"تداعيات في بلاد بعيدة" على أبواب الترجمة

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-13-2024, 00:54 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الرابع للعام 2010م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
12-05-2010, 04:58 PM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
"تداعيات في بلاد بعيدة" على أبواب الترجمة

    تمت مناقشة الأمر بصورة جادة (لا تفاصيل الآن):





    "كما يشاع لم يكن للكل ب غرة بيضاء على جبينه".

    هكذا أخذت تستعيد ذات نهار قائظ بعيد تفاصيل "فضيحة أحمد حسن"، التي حدثت أيام مراهقته، ولم يتبق من حلاوة حكيها، على آذان معظم الناس و ألسنتهم، سوى ذلك "الإسم"، الذي لازمه كعلامة بعد مقاومة قصيرة ومحدودة من جانبه إلى يومنا هذا:

    "مُسيلمة الكذاب".

    كانت الشمس تشتعل في منتصف سماء جرداء. شجرتا النيم تقبعان على جانبي مدخل الدار. تطلان على الشارع المقفر في صمت. لكأنهما سقطتا على حين غرة من لوحة رسّام أراد في لحظة إلهام جنونية تصوير الحياة كبستان خال من الهواء. وثمة ديك ملتاع حزين يرتفع صوته بوهن و فتور من مكان ما في الجوار. أما أرض الفناء الترابية الكابية فقد كانت تلتمع بعشرات الشظايا الزجاجية الصغيرة المتناثرة هنا وهناك. "إنه الصيف"، علا صوت إحداهن لحظة صمت وهي تتأمّل العالم المحترق خلف النافذتين، وبينما الحوائط تختزن الصَّهد لتنفثه بعد ساعات رئة المساء المعتمة، ما كان بوسع أكثر الناس قدرة على التوقع أن يتنبأ بما آل إليه مجلسهن من حوادث تبدو لي الآن مثل نغمة حزينة من أنين القوافل البشرية السائرة عبر القرون بلا توقف أو عزاء.

    آنذاك كن مجتمعات داخل إحدى غرف البيت الداخلية. أمّي التي ستُعرف لاحقا بإسم "مبعوثة العناية القدرية العليا لبعث حضارة المدينة في غمضة عين" وأختاي الكبريان وجارتنا فاطمة وعانس على مشارف الخمسين تُدعى "وكالة رويتر المحلية".

    كن صامتات أغلب الوقت.

    والحق أقول لكم، كانت هي من النوع الذي يشد إليه انتباه سامعيه بخيوط متينة و محكمة من المتعة والسكون وإثارة الأشواق الدفينة بل و حتى الأسى أحيانا. تعرف جيّداً متى تصمت؟، كيف تستعين بأصابعها النحيلة أو الرقيقة أثناء الكلام؟، كيف تبدأ الأنس وتنهيه؟، بل وأين تلقي بالمغزى الكامن بعيدا داخل الحكاية؟، وأية حكاية؟.

    لكأني أراها الآن.

    كسنابل القمح أواخر فصل الشتاء، ذاك لونها. ممشوقة القوام. ذات شعر ناعم فاحم ينسدل إلى أعلى ردفيها بقليل. خصرها ضامر. لها إبتسامة لا تدري إن كانت تثير في داخلك الذعر أوالمسرة؟. فمها يتخذ في مناسبات عديدة هيئات الوَدْع حين تُلقيه على الرمل يد العرَّافة. لا تكاد عيناها الواسعتان السوداوان تستقران طويلاً على حال واحدة. ولا أحد من الناس في تلك المدينة الواقعة عند ضفاف النيل الأبيض يعلم على وجه الدقة متى وأين وكيف محا ذلك الإسم إسمها القديم؟.

    إنها "وكالة رويتر المحلية".

    مازلت حتى الآن أتذكر توهج السعادة على وجهها حين يحدث في المدينة أمر ذو بال. أجل، أتذكر طريقتها الفريدة تلك في الكلام. كما لو أن صوتها فرشاة، تنهل بحذق من ألوان خفيّة، تضرب على لوح لا وجود له ببراعة و دِربة، راسمة كل تلك العوالم من المتعة و الشجون و العذابات مرة. أجل، أتذكر ذلك. أتذكره بشيء من حنين طاغ إلى أحداث تلك الأيام "الفاتنة". أتذكر حتى ما يُحكى عن موت أبويها الثريين في حادث غرق بعيد وقع قبل ولادتي بعام. كل ذلك وغيره، مازلت أتذكره بوضوح شديد. و لكنَّ أكثر ما ظل يشيع الأسى في قلبي من كل هذه الذكريات ولا أدري لماذا هو علمي أن "وكالة رويتر المحلية" قد ماتت في منتصف العقد السادس من عمرها من دون أن ينعم بستان جمالها الذابل لحظة بالماء المتدفق عبر قناة أحد أولئك الرجال؟.


    يتبع:
                  

12-05-2010, 05:11 PM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: "تداعيات في بلاد بعيدة" على أبواب الترجمة (Re: عبد الحميد البرنس)

    صدرت الطبعتان الأولى والثانية في القاهرة، 2002، 2010:


    sudansudansudansudansudansudansudansudansudansudansudansudansudansudansudansudansudansudansudan2sudansudansudansudansudan.jpg Hosting at Sudaneseonline.com
                  

12-05-2010, 06:15 PM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: "تداعيات في بلاد بعيدة" على أبواب الترجمة (Re: عبد الحميد البرنس)

    على غير العادة، خرج الحاج محمود مبكِّراً، بعد أن رأى في المنام كل باً أسود يضع في فمه غليوناً يتصاعد منه دخان رمادي. جلس داخل الفرندة على طرف السرير متصالب الساقين ملفوفا داخل العتمة واضعاً رأسه بين كفيه في وجوم. وقد أخذ يُقلب في ذاكرته ما قاله ابن سيرين عن الأحلام، بينما عيناه ترنوان إلى شيء أبعد من العتمة والفناء و ذكرى زوجته الراحلة وبناته الثلاث اللائى تزوجن تباعا وغادرنه مع أزواجهن إلى مدن بعيدة.

    أخيراً طفق يتوضأ بهدوء و تمهل وقلبه يحدثه فيما يشبه الهمهمة بأن كارثة ما في طريقها لتقويض سلام تلك المدينة الوادعة مرة واحدة وإلى الأبد. وقد كان.

    "اللهم لا نسألك رد القضاء ولكن نسألك اللطف فيه". تمتم الحاج محمود وهو يلقي بالأمر كله على كاهل الخالق ونهض. لم يدم انتظاره طويلاً. ما إن فتح باب الحوش الخشبي العتيق وسار في الشارع خطوات قليلة في طريقه لرفع آذان الفجر، حتى تجمد الدم في عروقه وتوقفت أنفاسه دفعة واحدة، إذ انشقت الأرض على بعد خطوة واحدة منه عن كل ب أسود، وقف على قائمتيه الخلفيتين لحظات، ثم تلاعب بعينين متقدتين كعيني عاشق قديم لا ينقصه الحياء، قبل أن يمرق بذيل معقوف إلى أعلى في الاتجاه المعاكس كبرق. حين التفت لم يكن ثمة شيء سوى ذلك السكون المخيم على امتداد الشارع الطويل المترب. "اللهم اجعله خيراً"، بالكاد خرج صوته. ومع ذلك، سرعان ما هدأ من روعه و أخذ يغذي الخطى مواصلاً السير كمؤمن حقيقي.

    كانت تقترب من الثالثة بعد منتصف الليل، ما زال في الوقت متسع للتأمّل في مخلوقات الله والسير بتؤدة، المصابيح مطفأة داخل المنازل، أعمدة الكهرباء الأسمنتية المتعاقبة أعماها عبث الصبية النهاري، أما القمر في تمامه فكان يطل من حين لآخر من خلل السحب السوداء السارية ببطء صوب الشمال، يختفي فتعتم الأشياء آخذة من جديد أشكالها المخيفة الغامضة، "الناس غافلون عن غايتهم، "الآيات بيِّنات" و واضحة، لكن الحكمة لا يبصرها المبصرون، وتلك لعمري ساعة يذكر فيها اسم الله كثيراً"، واصل الحاج محمود الهمس، مبدداً وحشة الطريق و محتسبا بقايا الرؤيا المشئومة في خشوع، فاركاً بين يديه مسبحة الصندل الحجازية الدقيقة من آن لآن، ومغالباً تلك الدموع الحارقة التي ظلت تملأ عينيه كلما استشعر في أعماقه عظمة الخالق سبحانه وتعالى. فجأة انتبه إلى حركة مريبة أخذت تتناهى إليه لاهثة من وسط كومة الأوساخ المتراكمة أسفل سور المدرسة الأميرية الحجري القصير.

    في البداية، لم يخالجه الشك لحظة واحدة أن الشياطين تتناسل داخل تلك "الخرابة و العياذ بالله" في غفلة تامة من عين الإنسان "الذي يمتلك مفاتيح السر منذ أن حمل الأمانة". ثم، بيقين تام ومثلما حدث قبل دقائق معدودة مع الكل ب الأسود، توقف غير بعيد من تلك "الخرابة" وقال بيقين العابد الصادق نفسه: "بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم"، ولكن "أي شيطان لا يفر إذا ما أطلق عليه إسم الجلالة"، تساءل الحاج محمود وبدأ القلق القديم يساوره، إذ لم يتغير شيء مما يحدث، وأكثر من ذلك ظل نفس اللهاث يتفاقم شيئاً بعد شيء. "و لو أنه في تلك الساعة لم يكن المؤذن الرسمي للمسجد الكبير لأطلق العنان لساقيه لا يلوي وراءه على شيء".

    شبحان غريبان من خيال العتمة، يلتحمان في وضع أكثر غرابة، لكأن القاذورات تحتهما سجادة حريرية يتمرغ على نعومتها جسدا عاشقين التقيا بنهم و لهفة بعد طول غياب لم ينقطع خلاله نداء الشوق والوجد وظمأ رغبة لا رواء له.

    كان القمر محتجباً آنئذ وراء سحابة سوداء كثيفة، العرق يتصبب من جبينه وصدغيه مبللاً لحيته البيضاء المستديرة وقلبه يرتجف داخل صدره كأنف فأر حاصره قط في ركن ضيق، كان قد استنفد في تلك الدقيقة كل ما في جُعبته من آيات وأدعية و أحاديث مأثورة "وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ". لا شيء تغير، البتة.

    ما إن قرر أخيراً مغادرة المكان "بأسرع قدم لديه"، وقد أدرك برعب مدى ضعف إيمانه "الذي لم يصمد طويلاً" إزاء "هذا البلاء الرباني اليسير"، حتى جاءه الغيث من السماء "رأسا"، حيث اندلق نور القمر المنير كاشفاً له في ثانية معالم الفصول الدراسية وتضاريس السور الحجري القصير، بل و... أدق تفاصيل الشبحين اللذين كادا منذ دقيقة واحدة فقط أن يقلبا نظام العالم القائم في ذهنه منذ الولادة رأساً على عقب.

    رويداً رويداً، أخذ يفيق من "ذهوله العظيم". و بدأ يتنفس الصعداء. و قد وضح له الأمر "الآن" جلياً. لبث في مكانه ساكناً مسافة. يلفه الغيظ و الغضب والحنق والحيرة و الوجوم. و أكثر من ذلك: تخاذل إيمانه في اللحظة الأخيرة!.

    أخيراً، و قد هدأ روعه تماما، عقد عزمه فتقدم وسط أكوام الأوساخ المتلاحمة أو تكاد، شاقاً طريقه مثل ثعلب يقترب من حظيرة الحملان بخفة وحذر.

