|
كريمة بالحصاحيصا والطنبور بجوارنا في الحلاوين ودّعنا (أبو سنينة) واستقبلنا (جعفر السقيد) ..!!
|
الخرطوم : الهادي محمد الأمين لا أدري في أي فصل دراسي كنّا حينما جاء الاستاذ (أحمد عكاشة) وامرنا بالخروج بعد أن قطع علينا إحدي الحصص بممارسة هوايتنا في القراءة والاطلاع والمذاكرة وكتابة الواجب وقال لنا بلهجة حاسمة وقوية (يلا أطلعوا بره يا أولاد) كان النهار وقتها غائظا والشمس ترسل ألسنتها الملتهبة وأشعتها اللاسعة تقع علي أجسادنا النحيفة كالسياط ورؤوسنا مغطاة بالورق والكراسات تفاديا وتلافيا لحرارة الجو الساخن واللافح وما أذكره أن أعمارنا كانت صغيرة في تلك الفترة التي التحقنا فيها بمدرسة صافية الابتدائية وتضم صافية وكتفية بين جنباتها عددا من أعرق المدارس البنين والبنات (إبتدائي) والبنين والبنات (المتوسط) وقبلها كانت تسمي الثانوي العام ومما سمعناه من سلفنا أن هناك مدارس كانت تسمي الوسطي والكتّاب وفي العهد الحالي حدث تحولات في مرحلة حكم الانقاذ قضت بإجراء تعديلات وتغييرات في السلم الدراسي وتحويل المرحلة الإبتدائية إلي الأساس مع إضافة ودمج سنتين في السلم التعليمي لتصبح جملته (8) سنوات دراسية بعد أن كانت (6) وإلغاء الابتدائي والمتوسط (3) سنوات والاستعاضة عنهما بالمرحلة الثانوية ومع مدارس صافية وكتفية العتيقة كان هناك النادي العريق من أقدم الاندية الرياضية والثقافية والاجتماعية بالمنطقة ثم (استراحات الاساتذة) و (الشفخانة) وتحولت الان إلي مستشفي أو إن أردنا الدّقة نطلق عليها (مركزا صحيا) بعد ان كانت قديما (نقطة غيار) ومن المواقع القديمة والأثيرة في كتفية (مقابر الترك) التي تقع غرب مدرسة البنات المتوسطة وجنوب ميدان الكورة القديم الذي انتقل قبل سنوات عديدة في اتجاه الشرق بالقرب من المسجد الجديد والمسافة بين (مقابر الترك) ومقابر (كتفية) عدة أمتار تفصل بين الموقعين ... وعودا علي بدء فعندما كنا في الفصل في تلك الايام والازمنة أمرنا الاستاذ (أحمد عكاشة) وهو من قرية ودبترو بالخروج من الفصل وتلاقت كافة الفصول (الستة) الأخري مع طلاب المدرسة المتوسطة بنين ثم حدث تجمع مع طالبات البنات في المرحلتين الابتدائي والمتوسط بجانب الاساتذة ومواطني القري الثلاثة (السنية -صافية - كتفية) وكان الحشد كبيرا وبلغة اليوم (جماهيري حاشد) تدافع نحوه المئات رجالا ونساء شيبا وشبابا صغارا وكبار جاءوا من كل فج عميق (وحدب وصوب) هذا إذا استصحبنا ان المدارس تضم أبناء وبنات عدد من القري المجاورة مثل قوز عبد السلام - ودبترو - توبة - انجضو - استرحنا - ود اللمين - اولاد يوسف - جاد العين) وغيرها كل ما عرفناه أن وفدا رسميا بمستوي عال في طريقه للمنطقة لزيارة القري ميدانيا وللوقوف علي أوضاع المواطنين ومعرفة مطالب السكان واحتياجاتهم وقال لنا الاساتذة قولوا بصوت عال ومرتفع (يا ابو سنينية نوّر لينا) ويا (محجوب النور مطلوب) والاشارة هنا لاسماع صوت أهل القري للمسؤولين القادمين من رئاسة حكومة الاقليم الاوسط (مدني) بضرورة توصيل خدمة التيار والامداد الكهربائي بعد أن كانت غالبية قرانا تعيش حالة (إظلام كامل)وتقع في حزام ظلام دامس وتحتكم في لياليها للسواد الحالك الذي يطرده ضوء (الجنريتر) و (الدينمو) الصادر من النادي أو نور (الرتاين) النابع