|
أحداث المهندسين (رؤية امدرمانية)
|
كاتب المقال هو محمد عبد الحميد الذي كثيراً ما طالبناالمهندس بكري بإفراج باسوورد له. أحداث المهندسين - رؤية امدرمانية
إذا جاز للمرء أن يصف ما حدث في حي المهندسين بمدينة امدرمان يوم السبت 24 مارس 2007م ، فإن ابلغ ما يمكن أن يوصف به انه "مجزرة". غير أنها مجزرة ليست بالمحتوى الذي ذهب إليه مني اركوي مناوي ، وإنما هي مجزرة لكل القيم الحاضنة لأمة في طور التبلور. وانتكاس عن كل ما أخذت ترسيه كيفيات الحياة في امدرمان تلك المدينة الجاذبة التي لم تعرف يوماً الانكفاء على ذاتها ، ولم يتجول في حواريها وأزقتها حليقو الرؤوس Skin
.. فهي مدينة نسيج وحدها ، تسكنها قوة جاذبة ليست من صنع احد ، فالذين يعرفون هذه المدينة ، أو يخبرون ثقافتها لا يجدون ثمة اثر لما يقال عنه التسامح ، بل هناك السماحة . فالتسامح كمصطلح إن في محتواه اللغوي أو سياق استعماله التاريخي يوحي ويقضي بوجود عنصرين على طرفي نقيض ، احدهما مسرف في التعالي والأخر يعاني عقد الدونية يستوجب التآلف بينهما أن يتسامح الأول مع الأخير على " جريرة " كونه مختلف إن طبقياً أو دينياً أو عرقياً أو ثقافياً . أما السماحة فإنها صفة مائزة لمدينة ليست لها مكون أوحد أو ثقافة وحيدة غالبة لا يخشى أهلها ما يصوره البعض بما يسمونه "الحزام الأفريقي" الذي يطوق العاصمة. فهي مدينة لا تتوجس من القادمين الجدد الذين يتقاطرون عليها من كل حدب وصوب . يشهد بذلك احتضانها الأليف لكل من وفد إليها ، منذ أن كان يتغنى أبناء الفلاتا بأحيائها قبل الشروع في الرحلة نحوها وهم بعد في عمق ديارهم بالأغنية التي كانت ذائعة حينها ( عباسية موردة ) .
إن ما حدث في ذلك اليوم يؤشر بدلالة واضحة على فشل منهج الساسة في خلق أسس للتعايش من خلال ما أجهدوا أنفسهم بتسويقه على انه " السلام " ، وهو في حاصل الأمر محاصصة كان يمكن ان تكون عاقبتها أكثر فداحة لو أن المواجهة تمت بين منسوبي الجيش الشعبي SPLA والقوات المسلحة ، فالجيشان في عرف اتفاق نيفاشا لهما شرعية الوجود المسلح ، ولا يمكن لأي منهما أن يقضي بتجريد الأخر من سلاحه . كما أن عدم حدوث مثل هذا الاحتكاك لا ينفي احتمـال وقوعه . فإمكانية الانفلات الأمني لم تزل ماثلة . غير أن الانفلات الأمني في حد ذاته ليس هو ما يمكن أن يخاف منه . فالأمر الأكثر إخافة هو تطور الصبغة التي يمكن أن يأخذها هذا الانفلات ذلك لأنه قابل على أن يتغذى على النعرات العرقية أو العنصرية التي تعتمل في لا وعي الكثيرين من أطراف الاتفاقات ( نيفاشا وابوجا ) ، وهذا ما تجلى إبان أحداث الاثنين التي أعقبت حادث الطائرة التي راح ضحيتها د. جون قرنق .. .
إنما حدث في حي المهندسين يجب أن يجعل أهل السياسة يعيدون النظر فيما غزلوه من اتفاقات فوقية لا يكاد يشعر بأثرها رجل الشارع العادي الذي يسكن المهندسين أو الذي يقطن شعيرية .. لان السلام الذي تم إنجازه لم يعدو أن يكون حتى الآن وقفاً للأعمال العدائية ، اما السلام بالمعنى الشامل فانه غير متحقق ، وذلك لسبب بسيط وهو ان شروطه غير متحققة . فالشرط الأول والأساسي للسلام يكمن في الرضا والقناعة التي تجعل حامل السلاح يشعر بأنه يعيش في وطنه ، وان أي حظوة يلقاها ليست لأنه قد حمل السلاح واتى بحقه عنوة . فهذا في حد ذاته انحراف عن العدالة وهذه الأخيرة تحديداً هي اكبر العناصر المفقودة في كل اتفاقات السلام . فالعدالة تقضي بوجوب وجود نظام System يحتكم إليه لا تخليق مناصب ( وزراء ومستشارين ) يغص بهم مجلس الوزراء و القصر الجمهوري لا يوجد لأي منهم وصف وظيفي محدد ، سوى انه أصبح " دستوري " . إن العدالة في ماهيتها وجوهرها لا تعترف بالعنصرية ولا تقيم وزناً للجهوية ، أنها تعترف فقط بالتكافؤ في الفرص وفق احقيات اجتهادية تقوم على المؤهل الشخصي للفرد كما أنها لازمة لا تتحقق إلا بالتنافس الحر الشريف .
إن الشباب الذي قضي في أحداث المهندسين قد كان ضحية التغرير بأنه قد دخل ارض امدرمان " فاتحاً " لا مسالماً ، وان عليه بموجب هذا " الفتح " أن يحتفظ بسلاحه ، وان عليه أن يقاوم أي نزعة مدينيه حتى وان قادته لمواجهة رجال الشرطة .. فالأمر هنا ليس مواجهة بين عنصرين عرقيين ، فالشرطة في قوامها يوجد بها أبناء دارفور كما يوجد بها أبناء جبال النوبة بنفس القدر الذي يوجد به أبناء بربر .. فالذي ينظر لأي مركبة من مركبات الشرطة وعلى متنها الجنود يكاد يلمح كل فسيفساء التكوين السوداني لا يوحدهم شيء غير اللبس الرسمي ، والواجب الذي يؤدونه مع التحفظ على الكيفية التي يؤدون بها ذلك الواجب . ولا يفرقهم شيء غير الرتب في نظامها الصارم التي تجعل من الضابط ضابطاً والجندي جندياً بغض النظر عن عرقهما .
إن هذه الأحداث قد أسفرت عن خسارة فادحة لكل أبناء السودان . وان كان في الأمر ثمة شهيد وشهادة . فهو التاريخ الذي سيشهد ذات يوم أن الساسة قد وقعوا اتفاقات فيما بينهم البسوها اسم السلام في غيبة العدالة . واخطر ما في مترتباتها أنها قد تجعل الناس يعمدون على تسليح أنفسهم وقاية لهم من يوم كريهة باتت نذره تطل برأسها كل يوم .
|
|
|
|
|
|