    كان بينه وبين الشبحين خطوة واحدة، حين تبين له وجه أحمد حسن على نحو شديد الوضوح. "ذلك الفاجر"، قالت "وكالة رويتر المحلية"، ثم رمت نظرة نافذة متناوبة على وجهي أختيَّ جعلت الكبرى تتأمّل أظافرها المطلية حديثاً بينما تغير وجه أمّي قليلاً حالما رأت الأصغر وهي تبادل "وكالة رويتر المحلية" نظرة الند للند بل صعدت إلى حصان جرأتها المعهودة لحظة أن مدت عنقها إلى الأمام وقد خيل لي أنها قد تتحول في أية لحظة إلى أذن فيل ضخمة لا محالة. أما جارتنا فاطمة فقد كانت لا تزال هادئة تبتسم بعينيها الجميلتين دون أن تنفك يداها لحظة من تهوية وجهها بكتاب:

    "ألف طريقة وطريقة لصناعة الحلوى ".

    يتبع:
                  

12-05-2010, 06:37 PM

ابو جهينة
<aابو جهينة
تاريخ التسجيل: 05-20-2003
مجموع المشاركات: 22499

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: "تداعيات في بلاد بعيدة" على أبواب الترجمة (Re: عبد الحميد البرنس)

    البرنس يا صاحب
    نحن موعودون بتداعيات في بلاد بعيدة و لكنها بلا شك ستكون قريبة إلى القلب و الروح

    لكأني أراها الآن.

    كسنابل القمح أواخر فصل الشتاء، ذاك لونها. ممشوقة القوام. ذات شعر ناعم فاحم ينسدل إلى أعلى ردفيها بقليل. خصرها ضامر. لها إبتسامة لا تدري إن كانت تثير في داخلك الذعر أوالمسرة؟. فمها يتخذ في مناسبات عديدة هيئات الوَدْع حين تُلقيه على الرمل يد العرَّافة. لا تكاد عيناها الواسعتان السوداوان تستقران طويلاً على حال واحدة. ولا أحد من الناس في تلك المدينة الواقعة عند ضفاف النيل الأبيض يعلم على وجه الدقة متى وأين وكيف محا ذلك الإسم إسمها القديم؟


    رسم ديجيتالي
    متى سننعم بهذه التداعيات ؟
    واصل هنا و لو على جرعات
                  

12-06-2010, 00:34 AM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: "تداعيات في بلاد بعيدة" على أبواب الترجمة (Re: ابو جهينة)

    Quote: واصل هنا و لو على جرعات


    تعرف،أبا جهينة،هذاالموقع عزيز على نفسي، لا لشيء، سوى أنه يمكنني من الصلة بكل ما له علاقة بالوطن. وقديما قال درويش "وطعم العسل في بلاد الآخرين مر". أتابع ما يحدث هنا بمحبة. لا بد أن يكون المرء قريبا من الجذور على أضعف الإيمان. كنت أشعر بالحرج، أتذكر، حين سالني مذيع في إحدى القنوات الفضائية العربية، لعلها عراقية، عن المشهد الثقافي في السودان. كان من الأسى بمكان توضيح فكرة تسجيلي لغياب عن الرحم لعقدين أويزيد. ساكون حاضرا هنا ما وسع الجهد. كل الود.
                  

12-06-2010, 07:43 AM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: "تداعيات في بلاد بعيدة" على أبواب الترجمة (Re: عبد الحميد البرنس)

    كان نصفه الأسفل عارياً إلا من سرواله الساقط عند كاحليه، جلبابه يتكوم ما بين الصدر والعنق، عيناه شاخصتان في البعيد، بينما ينغرس فكه في الظهر المائل لحمارة أمينة الفرَّاشة التي أغمضت عينيها نصف راقدة وأرخت أذنيها الكبيرتين وراحت تمضغ شيئاً ما ببطء وتمهل غريبين أثارا على ضوء القمر المنير وزادا من غضب الحاج محمود الذي سبق له وأن وطأ أثناء سيره الحذر داخل كومة الأوساخ المتراكمة على "جثة فأر متفسخة"، وبدا وكأن الحمارة قد تعودت على مثل هذه الممارسة الاستثنائية منذ زمان بعيد.

    كانت المنازل الساجية و الموغلة في سباتها العميق قبالة سور المدرسة الأميرية شهود عيان، أوصدت الشماتة والخوف والدهشة آذانها، فبدت غير عابئة بضربات المسبحة المتساقطة على رأس أحمد حسن الذي انتزع نفسه وجذب السروال وأسدل الجلباب في ثانية متقهقراً نحو السور بما تبقى له من عقل. لكأن الحمارة التي لا تزال محافظة على هدوئها، لم تسمع بدورها كل ذلك النداء الخافت المستغيث الحار: "الستر.. الستر الستر.. يا مولانا.. وربَّ الكعبة الشريفة.. لم أفعل هذا الفجور بيدي.. و لم أرتكب.. يا مولانا.. هذا المنكر الشنيع بمزاجي.. و يشهد الله.. أني كنت في عز نومي.. عندما خطفني الشيطان من سريري خطفا.. ثم.. ثم... ثم أحضرني إلى هنا محمولاً على قرنه السابع". حالما أنهى أحمد حسن بشق الأنفس مرافعته الدامعة المنكسرة حدَّ اللوعة و الرثاء، زفرتْ الحمارة لأمر ما، وبدا أن الحاج، الذي أنساه هول ما رأى أن يؤذن لصلاة الفجر في ذلك اليوم، قد وجد في داخل كومة الأوساخ متسعاً للحوار، فأخذ يتفكر مليئا في وجه المراهق الملتصق بظهره إلى سور المدرسة الأميرية الحجري القصير بينما أخذ صوت الديكة ينطلق من أكثر من مكان قائلاً: "لماذا إذن يا ابن الناظر التربوي الرشيد نفسه!، لم يكن قرنه الرابع؟، أو حتى الخامس؟، لماذا قرنه السابع تحديداً؟، وإذا كان للشيطان الرجيم كما نعلم مائة رأس بالتمام والكمال، فإلى أي الرءوس كان ينتمي القرن الذي حملك يا فاسق إلى حمارة أمينة الفرَّاشة؟، أيها الفاجر، لماذا تصمت هكذا؟، ها أنت إذن تكذب أيضاً، خذ هذه، وقسما بالله العظيم ثلاثاً، لأنت سيد الفحش كله، لا لا، أنت الشيطان نفسه و قد اتخذ هيئة إنسان داعر، لا، بل ... أنت مُسيلمة الكذاب نفسه".

    كان في إمكان هذا الحوار أن يستمر بين كر و فر من غير انقطاع إلى ما بعد بزوغ الشمس، لولا أن فطن ابن الناظر الذي دأب على ركل عجيزة الحمارة بقدمه خفية من آن لآن إلى مراجعة موقفه الحرج، فأطلق العنان لساقيه الخفيفتين كساقي جواد، تاركاً وراءه الحاج محمود وسط نهيق الحمارة الذي علا على حين غرة، ثم.. وبعد أن انغمسن في الصمت لدقائق، مضت "وكالة رويتر المحلية" بالحكاية القديمة نفسها باعثة نسمة أخرى من الضحك في خلايا ذلك النهار الذي بدا لغيظه بلا نهاية قائلة:

    "يا بنات!.. سعيدة.. سعيدة حقا.. مَن تتزوج بمُسيلمة الكذاب.. فلو طلبني أنا شخصيا للزواج لوضعت ثوبي بين أسناني و ركضت نحوه بلا تردد... لا تتضاحكن هكذا... ها ها ها.. لابد أن مَن يفعل ذلك لديه مثل ما لدى الحمار"!.




    كانت ذرات الغبار الدقيقة تمرح سابحة بتراخ على امتداد شريط الشمس العريض المتساقط عبر إحدى النافذتين، كن يرقبن ذلك في وقت واحد دونما سابق اتفاق راسمات على وجوههن بدرجات متفاوتة ذلك التعبير الأنثوي الحالم في حياة تكاد أن تخلو من متاعب، و كان ثمة سرب من الذباب يتنقل في كسل بين أكواب الشاي الفارغة أعلى طبلية الخشب وأطرافهن شبه العارية في لهيب ذلك النهار، وبدا بالفعل أن مثل تلك الحكايات القديمة لم يعد يحمل جديداً، حين بدأن في الاستغفار والتثاؤب تباعاً. عندئذ، ألقت "وكالة رويتر المحلية" بصوت ناعس لا يثير ريبة ما حرَّك بِركة الأنس الراكدة منذ فترة قائلة:

    "يا بنات، بحق الله، مَن هو مطربكن المفضل"؟.

    لو علمن ما يتبع ذلك السؤال، لاعتصمن بحبل الصمت، لما ألقت السائلة ما ألقت، بل لتبدلت مصائر إلى غير ما ذهبت إليه أقدام أصحابها طواعية من شقاء، ولست أدري حقاً يا أصدقائي إن كان ذلك ما يدعونه "الفخ"، أم سعي الضحية إلى حتفها راضية؟.


    يتبع:
                  

12-06-2010, 07:03 PM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: "تداعيات في بلاد بعيدة" على أبواب الترجمة (Re: عبد الحميد البرنس)
                  

12-06-2010, 07:11 PM

بله محمد الفاضل
<aبله محمد الفاضل
تاريخ التسجيل: 11-27-2007
مجموع المشاركات: 8617

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: "تداعيات في بلاد بعيدة" على أبواب الترجمة (Re: عبد الحميد البرنس)

    نتعشم أن يكتمل المشروع على أكمل وجه
    ويثمر عن قراءات تفتح لك
    أبواب العالمية على مصراعيها



    سأخذ ما نثرت إلى خلوة


    شكراً لأنك هنا
                  

12-07-2010, 02:37 AM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: "تداعيات في بلاد بعيدة" على أبواب الترجمة (Re: بله محمد الفاضل)

    Quote: سأخذ ما نثرت إلى خلوة


    شكرا، أخي بله. أتابع في صمت ما تكتبه هنا بقدر عال من الجدية والتميز. وكنت أرجو لو أني ظروفي تسمح بالمشاركة بصورة أكثر فاعلية مثلما كان عليها الحال قبل أكثر من خمس سنوات، مثلا:

    أبوجهينة.. عالم قصصي بديع عماده المحبة:

    كان لدي وقتها الكثير من (الأسبير تايم) في كندا كحارس ليليّ. أنا الآن في قلب الوسط الذي أتشكل عبره ككاتب: القاهرة. والرواية كتابة تستأثر مني ساعات ممتدة في اليوم.

    كن بألف خير
                  

12-07-2010, 08:00 AM

بله محمد الفاضل
<aبله محمد الفاضل
تاريخ التسجيل: 11-27-2007
مجموع المشاركات: 8617

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: "تداعيات في بلاد بعيدة" على أبواب الترجمة (Re: عبد الحميد البرنس)

    تحايا ومحبات لروحك الوضاءة سيدي




    هي فرحة عارمة قابلت بها أن العمل في طريقه إلى الترجمة
    ولم يخطر ببالي البتة أن يقابل فرحتي ردا على الإطلاق
    والله على ما أقول شهيد





    وليس ما تقدم لأني لا أرغب حقيقة في أن يغمر عملاً لي
    حاذق نظرك
    لكنما في هذا الوقت تحديداً لم يخطر لي ذلك ببال
    وأحسبه لن يخطر على الإطلاق في أي تداخل لي مع أحدهم

    هي فرحة اعتمرتك واعتمرتنا لأجلك
    فدعنا نحتفي بها وأنت تستحقها




    محبتي
    وعذراً منك
                  

12-07-2010, 08:15 AM

بله محمد الفاضل
<aبله محمد الفاضل
تاريخ التسجيل: 11-27-2007
مجموع المشاركات: 8617

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: "تداعيات في بلاد بعيدة" على أبواب الترجمة (Re: بله محمد الفاضل)

    .
    .
    .
    .
    .
    أردت التنويه أيضاً إلى أن لي قراءة
    للمجموعة القصصية الأولى لصاحبنا الجميل
    جلال (أبو جهينة)...
    ولعلها لم تلق طريقها إلى النشر هنا
    أو بأي مكان آخر
    لكنها بطرف صاحبنا ذاته
    وكنت قد قرأت منها نصاً شعرياً لي
    إبان احتفائنا به بجدة
    ساعة صدور العمل




    هو أيضاً يستحق
    ويستحق



    لكما الإعزاز والمحبات
                  

12-07-2010, 10:58 AM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: "تداعيات في بلاد بعيدة" على أبواب الترجمة (Re: بله محمد الفاضل)

    شكرا للمبدع بله، محبة لك وللناس بلا حدود، ولعلك تذكر هنا نصّ (أبوجهينة) الشعري البديع حقا: لا تشكيلي ببكيلك.