من فصول المدارس حين تكون هناك مذاكرة إجبارية ليلية غير ذلك فان (حبوبة ونسيني) و(لمبات الجاز) و (الفوت) هي سيدة الموقف في كافة المنازل والبيوت وما يهم وصل الوفد الذي يقوده (عبد الرحيم أبو سنينة) ومعه آخرين بجانب رموز إتحاد المزاعين وهو (حكومة بي ذاتو) لا تقل في رمزيتها ومواقفها وفاعليتها قوة من رمزية ومواقف وفاعلية الحكومة الحقيقية فاتحاد المزارعين كان هو الحامي والراعي للأسر في مشروع الجزيرة التي كانت تعتمد كليا في حياتها ومعيشتها علي الزراعة ومنتجاتها وبجانب الشق النقابي في حفظ حقوق المزارعين وحماية الحواشات وأصحابها كانت هناك القشارات ومطاحن الغلال ومصانع الصداقة للغزل والنسيج والمحالج وكان الاستقبال حارا والترحيب بالضيوف قويا وأصواتنا عالية وداوية وزغاريد النساء تملأ ساحة الاحتفال والهتافات تنتقل من الفسحة الكبيرة بالقرب من منزل عمنا الراحل (إدريس عبد القادر) وحتي أشجار حديقة الروضة شمال بيوت عمنا الراحل (البشير ود أبسيرة) وفي موقع ملاصق لمدرسة البنات الابتدائية انتقلت الفعالية بعدها إلي صحن النادي الذي فاضت مساحته وضاقت جنباته بالحضور رغم سعته وامتداد الفسحة التي تنتهي عند المسرح في الاتجاه الشمالي وبالمناسبة تزامن مع تلك المرحلة حضور (حيدر قضامة) ولا أدري حتي الان هل هو ساحر أم مصارع أم ملاكم ؟ لكنه كان شخصا مخيفا ومرعبا وتستثيره استفزازات الحضور الذين كانوا يتهيبون الاقتراب منه حينما يقولون (يا ييا همبرسي) فيتهيج الرجل الذي كانت توضع علي صدره المسامير دون أن تؤثر في جسده ويقوم بتوقيف السيارة البوكس ويجرها للخلف بالحبل (السلبة) في مشهد مدهش وغريب كما أن النادي كان وباستمرار يستضيف (الحواة) الذين تستهوينا خدعهم البصرية عبر سحر الأعين وإيهام الحضور بأكل الامواس والمسامير والابر وووو وغيرها من القصص والحكاوي الفكاهية .. ما يهمنا أن اللقاء الذي كان علي قيادته (عبد الرحيم أبو سنينة) كان لقاء حارا كحرارة شمس ذاك اليوم ولا أدري هل عملية توصيل الشبكة الكهربائية لقرانا قبل سنوات خلت كانت بسبب توصيات ومجهودات (عبد الرحيم أو سنينة) أم عبر تحركات مجموعة أخري ساهمت في وصول خدمة الإمداد الكهربائي لتك القري فيما بعد وتحول ليلها بفعل أسلاك الكهرباء - عبر الانارة - إلي نهار وغطت الشبكة غالبية قري المنطقة .. ما كان لي إيراد هذه الحكاوي أو شريط الذكريات برواية متقطعة وغير محبوكة لولا أنني سمعت قبل أيام عن وفاة (عبد الرحيم ابو سنينة) ولم أكن أعلم أن الرجل حيّا ولم يفض إلي ربه بعد فقد حسبته ميتا ذلك لأنه غاب عن الساحة وانسحب بهدوء عن المسرح السياسي والنقابي وغاب عن المشهد بالكلية ولم نعد نسمع عنه شيئا منذ عهد الحكم الإقليمي وسطوة إتحاد مزارعي الجزيرة والمناقل وسبحان الحي الدائم فقد مات مشروع الجزيرة وتبعه موتا إتحاد مزارعي المشروع ثم أخيرا أبو سنينة واسمه بالكامل عبد الرحيم محمد أحمد و (أبو سنينة) هي قريته التابعة للمدينة عرب بمحلية المناقل وهو ينتمي للحزب الاتحادي الديمقراطي حيث ينقسم الولاء في منطقة الوسط في تلك الحقب علي ثلاثة ولاءات حزبية (الأنصار) وواجهتم السياسية حزب الامة و (الختمية) وذراعهم السياسي الحزب الاتحادي الديمقراطي وقوي اليسار ممثلة في الحزب الشيوعي