كولاج - رواية - أحمد ضحية (القسم الأول)

كتب الكاتب الفاتح جبرا المتوفرة بمعرض الدوحة
مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-10-2024, 11:15 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الأول للعام 2007م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
02-04-2007, 08:08 PM

احمد ضحية
<aاحمد ضحية
تاريخ التسجيل: 02-24-2004
مجموع المشاركات: 1877

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
كولاج - رواية - أحمد ضحية (القسم الأول)

    كولاج

    رواية

    أحمد ضحية

    إهداء :

    إليكم أنتم ,
    فأنتم هاجس الكتابة .. أنتم ذاتها وموضوعها ..

    كلمة لابد منها ..
    اعتبر هذه الرواية هي أولى تجاربي الروائية , فهي أسبق لمارتجلو(ذاكرة الحراز التي صدرت طبعتها الاولى عن دار عزة للطباعة والنشر – الخرطوم 2003) ولكن للأسف لم ترى هذه الرواية النور لظروف كثيرة منها ما يتعلق بالناشر (دار عزة)ومنها ما يتعلق بغربتي وعدم اقامتي بالسودان منذ 2002 وعلى كل انشرها الآن دون أن أحاول المساس بلغتها أو افكارها او حبكتها- عدا بعض الملاحظات التي ابداها الصديق عبد العزيز بركة ساكن كتابة ووجدت انه محق فيها - , عدا ذلك لم أمس أي شيء يتعلق بشكل النص ومضمونه , وذلك لقناعتي بان ما كتب مهما تقادم عليه العهد , عندما ينشر انما يعبر عن روح الزمن الذي كتب فيه , لذلك حرصت على المحافظة على شكلها ومضمونها , لتعبر عن الطريقة التي كنت أرى بها الحياة في عقد تسعينيات القرن الماضي , ولأؤرخ بها لخط تطوري عندما أقارنها الآن بالطريقة التي أكتب بها. كل ما قمت بتغييره في هذه الرواية هو اسمها , الذي لن اتحدث عن الاسباب التي جعلتني اغيره الى (كولاج ) بدلا عن اسمها الاصلي (لانجور مناخات التحفز) اذ اعتقد ان حديثي عن الاسباب يمثل نوعا من الاغواء , لا ارغب في ممارسته , تقديرا لقدرة القاريء على استكناه النص بدء من استراتيجية العنوان .. ثمة شيء آخر هذه الرواية الى جانب (مارتجلو – ذاكرة الحراز ) أراهما الآن كملحمة واحدة تنطلق من عالم الهامش المغمور تحت طبقات الوجدان والذاكرة , انهما بحث في التنوع والهوية بطريقة أو أخرى.
    أحمد ضحية
    نيوجيرسي - يونيون سيتي
    3 ديسمبر ‏2006‏‏-‏12‏‏-‏03‏

    هذه الرواية :
    إذا قُرأت قراءة جيدة : ستنتهي الحرب الأهلية بالسودان ,تماما كما فعلت رواية (ذهب مع الريح ) لمارغريت ميتشل–
    وإذا قُرأت قراءة رديئة : قتلت صاحبها – تماما كما فعلت قصائد المتنبيء .
    وإذا لم تقرأ على الإطلاق , نسفت نفسها فينا جميعا , وأكدتنا في إرشيف المأساة .
    عبد العزيز بركة ساكن .
    كوستي 1998

    القسم الأول :

    1 - الرمح المقدس

    فضاء :

    أوه يا (جن)* , فمن جن جاء أسلافنا إلى الأرض , وقبضوا الماشية السوداء ..
    فتت التباكو , ففي جن كان التباكو لذيذا , مثل الماشية ..
    اللعنة على العدو الذي وجدناه هنا ..
    فهم لن يتركو عجولنا تهرب من أرضها ..

    ......هامش..........

    · جن شمال شرق أثيوبيا – يؤرخ المورلي بهذه الأغنية لأصل منشأهم .