    تحولت الأنظار نحو فاطمة آن استقر شريط الشمس المنسحب عند قاعدة النافذة. كانت لا تزال تقلب في صفحات ذلك الكتاب الذي ظلت تحمله معها لأمر أو لآخر كلما أتت لزيارتنا في تلك الآونة. و قد ارتسم على طرف فمها الأيمن طيف ابتسامة ساخر زاد من ألق عينيها الجميلتين اللتين رفعتهما فجأة نحو السقف، ثم ما لبثت و أن عادت ماسحة وجوههن القلقة المترقبة بنفاد صبر وحيرة بنظرة نصف مروحية بطيئة وامضة، قبل أن تنكفيء مرة أخرى على كتاب "ألف طريقة وطريقة لصناعة الحلوى" مؤججة بذلك نار الانتظار بلا طائل، وكن قد فطن إلى صمتها الملغز الممتد فيما بدا بلا نهاية حين فرغن من إجاباتهن المتدافعة وشرعن في التطلع إليها متوقعات بنفاد الصبر نفسه أن تُلقي إليهن بإسم مطرب آخر، ربما لتكتمل دائرة المقارنة الأنثوية القاتلة، ربما ليأخذ الحديث بعدها مجرى مختلفاً، أو ربما ليفتحن باباً آخر قد يُفضي إلى خارج أتون الحرارة الذي لا يُحتمل.

    كانت أمي تتفرس وقتها في وجه فاطمة محاولة جهدها كله أن تحذر ما يدور في خلد جارتها وفمها فاغر وعيناها مليئتان بالعجز والخوف والفزع من تحقق هواجس غامضة بعيدة للمرة الثانية، وقد تراقصت في ذاكرتها مرة واحدة عفاريت هالة المجد الكاذبة التي أحاطت برفيقة طفولتها و صباها في زمان سابق لكم ودت أن يتلاشى من ذاكرتها بلا رحمة و دونما رجعة. حين رفعت فاطمة رأسها أخيراً بدا في اللحظة عينها ربما لكثافة صمتها وكأن لا وجود لتلك الآنسة المدعوة "وكالة رويتر المحلية"، البتة!.

    كانت تلقي وقتها خطاب "طلائع المدينة الثورية". وكانت في نحو الثالثة عشرة من عمرها، حين مال الرئيس السابق "شخصيا" برأسه أسفل الخيمة المنصوبة خلال زيارته الأولى و اليتيمة إلى المدينة نحو وزير "الموارد البشرية" الجالس آنذاك إلى يمينه كمن يتأهب لدخول الحمّام في أية لحظة. وما إن همس الرئيس في أذن وزيره، حتى رحلت علامات الملل عن وجهه تماما، وشرع ينصت كوزير "عزب" لخطاب الحسناء اليافعة، حالماً تارة ومُبدياً إعجابه عبر إيماءات عديدة تارة أخرى، وإن بدا في كثير من الأحيان وهو ينظر إلى الصبية وفق ذلك النحو كمزارع يمعن النظر في أرض بكر إذا ما عُهد بها للرعاية و السقاية ستنبت الكثير و "لا شك" من الثمار الطيبة. لتنطلق فور انقضاء "مهرجان الخطباء الأحمر" إشاعة قوية في المدينة يقال حسب شهود عيان تلك الواقعة إن مصدرها المحافظ الأسبق نفسه تفيد أن الرئيس قد "قرر في لحظة إلهام رئاسي رصين تزويج فاطمة" بعد عامين على "أكثر تقدير" لوزيره "الشاب الأعزب الوسيم".

    الجميع أخذ يتذكر كيف ازدحم بيت والديها إثر ذلك بأرباب المطالب وأصحاب الالتماسات الخاصة. كان من بينهم حتى مَن تمنَّى مشاركة الرئيس نفسه على "طعامه الأكثر ثورية في العالم و لا بد". لقد تقاطرت عليها وقتها من أصقاع المدينة المختلفة هدايا ثمينة مجهولة المصدر أحيانا قال بعض رُسُلِها إنها مجرد تعبير بسيط عن حب المدينة وتقديرها الخاص لابنتها "الواعدة". كان الأمر من الجدية بمكان أن قام المحافظ وقتذاك بتعيين حراسة خاصة ظلت ترافقها أينما حلت، و كان ذلك كله يقذف بأترابها من أمثال أمّي في هوة سحيقة من ظلام الغيظ أو الغيرة. و الأكثر مرارة من رواسب تلك الأيام أن فاطمة توقفت بعدها حتى عن تحية أقرانها "ناهيك عن اللعب معهن". كانت ترد على مكائدهن "الصغيرة" بكلمات سلبت لبّ الكبار أنفسهم قائلة من داخل هالة السلطة المهيبة "قل لهم إن فاطمة مشغولة الآن بمشكلات تخصّ الدولة شخصيا". ذلك ما كان من أمر الأمس. ولم يدر في ذهن أكثر الناس مقدرة على التخيل بعد ذلك أن ينتهي بها المطاف كزوجة لصلاح "بتاع الدكان الرجعي".

    لقد وُئد حلم فاطمة حسب شهود عيان لحظة الانقلاب العسكري الذي أطاح بعالم الرئيس في ظرف أقل من عام من نهاية ذلك المهرجان. وإن لم تغادرها حتى الممات نزعة التميز والشعور بالتفوق برغم ضيق ذات اليد والوسائل. وكانت النتيجة أنها غدت متخمة بتطلعات نساء الطبقة الوسطى في تلك الأيام بدءاً من اقتناء الثلاجة "كولدير"، مروراً بالنظر إلى عامة الناس من "علوٍّ شاهق"، وانتهاء إلى مُناصرة جمعية "رائدات نهضة المرأة الحديثة".

    هناك، قبالة أمي و الآنسة "وكالة رويتر المحلية "، عند طرف السرير الموازي للحائط الخالي من النوافذ، وبينما فاطمة التي توسطت مجلسهن توشك أن تتكلم بالعبارة "ذات الدفع الرباعي الماحقة"، كانت أختي الأصغر قد تحولت بالفعل إلى أذن فيل ضخمة، وهي تعلن بظهرها المشدود وصدرها اليافع المندفع إلى الأمام عن حرصها الشديد على متابعة أمر لا ترغب في أن يفوتها منه شيء. لقد كانت ذات الشقيقة، التي سأراها بعد مرور نحو خمسين عاما، وهي تعظ مجموعات النساء في أحياء المدينة المختلفة، قائلة في ختام كل موعظة "كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فانٍ . وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ".

    كانت أختي الكبرى القابعة عند الطرف الآخر تجاهد في تلك اللحظة ما أمكن لطرد ذبابة خضراء لم تنفك طوال تلك الدقائق من الطنين حول رأسها والسير على صفحة وجهها كلما سكنت. "مطربي المفضل هو الموسيقار عثمان حسين"، قالت فاطمة بفخامة، و تهللت إثر ذلك لسبب يعلمنه جيدا أسارير "وكالة رويتر المحلية"، في حين هبط على إناث الأسرة صمت ثقيل قاتل أمكن خلاله سماع صوت دبيب أقدام نظرات الحسد الخافتة.


    يتبع:
                  

12-07-2010, 05:53 PM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: "تداعيات في بلاد بعيدة" على أبواب الترجمة (Re: عبد الحميد البرنس)

    ما إن عادت أمّي إلى رشدها قليلا، حتى أخذت تفكر في كلمة "موسيقار"، ككلمة لغرابتها بدت لها للوهلة الأولى عصّية على النطق تماما، لكنَّ صوت الجارة هوى بغتة من شاهق، مزعزعاً بقسوة هذه المرة يقين الإجابات السابقة، كاشفاً في الوقت نفسه عن سعة إطلاعها "الدقيق" على ما يستجد من أحداث داخل ما كان يحلو لها أن تدعوه في كثير من الأحيان و قليل من الرأفة: "عاصمة دولة جمهورية السودان الديمقراطية"، قائلاً:

    "أحبه لأنه مطرب طلاب جامعة الخرطوم المفضل".

    كان الناس في تلك المدينة ينظرون إلى هؤلاء بوصفهم "ملائكة علوم الدنيا"، على حد تعبير ناظر المدرسة الأميرية، الذي تغيرت معاملته تجاه أمينة الفرَّاشة بعد أن التحق ابن شقيقتها بكلية التربية من نفس الجامعة، متناسياً بذلك وصمة العار التي أدركت ابنه "بسبب حمارتها" بالذات، وإن لم يتزحزح قيد أنملة "نكاية في الحاج محمود" كما يروج البعض عن اعتقاده الجازم في أن ما حدث "كان وراءه قرن الشيطان السابع ولابد".

    الحق، كان لوجود أسماء غريبة، مثل "هارفارد" و "السوربون" و "موسكو" و "أكسفورد"، على "يافطات" معلقة أعلى مداخل عيادات الأطباء الخارجية، سبب كاف لزعزعة ثقة المريض و إثارة مخاوفه الأبدية، لقدا بدا الأمر في أحيان كثيرة كما لو أن الناس يرون خلف تلك الأسماء الغريبة حانوتيا لا بد و أنه سيعمل عاجلا أو آجلاً على توصيلهم إلى دار الفناء في أقرب فرصة تلوح لناظريه. لقد كان حدث دخول طالب في تلك الأيام إلى "جامعة الخرطوم" أمر يعد بمثابة "الضمان العقاري" لأن يبدأ أهله في الاستدانة من أقرب بنك طوال سنوات دراسته الجامعية.

    تكهرب الجو داخل الحجرة تماماً. لا نأمة هناك. لقد كان من العسير على أمّي أن تمضي إلى نهاية الشوط وهي تخفي استياءها من اختيار أختيَّ لمطربين "شعبيين" على الرغم من كونهما في "مقام" ابنة فاطمة الوحيدة "أمل".

    لكأن ذلك حدث في الأمس القريب.

    تثاءبت "وكالة رويتر المحلية". وبدأت فاطمة تتابع قراءة شيء ما من كتاب "ألف طريقة وطريقة لصناعة الحلوى". وكأنها لم تدرك قوة الزلزال التي أحدثتها كلماتها تلك في نفوس "إناث الأسرة" اللائى أخذن ينظرن في اتجاهات الصمت المختلفة كطائر ذبيح ذي ست أعين و ثلاث رؤوس و هم واحد. ثم ما لبث صوت "الوكالة" و فاطمة أن تناهى في وقت واحد إلى آذان أمّي التي وضعت رأسها منذ دقيقة بين كفيها وراحت تنظر في شرود إلى ما فوق طبلية الخشب القصيرة طالبا الإذن بالانصراف. هنا رمقتْ أمّي أختيَّ بنظرة معاتبة. ثم نهضت بتلك الابتسامة الشائخة لامرأة في منتصف الثلاثين. وشيعتهما وهي تودعهما إلى باب الحوش ومن هناك عادت بخطى أثقلها الصمت و "نذر الكارثة الدانية". و قد بدا ذهنها في تلك اللحظة منصرفا إلى مكان بعيد لا يعلم إلا الله متى تعود منه؟.

    ولم تظفر أختاي و لو بكلمة واحدة منها طوال اليومين اللذين أعقبا ذلك المجلس. لقد بدا الأمر برمته خارج حدود الاحتمال أو التصور. أجل، ثمة شيء حزين يلوح في "الأفق القريب".