السوداني في وقت ندر فيه الولاء للأخوان المسلمين الذين كانوا يعدون علي أصابع اليد الواحدة وتوزع العمل السياسي العام بين الحراك السياسي المباشر والحركة النقابية التي تظهر في خطط هذه التيارات للسيطرة علي إتحاد مزارعي الجزيرة والمناقل وكانت المنافسة علي أشدها بين هذه القوائم التي كان يتصدرها عدد من المخضرمين بالمنطقة أمثال (أحمد عبد الدافع إمام - الأمين محمد الامين - عبد القادر دكين - عبد الله عبد الله عديل - عبد الله محمد الامين برقاوي - إبراهيم الشيخ الطيب بدر - صديق أحمد البشير - يوسف أحمد المصطفي - الأمين أحمد الفكي - أحمد الطيب حماد - الطيب يوسف - داؤود عبد الجليل - حامد بلول وغيرهم كثير) وأنا أعمل علي تدوين هذا المقال الذي قصدت أن يكون عبارة عن خطبة وداع ورثاء للراحل (أبو سنينة) بعد رحيله عن دنيانا الفانية سمعت أن فنان الطنبور (جعفر السقيد) سيحل ضيفا علي قريتي صافية وكتفية لإقامة حفل ساهر بنادي صافية ربما تكون أول زيارة لفنان يعزف بالدليب والطنبور مع صفقة الكورس المعروفة في أغنيات أهالي الشمال الأقصي والصفقة الجماعية المميزة هي في الأصل تقليد نوبي يخص قبائل الحلفاويين والمحس والسكوت والدناقلة ثم انتقل للشمال الأدني في مناطق الشايقية والبديرية ومن خالطوهم من الهواوير ورغم أن بضاعتي مزجاة في المجال الفني بحكم موقفي من قضايا الموسيقي ومقاطعتي في سماع آلات الطرب ومخاصمتي لإيقاعاتها بكافة ضروبها وأشكالها وقوالبها بجانب ضعف ثقافتي بكل ما هو مرتبط بالفن والغناء والتمثيل وليس لي فيه نصيب وافر لكنني أري أن استقدام (جعفر السقيد) يحمل مؤشرات من بينها دخول عنصر جديد ولونية أخري في مجال السماع في قرانا التي ارتبطت آذانها في الإستماع إلي أغاني الحقيبة المعتقة بالاضافة إلي فن الغناء الشعبي عبر الكورس (الشيالين) مع اصطحاب آلة الرق أو الطار والبنقز ثم الحديث المموسق أو الاروكسترا الجماعية ورغم وجود (الغناء الشايقي) الذي كان يخترق الوجدان من خلال جهازي الإذاعة والتلفزيون والحضور المنتظم لفناني الطنبور من عهد النعام آدم - عثمان اليمني - عبد الرحمن بلاص - إدريس إبراهيم - صديق أحمد - محمد كرم الله - محمد جبارة مرورا بعبد الرحيم أرقي – وثنائي العامراب وانتهاء بمحمد النصري وجعفر السقيد الذي استضافه نادي صافية وكتفية مؤخرا فأهالي وسكان المنطقة كانوا كثيري الإحتفاء بمطربيهم أمثال الكروان بادي محمد الطيب - عبد الله محمد - وعوض الكريم عبد الله واذكر حينما كنا صغارا ظهر فنان الولي (أحمد يوسف) ومن ود المنسي (محمد عبد الله) كانا يمثلان (نجوم الفن) وقتها علي المستوي المحلي ثم الذي جعل الساحة مشبعة بروح الفن أن المعلمين والاساتذة الذين كانوا يدرسوننا لهم هويات وبعضهم كان موهوبا في (ميادين الفن) وآخرين في ميادين (كرة القدم) فمن لم يغازل المايك (صدحا وشدوا) كان يغازل المستديرة (لعبا ولهوا) كما شكّل وجود أغاني السباتة والسيرة في حفلات الأعراس ومناسبات الزواج عاصما من الوقوع تحت ثورة الفن الداعي للمجون أو الخلاعة لكن بدا لي أن التذوق في الآونة الأخيرة أصبح ميالا للتصالح مع الموضة والصيحة الوافدة وتقمص النيولوك وأصبح الجيل الحديث تستهويه لونيات جديدة جزء منها وافد من خارج الحدود بكسر حاجز الجغرافيا عبر