    ذاكرة :


    كيف يصحو كل هذا الألم الدفين , الناتج عن احساس طفل فقد أمه – بيدبا التي هربت أو اختطفت أو قتلت: سيان- هكذا فجأة دون مقدمات , يكتشف- الطفل - وعلى نحو مباغت بعد وقت طويل ان كل قطرة حليب رضعها لم تكن من صدر امه , وان من كان يظنها امه هي زوجة الاب, فأمي قد ماتت في مجزرة جيش الحكومة ضد أهلي .. انها حكايتي انا – لانجور ..
    لكن عندما أعود بذاكرتي الآن الى تلك السنوات البعيدة, حيث تنهض سلوى في قلب مخيلتي , منداحة عن حكايا عالم طفل واصدقاء خلفتهم وراءها , كأنها لا تزال تركض هربا من "اليمني" صاحب الطاحونة, بجلبابه "الدمورية "الذي لا يغيره ابدا ,هذه الحكايا التي حددتها بلدة وادي النحاس وأمكنة اخرى, تتجدد في أسى, ولوعة عوالم عديدة عشتها كأنها حلم , وربما لم أعشها لكنها انتقلت اليّ تواترا, ربما من ذاكرة مستر واطسون استاذ التاريخ الاوروبي , ربما .. من ذاكرة الرث باناو , التي تداخلت فيها ذاكرات عدة تعود لالاف السنوات , وذاكرة عبد الله المندكور التي صاغت الوجود الحي لكتلة الشمال داخل المقاومة الجنوبية , فغيرت مسار القضية : قضية البلاد الكبيرة ..
    المندكور ذاك رجل استثنائي غير مجرى حياتي , وزج بي في عوالمه المدهشة, التي يصعب الامساك بها, اذ تتفلت كلما احكمت عليها الحصار.. هذه العوالم الجريحة والمنهوبة , عوالم البلاد الكبيرة التي تتبدى طاردة . غريبة . لا ينتمي اليها أحد. اذ كانه يراها للمرة الاولى . فينزوى على نفسه وهو ينزلق الى قاعها ...
    انها عوالم المندكور وزوجته سوزي – أعني هيلدا – اللذان شكلا معا قصة الحب والحرب- أو السياسة في البلاد الكبيرة – الحب والحرب , بمعناهما الانساني الكوني الأزلي ..
    المندكور , هذا الرجل الذي كنت أشعر به دائما , يخفي بين جنباته اسرارا تنوء الجبال عن حملها , فسعيت لاعرف هذه الاسرار , مدفوعا بقوى خفية تشدني اليها شدا ,وقادني سعيي الى ذاكرات عدة: حكيت لها عن المندكور , الذي عرفته طفولتي , فحكت لي عن عبد الله الذي عرفته: صبيا ومناضلا وتاجرا وعاشقا , تعذبه مأساة تشتبك فيها قصة البحث عن مكان ..
    هذا المكان/ الحب الذي حملته "ابودوك" على هدب الخوف, والقطار يرحل بها الى مدن تنام ,على العتمة والمخاوف والهواجس والظنون, هذه التراجيديا الكونية التي لطالما حاول الانسان بقوة فعله الانساني السيطرة عليها , خاتما رسالته للطبيعة : ها أنا اضع قوانيني المستقلة هنا ..
    نعم – ومع ذلك - انفتحت على تراجيديا كونية كبيرة , قلبت حياتي رأسا على عقب , ولم اعد اعرف هل انا , انا لانجور .ابن الرث(1) باناو . ام انني شخص آخر يدعى المندكور , ام انني فكرة بين بين , تحاول ان تهديء خاطر الاحلام والكوابيس التي لا تفتأ تطارد كل الذين كتبت عليهم اقدارا عظيما , فكانت عزائمهم تشتد وتضعف , في اللحظات الانسانية الفارقة ..
