|
إضاءةٌ خافتةٌ على وجهٍ كذوب !
|
إضاءةٌ خافتةٌ على وجهٍ كذوب ! شاذلي جعفر شقَّاق [email protected]
رائحةُ السمك المشوي تفرض سطوتَها على صالةِ المطعم الرحبة .. حركة الزبائن الدائبة تُعربُ عن شراهةِ الالتهام عن الكمِّ الهائل من الأسماك التي صيدت من سلْسلِ النيل البارد لتصطلي في جحيم الزيت المغلي ..النادلاتُ يرفُلن في زِيِّهنَّ اللبني وهُنَّ يَجُسنَ على المناضد كفراشاتٍ مُفعماتٍ بالتمنِّي واحتمال التنقُّلِ بين شتَّى أنواع الزَّهر ..رجالٌ ونساءٌ وأطفالٌ وشبابٌ من الجنسين ، يتحلَّقون حول المناضد ، بعضٌ مُكِبٌّ على الموائد في خشوع ..وبعضٌ يستحثُّ العاملين لإزالة الأطباق وفتات الطعام من أمامه درءاً لدواعي التُخمة .. وبعضٌ يبحثُ له عن موقع طاولةٍ يمكِّنه من إزاحة البراقع ! في ركنٍ قصيٍّ جَلَسَتــا مُتقابلتين كعاشقين على أُهْبةِ التقبيل .. تنفلتُ ضحكاتهما بين الفينة والأخرى من كورال همْهماتِ الصالة الرحبة لتعزفا لازمةٍ لا يسمعها إلاَّ ذو حظٍّ عظيمٍ اختار طاولةً مع سبق الإصرار والترصُّد تُتيح له متابعة المشهد عن كَثَب لإرسال ذبذبات بصَرَيَّة وبالتالي التقاط ردود أفعالها ! تقابل الولدان في جلستهما ..شمَّرا عن أكمامهما فَتْكاً بالبُلطي المشوي واحتساء مرَق (القرقور) بتلذُّذ ذي معنى لأُلي النُّهى..قال أحدُهما : - ليس معهما أحداً بدليل أنهما قَضَتا وطراً بالمائدة وأمامهما زجاجتان فقط ! قال الآخر من خلف نظَّارته الطبيَّة : - عندما تكون الإضاءةُ خافتةً يتبدَّى ظلُّ الخصلةِ كنُدبةِ عشقٍ على خدٍّ أسيل ..تتأرجح رابيتان مُترهِّلتان في النصف الأعلى من اللوحة تغبِّش رؤيتهما جدائل نخلتين راقصتين يتلامس رأساهما طرباً ، بينما يستغلُّ ساقاهما العريانان المكتنزان أسفل اللوحة الأكثر عتمةً من النصف الأعلى .. الأكثر عتمةً من وجه الحقيقة المُبْيَض تجمُّلاً بهالةِ الفجر الكذوب! تنحْنح الولد الأول ..أصلح ياقة قميصه وقال : - آنستُ نارَ غوايةٍ لعلِّي آتيك منها بخبرٍ يقين ..أحسب أن لهيب شوقها يدعوني أنْ هيتَ لك ..ثرثرةُ مُدنٍ إحدى العينين وحواريهاو أزِقَّتها تتنامى إلى سمْعي حكاياتٍ وقصصاً وأساطير لأبطالٍ لا يزالون يتعلَّقون بأستار رموشها المُمعنة في الخداع ! كما يشي صمتُ بداوة إحدى العينين بهدْهداتِ الغفلةِ المكرورةِ ،تعاويذ المغاربِ المكنونة ، تمائم السِّفْرِ القديم المعلَّقة على جيد الفطرة السليمة وصكوك البراءة للزمانِ الأوَّلِ التي لم تُصرَف حتى الآن وإنْ كانت على وشكِ أنْ تقدَّ قعْرَ جُرابها الموكَّأ باليقين ! استطعم الولد الثاني طعم الحساء لتحديد نسبةَ الليمون والشطَّة ثم قال : - دعْنا نطارد – يا صديقي – شخوطاً نمطيِّين داخل هذه القصَّة التراجيكوميديا الافتراضية ..لوحةً سرياليَّة ..أبطالاً وهميين في أحراش هذه الرواية الكذوب ..دعنا نمسك بتلابيب فكرةٍ بَغيٍّ تذوِّب الكُحلَ الرخيص على خدِّ الاستعطاف وحُبيبات العرَق على أرنبة السِّحْر لقصيدةٍ مُبتذلةٍ رُفعتْ مئات المرَّات على منابر الوعي دون أن يصفِّق لها أحد !! باختصارٍ دعنا نُزجِّي وقتنا ريثما جاءتْ عشيقتانــا ! مالت إحدى الفتاتان على أُذن الأخرى وقالت : - ما لهذا الولد يتلكَّأ هكذا كأنَّه يُريد القفز فوق جدار ٍ مُتهالكٍ ؟ لقد سئمنا هذا الانتظار المقيت وأخذ الجوعُ منَّا كلَّ مأخذٍ ...مللنا دخول هذه المسرحية الساذجة الرتيبة ..