|
قصة بناء جامعة جوبا (2)
|
كيـف سَقينا الفـولاذ قصة بناء جامعة جوبا (2)
لايفوت على من يطالع هذه الانطباعات من زملائى الأساتذة وأبنائى الطلبة اننى انغمست فى لجة التفاصيل والتطرق حيثما يسمح الحيز الى دور الأفراد ايجاباً وسلبا. وكثيرون منهم لم يعودوا بيننا. وهذه بعض محازير كتابة المذكرات الشخصية، التى لاتخلو من التقديرات الذاتية. وقد سعيت جهدى أن أتمثل الموضوعية بقدر الامكان. وليس باستطاعتى أن أتطاول بادعاء الاحاطة بكل ماحدث. ولذلك أجدد المناشدة لكل من عمل فى جامعة جوبا فى مختلف مراحلها، والى أبنائنا الطلبة وكل من أسهم بأى قدر فى بناء جامعة جوبا، لتكملة مالم أتمكن من التطرق اليه بالموضوعية والدقة المطلوبة. لقد كانت تجربة العمل فى ذلك الموقع قصيرة نسبياً بحساب الوقت ولكنها تجربة عظيمة الأثر فى فهمنا لواقع الحياة فى جنوب السودان، وتجلية رؤانا لمستقبل الوطن. أخطأنا وأصبنا بسبب قصور معرفتنا بما تحمله التجربة فى طياتها. ولوعادت الأيام أدراجها، ربما تسعفنا الحكمة لتلافى تلك الأخطاء.
جامعة جوبا فوق منصة التكوين: تبلورت فكرة اقامة جامعة للمديريات الجنوبية خلال مؤتمر المائدة المستديرة (26-15 مارس 1965) الذى التأمت فيه للمرة الأولى الأحزاب السياسية والهيئات من الشمال والجنوب. ولكن مشروع بناء الجامعة إنداح فى طيات النسيان، بعد أن قُبرت مقترحات وقرارات ‘لجنة الإثنى عشر‘ بوصول محمد أحمد محجوب الى رئاسة الوزراء. وانسابت سنوات عديدة حتى التقطها المفاوضون عن حركة انيانيا خلال محادثات ‘أديس أبابا‘. وطرحوها ضمن قائمة من الاستحقاقات المؤجلة. وفى منتصف عام 1974 صدر الأمر الجمهورى بانشائها. وكلف الدكتور جوزيف عوض مرجان بادارة المشروع. وفيما بعد جرى تعيين بروفسير محمد العبيد المبارك كأول مدير لجامعة جوبا، وبعد فترة وجيزة نقل محمد العبيد لتنفيذ مشروع جامعة (ناصر)، التى تحول إسمها قبل أن تبرز الى الوجود الى جامعة الجزيرة. وحل محله فى جامعة جوبا مدير جامعة الخرطوم فى ذلك الحين بروفسير عبدالله الطيب. وذهب محمد العبيد الى جامعة الجزيرة. ولم تصادف حركة التنقلات هوىًً لدى عبدالله الطيب باعتداده المعروف. فعلق ساخراً "نُقلِتُ من جامعة حقيقية الى جامعة وهمية. أما صديقنا محمد العبيد فقد نقل من جامعة وهمية الى جامعة وهمية".
ولم يمكث عبدالله الطيب لأمد طويل فى ذلك المنصب. ومن بين الآثار التى تركها وراءه وريقة صغيرة أرسلها الى مدير جامعة الخرطوم الذى حَل محله، يطلب منه مساعدة عاجلة: "أرسل لى عزيزة، وتبن ، والعربة التايوتا". فيما بعد لم نشاهد العربة التايوتا ولكن عزيزة وتبن كان انضمامهم الى جامعة جوبا ‘ضربة معلم‘ كما يقولون‘ .وأثبت الراحل العزيز عبدالله الطيب فراسة وحدساً عالياً فى ترتيب الضروريات. وسوف نأتى فى مواضع عديدة على ذكر عزيزة التى قامت بتجهيز مركز جامعة جوبا من لاشىء، وأصبحت بمرور الأيام ‘ذاكرته المؤسسية‘. فقد وقفت على كل صغيرةوكبيرة فى تصريف العمل الادارى والتنفيذى بكفاءة وتفانً وطيب خاطر منعدم النظير. وتبن هذا هو رئيس السواقين ولكنه فى حقيقة الأمر ضابط علاقات عامة ماهر. لم يكن يحسن القراءة والكتابة ولكن حباه الله بفطرة عالية. فقد ظل لسنوات طويلة يستقبل ضيوف الجامعة من غير السودانيين. ويتولى قضاء امورهم مابين مكاتب الجنسية وبنك السودان والخطوط الجوية السودانية. وفوق ذلك فهو إنسان عفيف النفس لايتطلع الى شكرأو احسان.