    قادني بحثي في حياة المندكور , الى عوالم أخرى ارتبطت به جذريا : عالم عامر الذي دارى طعم احساسه بالخيانة ,بالغربة الطويلة عن الناس والارض الوطن ..عالم "الغريق" الذي مثل نقطة تحول كبيرة الى الخلف, في تاريخ البلاد الكبيرة , فأعادها مئات السنوات الى الوراء ,و"تقي ود زهرة" زراعه الايمن الذي تولى مهام الأمن مستردا من غور التاريخ أساليب القرون الوسطى ,وأسوا عناصر التعذيب في عصور الظلام ,وسلوى هذا الطائر الغريب الذي يحلق في الذكريات , ملاذا من فداحة الواقع ..
    عالم سعود.. عالم وادي النحاس الذي انفتح فجأة كرعدة تحطم حصون المعاناة ,و تضمد جرحا قديما في الآن ذاته , فالتقى سلمى على انقاض حبه الذبيح لسلوى , فكان الميلاد لخرائف مثمرة على الارض, التي اجدبها طول الانتظار والمحل ..
    سارا تجاه البحر ليلا وسلمى تضيء كنجمة سهب ترشد الساري , حبها معالم لطريق موحش وبلسم لجراحات متمددة .. تتبعثر سوالفها لتغطيه برائحة الطين والظمأ .. كان حديثها كرزاز .. حبات مطر شارد .. يحكي عن ظمأ المفاوز و"مشيش" الوديان , ليروي قلبه بالحنين .. ينسى عذاباته . جراحاته , وقلبه الذي كالنافذة المغلفة بالعتمة ينفتح لوجهها المنور , تفتح قفله الصديء . تشرع ادرافه على مصراعيها ,ويطلان معا على عوالم تسبح في بحر من النور ..كانت سلمى كوقع الانشودات الربيعية .. وكانت حياته معها في ميلاد هذا الحب, حلم لا أول له ولا آخر ...
    ينطلقان متشابكي الايدي , والحي الشعبي البائس يختفي خلفهما , تتلاشى معه ملامح البلاد الكبيرة , فلايبقى الا وجه النيل ذو الايحاءات والشجن ..القمر المترع بالصفاء , والاحساس الرخو بالليالي المخملية ..
    ومتوكل وسلمى /هبة الآلهة , هذا الطائر مهيض الجناح ..
    ويبرز وليم صديق الداخلية القديم خارجا من دمعة البوح الحانية, التي تسللت من عيني باناو , متكورة على جفنيه . كان ليل أفريقيا الآسي لحظتها , بكل ما يعتمل في افريقيا من عتمة وغربة , يفيض من أعماق باناو , ليحاصر لانجور , فتتداخل فيه علاقة شائكة بمشاعرها الغامضة , وتنمو , تنمو في علاقتي الخاصة بباناو ووليم لتشكل حزننا المشترك ..تتسلل الصمت المشوه بالصمت , وتذوب كالنغم المضاد للغم , فتبدا رحلتنا في اللانهاية ..
    أحيانا احاول استرداد نفسي من هذه الذاكرة المعذبة للمندكور , فابدا في استرداد طفولتي ,التي تفتح وعيها الأول على اللحظة التي اصبح فيها ابي رثا ..
    هؤلاءالذين, تشابكت مصائرهم المأساوية مع مصيرالمندكور الغامض : كيف – لا أدري .. أصبحوا كالقدر الذي قاد حياتي ...