    قبل مغادرتها المجلس بوجه طافح فيما بدا لعيني أمّي بالغنائم و "الأسرار والأخبار الطازجة المثيرة"، أثنت "وكالة رويتر المحلية" بدهاء "ناقلة أخبار عملاقة" على ما أسمته "ذكاء فاطمة جارتكم الرهيب"، مؤكدة "في الحقيقة" أن "مطربها المفضل قد خطف بالحق قلوب بنات العاصمة الراقيات"، والجارة فاطمة لم تصدق وقتها خبراً. وضعتْ رِجلاً على رِجل، ورويداً رويداً، شرعت في الانتفاخ مثل قاموس خال تماما من كلمة "تواضع"، زارعة بذلك البذور الأولى لما سيقلب هدوء المدينة الصغيرة الوادعة رأسا على عقب. و قد كان.


    كانت الأسرة قد استقرت في بيت جَديّ لأمّي المغلق منذ ثلاث سنوات على وجه التقريب. آنذاك قرر والداي هذه الخطوة، بعد أن تقدمت أختاي في مدارج التعليم قليلا وصار لزاماً عليهما أن يُلحقا شقيقتيَّ بالمدارس "الثانوية العامة" في المدينة، على أن يبتعث أبي كما ظلت أمي تردد في بعض الأمسيات أمام عدد من الجارات ضاحكة "حياة عزوبيته" كمفتش زراعي من "طبقة الدرجة الثالثة الوظيفية" كما درجت على القول كذلك "تضحية لمستقبل الأنجال المشرق".

    على أية حال، خلال إجازاته السنوية، وحتى عبر زياراته القصيرة المتباعدة لنا، لم يكن أبي يهتم في كثير أو قليل بالمدينة و "مغرياتها المحدودة"، اللهم إلا اهتمامه ذاك المتزايد بشيء واحد مثير تماما للحيرة و الدهشة و التأمّل:

    "التلفزيون العجيب".

    كان يجلس قبالته منصبا عليه بكلياته، و قد أخذ عليه مجامع نفسه، منذ بدء الإرسال في تمام السادسة مساء، و حتى موعد نهاية "بثه" قبل منتصف الليل بساعة، و إن لم يتوصل إلا بعد مرور وقت طويل و على نحو ضبابي إلى وجود ذلك المنطق الذي اتخذ بواسطته هيئة "الصندوق السحري". كان يقول "للأسف، لا يوجد لدينا في المدينة سوى تلفزيونات بعدد أصابع الإنسان الواحد، و لو علم الناس ما في التلفزيون من متعة، لقاتل بعضهم البعض عليه بالفوءوس والحراب، هؤلاء الأوغاد الجهلة لا متنفس لهم غير أفخاذ النساء، مُتع الحياة كثيرة في هذا العالم". و لحظة أن يستبد به الحماس أكثر، كان يلجأ إلى نوع من "الهرطقة الدينية"، على حد تعبير الحاج محمود، قائلا "لا بد أن الله سيُدخل مخترع التلفزيون هذا إلى جنة عرضها السماوات و الأرض". ما كان يدهشه حقا، ليس فقط زرع بعض الناس داخله، بل "حتى أنهم قاموا بحشر مدائن هائلة و مسيرات مليونية و معارك تمت في بلاد ما وراء البحار في حدود شاشته الفضية الصغيرة، و يا للعجب"!.

    كان ذلك كله يثير غيظ أمّي المنفتحة بطبعها على العالم المحسوس. و كثيرة هي تلك الألقاب و الأسماء التي منحتها له "وكالة رويتر المحلية" في هذا الخصوص. و هي ذات الألقاب و الأسماء التي تم محوها لاحقا بلقب آخر ظل ملتصقا به حتى الممات:

    "أبو العطور الحضارية الراقية بلا رحمة سماويّة"!.

    ما أحزن أمي، ما أقضَّ مضجعها، ما أحال نهارها إلى ليل حالك وجعلها تختض من الغيظ، بل ودفعها إلى التفكير عميقاً طوال تلك الأيام الثلاثة التي أعقبت ذلك المجلس في وسيلة مثلى للانتقام من جارتها "المُدعية.. فاطمة.. زوجة صلاح بتاع الدكان الرجعي.. صاحب العينين الضيقتين اللتين تشبهان فرج السحلية"؛ أن ما اعتبرته "فضيحة حضارية" لا تليق أبداً بسمعة "عائلة كريمة" يُعتبر أحد مؤسسيها أول من بنى بيتاً من "الطوب الأحمر" في المدينة قد وقع تحت سمع وبصر "وكالة رويتر المحلية"، وهذا أمر "لا يُبشّر بخير على الإطلاق بالنسبة لمستقبل زواج البنات في مدينة بها عدد لا يستهان به من طلاب جامعة الخرطوم الأذكياء".

    أملَتْ أمّي ذلك في رسالة عاجلة بعثت بها إلى أبي، معربة خلالها عن "عميق أسفي الشديد جداً لهبوط الذوق الحضاري لأفراد أسرتنا نتيجة النزوح معك يا سيادة المفتش الزراعي الثالث بين النجوع والكفور والقرى النائية طبعاً"، كاشفة بعبارات غامضة وكأنها تخشى من وقوع الرسالة في يد "عدو لدود" عن "خططي السرية الدائمة لتدارك ما يمكن إدراكه"، لابد أن في أعماقها نزعة شكسبيرية ظلت حبيسة لعقود خلت فأفرج عنها مسار "تلك الفضيحة الحضارية الكبرى" حين ختمت رسالتها بكلمات جدُّ حاسمة وقاطعة مازالت أحرفها المضغوطة على الورق بحرص و عناية كبيرين تتراقص أمام عينيّ حتى الآن: "لقد أصبحت الحكاية الآن، في هذه المدينة، يا سيادة المفتش الزراعي الثالث، مسألة حياة أو موت".

    يتبع:
                  

12-07-2010, 11:47 PM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: "تداعيات في بلاد بعيدة" على أبواب الترجمة (Re: عبد الحميد البرنس)

    في سعيها المحموم لتغيير ملامح الصورة العائلية مرة واحدة و إلى الأبد، لم تكتف أمّي بتوبيخ أختيَّ على سوء اختيارهن "بفصاحة" لمطربين "شعبيين" مثل "القادمات من الريف حديثاً"، بل شرعت لاحقا هي نفسها في إعلان رأيها "الشخصي الخاص جداً جداً جداً"، زاعمة أن مطربها المفضل لم يكن "في يوم من الأيام" سوى "مغني الروك إن رول" الأمريكي الشهير "الفيس بريسلي"، وكان ذلك وحده سببا كافياً لتدمير سمعة فاطمة كمثقفة "إقليمية" مرة و إلى "الأبد"، على الرغم من أن فاطمة ظلت تؤكد في دعاية مضادة، وهي تقلل من شأن المعارف الجديدة لغريمتها، أن أمّي "محدثة النعمة الحضارية" التي هبطت عليها في عمر متأخر "بين يوم و ليلة" لا تستطيع التحدث بطلاقة إلا في أوساط جمهور "أغلبه من الأميّات، اللائى، وا... أسفاه، لا يعرفن حتى ذلك الفرق الواضح... ما بين البوظة التركية والآيس كريم الألماني".



    بعد طول قطيعة، وصلت خلالها العلاقة بين الجارتين إلى طريق اللاعودة، قبلت فاطمة ضحى ذلك اليوم دعوة أمي لحضور حفل عيد ميلاد أختي الكبرى التاسع عشر، حيث كان في انتظارها وهي تفتح باب الحوش الخارجي لبيتها "في شرود تلك الأيام" مفاجأة أن تمحو غريمتها "التاريخية" ما جرى هكذا، بكل بساطة، و "يا... للجرأة"!.

    أجلستْ فاطمة وقتها أمّي داخل الفرندة، إلى يسار الثلاجة "كولدير"، وعلى ذات المقعد الذي سيشهد المأساة، ثم وقفت أمامها إلى اليسار قليلاً، تماماً مثلما ستقف قبالته عند بداية تلك المأساة، قبل أن تحضر مقعداً لها هي، وتجلس غير بعيد مترقبة و متطلعة إلى أمّي في برود قاتل.

    امتصت أمّي كل ذلك، وهي تستعيد من ذهنها مقاطع كاملة من كتاب: " فنون حرب المجتمع". وحين لم تحرّك فاطمة ساكناً من آداب الضيافة حتى تلك اللحظة، بل ذهبت إلى مدى أبعد في معاودة النظر إلي أمّي من أعلى إلى أسفل و "بالعكس"، تيقنت أمّي لحظتها أن "العدو" وفق تعاليم الكتاب ما ينبغي له أن يفرض على المرء "مكان وزمان المعركة ونوعية السلاح". هكذا ابتسمت أمّي وهي تكسر حدة الصمت المميت قائلة بلهجة مَن أدركه ولع الخبث على كبر: "والبنت طبعاً قطعت دراستها في الجامعة، جامعة الخرطوم طبعاً، ثم جاءت لتحتفل بيننا، ومن العيب طبعاً أن ترانا نحن الكبار مرة أخرى هكذا، ويعلم الله وحده كم تدين لك (يا فاطمة) بالمحبة والفضل في قلبها".

    أَلانَ صوت أمّي الذي بدا لحظتها نابعاً من الأعماق وجه فاطمة الذي أعمى بصيرته فيما يبدو وقع الزيارة المباغتة التي حالت دونه وفهم لهجة أمي التي انطوت وراء ظاهرها المتسامح على ما هو أسوأ. بدأ وجه فاطمة الذي ظل محافظاً على قسوته لفترة، يلين أكثر فأكثر، حيث لاح طيف الإبتسامة الساخرة التي يبدو أنها وُلِدَت معها على طرف فمها الأيمن أولاً، ثم وفي لحظة واحدة نهضتا وتعانقتا وذابتا معا داخل الفرندة كجارتين جمعت بينهما برغم رواسب الماضي التي لا تنسى ذكريات طفولة بعيدة، وقد ألقتا عبء ما حدث كله على كاهل "الشيطان الذي يفرق حتى بين المرء وزوجه". عيناي تدمعان الآن. لقد كان ذلك العناق الأخير لهما كجارتين قديمتين في هذه الحياة.

    "وكالة رويتر المحلية"، أشاعت أن فاطمة أعلنت في نفسها حينذاك عن "قبولي للتحدي" وأنها لا تخشى على الإطلاق من الدخول في ما أسمته "مواجهة حضارية فاصلة"، مؤكدة أن جارتها "محدثة النعمة الحضارية" بهذه الدعوة "وا... أسفاه.... تحفر قبرها بيديها". أمّي التي سبق لها و أن حضرت وقائع دورة تدريبية "سرية" عقدها حزب التقدم في دار تقع إلى الجوار من بيت المحافظ تمشيا مع حكمة أن "القرب الشديد يحجب" لم تعلق بشيء أمام "وكالة رويتر المحلية". فقط ابتسمت بلطف.

    على أعتاب عيد الميلاد "المشهود"، رأى الحاج محمود في إحدى لحظات بوحه النادرة أن أمّي قد تعاملت وقتها مع "تحديات جارتها السافرة" من باب "فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ". وقال لسبب ما "هذا الكتاب لا يغادر كبيرة، أو صغيرة، و إلا أحصاها".

    كانت الأقاويل تترى من كل حدب وصوب إلى آذان الحاج محمود، الذي أخذت تغزو ذهنه و في وقت وجيز "أشياء ما أنزل الله بها من سلطان"، و الذي حسب بعض المقربين منه لم يعد يدهشه شيء "في دار الغرور بعد كبيرة مُسيلمة الكذاب" التي اعتبرها بمثابة "النذير المبكر" لما يحدث في "هذه الأيام".