البداية الحقيقية لجامعة جوبا يرجع الفضل الأكبر فيها الى بروفسير السمانى عبدالله يعقوب مدير جامعة جوبا. ولا أدرى كم من الزمن ربما استغرقه تحويل ذلك المشروع الى حقيقة ماثلة، لو لم يعهد أمره لرجل فى كفاءة وحيوية وأفق السمانى عبدالله يعقوب. وقد أشرف بنفسه على اقامة كل شىء من لا شىء. صاغ فلسفة الجامعة فى كتيب صغير أتمنى أن تكون نسخة منه فى حرز أمين. وتجلت رؤيتة الثاقبة فى تصوره لانشاء جامعة تختزل كثيراً من عثرات جامعة الخرطوم وتستهدى بتجاربها الغنبة. وكان محور تفكيره أن يوفِق بين التأهيل العلمى، وتكامل المعرفة لدى الدارسين، وارتباط مناهج الجامعة بطريقة وثيقة مع احتياجات المجتمع، فى واحدة من أكثر بقاع الأرض إنغلاقاً وعزلة عن مجرى التطور اقليمياً وعالمياً.
درج السمانى على وضع يده على كل شىء. يسأل ويصغى ويتعلم بلا كلل أو أنفة من المهندسين والعمال. وقف على مداخل ومخارج ميزانية الجامعة قبل أن ينطلق لجلب الاعتمادات والاعانات من الحكومة المركزية والمانحين الأجانب وفَتحَ قنوات التعاون مع السوق الأوربية (الاتحاد الاوربى) والمجلس البريطانى ومنظمات داق الألمانية ونفيك البلجيكية وغيرها. وقد حدث لبضع سنوات أن تراكمت لدى الجامعة منح دراسية تفوق احتياجاتها. وبقدر ما يستحق السمانى من الثناء. فقد شاركه المسئولية منذ لحظة الانطلاق الأولى بروفسير عبدالرحمن أبوزيد، الذى تولى بعد رحيل السمانى مواصلة العمل فى انشاء الجامعة ، بدون انقطاع، وبكفاءة وأفق، وتفانٍ اعتصر فيها أنضر سنى حياته وطاقتهه.
لقد أسعدنى الظرف بالعمل الى جانب عبدالرحمن أبوزيد ووقفت عن كثب على محبته لعمله ودأبه وقدرته على حل المشكلات العصية. لم يكن أهونها نقص امدادات الماء والكهرباء والأغذية. والاصغاء لشكاوى الطلاب والحد من صداماتهم العنيفة، ونزوعهم للشكوى المشروعة أحياناً وغير المشروعة أحياناً أخرى يتأليب بعض السياسيين خارج الجامعة.