    نقطة البداية :

    ... ... ... منذ إغتيال باناو( للرث ) السابق , أثناء الإحتفال , إثر عودته من الحج في (فشودة )(2) , وموجة الحزن والأسى التي عمت شعب القرية , لم تفارق ملامح الناس وقسماتهم !.. كان جثمان الرث السابق قد بقى إلى أن أقيمت طقوس الجنازة , بعد ذلك نقل إلى عشته , حيث دفن وأغلق عليه الباب , وبذلك صارت عشته قبة مقدسة .. ومن ثم أخذ الناس يستعدون لتنصيب باناو رثا !!..
    (*)
    تنهد الشيخ ولي الدين الغريق , وهو يحكي لأنصاره الملتفين حوله في خشوع مهيب كنت دون الأربعين , في ذلك الزمان الموغل في البعد ,عندما أخذتني تلك الحورية , إلى مدن مائية ساحرة , ما أن لحظتها حتى غبت عن الوعي , ولم يرد لي وعيي, الا وانا أعي به كل شيء حولي . خاصة سلطة الجسد , فللجسد سلطته التي تبدأ منها الأشياء, وتنتهي إليها .. الجسد – جسدي .. جسد تلك الحورية . جسد المكان والزمان والأشياء , و.. وعندما كنت غائبا عن الوعي , كان ثمة إحساس خفي بسريان الروح في جزئيات دماغي , يستوطن مخي ويتجاوزه .. أطياف شفيفة أحس بها تسكن خلاياي , تثوي الجمود الذي ظل حينا من الدهر جاثما في ّ, علىّ..
    عطست على نحو أراحني , فأدركت أن الروح تجاوزت اليافوخ إلى الأنف , وكان صدري قد بدأ يشهق , حركت يدي وأعلاي حيث بدأت تنتظم الحياة . أغمضت عيني . فتحتهما على نحو آلي , أشعرني بالإرهاق والتعب . أرخيت جزئي الأعلا برفق , وأتكأت على جذع شجرة مرجانية , ذات أثداء نافرة , كنت قد شاهدتها قبلا بإحساسي القزحي . بدت لي متقوسة , وظلالها تلقي عليّ نوارات وردية , دافئة ولزجة ..
    رأيت فيما يرى الغافي شيئا يشبهني. لكنه أروع .. انها الحورية . أحسست بألم خفيف في جانبي الايسر , يحول بيني والنوم , كأن شيئا ما قد انتزع مني .. حركت جسمي المستلقي تحت الشجرة , ليأخذ جانبي الأيمن مكان الأيسر , فوجئت بالحورية التي رأيتها في غفوتي . كانت قربي . فاتنة أكثر مما قدرت , وكنت مسجيا على عرائش من الألوان البحرية الفضفاضة . اعتدلت في استلقائي , ولاحظت أن تبدلا طرأ عليّ!!.. كانت المعرفة . المعرفة تتوالى على ذهني , مشرعة نوافذها كلها , فاتحة أدراف عقلي درفا درفا , متدفقة كالسيل . لم أعد دون الاربعين .
    - أنت حورية جميلة !!..
    حملقت في وجهي بدهشة :
    - أنا منك .
    أحنيت رأسي , وركنت إلى الصمت . لم يهاجمني إحساس بالجوع أو العطش أو الإرهاق . كنت مزهولا فحسب .
    - لابد أنك ..
    - لا . لست مريضا .. انني ..
    قاطعتها , لكنها لم تترك لي الفرصة لأكمل . تلمست فروة رأسي بحنان . تشنجت أعصابي , وشعرت بخيوط قصيرة تنمو على فروة رأسي الأقرع . قالت غاضبة :

    .................هوامش........................
    (1) الرث : بمثابة الملك لقبيلة الشلك , التي تعتبر أحدى قبائل أعلي النيل الأساسية ( النوير , الدينكا , الانواك , المورلي , البرون و الشلك).
    (2) فشودة : من حواضر أعالي النيل , وتعتبر العاصمة الروحية للشلك بعد "تورو".