    وعلى الرغم من أن "مصادر خاصة" رفض تسميتها أكدت له أن فاطمة عانقت جارتها في بيتها فقط من باب "لا ينبح في فراشه إلا كل ب"، بل وأضافت (نفس المصادر) لاحقاً أنها جاءت إلى الحفل مرتدية فستاناً ضيقاً من المخمل وافق اسم الموضة السائدة آنذاك باسم "دموع أم كلثوم الغنائية"، إلا أن الخبر الذي اتسم حقا ببعض الطرافة كان من نصيب "وكالة رويتر المحلية" نفسها، عندما أشارت إلى أن فاطمة أقبلت خلال ذلك المساء الحار بعينين واثقتين لم تنفكا قبل بدء فواصل الرقص من القول يمنة ويسرة: "يا أهل المدينة، انظروا، ها هي، فاطمة نفسها، انظروا إليها، ما أحلاها، حضارية جداً، تخطر في بيت غريمتها هكذا، هكذا هكذا".

    "وكالة رويتر المحلية"، ما عادت تستقر في مكان واحد خلال تلك الأيام، التي سبقت و أعقبت في آن تفاصيل عيد الميلاد، حيث أكدت للمحافظ الذي جاء إلى الحفل متأخرا بعض الشيء والذي بدا لسبب ما حريصاً على دقة متابعة تطورات العلاقة بين الجارتين منذ أحداث ذلك المجلس البعيد الذي شهد وقائع "هزيمة الأسرة الحضارية" أن أمّي همست في أذن رئيسة تحرير مجلة "نهضة المرأة" المحلية الجالسة إلى جوارها قائلة بصوت تردد صداه بين جنبات السكون الشامل الذي ران لحظة دخول فاطمة فجأة:

    "هذا الفستان لا يصلح لرقصة السامبا".

    الحق، "الحق أقول لكم" يا أصدقائي إنها جاءت في ذلك المساء مرتدية "رموش شادية الناعسة"، لا "دموع أم كلثوم الغنائية"، فستان من الساتان الأسود اللامع أبان أدق تفاصيل جسدها اللدن المشدود حتى وهي تعبر عقدها الرابع بنحو العام، كان بلا أكمام، تلتف حوله خطوط فضية متباعدة ذات حواف مشرشرة. وبينما تراءى على كتفيها فرو ثعالب أصفر باهت تفوح منه رائحة "النفتالين"، بدت في ذهن الحاج محمود الغائب كما تخيل عدد من الخبثاء بالنيابة عنه مثل حورية خارجة للتو من كتاب "فضائل الجنة". كانت تخطر بخيلاء على أرض الفناء المرصوفة حديثاً بالأسمنت وكسار الآجر بحذاء أصفر ذي كعب عال أطلق عليه الحمّالون في الميناء النهري اسم "سفينة الشيطان"، على الرغم من أنه قد اتخذ في مجالس الصفوة اسماً آخر أكثر شاعرية ودلالاً:

    "أتهادى نحو أحلام قلبك الوردية، حبيبي".



    يتبع:
                  

12-08-2010, 01:36 AM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: "تداعيات في بلاد بعيدة" على أبواب الترجمة (Re: عبد الحميد البرنس)

    اليوم الأربعاء، يتم استضافتي عبر إذاعة البرنامج الثقافي من القاهرة في حوار مفتوح على الهواء مباشرة لمدى الساعة. وذلك في تمام السابعة والنصف مساء. ودمتم.

    (عدل بواسطة عبد الحميد البرنس on 12-08-2010, 01:37 AM)

                  

12-08-2010, 09:57 AM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: "تداعيات في بلاد بعيدة" على أبواب الترجمة (Re: عبد الحميد البرنس)

    كانت أضواء قوية تتلألأ على هامة الفناء كتاج أميرة، نسائم واهنة منعشة لها رائحة التربة تراقص فروع شجرتي النيم في الخارج بنزق، السماء خالية وراء الهالة الفضية أو تكاد، لابد أنها أمطرت خلف تخوم النهر حيث الأجمة المتناثرة من أشجار السنط و هي تنحدر من جبال العاديات قبل أن يبدأ عشب السهل الأخضر الكثيف ذو الفجوات الحجرية الواسعة.

    كان ثمة موسيقى صاخبة تخللها آذان العشاء تطغى على لغط المدعوين الملتفين حول الموائد الصغيرة المتقاربة، التي جُلبت نهارا من محلات "كزام للأفراح"، والتي تراءت على مفارشها الزرقاء زجاجات المياه والكولا وأطباق الحلوى وسلال الفاكهة، أخذت تنبعث من مكبرات الصوت على جانبي منصة خشبية قصيرة أخفتها سجادتان كبيرتان من الصوف الفارسي ذي التشكيلات الوردية الملونة منصوبة غير بعيد من منضدة طولية لاحت أعلى مفرشها الأبيض النظيف تلال من الأواني الصينية اللامعة، فضلاً عن تورتة المحتفى بها بطوابقها الخمسة المتصاعدة في شكل هرمي علت قمته المزدانة بكريمة الشوكولاته السمراء شمعة منتصبة وحيدة بجناحي ملاك على وشك التحليق، حالما أُشعلت توقفت الموسيقى وعم الظلام و راحت تتشكل على مرأى من عيون السماء النجمية تلك الحلقة باعثة الأمنيات القلبية والهدايا، قبل أن تُنهي الحناجر أغنية عيد الميلاد في تزامن عكس مدى الألفة الذي عمّ المكان حينذاك.

    "لماذا شمعة واحدة"؟.

    تساءل المحافظ بقامته البارزة من وسط الحلقة لحظة أن عاد النور، بينما تغضن وجه رئيسة التحرير الجاد في نشاز كاد أن يفسد الطابع المرح لسؤال المحافظ ويحوِّل الحفل بأكمله إلى حلقة نقاش ساخن حول "الطابع الذكوري للسلطة"، حسبما ظل يتردد في سياق إحدى الندوات التي ظلت تقيمها في دارها بصورة شهرية مجلة "نهضة المرأة"، لو لا أن اندفع في خضم الهمهمة المتصاعدة التي أثارها سؤال المحافظ و زاد من لغطها الوجه الصارم الجاد لرئيسة التحرير صوتُ أمين حزب التقدم معيداً الأمور في لمح البصر بحركة مسرحية متقنة إلى مجراها القديم: "تقول لماذا؟، ها ها ها، هييء هييء، هو هو.. تلك تكتيكات الآنسة الأزلية، يا رفيق"!.

    عاد المحتفلون إلى موائدهم فرادى وأزواج وجماعات، وبدا في ذلك المساء وكأن الكون برمته ضحكة مغناة يعزف لحنها المتناغم رنين تلك التعليقات المرح السعيد، إلا أن نمل الغيرة أخذ يأكل في قلب فاطمة ببطء وتلذذ متزايد سعيداً بالخفاء الذي ضربه الضجيج من حولها.

    كانت ترقب الأنظار بحسرة وهي تنصرف عنها تباعاً غير عابئة بالمرة بزينتها الفريدة والمكتملة أمام بهجة حفل لم تشهد المدينة مثله قطُّ، ناظرة بين الحين والحين من مقعدها الغارق في النسيان أو يكاد إلى "وكالة رويتر المحلية" التي ظلت تتنقل بين الموائد تحت أنظار عيني أمّي الفخورتين مثل فراشة قمحية في الربيع، إلى أن تناهى إلى مسامعها مثل طلقة الرحمة، صوتُ أختي ذات السبعة عشر عاماً، وهو يعلن من فوق المنصة عن بدء الحفل الراقص، وقد نشبت في أعقابه موجة من الصفير والتصفيق الحاد المتصل فيما بدا بلا حدود لانتهائه.

    مدت ذراعاً من داخل بلوزة بيضاء ذات أكمام قصيرة واسعة تدعى "مستقبل النساء الجميلات في عالم واعد"، كانت محشورة داخل بنطال من جينز أزرق ذي مقدمة مثلثة منتفخة قليلاً ومسحوبة إلى أسفل بشدة، وقد أزاحت الهواء الذي حبس أنفاسه على حين غرة بحركة نصف دائرية بطيئة متكسرة لامست صدرها خطفاً، قبل أن تأخذ رأس البنصر وضعاً مستقيماً شق طريقه بين الموائد متخطياً بلا هوادة المحافظ ومدير بنك الوحدة ورئيسة التحرير مشيراً بلطف ومحبة يعلم الجميع مقدار ما فيهما من زيف إلى عيني فاطمة الشاخصتين كعيني غريق بلا أمل في النجاة.

    في هذه اللحظة ، في هذه اللحظة تحديداً، يمكن للمرء وفق رواية "وكالة رويتر المحلية" لاحقاً أن يسمع "رنين إبرة الخياطة" إذا ما أُلقيت في "مكان ما داخل الحفلة"، حتى أن المحافظ نظر إلى عطسة مدير البنك المباغتة نظرته إلى رجل طرق باب بيته "أثناء الجماع"، و سرى صوتها الحاد الرفيع ذو المنحنيات المبحوحة عبر مكبرات الصوت أخيراً:

    "سيداتي آنساتي سادتي.. مشاعل حضارة هذه المدينة الواعدة.. مساء الخير الجميل وبعد.. وإنه ليسُر الأسرة الكريمة تشريفكم لها بالحضور.. بمناسبة حفل عيد ميلاد أختي الكبرى.. وبسبب صداقة الأسرة لطيار ماهر يعمل في خطوطنا الجوية الحبيبة.. أزفُّ لكم ذلك الخبر الجميل.. خبر وصول آخر أغنيات فتى أسبانيا الذهبي "خوليو" وأنشودة الحبّ الفرنسي الساخن "جيلبير". وأعتقد أن أمام هذين الرائعين لا مجال لمطرب متواضع آخر مثل عثمان حسين...

    "برافو... برافو برافو".

    هكذا في الوقت الذي اتجهت فيه أنظار الجميع إلى فاطمة التي لم تحتمل أكثر وحمل وجهها من علامات الغيرة ما يكفي لإشعال غابة من أشجار السنط الغضة اقتحمت المشهد على حين غرة صيحة مدير البنك الذي نال درجة الماجستير في "اقتصاد الدجاج" من جامعة "السوربون"، والذي لم يستطع أن يتمالك نفسه فيما بدا أكثر من ذلك فأجهش في البكاء بغتة، آنئذ ربت المحافظ الجالس إلى جواره على كتفه كمن أراد أن يعتذر بعد أن تسبب في أذى روح طيبة كان ذنبها الوحيد أنها عطست في موقف لا يحتمل سوى الصمت التام، بينما أمكن للمقربين سماع صوت رئيسة التحرير وهي تهز رأسها كمن يتفهم بأسى وتعاطف عميقين عذابات الروح الخفية للإنسان، أي إنسان، وهو يقول: "البكاء (أيها السادة) ليس عاطفة نسائية فحسب"!.

    مثل تحية صادرة عن قلب ملء نبضه الحبّ والأمل والمسرة و التفاؤل، مثل نسمة أوروبية تلثم مدارات خطّ الاستواء القائظة بعذوبة طفلة و رقة وردة، انساب حالماً مترعاً شفيفاً مطهماً بالمرح، تماما كيد المطر الخفيف الحانية، لحنُ رائعة جيلبير:

    "إيه مينتونان"؟.

    "وكالة رويتر المحلية"، التي سبق لها وأن ذهبت بنفسها "شخصيا" إلى البنك ذات نهار قائظ بعيد من شهر يونيو بعد أن تزايد الجدل في المدينة و احتدم حاملة في يدها مجموعة من "الطيور المريضة" قبل أن تدرك ذلك "الفرق" أو" الاختلاف القاطع" ما بين "اقتصاد الدجاج" و ذلك المدعو "طبّ الدجاج"، سألته باسمة عن سر كل "تلك الدموع الغزيرة وهي تفيض من عينيك أثناء الحفلة "، قال إنه تذكر وقتها " ليلة باريسية بعيدة "، و لم يُزد.