ما المعنى من الجلو س على فتات مَنْ سبقونا هلى هذه المائدة لإدَّعاءِ تناول الوجبة ونحن نُناصبُ هؤلاء الحمقى شِراكَ الغواية والخداع ! تبسَّمتْ الأخرى وقد أرادتْ أن تجعل من هذه المرافعة دعماً لدور صديقتها الجديد : - لهذا – يا عزيزتي – أردتُكِ أن تذهبي معي خلف الكواليس فما يُعرَض على الخشبة أقلُّ بكثير ممَّا يُعرَض خلفها في الظلام ..الآن بيننا وموعدنا ذاك ساعة فلنجعلها ( مرازقة) خفيفةً وسريعةً ..فهذان الولدان ليسوا طريدتَيْنا الُمثلاوين ولكن في ظلَّ هذا الكساد الرجولي وقلة العرض المحيط ؛ يُمكننا أن نُزجِّي بهما وقتنا ريثما جاء عشيقانا ! قال الولد وعيناه في عيني أكثر البنتين جرأةً : - ثنائية الكون تقتضي أن ترتحلا إلى طاولتنا أو نأتي نحن إلى طاولتكما !! قطبتْ البنتُ جبينها ثم رفعتْ حاجبيْها وهزَّتْ منكبيْها حتى ماج صدرُها وقالتْ : - هل تعرفني ؟ مَنْ أنت ؟ قال الولد وعلى شفتَيْهِ ابستامةٌ صفراء ُ فاقعٌ لونُها : - نعم ..أنت فاطمة السمحة وأنا الغول ! ضحكتْ البنت حتى اهتزَّتْ الطاولة وسقطتْ الزجاجتان الفارغتان وقالت : - حسناً مَن تكون هذه ومن يكون ذاك ؟ - هذه فاطمة القصب الأحمر وذاك ودْ أُمْ بُعُلّو ! هنا انتفضت الفتاة الأخرى كاشفةً عن نحرها مشرئبَّةً برأسها في محاولةٍ لإبراز عُنقها الذي تمطّه دائماً (زي الجمل الـ في السوكرة ) ! : - ما دخلُكما أيها الفضوليَّان فيمن يكون ومَنْ أكون ؟دعْه يأتي إلى هنا فالرجال قوَّامون على النساء ! - إذا كان ذلك كذلك فالأوجب انضمامكما إلينا أيتها المجادلتان ! في هذه اللحظة قفز الولد الآخر من هناك وفي يده قطعة سمكة لينضمّ إلى الثلاثي مدافعاً بلسانٍ (جَنْدريٍّ) مبين : - دعني أخالفكَ الرأي يا صديقي ،ففي تفسير أحد المُحدَثين للقِوامةِ أنّ المرأةَ تُقْعدُها ضروراتُ البيولوجيا ، لذلك يقوم الرجل على خدمتها كما يقوم النادل على خدمةِ الزبون ! وقبل أن تتلاشى دهشة الفم المفتوح كان (ودْ امْ بُعلّو ) قد زجَّ بقطعة السمك في فمِ فاطمة القصب الأحمر إلاَّ أنَّ الأخيرة عضَّتْ الرجل وهي تزدرد اللقمة السائقة ، حتى صاح : - أتعضِّدين اليد التي تمتدُّ لإطعامك أيتها الجاحدة ؟! - هكذا أُعبِّر عن محبتي وشكري وفائق امتناني لعشقي (الأوَّلاني) !! وهكذا تنداح دائرة المؤانسة بين الرباعي الذي تتعالى ضخكاته وسط وخذات شوك السمك ودعابات التذكُّرِ لعلاقةٍ امتدَّتْ زهاء ثلاث أو أربع دقائق حسوماً !! تقول (فاطمة السمحة ) وهي تقصُّ قصَّةً كأنها من عصرٍ سحيق : - تتذكَّر لمَّن ثألْتَكْ عن إثْمَكْ ؟!! - الله الله الله من هذه اللثغة العجيبة : يا لثغةً معطــونةً بالغنجِ تنضحُ اشتهــاءْ يا لثغةً تُعطي المكان بسحرِهاصاداً وهـاءْ رُحماكَ يا طرف اللسانِ فإنَّني أعلنتُ للثاءِ الولاءْ!! تتظاهر فاطمة القصب الأحمر بالغيرة الحمراء وهي تصطنع لثغةً في الحال بمقاييس فكاهتها : - يــا ثلاااام ياحي ..انت ثاعر والاَّ ثنو ؟ وهكذا تستمر الجلسة العامرة بكلِّ شئٍ إلاَّ الحقيقة ، حتى يرنّ الهاتفان ؛هاتف فاطمة السمحة وهاتف الغول في آنٍ واحد ..تُسدل فاطمة السمحة الستار على المسرحية بتلويحةٍ من يدها التي تحمل قارورة (الشامبيون)مُشيرةً لصديقتها أنْ هيَّا بنا .. غادرتا وهما تتثنَّيان - في غنجٍ مزيَّفٍ كانتفاخِ الدجاج المحقون بالوهم اللاحم – صوب عربة (الفيستو) البيضاء ! ومن العربة ذاتها تنزل اثنتان – دون أن يحدث حادث مواجهةٍ بين الفتيات – في طريقهما صوب الطاولة نفسها في ذلك الركن القصي والتي كانت تجلس عليها الفاطمتان المتقابلتان كعاشقين على أُهْبةِ التقبيل !!!
الوفاق - الإثنين 22/4/2013م
|
|
|
|
|
|
|
|
|