    - لا تريدني أن ألمس رأسك ؟..
    اصطدمت راحة كفها المتشنج بفخذي , فمددت يدي بخوف :
    - لا ستنمو الخيوط ..
    لكن ردة فعلها كانت سابقة . فقد مست راحتها الفخذ والنهايات . أبعدت يدها بسرعة , وانا أتراجع إلى الخلف .
    التقطت شعرة سقطت من شعرها الأليل الطويل – كانت في شعرها حالك السواد الغزير , أجمل مما كانت – اكتشفت انبهاري بها . فتلاشى الصداع .
    بدت سعيدة . سقطت شعرة على حجرها . امتلأ ما بين فخذيها بالشعر . رفعت يدها وأتكأت راحتها على خدها . سقطت شعرة أعلا عينيها , تبعتها أخرى فنمى لها قوسان جميلان ..
    رفعت رأسها غلى اعلا , فرأت وجهها على صفحة الفضاء المائي اللامتناهي الزرقة .. أحسست بها أروع شيء تراه عيناي , مست وجهي على نحو مفاجيء , فتغطى وجهي بشعر كث ..
    - ماذا تريدين مني ؟
    - منك ؟!..
    ردت باستنكار . والأطياف التي تمتد من ذوائب شعرها إلى الشجرة , تتناسل فتنمو للشجرة أوراق عريضة بحجم الكف ,. لاحظت أن خيوطا قزحية شفيفة تتماوج في حلقة هندسية متشابكة , تصل بين جسدها والشجرة ورأسي :
    - لابد أن التغيرات التي حدثت لنا بسبب الشجرة . انها زيتونة مهجنة بالتين .
    قلت , فضحكت , كأنها تضحك علي .. أردفت :
    - علينا أن نشكرها .
    - وكيف نشكرها ؟
    - أن نشرب من عصير ثمارها .
    - نشرب ؟!
    أصدمت نظراتي بصدرها , فاطرقت في حياء خبييث .. حاولت معالجته :
    - ربما هي شجرة سدر أو حراز
    ثم التفتت نحو الشجرة , وهي تلقي برأسها بعيدا . رفعت عقيرتها بصوت كانطلاق العصافير في الصباحات الحالمة , الحافلة بالظلال الملونة , صعدت من بين أنغامها نورسة وحمائم وهدهد . اعتلت صدر الشجرة , فصرخت فيها :
    - ماذا تفعلين ؟!..
    وأخذت تبكي بحرقة . فأخذ البحر يفور , وتضطرم أمواجه في عنف !.. كانت تدري أن بإمكانها أن تجعل البحر ينكفيء على ظهره ..
    كنت أراقبها إلى أن هدأت دموعها, التي شكلت في المدى اللانهائي غضب البحر .
    - يجب أن نشرب من عصيرها .
    قالت , وكنت أخشى تجدد صراخها , فقلت :
    - على شرط أن تشربي أنت أولا ..
    قطفت ثمرة . ضغطت عليها بحنو محدثة ثقبا رفيعا . وضعت شفتيها على الثقب تمتص العصير .. مدتها لي , وضعت شفتي على شفتيها المرتسمتين على الثقب . لم يكن هناك عصير كاف , فأدخلت لساني ولعقت . شعرت بجزئي الأسفل يصحو , وتسري فيه الحياة ! كلانا لحظتها كان يشعر بدوار خفيف , وغليان .. شيئا فشيئا أصبحت أعصابنا مشدودة كالوتر .. هتفت بإحساس أنثوي حالم :
    - ألم أقل لك .
    وقفت قبالتها كالمسحور :
    - أنت أنثى رائعة !.
    - أنا منك .
    تلاقينا . كنا نرتفع وتلامس أقدامنا سطح البحر .. وكانت تلك هي المرة الأولى التي تطأ فيها قدماي " أرض البلاد الكبيرة" ..

    (*)