كان عبدالرحمن أبوزيد على دماثته وعنايته بالعاملين بدون فرز، صميماً لا يجفل ولاينخض فى مواجهة أعقد المشكلات. وبنفس القدر الذى استحقه الراحلان السمانى وأبوزيد لم يكن بامكان جامعة جوبا أن تصل الى ماوصلت اليه بدون الالمؤازرة والدعم المتواصل من جانب رئيس مجلس الجامعة لعدة سنوات، هيلرى باولو لوقالى. كان هيلرى هادىء الطبع حكيماً ، راسياً، وسديد الرأى فى المواقف الصعبة التى اجتازتها الجامعة. وقد وقفت على حسن تدبيره خلال اجتماعات مجلس الجامعة الصاخبة. وقد شغلت مناقشة نسبة قبول طلبة الاقليم الجنوبى من جملة الطلاب عظمة نزاع حاد. وبالرعم مما أحاط بالمناقشات من شطط وتأجيج للمشاعر الا أن هيلرى ظل على ثباته وتجلت حنكته. كان وطنياً غيوراً وثاقب النظر فى مستقبل الشمال والجنوب. وقبل كل شىء كان هيلرى سياسياً متمرساً سار فى خطى أبيه، باولو لوقالى الذى ولج مضمار العمل السياسة منذ أيام الجمعية التشريعية (1947). وبقى هيلرى كالدرع الواقى للجامعة الناشئة من تغول بعض السياسيين فى الجنوب والشمال. وهكذا تمكنت جامعة جوبا من الحفاظ على استقلالها فى وجه المصالح والمناورات المتقاطعة.
ومن بين بناة الجامعة الأوائل الأستاذ موسس مشار، الذى انتقل الى جامعة جوبا من هيئة الارصاد الجوى للعمل فى قسم الفيزياء. وهو انسان هادىء الطبع بشوش ودؤوب. هوايته المحببة هى العمل، ثم العمل. وذلك هو سبب تزكيته بواسطة بروفسير ابوزيد لشغل منصب امين عام الجامعة. وبعد ساعات العمل المضنى لم يكن منزله يخلو من الضيوف باعداد كبيرة على عادة أبناء الدينكا. وكان موسس وفياً، نزيهاً وسنداً عظيماً لبروفسير أبوزيد. وكان شجاعاً فى دفاعه عن قومية جامعة جوبا، وعن طرق القبول المركزى، وضرورة استجلاب الأساتذة من مختلف أقاليم السودان والبلدان العربية والاسلامية خاصة من مصر وبنغلاديش وباكستان. لقد تجسدت الوطنية السودانية ووحدة الهدف لانجاح مشروع جامعة جوبا، فى شخص أمينها العام، الأستاذ موسس مشار.
لم يقتصر اسهام الجامعة فى نهضة الاقليم الجنوبى بحسيانها مؤسسة تعليمية بل تعداه الى المجال الاقتصادى حيث أصبحت الجامعة منذ نشأتها القوة الدافعة فى تهيئة قرص العمل أمام مئات العمال والموظفين. وتحولت فى أمد وجيز الى أكبر مستودع للعمالة المحلية فى الاقليم الجنوبى. وأضفى الطلاب القادمون من كل انحاء السودان طابعاً ثقافياً واجتماعياً جذاباً على المدينة وشاركوا فى أنشاطة الفرق الرياضية بالمدينة وتحولت لياليهم الثقافية والفنية ونشاطاتهم السياسية الى ملتقى لسكان الأحياء المجاورة.
فى بداية العمل فى بناء جامعة جوبا، دراج بروفسير السمانى على الحضور مبكراً قبل وصول عمال البناء، بهدف تحفيزهم للتمام فى المواعيد المحددة. لم يكل أو يمل من تذكيرهم كل صباح بأن حرصهم على ساعات العمل والحفاظ على ممتلكات الجامعة ستؤتى ثمارها قريباً. وسوف تعم الفائدة عليهم وعلى أبنائهم واخوانهم لسنوات طويلة. ويحدثهم عن فرص العمل والاجور المنصفة التى ستوفرها الجامعة والتحولات الكبيرة التى ستجعل مدينة جوبا مثل الخرطوم وكمبالا. وقد اطمأنوا الى حديثه وأحبوه ورأوا بأعينهم بأن ذلك الشخص يختلف كثيراً عن بعض الاداريين والعسكريين والتجارمن الشماليين الذين تدنت أسهمهم فى نظر مواطنى الجنوب لصلفهم وتأففهم من مخالطة سكان المدينة من حولهم. وقد أتاح لى الظرف أن أتجدث الى العمال والاداريين والأساتذة فى جامعة جوبا . فلم أشهد إجماعهم على شىء ما، مثل تطابق انطباعاتهم وتقديرهم ووفائهم للسمانى عبدالله يعقوب.
(عن جريد الأحداث 15 أغسطس 2010)
|
|
|
|
|
|