التطور الهائل في تقانة الميديا وثورة الإتصالات باستلطاف فنون الهند ودراما الأتراك والسوريين وقبلهم بقليل الفن المصري ثم موسيقي الروك من الغرب والجاز الصاخب القادم من بعض البلدان الإفريقية وفي داخل حدود السودان سيطرت علي الوجدان والسماع مخرجات برامج (نجوم الغد) و (أغاني وأغاني) وانقسم المراقب في توصيف الحالة أو الظاهرة بين ما يطلق عليه بالفن الهابط أو الغناء الشبابي لكن ما يهمنا أننا وقعنا أسيرين للونية جديدة فرضت نفسها وثقافتها علينا شئنا أم أبينا وقدم هذا الواقع بتغيراته وتحولاته الراهنة والحديثة جعفر السقيد علي خشبة مسرح نادي صافية وكتفية بترتيب وتنسيق قامت به رابطة أبناء صافية وكتفية بالجامعات والمعاهد العليا في منطقة غنية بالتراث وبقعة تلاقحت فيها الثقافات وقدمت منتوجا غزيرا في هذا المجال يحتاج لسنوات طوال لتوثيقه أو لملمته من الافواه والصدور بل يصعب علي شعراء العهد القديم والحديث مثلا كتابة شعرا مجيدا مثل قصيدة (بتريد اللطام أسد الكزاز الزام شقيت البلد من اليمن للشام) فاتحة القصيدة وبدايتها يندر مجاراتها أو تقديم (نموذج) وإنتاج شعري يماثلها مهما علت لغة الاخرين واتسعت قريحتهم وتفتحت مدارك أفهامهم أن يقدموا مثل هذا الابداع الخلاق الذي يتحدي الزمن ويرفض ان يموت بالتقادم في بيئة تتقاذفها حاليا ثقافات وتتقاطع معها عادات وتقاليد تكاد تمسح الماضي أو تردمه بالتراب ... وعلي ذكر التراب فإني وبحكم ارتباطي بالشمال كرقعة جغرافية كاملة من خلال تجوالي وتسفاري المستمر لها خاصة مناطق جعفر السقيد فقد عقدت مقارنة بسيطة بين التربة هناك وفي منطقتنا ووجدت الفرق الكبير والبون الشاسع بين تراب المنطقتين في كافة المناحي واستغربت بل وتحسرت باتساع دائرة التبشير والتسويق والترويج لأغنية (يا رمال حلتنا زولا كان بآنسك يا حليلو) الشاعر تغني عن كثبان رملية لا قيمة لها إطلاقا مقارنة مثلا مع رمال منطقتنا في المثلث الذي يقع بين قرية القوز عبد السلام وكتفية والسنيّة فالرمال في الشمالية لا تستخدم ولا تستغل إطلاقا وليست صالحة للزراعة ولا للرعي (حتي الطير رحل وخلاها) خلافا لرمال منطقتنا فرمالها صالحة للزراعة بدرجة كبيرة خاصة محصول البطيخ والعجور والتبش بجانب أن الرمال في منطقتنا تنبت فيها الاشجار والحشائش والعشب والاهم من ذلك أن رمالنا ثابتة وغير متحركة مثل رمال الشمالية التي تصل حتي الحيشان واحيانا تسد منافذ وشبابيك المنازل وتتسبب في الزحف الصحرواي وتعرية التربة الصالحة للزاعة كما أن سمومها لافحة بدرجة عالية وليس هذا آخر المطاف فرمالنا مرتبطة بوجود الرهاب أو السراب وهي ظاهرة غير موجودة في رمال الشمالية بجانب أن رمالنا فيها (أبو الضليل) أو الغيم والسحاب المتحرك وهي حالة نادرة لا توجد في الشمالية ومع كل ما ذكرت مرت مناسبتان الأولي منهما محزنة تتمثل في رحيل (الشيخ عبد الرحيم أبو سنينة) فوداعا له والثانية مفرحة انتهت بمقدم فنان الطنبور (جعفر السقيد) ليكون مقدمه موصولا بحلقات أخري فالشايقية كانوا يأتون لقرانا من أجل البناء وتشييد المنازل لانهم تربالة مهرة في تأسيس بيوت الطين والجالوص كما أنهم كانوا من أوائل القوميات التي حطت رحالها بمدينة الحصاحيصا ولهم أحياء سكنية كاملة منها حي كريمة ..
|
|
|
|
|
|