    إكتملت إستعدادات حفل التتويج . ثمة جيشين رمزيين : جيش الرث" باناو " , وجيش (نيكانج )(1) . كانت مقدمة الجيش تحمل تمثال نيكانج وإبنه "داك" (2), وقد مضى على جيش نيكانج الرمزي , أيام وهو يسير , والناس يتراكضون على جانبيه , مصطفين بحرابهم , اينما حل . خشية ألا يعود الرث حتى يموت . وفي كل نقطة من النقاط الأربعة, التي أرتاح فيها الجيش , ذبح ثورا أسودا.
    وكان الناس بجر الثور الأسود الآخرمن ذنبه , قد وصلو ا به إلى محطته الآخيرة , حيث ستبدأ المعركة الرمزية بين الجيشين , عندما يبطح الثور على الأرض , ليتخطاه الرث باناو , ملاقيا في شجاعة جيش نيكانج , الذي أخذ يضرب جيش باناو بسعف النخيل , لينفض جيشه عنه , فتدوي الطبول و يتغنى المحاربون :
    أجاك أقرع الطبل ليدوي , على أرواح أجدادنا
    والطبل يدوي عنيفا يا رفاقي ,
    وهأنذا ألوح برمحي في يدي ,
    وأرفع الصوت جهورا , ثم أصلي
    وقل لقد عاد الرث الينا ,
    وقل لقد عاد الرث الينا ..
    لقد نجا الرث وعادت البهجة ,
    وأنا أرفع ساعدي , قويا ..
    فتولني إلهي وقوي ساعدى (3)..
    وتقدمت مفرزة من جيش نيكانج لإعتقال الرث باناو , وهكذا أصبح جنديا في جيش نيكانج , بينما استمر جزء من جيش نيكانج, في تعقب ما تبقى من جيش باناو , الذي تفرق وتبدد ..
    ذهب الرث باناو بعد إنتهاء مراسم التتويج, إلى البحيرة الجافة ليدور حولها أربعة مرات , وتمثال نيكانج على كتفه , وقبل أن يرتد راجعا , تبعته الفتاتان الجميلتان "يينادي" و"أوديت" لتصيران زوجتيه المحبتين ..

    (*)

    تنفست البلاد الكبيرة , نسيم الصباح الباكر , مع الآذان وسط تسكعات الناس , والديوك , والعصافير .
    .......هوامش...................
    (1) نيكانج : البطل الروحي الذي أسس مملكة الشلك في 1500م, والذي ينتسب إليه الشلك , خاصة الرثوث الذين تعاقبوا على حكمهم , وكل قبائل اللو تنتمي لنيكانج .
    (2) داك : لا يمكن تتويج الرث الا باحضار تمثال داك ومباركة روح نيكانج.
    (3) يردد الشلك هذه الأغنية في إحتفالات تتويج الرثوث , وهي ايضا – كانت – ضمن معزوفات قوات الشعب المسلحة في العهد المايوي .
    الفضاءات الريفية للبلاد الكبيرة , منذ حل بها الشيخ ولي الدين الغريق في ظهوره الثاني , بعد غياب طويل , ما عادت هي ذات الفضاءات القديمة .
    كل شيء بات يستمد نوره من نور الغريق , والذي كان الناس يشعرون به وكأنهم يكتشفونه للمرة الأولى , جزء من جغرافيا وتاريخ المكان !.. بيته الشامخ الذي تحاصره الشعب المرجانية من كل جانب , وتنتصب أمامه شجرة غريبة, لم يستطع أحد إكتشاف سلالتها وأصولها بالضبط .
    في البدء لم يهتم أحد . وشيئا فشيئا ملأت حكاية الغريق عن نفسه الأسماع , فصحت في الناس كل الحكايات القديمة , التي حكاها الأسلاف عن الصبي الغارق في أعماق النيل. وأخذوا يتقربون إليه , وكل يسعى أن يكون له صفي ونديم .
    والشيخ لا يفتأ يردد في قيلولاته المهيبة : (( كنت دون السادسة , عندما غرقت في بحر أب روف. لم أشعر بما يشعر به الغرقى . كل شيء تم حسب المشيئة الإلهية )).. يتوقف الشيخ ليتمتم متلفتا بعينيه , مستقرأ الوجوه الجاحظة حوله , ثم يواصل : (( ربما كنت والحورية في بطن حوت ..)) , ثم يتلمس القرعة أمامه ..(( أخذتني تلك الحورية إلى مدن مائية بعيدة . ساحرة . حفظت على يديها علوم الآخرة , ولم يفتني من علم الدنيا شيء ! علمتني أسرار الزمان والمكان , وذات يوم قالت لي :
    - ماذا ترى فينا ..
    فتفكرت , ثم رفعت رأسي :
    - حبيبتي ونورعيني. انت مني وأنا منك .
    - وبعد .
    فعلمت مرماها , وأدركت أن رحيلي الى البر قد أزف , وانني للبلاد الكبيرة خارج مرة أخرى لا محالة .
    - سأفعل .
    - يمم وجهك شطر عطبرة .
    فمضيت , وولجت دارا الهمت أن بها ضالتي . دخلت إحدى غرفها, تحيطني وتسبقني هالة نورانية , يتقدمها شعاع , قادني إلى فتاة تغط في نومها ..لا أدري ما خطبها , فقط وجدت نفسي أنقاد اتحسس أنفها , فاستيقظت , وخفتت الإضاءة التي تحيطني وعاد للمكان إظلامه . ووجدت نفسي خارج عطبرة , كأنني لم أطاها أو أدخل احد بيوتها . كنت قد عدت إلى أعماق البحر مرة أخرى . سألت الحورية :
    - ما بها الفتاة ؟.
    - تشكو من ألم شديد في أنفها . تحسنت الآن .
    .. وفي الليلة الثانية خرجت من البحر على مشارف عطبرة , دخلتها وتكرر مني ما حدث سابقا ..
    كنت مزهولا لهذه القدرات التي فجرتها الحورية فيّ.
    - الآن سترحل الى (وادي النحاس).
    قالت الحورية . وهكذا أفترقنا .
    .. إنقضت أيام وادي النحاس ووجدت نفسي بهذا البيت , اعيش كما أهل البر , منذ فارقت تلك العوالم المائية الساحرة .. )) .. كان الخشوع والصمت المهيب قد رانا على أنصار الشيخ , وعيونهم تلتمع في إيمان تام .. وكانت الشمس وقتها.. شمس الصباح في طريقها لمغادرة البلاد الكبيرة ..