    يتبع:
                  

12-08-2010, 12:13 PM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: "تداعيات في بلاد بعيدة" على أبواب الترجمة (Re: عبد الحميد البرنس)

    هذا التحول في "ثقافة إناث الأسرة"، الذي أزعج عند بدايته "وكالة رويتر المحلية"، بل وجعلها بكلماته "العصّية في أغلب الأحيان" تنظر إلى نفسها مثل نظرتها إلى "هاتف بلا حرارة"، لم يكن وليد يوم وليلة، فما إن حلت إجازة ذلك العام الدراسي، حتى أرسلت أمي أختيَّ على عجل إلى العاصمة، حيث يعيش خالي الفنان التشكيلي وبناته المتحدرات من أمّ فرنسية، وحيث كانت عمليات "إزالة ما علق من كآبة الريف" تجري على قدم و ساق تحت شعار ورد أيضاً في رسالة أخرى رافقتهما إلى شقيقها الوحيد: "إنقاذ ما تبقى من شرف العائلة الكريمة"، بينما كاد مؤشر الراديو في غيابهما أن ينسى داخل البيت مثل أي جحود آخر في العالم ملامح "هنا.. أم درمان.. إذاعة جمهورية السودان الديمقراطية"، وقد أدمن التجوال حتى خلال الإجازات الدراسية اللاحقة بين الأقسام العربية لإذاعات "مونتي كارلو" و"صوت أميركا"، ولم يكن ميالاً على أية حال للوقوف طويلا ًعند الطابع الإخباري المتكرر لهيئة الإذاعة البريطانية. كانت أمّي تقول في تلك الأيام:

    "ما فائدة الأنباء إذا لم تكن حضارية"؟.

    كانت أختاي من الذكاء بمكان أن أجادتا الأكل بالشوكة والسكين في وقت وجيز، فضلاً عن ارتداء آخر موضات البناطيل الضيقة، مثل ذلك البنطال المدعو "لم يأخذ قلبي من قبل هيئة تفاحة"، إنها الملابس نفسها، تلك التي أدخلت أمّي لفترة من الوقت في دوامة من المتناقضات الداخلية العميقة، "يا الله، ما الفرق إذن ما بين العهر والحضارة"؟.

    هكذا تساءلت ذات أصيل أعقب عودتهما الأولى من الخرطوم بأيام، وهي تراقب بقلق واضح ما بدا من ظهريهما في حيرة بينما تبتعدان عبر الفناء إلى زيارة ما كعارضتي أزياء هبطتا للتو من سياق أحد أخبار الموضة الأوروبية المتلفزة، لكن الرغبة في الانتقام من غريمتها فاطمة كانت تطغى آنذاك على كل احتمال آخر قد ينشأ داخل مركز تفكيرها المستثار منذ أن نطقتا باسم ذينيك المطربين الشعبيين تحت سمع وبصر "وكالة رويتر المحلية".

    ما بدا في أول الأمر شاذاً وغريباً، بل ومستهجناً من قبل ما أطلق عليهم المحافظ في إحدى خطب عيد الاستقلال اسم "( بُقع ) الرجعية في ثوب المدينة الحضاري الأبيض الناصع"، سرعان ما تحول إلى حمَّى اجتاحت على فترات متقاربة "شبيبة المستقبل المشرق على مدارج التقدم"، وهي عبارة ذكرت "وكالة رويتر المحلية" أن أمّي قد تقالتها لأول مرة عند بدء سلسلة حفلات "الديسكو"، التي ظلت تقيمها في نهايات الأسبوع عادة، غير عابئة بتحذيرات أولئك "البُقع" المتكررة من عواقب الاستمرار في "أعمال الفجور جالبة البلايا والأهوال". لقد كانت مشغولة وقتها عن "مكائد أعداء النجاح النكرة" بجهود "الصفوة" الحثيثة لإشاعة لُعبتي "الكريكت" و "الغولف" في مدينة لا تعرف "للأسف الشديد" على حد قولها سوى مباريات "كرة القدم وسباق الحمير".

    حين بدأ جمع التبرعات لبناء "مسرح يليق بسمعة المدينة الحضارية"، على حد تعبير أمين حزب التقدم النشط، قالت أمّي وهي ترجع بظهرها إلى مسند الكرسي وقد ظهرت عليها إمارات التعب جلياً إنها بدأت تشعر كمن يحلق في الفضاء بجناح قوي وحيد. أدرك أبي مغزى الرسالة على الفور، فتقمَّصت روحه الرغبة الصادقة لتقوية الجناح الآخر طواعية مثل "رجل حضاري بالغ التفهم إلى درجة"، قائلا كمن يهب للقيام بإحدى المهام التي تتطلب استعدادا خاصّا: "لابد و أن تحتفظ الأسرة بموقع الصدارة الحضاري في المدينة بأية وسيلة". هكذا اندفع بحماس ثوري "منقطع النظير" إلى المشاركة في "الأعمال المنزلية"، كأن يقوم بتنظيف الحمامات والمراحيض ليلاً، كان يفعل ذلك "إسهاماً شخصياً من جانبي" كما كان يحلو له أن يقول لحظة الانتهاء من تقطيع حزم البصل إلى حلقات صغيرة في "دعم مجهود مامتكم الحضاري".

    "وكالة رويتر المحلية" التي تكاد أن تشرف حتى على "تلاقح الضفادع في الخريف" وفق ما جاء على لسان ناظر المدرسة الأميرية "الذي غدا عصبياً على نحو واضح بعد كبيرة مُسيلمة الكذاب" أشاعت أن أبي كان يفعل ذلك "في واقع الأمر" مخافة أن يُدرج اسمه ذات يوم في "القائمة السوداء الكابية"، التي ظلت تنشرها من وقت لآخر مجلة "نهضة المرأة " بدعم شخصي من المحافظ نفسه كما يُردد في الخفاء عادة، وهي قائمة تضم "أسماء الأزواج الذين ظلوا يمارسون التمييز ضد المرأة داخل المنازل سراً"، على الرغم من مظهرهم "الحضاري الج بان المُخادع"، حسبما ورد في إحدى افتتاحيات رئيسة التحرير، فيما هي تقدم لأولئك "السيدات القارئات/السادة القراء" باباً جديداً حمل عنوان: "نحو تعليم الرجال فنون المطبخ العصري"، وترد في الوقت نفسه على رسالة مطولة "موقعة بالأحرف الأولى فقط"، كانت قد بعثت بها "إحدى السيدات الثائرات"، تمنّت خلالها أن تتحرر المرأة في "القريب العاجل" وأن تشهد "إن شاء الله" بنفسها "ذلك اليوم الذي تُفرغ فيه المرأة مثانتها على قارعة الطريق مثل أي رجل عادي".


    يتبع:
                  

12-10-2010, 00:08 AM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: "تداعيات في بلاد بعيدة" على أبواب الترجمة (Re: عبد الحميد البرنس)

    على خلاف صلاح "زوج فاطمة" الذي ظل لوقت طويل كمن يتأرجح على الهاوية، أدرك أبي من خبرة أسلافه التجار أن المسئولين أصحاب الحل والعقد في المدينة كانوا "وراء نماء شجرة المحصول الحضاري الوفير"، فبدأ مبكراً في إخماد نار "التقاليد البالية" التي بدأت تشتعل في البداية على فترات متقاربة تحت مظهره كمفتش زراعي من الدرجة الثالثة، متغاضياً حتى عن انتهاك أشياء كان يراها من "الثوابت"، كأن يبارك رغبة أختي الكبرى في أن تعمل بمثابة "موديل" لطالب "موهوب جدا" كان يدرس في "كلية الفنون الجميلة" أثناء دراستها في الجامعة، "إسهاماً من جانبي" كما كانت تقول متأثرة بآراء خالي كفنان تشكيلي "غريب الأطوار" في "استكشاف جوهر جماليات الجسد الأنثوي الذي أخفاه ثوب التخلف التقليدي لقرون خلت ". أختي تلك، تعيش الآن في منفاها الاختياري البعيد في كندا على أعتاب شيخوخة باردة، وحيدة مع أحداثها الماضية، و بالكاد ترسم على وجهها إبتسامة باهتة لذكرى تلك الأيام البعيدة، بينما تتمعن في أشياء لا وجود لها، ظلت بدورها تهمي بتثاقل و تناغم مع خيوط الجليد المتتابعة وراء تلك النافذة الزجاجية في رتابة، و قد بدا لي أن وجودي إلى جانبها في ذلك المساء على هامش مؤتمر دولي كنت أحد المشاركين فيه كوجود شيء لا تريد أن تتذكره.

    ربما، أو لهذا "الوفاء الحضاري"، حسبما أوضحت "وكالة رويتر المحلية" مخففة من شواظ ظهيرة ألمت بمدير البنك في إحدى لحظات انقطاع التيار الكهربائي المتكرر، مُنح أبي ترقية استثنائية داخل "الهرم الوظيفي" مهدت له الطريق إلى العمل في المقر الإداري للمؤسسة الزراعية بعيداً عن الريف بمياه شربه "الراكدة" وهيئة سكانه التي كانت تذكره دائماً بحظه "العاثر" في الحياة. "أيها السادة زارعو بذرة الحضارة مَن قال من قبلي أنا شخصيا إن حقول السعادة يمكن أن توجد من غير أعشاب ضارة"؟. هكذا شرع أبي يتفلسف في عمله الجديد، مستشعراً وطأة الفراغ بين جدران مكتب فخم به ثلاجة صغيرة "فاضت قنواتها عن آخرها بعُلب المياه الغازية" تدخله فقط وعلى فترات متباعدة وجوه حليقة "معنوياتها لا تشبه بأية حال نضرة الأزهار الساحرة على حافة جدول صغير"، حتى أن أفكاراً غامضة حول الحياة والموت قد بدأت مثل الجراد "تُداهم تلك الحديقة المُبهجة في الربيع"، الأمر الذي لم ينقذه منه شيء سوى زيارة الأسرة إلى بيت مدير عام المؤسسة الزراعية في "عيد الحبّ".

    كانت سانحة طيبة أهداه خلالها المدير مجموعة أعداد "نادرة" من مجلة "مودة" اللبنانية، حيث بدأت تتكشف لديه شيئاً بعد شيء تلك "الموهبة"، التي ظلت مطمورة مثل كنز "تحت تربة بستاني" لسنوات قضاها "يا لضياع حصاد شبابي... بين ضراط بهائم الفلاحين الهزيلة". لقد بدأت بالفعل تتكون لديه كما قالت أختي الأصغر التي كانت بدورها تستعد لدخول الجامعة "ثقافة حضارية رهيبة المستوى الإنساني"، انصبت بدرجة أساسية على معرفة مختلف "أنواع وخصائص وأسماء العطور العالمية". كان ينتهز في مجالسه تلك أدنى بادرة، أدنى أدنى بادرة، كأن تقول أنت لا قدر الله "إن الهواء منعش ولطيف هذا المساء"، حتى يمطر آذانك بأسماء عطور وروائح زكيّة لا يعلم إلاّ الله ما هي؟. ثم لا يهم بعد ذلك وهو يشرع أمامك في بيان مميزات عطره هو المفضل نظريا إن كانت لديك وقتها الرغبة الأكيدة والملحة في الدخول إلى المرحاض بأسرع قدم لديك.

    في المقابل ، بدا أن لهذه "الحضارة" دموع قلّما رآها عالم المدينة الضيق، وإن سمع عنها حدَّ الرثاء أو الشماتةً في بعض الأحيان، وتلك هي دموع الجارة ... أو أحزان فاطمة "الخفيّة"، التي كاد أن يفضي بها "نجاح ماما المذهل" إلى "جنون خرافي"، على حد تعبير أختي الكبرى التي عادت ذات إجازة بوجه مستثار حاملة لأمّي أنباء عن أهمية قيام مظاهرات طلابية في "العام التالي" تطالب الحكومة بإصدار قوانين صارمة تتيح للزوجة أن ترفع ضد الزوج قضية طلاق وتعويض مالي ضخم في حالة ما إذا "ركب رأسه وصمم على ختان البنات"، لكنها أبداً لم تحدثها عن تلك الخطط السرية لتلك المظاهرات بشأن القانون "سييء الذكر" الخاصّ و "العياذ بالله" بكفالة حقوق "المثليين" في المجتمع. هذا ما أدركته قبل أشهر قليلة فقط في "دار الوثائق المركزية" أثناء بحثي وتنقيبي ومراجعتي في ظل موجة غامرة من الحنين لبعض "صحف ومجلات تلك الأيام".

