مساء. على امتداد سيرجنت، لم يكن ثمة من أثر يدل على سمانتا وصديقها الآسيوي ذي العينين المبتسمتين. لعلهما ذهبا في طريق الإيقاع بضحية أخرى. أومأت قبيل ذهابي لياسر كوكو برأسي مودعا. لاحقني صوته مطهما بفسحة الأمل "أشوفك بكرة". لكأنني لم أسمعه. أما الآخرون فقد كانوا وقتها في نقاش محتدم حول انخفاض قيمة الدولار الكندي مقابل ارتفاع قيمة الدولار الأمريكي في السودان "هذه الأيام". ربما لهذا لم يولووا مسألة انصرافي عنهم كبير عناء. "أشوفك بكرة". أخذت أردد في نفسي كلماته تلك طوال الطريق إلى البيت. لم تكن أماندا قد عادت من زيارة صديقتها القديمة جيسيكا بعد. ثمة شيء غامض لا يزال يربطهما معا. أماندا أخبرتني في مرات عديدة أنها لم تعد تكن لها مشاعر حقيقية منذ فترة. لكنها ظلت دائما في حيرة من أمرها. لا تدري كيف تحسم في قرارة نفسها شيئا وُلِدَ ونما معها عبر سنوات عديدة وصار جزءا لا يتجزأ من نسيجها الروحي. لقد بدا من الصعوبة بمكان على أماندا أن تقول لكل تلك المغامرات العاطفية وجملة المواقف والذكريات المشتركة بينهما "إلى هنا وداعا فقد انتهى كل شيء". ما زاد الأمر تعقيدا أن جيسيكا كانت تعلم جيدا أن أكثر ما يمكن أن يشل إرادة أماندا في هذا العالم: الدموع.

    ظللت أقول في نفسي، في مثل تلك الأحوال، لو أن أماندا عاشت في منفى وسيط مثل القاهرة لما كلفها الأمر كل هذا العناء. هناك ظل معظم الناس يستبدل العلاقات كما يستبدل ملابسه القديمة بأخرى جديدة. لكل مرحلة حساباتها. لا صداقة دائمة. لا عداء دائم. كان مثل ذلك السلوك يؤدي ببعض المثاليين إلى الانتحار أوالجنون أوحتى معاقرة الخمر آناء الليل وأطراف النهار. أجل، المنفى تحكمه الحاجة لا القيم. لقد علمتني الخبرة هناك أن أكثر الناس حديثا عن القيم كانوا أكثرهم بعدا عنها. أُطلق أحيانا على تلك الفترة من حياتي اسم الحرباء. كانت كلمات كثيرة، مثل "الاحترام" أو"الأخلاق" أو"الصداقة"، قد شرعت تتحول في ظل شح النقود وانعدام فرص العمل أوندرتها إلى عُملات لا بد منها لشراء الطعام أوتأمين المأوى أوحتى تعمير خرائب الرؤوس التي عصف بها الحنين بخمر رخيصة ولربما لاقصاء منافس تنقصه الخبرة للصراع حول تلك الغنائم المتناثرة من ذلك القدر المتبقي من "الفُتات المتاح". لا لم تكن دواخلي متماسكة إلى تلك الدرجة التي ظننتني عليها قبيل ساعات في أعقاب نوبة البكاء تلك التي داهمتني على احدى درجات البوابة الخلفية لجامعة وينبيك. كما لو أن الانهيار في حاجة دائمة إلى مثل تلك المواقف للإعلان عن هشاشة دواخل المنفيّ المتداعية كركائز بيت قديم.

    هكذا، ما إن أخذت أفكر في مآل ياسر كوكو مرة أخرى حتى اندفعت في موجة أخرى طويلة من البكاء. وإن لم يبدل كل ذلك في الأخير من أمر قرار اعتزالي له مرة واحدة وإلى الأبد. لا، لست في حاجة أخرى لما يشدني نحو هذه الأرض. بي رغبة عميقة في الطيران والتحليق في سماوات بعيدة. وهناك، داخل قلبي، بحيرة كافية من الأسى الراكد. تطفو على سطحها خيبات وجثث كثيرة. ولياسر كوكو قلوب عزيزة في مكان ما داخل الوطن. بها كذلك متسع لجثته ودمع كاف لرثائه.
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de