    (*)

    كان باناو الذي لم يفرط في طبل القرية المقدس مطلقا , قد إمتلك الشعار الملكي royal emblem منذ وقت مبكر . كان قد ناضل باستماتة شرسة, في سبيل الاحتفاظ بالطبل والشعار الملكي , وتنامى حلمه بالسلطة وهو يرى الرث السابق يمعن في ظلم الأهل والعشيرة ..
    جلس باناو على عرشه , وقد التف حوله الشيوخ يقدمون له النصح ,كما جرت العادة في أول كل عهد
    - لن تقف مع الحكومة ضد أبناء جلدتنا ايها الرث .
    - سأفعل يا أبتي .
    - ولن تظلم أحدا ..
    - قطعا يا أبتي .
    - وستحكم بشريعة الأسلاف ..
    - أجل يا أبتي .
    واستمرت احتفالات تنصيب باناو رثا برقص (البول)(1) .حيث كانت الفتيات قد لبسن جلد العجل فوق (اللاوو)(2) وتحلين بالخرز الملون , وقد بدت أجساد الشبان والشابات لامعة بالزيوت والاصباغ .. وضع الشبان - دون غيرهم - على رؤوسهم الريش الملون , وحملوا العصي والحراب اللامعة المزينة بالريش والصوف الأبيض . وملأت رائحة المريسة(3) الجو بعبقها الزنخ, وصوت الطبول وصيحات الشبان وتلويحاتهم بالعصي والرماح , تصنع في المكان طقسا رائعا . وكل فتى يراقص فتاته التي ترفع يديها معه إلى أعلا, وهما يدوران في إيقاع متسق ..