    زاد من حزن فاطمة أن زوجها، "صلاح بتاع دكان التخلف الشهير مثل نجم أسود في رابعة النهار الحضاري العملاق"، قد عاد في ذلك الصباح إلى البيت يشمله حزن ثقيل مقبض. دلف وقتها صافقاً باب الحوش وراءه، و"سيبقى صدى هذه الصفقة المدوي يتردد طويلاً" في أنحاء المدينة. حدث ذلك بعد ذهابه إلى الدكان بنحو الساعة أو أكثر قليلاً، كانت وقتها داخل المطبخ، تعد "طعام الغداء"، ظنت في البداية أن ابنتها الوحيدة "أمل"، التي غادرت منذ دقائق إلى مدرستها، قد نسيت شيئاً ما، ثم عادت لتسترده على عجل، لكنَّ هاجساً غامضاً دفعها إلى الخروج وقتها لمطالعة ذلك القادم الصاخب.

    "المسكينة... لم يرد إلى ذهنها... حتى تلك اللحظة.... أن المرحوم والد صلاح زوجها... الذي كان يمتلك نسخة أخرى من مفتاح باب الحوش... قد يعود غاضباً ذات يوم... وقد أضجرته رقدة المقابر الطويلة المملة".

    على هذا النحو، خرج الكلام من فم "وكالة رويتر المحلية"، وهي تحاول جاهدة أن تضع بعض التوابل على حكايتها في محاولة لتبديد ما تبقى من كرب ارتسم على وجه المحافظ عقب "زيارة ذلك الوزير المتعجرف التفقدية... المفاجئة"، وقد لاحظ هو في أثناء إنصاته ولأول مرة تلك الشُعيرات البيضاء التي غزت رأس "وكالة رويتر المحلية" في وقت وجيز، عندما قالت له: "وذلك المسكين أيضاً.. يا سيادة المحافظ الهمام.. بعد أن قفل باب الحوش".. مشي ببطء .. وقد أحنى رأسه.. حتى أنه تجاوزها.. دون أن يُلقي عليها نظرة واحدة.. "و"قسماً بالله ثلاثاً".. كما يقول الحاج محمود.. لو بُعث المرحوم والده من القبر حيّاً .. لما تعرّف عليه داخل تلك الملابس.. التي فرضتها عليه زوجته فاطمة.. كما تعلم.. بعد عودة بنتي جارتها بعد قضاء إجازتهما الأولى في الخرطوم مع خالهما زوج "الخواجية".


    كان يرتدي بنطال "كوردرايت" أزرق ذا نهايات واسعة يعلوه قميص أحمر ذو أكمام جدُّ قصيرة أُطلقت عليه عبارة دارجة طويلة مفادها: "ذراعاه المشعرتان تحتضنان صيف حبيبة حضارية ماطر برغم الجفاف"، منتعلاً حذاء من "الكموش" الأخضر الباهت ذا قاعدتين مرتفعتين تحدثان لدى ملامسة الأرض "صوتاً مكتوماً"، ولربما.. أو لهذا الصوت تحديداً، كان الرجال يقبلون على شرائه، "صوت" أطلق عليه سادة الموضة في المدينة عبارة لا تقل اشتعالاً في جيشانها العاطفي عن سابقتها: "مشية الحضاري الأوروبية المُتقنة على أرض الأحلام".

    لقد تبدلت أسماء أشياء عديدة في تلك الأيام، حتى أن الحاج محمود قد وجد نفسه فجأة وهو يتساءل ذات يوم بغرابة شديدة، مخاطبا "وكالة رويتر المحلية"، بصوت نسجت نبراته الدهشة، قائلا بكل تلك الحيرة:

    "يا وكالتنا، من أين يأتون بأسماء الشيطان هذه"؟.


    يتبع:
                  

12-10-2010, 07:30 AM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: "تداعيات في بلاد بعيدة" على أبواب الترجمة (Re: عبد الحميد البرنس)

    سارت هي وراءه، وقد وافقت خطاها الملتاعة إيقاع خطواته البطيئة المثقلة، "لابد أن كارثة أخرى في طريقها إلى تدمير ما تبقى من سلام المنزل"، هكذا حدست فاطمة، وهي تتابع تطاير ورقة صفراء نُزعت على نحو من الأنحاء من كتاب "ألف طريقة وطريقة لصناعة الحلوى"، حقا ما عادت الأشياء كما كانت عليه الحال في "أيام مهرجان الخطباء" البعيد، عندما كانت جملة واحدة كافية لتبديد كل تلك الحروبات الصغيرة، أجل... ""قل لهم إن فاطمة مشغولة الآن بمشكلات تخصّ الدولة شخصيا".

    كانت "الهزائم الحضارية المتتالية"، على حد تعبير ناظر المدرسة الأميرية المعني بتدريس "تاريخ حروبات المهدي"، قد حفرت في نفسها عميقاً، لقد أصابتها بنوع من "اللامبالاة" في تلك الأيام، قبل أن تنتفض مثلما ينتفض البطّ أثناء ركضه الأخير، و قد تم "قطع رأسه".

    كان ثمة ريح شمالية جافة واهنة شيئاً ما، تزيل ما تبقى من نداوة ذلك الصباح، وهي تتخلل أغصان شجرة الليمون في أقصى الحوش، ثم تدفع بأوراقها المتساقطة الجافة نحو "مشية الأوروبي المتقنة" البطيئة الحزينة هذه المرة. أخيراً تهالك على مقعد داخل الفرندة ذاتها التي شهدت و قائع دعوة أمّي لها لحضور حفل عيد ميلاد أختي الكبرى التاسع عشر البعيد، و قد بدا غائم النظرات، و هو يشبك يديه وراء رأسه، ماداً ساقيه الملتفتين نحو طرف سجادة فارسية شديدة الحمرة، بينما علا أزيز الثلاجة "كولدير" الجاثمة على يمينه في تزامن مع صوت الريح التي أخذت تولول في الخارج على حين غرة.

    كانت لا تزال واقفة إلى يساره داخل "قميص النوم الوردي الشفّاف"، وقفة سيدة حائرة لا تدري ما يمكن أن تفعله غير مطالعة العالم وهو يغرق أمام عينيها شيئا بعد شيء، ولا تدري أية مصيبة ستقع على رأسها بعد الآن؟. "يا ترى.. بعد مرور كل هذه السنوات.. ألا تزال ذكرى والده تؤلمه إلى هذه الدرجة؟.. أخبرني بالأمس فقط أنه ظل يزوره في المنام كثيراً.. قال إنه يسأله بنصف لسان دائماً.. يقول له.. يا صلاح.. يا ولدي العاق.. لماذا تفعل هذا من بعدي.. ثم يؤنبه بوجه يسيل من جانبيه الدود.. يا صلاح.. يا ولدي.. أمركم الآن لا يعجبني". عندما أتت "وكالة رويتر المحلية" للمرة الثالثة على ذكر الموت "على هذا النحو المقزز"، تلاشت ابتسامة المحافظ، وتقبض وجهه، فطفق ينظر مشمئزاً عبر نافذة مكتبه الزجاجية المطلة على ميدان الحرية الواسع، قبل أن يعود كما كان في السابق متابعاً مجرى الحكاية "الشهيرة" بدقة بوصلة في "أعالي البحار".

    في تلك اللحظة، حين تراءى أمام عينيها مثل طيف حبيب آخذ في الذوبان والتلاشي شيئاً بعد شيء، اقتربتْ منه خطوة، ثم بصوت مرتعش خفيض، خرج من بين شفتيها المرتجفتين، ذلك السؤال الذي ظل يغلي في دواخلها طويلاً كمرجل:

    "ما بك، يا (أبو أمل)"؟.

    وقد تدحرجت دمعته الخرساء أمام عينيها لأول مرة:

    " لاشيء".

    ما إن اقتربت منه أكثر ماسحة على رأسه براحتها التي كانت تعبق برائحة خليط الثوم واللحمة وشرائح البطاطس الطازجة، حتى حدث ما لم يخطر من قبل على ذهن امرأة ظنت نفسها إلى ذلك الحين أنها بمأمن تام، و قد "قطعت في سباق الحضارة خطوات" لا يمكن اللحاق بها.

    هبّ لحظتها واقفاً دافعاً إياها نحو السجادة بقوة أسقطتها أرضاً، ثم استدار بجزعه كله وأخذ يدق حائط الصالة بقبضتيه ناشجاً منتحبا كطفل، قبل أن يمزق على التوالي القميص الأحمر وبنطال "الكوردرايت"، قاذفاً بحذاء "الكموش" كيفما اتفق لتستقر إحدى فردتيه على رأس الثلاجة كولدير كما بدا لعينيها المذعورتين في "كآبة". كانت تحاول جاهدة أن تلملم ما تبقى لها من أعصاب، وهي تزحف نحو ركن بعيد وتراقب بعيني فأر بركان الغضب الذي تفجر داخل زوجها..... بغتة ، كانت قسوة الحائط تضغط على ظهرها، المسافة القصيرة تضيق، وكثيرة هي الدموع التي سالت على وجنتيها قبل أن يتوقف أخيراً وهو يُحكم قبضته على ذقنها المرتعشة، هكذا هكذا، عوضاً عن تحقق كل تلك المخاوف، وجدت نفسها منطرحة على تلك السجادة، عارية تماماً، ساقاها معلقتان على كتفيها، مسامها تتشرب ذلك الخدر الكثيف الغامر مثلما تتشرب الأرض الجافة كوب الماء في نهار ملتهب، بينما يداها تنقبضان وتنبسطان ثم تمسدان ما أمكنها من ظهر ذلك الثقل الجاثم فوقها بذهول وتسليم أزلي مطلق و خالد، بينما هو يعلو ويهبط و يزحر بين أحضانها المشرعة كخمر النسيان العتيقة مثل ثور.

    هنا، هنا فقط، خطر على ذهن الحاج محمود ذلك السؤال:

    "كيف يتسنى الكلام لعانس.. لم تذق طعم الرجال قطّ... وتصف مثل هذه المسائل... بمثل هذه الطلاقة والفصاحة والدقة التي يسيل لها كما الأنهار لُعاب المراهقين أنفسهم"؟. عبر تلميحات غامضة وطرق ملتوية عديدة، طرقت النميمة في الأخير آذان "وكالة رويتر المحلية". لم تغضب، أو تحاول نفي التهمة المبطنة عنها، كانت تدرك بفطرتها الثاقبة تلك الحقيقة العلمية القائلة "إن النار لا تخمدها تماما سوى نار أخرى"، و سمعة المرء مثل غابة "آش"، اشتعلت فيها مرة نار الشائعة، و إذا لم يتم إشعال نار أخرى صغيرة تحيط بمركز الضرر، احترقت الغابة بأكملها. آنذاك، ردت على السؤال بسؤال مضاد أحال التهمة برمتها إلى طرفة، بعد أن وضح لها مصدر الهجوم الحقيقي عليها، قائلة بذات التهكم و الفصاحة اللازمين في مثل هذه المواقف: "وكيف (يا ناس)، بالله عليكم، أن يتأتى لمُسيلمة الكذاب أن يعرف ما دار في ( ذهن) الحاج محمود وقتها، الأسرار من عمل خالق الناس و الحمير وحده"؟.



