|
على هامشِ المودَّة !
|
على هامشِ المودَّة ! شاذلى جعفر شقَّاق
لبثت – فى عُجالةٍ – ثلاثة عقودٍ من التَّذكار وهى ساهمةٌ فى النِّصْفِ الأعلى من كوبِها ، ثم قالتْ من وراءِ عَدَسَتَىْ عَيْنَيْها : - وحياتُكمـا ، كيف تعيشانِهــا ؟ اشرأَبَّ كَتِفاى .. أومأتُ بشفتين مزمومتين يساراً وقلتُ : - مُتعايشَيْن ! قالتْ : - حَسنٌ أنَّكَ قنعتَ بإيابِ التعايُشِ مِن غنيمة المودَّة والرحمة ! امتشق عودُهــا . أصلحتْ مِن شأنِ ثوبِهــا .. حملتْ حقيبتَها .. أولَتْنى عطرهــا القديم لتقولَ مِن وراءِ خطواتِهــا : - نحنُ أيضاً – وللأسف – مُتعايشَيْن !! تولَّيتُ النظَرَ إلى نصفِ كوبِها الأسفل : أنْ تعيشَ بنصفٍ مُبتغاكَ حيناً مِن الدَّهْرِ ؛خيرٌ مِن أن تعيشَ بكاملِ حُلمِكَ العمرَ كلَّه ! .. رفْرَفَ كِساءُ الطاولة الرَّمادى المُمعن فى دوغمائيَّتِه مُبدياً وشْوشةً خافتةً ، باهتةً و رتيبة ! رفعتُ عينىَّ إلى النصفِ الأعلى من كوبِها : أنْ لا يكون لكَ مُبتغىً أسوأُ ألفَ مرَّةٍ من أن تظلَّ حبيسَ الأمنيات واجترار الذكرىات الغابرات ! .. ارتطام .. تهشيم ، صَدَرا عن كأسٍ فارغة المُحتوى قرَّرتْ الانتحار فى حضرةِ الإبريق البخيل ! .. لحظات ويعود السِّكون .. الخُضرة المُتماهية فى الأضواء .. أنفاس موسيقى حالمة تستنهض الصَّحْوَ المُذاب فى الرومانسيَّة المُفترَضة ، وعطرُهـا القديم يمْثلُ أمامى كشاهدِ ملك ظلَّ وفيَّاً كلَّ تلك السنون لمواضع التطيُّب – عندها – شاهداً على خباياها ، خبيراً بأزمنة ومواسم َ تفتُّحِ مسامِها لتعبقَ بأنفاس الزَّهر . حُبَيْبات العَرَق البلّوريَّات اللائى يقبعن على أرنبةِ أنفِها كُنَّ مُدخَلى القديم والآنى أيضاً .. قلتُ وأنا أُشيرُ بحاجبى : - ألا زلن جالساتٍ على حافةِ الروعة ؟! قالت بحضورها الذى تعتَّق بفعلِ مُقارعةِ الحياةِ وتجاريبها : - بل مُستمسكاتٍ بعُراها ! وضحكتْ .. كان ينبغى أنْ تُظهرَ الضحكةُ بعضَ التجاعيد التى بدأتْ توقِّع حضورَها باستحياء ..بيدَ أنَّ ضحكتها أعادتها إلىَّ كما كانت قبلاً ؛ غضَّةً ريَّانةَ المُحيَّا ونحن شجرتان ناضرتان مغروستان على ضفَّة النيل الأزرق قُبالة (توتى) نُطالع غروبَ شمسٍ كخلفيَّةٍ متحركِّةٍ لمركبٍ شراعىٍّ أوغل فى الرحيل الدامس !! لا شئَ مدهشٌ أكثر من دهشتِها كتعبيرٍ حركىٍّ يعتمدُ على العينين والحاجبين لا يتجاوز عمرُهُ ثانيتين أو ثلاث ، لذلك سرَّحتُ تجاهها عبارةً مرواغةً حمَّالةَ أوجُهٍ ..فقط لالتقطَ هذه الومضةَ ؛ الدهشة !! قالت : - لا زلتَ ماهراً فى اقتناصِ دهشتى واحتلابِ ضحكتى متى تشاء ، وأنا التى وقَّعتُ بكاملِ قُواى العقليَّة اتَّفاقيَّةً إقصائيَّةً للقهقهات منذ زمانٍ بعيد ! هاهى إذاً أوْدعتنى ضحكةً رغم أنْفِ العبوس ، دهشةً رُغْمِ تحديد نسْلِ الإدهاش و نفحةً من عطرِها القديمِ الوفى رُغم أدخنةِ الرتابة العالقة بفضائى .. وهى ربَّما لا تدرى أنَّها بذلك تُعيدُ ترتيبَ محتوياتِ خزانة أحزانى لتسعَ أُخرياتٍ لا يجدن مشاجبَ ياقاتٍ ! بل لا تكبُر أنفُسهنَّ إنْ حُشرن كيفما اتَّفق !! أودَعَتْنى مُسكِّناً للألمِ عند اللزوم .. خدَّرتْنى بالحنين ، ثم توارتْ مِن حيث بانتْ ! الآن طُوى كِساء الطاولة الرمادى الدُّغمائى حيث كشَف عن سطْحٍ أصفرَ فاقعٍ لونُه ..انكفأت الكراسى مرتكزةً على أمشاطِ أرجُلِها الأماميَّة على المناضد ..أُحيلتْ بعض الشمعدانات للنوم التعسُّفى .. حَفِيَتْ رؤوس النادلين ..احمرَّتْ صدورُهم وظهورُهم بعد تجرُّدهم من صِداراتِ كدِّهم الحالكة .. أفرغتْ طفَّايات السجائر آهاتِها فى بطون أكياس القمامة ! اختلط حابلُ الأكواب بنابل الأباريق ليُعاد ترتيبها مرَّةً أُخرى .. طُمرتْ أحواضُ النجيلة الطَرَفيَّة بالمياه . وأنا كآخر مُنسحبٍ من مَهْرَبى الاختيارى ؛ أُجرجرُ خطواتى ، تجرجرنى عبر طريقٍ أعرفها جيِّداً وأعرفُ إلى أىِّ مكانٍ ستُفضى بى ، بنـــا ، يُرافقنـا عطرُهــا القديم الوفى !
|
|
|
|
|
|