    يتبع:
                  

12-10-2010, 02:20 PM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: "تداعيات في بلاد بعيدة" على أبواب الترجمة (Re: عبد الحميد البرنس)

    في أماكن أخرى أشاعت "وكالة رويتر المحلية" أن "مصادر لا تكذب أبداً"، قد أخبرتها أن أبي "الذاهب إلى عمله في مكتبه المزدحم بنباتات الظل والمزدانة شرفاته بزهور الياسمين البيضاء" قد قضى في ذلك الصباح على صلاح "زوج فاطمة" بلكمة "حضارية معتبرة في قعر داره"، موضحة أنه كان يبيع شيئاً "لم تذكر المصادر اسمه" لمجموعة من "الشابات الحضاريات الذاهبات إلى عملهن في مجلة نهضة المرأة"، عندما توقف أبي "الذي بدا وكأن الأرض انشقت عنه فجأة" أمام الدكان، مخاطباً جاره من وسط الشارع بصورة "أثارت ضحك الحضاريات الكظيم الساخر"، قائلاً:

    "أيها الجار الطيب.. ثم لندخل في موضوع الساعة الحضاري مباشرة.. لقد شكا لي شباب المستقبل النابغة.. مرير الشكوى طبعاً.. أن البضاعة خاصتكم خالية من العطور الحديثة.. وطبعاً أنا أعتقد جازماً منطلقاً من موقعي المعتبر كحضاري نافع لوطنه و بني جلدته.. أن لإصراركم على بيع عطور "متخلفة" مثل "بنت السودان"... ثم "خيول جيش المهدية على مشارف الانتصار"... وحتى طبعاً و بالتأكيد "كولونيا خمس خمسات المصرية".. لهو طبعاً أمر معيق لعمل المسئولين الكبار في "هذه المدينة الحضارية" من أجل التقدم السعيد للبشر".

    وأضافت "الوكالة" في حينه نقلاً عن ذات "المصادر التي لا تكذب أبدا" أن صلاح "زوج فاطمة" لم يفعل شيئاً وقتها "سوى أنه فتح وقفل.. ثم فتح وقفل... ثم فتح وقفل فمه في بلاهة تاريخية تسببت في بعث موجة أخرى من ضحك الحضاريات الساخر".

    و تلك على أية حال لم تكن مأساة فاطمة الأخيرة "في سباق الحضارة المحتدم قدما"، على الرغم من أنها بحسب ما جاء في أحد المجالس قد "عادت عليها بفائدة لذيذة"، وهو ذات المجلس المنعقد في وقت الظهيرة داخل الميناء أثناء راحة الحمّالين أسفل إحدى أشجار الكافور الضخمة العتيقة العائدة إلى أيام الإنجليز، حيث أشاد أحدهم آنذاك و هو حمّال له "جسد عملاق و خيال شاعر" بما أسماه وقتها "شياطين وكالة رويتر المحلية الخاصة" الذين أخذوا دائما "يخبرونها في الليل والناس في سابع نومة بأدق تفاصيل أسرار المدينة حتى لقد جاء أحدهم إلى الحاج محمود ذات منام في هيئة كل ب أسود له غليون يقدح منه الشرر ليُشهده بدوره على واقعة مُسيلمة الكذاب ويخبره بذلك عما يخجل هو نفسه من فعله حتى لا يصب بعد ذلك اللعنة عليه وحده".

    شيئاً فشيئاً أحياناً، وعبر قفزات نوعية "حاسمة" أحياناً أخرى، بدأ ذلك "البون الحضاري" في الاتساع بين الجارتين القديمتين، سوى حروب النميمة والشائعات، سوى تبادل ذلك الهجاء صراحة أو ضمناً عبر الجدار الفاصل "إذا لزم الأمر الحضاري"، لم يعد ثمة ما يصل بينهما خلال الآونة الأخيرة، عدا شخص واحد، لعلكم قد عرفتموه الآن يا أصدقائي...

    أجل..... "وكالة رويتر المحلية" نفسها، التي ظلت تحتفظ على نحو شديد البراعة و "الدهاء الفطري الخارق" وفي ظل أحلك الظروف بعلاقات طيبة مع جميع الأطراف في تلك المدينة، وهو أمر توضَّح لاحقاً، حين ماتت في النوم ورأى الناس:

    كيف سار أبي وصلاح وأمين حزب التقدم والمحافظ وأعداء آخرين كُثر خلف نعش واحد، حتى أن الحاج محمود نفسه قد أخذ يتوكأ على كتف غريمه "التاريخي" مسيلمة الكذاب "شخصيا" ومضيا هكذا متقاربين واجمين متأثرين، لكأنهما في طريقهما لدفن عداوات قديمة، أو لكأن قانوناً آخر كان يحكم تلك اللحظة العصيبة من حياة المدينة.

    بينما موسيقى "البيتلز" و فرقة "البوني إم" الصاعدة بقوة آنذاك أو لربما كان ذلك "جيمس كليف" فضلاً عن أسطورة الغناء الفرنسي "أديث بياف" تصدح خلال حفلات "الديسكو" من جهاز أهدته المحافظة إلى أمي في أحد مهرجانات "عيد الربيع" - "تقديراً لجهودها الحضارية الرائدة"، كانت فاطمة تسعى في نفس التوقيت إلى إقامة "طقوس السحر وشعائر الزار البائدة" حسبما أشارت إليه مجلة "نهضة المرأة" أثناء حملة صحفية استهدفت في حينه "جيوب التخلف في المدينة"، إلى أن جاءت "قشة الغريق" في ذلك اليوم وتراقصت أمام عينيها تراقص البرق أمام مزارع حرث الأرض وبذر ثم تسمّرت عيناه قبالة الأفق الشرقي في انتظار أن يهطل المطر بعد عناء محل طال الأخضر واليابس ولم يذر. "وكالة رويتر المحلية" أشارت إليها وقتها بشيء قال عنه الحاج محمود و هو يضرب كفّاً بكفّ، و قد بدت على مُحيّاه علامات "وجع الظهر" المزمن بصورة جليّة:

    "هذه فكرة لا تخرج والعياذ بالله إلا من رأس شيطان".

    وقعت تلك "الأنباء الجديدة" على رأس أمّي في البداية وقع الصاعقة في خريف استوائي عارم. حتى أنها أخذت تعاني من حمّى الملاريا في غير موسمها لثلاثة أيام و ليلة. كان من العسير عليها حقا حيال "أصالة تلك الأنباء" مجرد التفكير في أنها "لم تفكر" في الواقع جيدا في توزيع مجهودها أثناء "السباق الحضاري" بالتساوي، بينما شرع أبي في بعث نزعته الفلسفية أثناء هذيانها الليلي من جديد، كان يقول بشيء من حسرة العميان: "الوصول إلى قمة حضارة المدينة ليس هو الهدف. و ذلك أمر فات علينا. نعم نعم. الهدف هو كيفية الحفاظ على تلك القمة إلى الأبد".

    لقد أتاح صمت أمّي الطويل في تلك الأيام للشائعات المختلفة فرصة أن تنمو و تزدهر حتى في "أقصى بقاع المدينة". أذكر الآن جيدا تلك اللحظة التي أفاقت فيها من هذيانات الحمى بوجه شائخ وجسد شاحب هزيل. لقد بدا كما لو أنها عثرت على نفسها فجأة بعد سنوات طويلة من غياب سادت خلاله "أحزان بالجملة لا مبرر لها". قالت وقتها و الدمع ملء عيونها: "يا أولادي، ينبغي على المرء في هذه الحياة أن يعرف جيّدا متى يتوقف من ترديد الهراء". هذه الجملة، حمَّالة الأوجه، سرت في المدينة مسرى النار في الهشيم، و لم يعد بوسع أحد بعدها أن يتنبأ بما يمكن أن تؤول إليه أوضاع "السباق الحضاري بين الجارتين" مستقبلا، حتى أن الحمَّالين في الميناء النهري أنفسهم قد آثروا النوم في أوقات الراحة أسفل شجرة الكافور العتيقة إلى حين أن "تنجلي حقيقة الأمور".

    في مثل تلك الظروف، ما كان لقوى على ظهر الأرض أن تمنع فاطمة من "تذوق طعم الانتصار الحضاري" مرة أخرى، حتى لو تعلق الأمر هنا بتنفيذ "فكرة خارجة من رأس شيطان أحمر"، وبدا أن مجتمع "الصفوة" وهو يتقبل فاطمة في صفوفه مرة أخرى كأب يفتح ذراعيه أمام "عودة الابن الضال"، إذ بلغها أن "رئيسة التحرير الولود حتى على مشارف سنّ يأسها" قد أخذت تديُر القلم من طرفيه، وهي تتلقى "نبأ انبعاثها الفاطمي المبارك" من جديد، وما إن تيقنت من "عناصر النبأ"، وكانت تضع هذه المرة رأس القلم بين شفتيها، حتى ابتسمت داخل مكتبها لأول مرة، وتساءلت بغنج "لا يليق سوى بعجوز متصابية"، على حد تعبير مسيلمة الكذاب، قائلة:

    "وهل يمنع عُسر الولادة من تكرار الشيء نفسه مرة ومرة"؟.

    راقت صلاح فكرة "الانتقام التاريخي" تلك، و ما بدا أنه الحياة عاد يدب شيئاً بعد شيء في عروق شجرة الليمون، التي لم يذق حوضها المُزدان حديثاً بالطلاء الجيري وعلى مدى عام كامل شحَّ خلاله المطر سوى دم القرابين المقدمة أسبوعياً أثناء شعائر الزار وتلك الطقوس، وصورة والده المعاتبة، لم تعد تقلق منامه، حين عاد إلى ارتداء "الملابس الأفرنجية" طواعية هذه المرة.

    لكأني أراه الآن، بعد كل هذه السنوات، وهو يقتني موضة ذلك العام، مفاخراً على أبواب الستين بقميصه الوردي الذي أطلق عليه سادة الموضة في المدينة عبارة يقال لشدة توهجها إنها "خادشة لحياء منسي" مفادها "هاهنا.. حبيبتي..... مستقر حلمتيك"، وقد أخذ من حين لحين في مجادلة الحاج محمود حول "حرمة الذهاب به إلى صلاة الجماعة عامة والجمعة خاصة"، مؤكداً على الدوام من داخل تلك "الثقة الهائلة" أن: "النجاسة.. يا حاج.. ليست في التسمية.... بل في الملابس نفسها"، فانياً تماما في عشق بنطال التيل البني ذي الجيوب الجانبية الواسعة المنتفخة "مرحباً تكساس"، وأي صوت كانت تصدره قدماه عندما ينتعل في المناسبات الخاصة "حذاء خروتشوف الأممي الرهيب"؟.

    آنذاك، وقد لاحظتْ أن "السباق الحضاري" لم يعد "مثيراً" كما كانت عليه "أوضاع المنافسة المحتدمة" بين الجارتين حتى "عهد قريب"، أشارت "وكالة رويتر المحلية" قبل رحيلها بشهور معدودة إلى فاطمة بضرورة أن تسافر ابنتهما الوحيدة "أمل". كانت تتحدث بكلمات هزّت نبرة الصدق فيها شغاف قلب فاطمة "الذي لم تنصفه الأيام الماضية كثيرا"، موضحة لها بهيئة "الناصح الأمين" نفسها أن في "بلاد الخواجات: لندن" يمكنها أن تتعلم "النجاح الحضاري من منابعه الأصلية". و قالت "وكالة رويتر المحلية" مواصلة حديثها إلى فاطمة بحكمة مَن شارف على الموت "ما عجز عنه الآباء.. يا بنتَ أمّي.. يحققه الأبناء". هكذا، دون أن يدري، وقع صلاح "زوج فاطمة" تحت وطأة مطالب ثقيلة قادته في ظرف أقل من عام واحد إلى إعلان إفلاسه كتاجر صغير، بينما انقطعتْ أخبار ابنتهما بعد سفرها بنحو ثلاثة أشهر، وحتى الآن، يا أصدقائي، مازلت أتساءل: كيف ستقف "أمل"، إذا ما عادت في يوم ما، على قبر والدتها، الذي محتْ الأمطار معالمه منذ أمد بعيد؟.
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de