    (*)

    يقول الذين يدعون امتلاك ناصية العلم بالانساب في البلاد الكبيرة , أن حكاية الشيخ ولي الدين الغريق , عن نفسه لا تشوبها شائبة شك . فهو في الاصل ابن ترب الدين فودي , الذي جاء في القرن التاسع عشر الى البلاد الكبيرة من غرب أفريقيا . كان في طريقه الى الاراضي المقدسة - مثل كل الذين يحجون من غرب أفريقيا - يعبرون البلاد الكبيرة – عندما سمع بالمهدي , واصبح احد مريديه , قال البعض أنه سكن الى جوار الامير اب روف , في أرض اقتطعها له من ريعه الشاسع , وزوجه من احدى نساء الاستواء , اللاتي اتى بهن تجار الرقيق , الذين خاضوا مع الزبير باشا رحمة غزواته . انجب من الاستوائية ترب الدين , الذي ورثه , وعندما كبر تزوج احدى بدويات حي العرب , التي انجبت له ولي الدين الغريق , هذا الذي كان يعشق البحر منذ زغب طفولته . قيل . حتى أنه كان يمعن في التصريح بمقته للتعايشي سليل الوديان والقيزان والصحارى , كلما وردت سيرة البحر واولاد البحر .
    كان ثمة حنين جارف يدفعه لعشق البحر والنخيل , وكان دائم الجلوس القرفصاء أمام البحر, الى أن أخذه الهدام في احدىالصباحات الموغلة في البعد .
    لكن ثمة رواية أخرى تفيد أن اباه ثمرة زواج جده من جنية , وثمة رواية اخرى تعارض هذه الرواية , اذ تؤكد ان جده فودي انما اتى به الانجليز فيمن أُتي بهم من غرب افريقيا , للعمل بمشروع الجزيرة , بدلا عن العمالة الهندية التي كانت مرتفعة الكلفة , وهكذا تنقلب الروايتان رأسا على عقب , في انكفاء مبهم .
    ولكن الثابت انه شيخ واصل- كما يؤكد كثيرون - , حتى يقال إنه "يروب" اللبن !!..
    ..............هوامش......................
    (1) البول : تشبه في ادائها رقصة الروم بني - ( رقصة إجتماعية من رقصات النوير , تبدا بعد مغيب الشمس )- , لكنها لا تؤدى إلا في المناسبات الكبيرة عند قبيلة النوير) .
    (2) اللاوو : الزي التقليدي للشلك . قطعة من القماش تربط في الكتف الأيسر للرجال والايمن للنساء . ويفضل الشبان صبغ اللاوو بالاحمر , ويضيفون لهذا الزي عقدا جميلا من الخرز يسمى "تيتو" يلفونه حول الرقبة , ويتدلى في الظهر .
    (2) المريسة : خمرة بلدية تصنع من الذرة الرفيعة .

    (*)

    مرت شهور الحزن الثلاثة , وانشغل الرث باناو بتقسيم ميراث الرث الميت..
    تمطى باناو وهو يقف أمام كوخه . رمق (اللواك)(1)ليطمئن على الماشية, ولم يفته أن يلتفت الى العشش التي تحيطها , وتحوي زوجاته التسع . قدم إبنه الاكبر مجوك , ليرفع التقرير الصباحي اليومي عن أشقائه , خاصة الصغير (لانجور) , الذي كان باناو يحبه كثيرا .
    هز باناو رأسه وأشار لمجوك بان ينصرف , ثم قفل داخلا إلى عشته . جلس على الجلد ومد يده لياخذ آنية الفخار , فسبقته زوجته الصغيرة الجميلة "يينادي" - التي لفرط جمالها لقبها على بقرته السمراء , التي هي أكثر ما يحب .
    مدت له يينادي اللحم المجفف , الذي أتى به من شجرة اللحم (2) الموسم المنصرم ..
    - كيف ستسوي أمر مجوك ؟
    بادرته , وهو يلتقط منها اللحم المجفف..
    - تقصدين زواجه ؟ لاشيء سوى أن نبدأ بعد الابقار.
    - لا أعني هل تأكدت ان لاقرابة تجمع بينها وأهلنا ؟
    - لا قرابة بيننا . انها مثل هيلدا . منشأها يرجع الى جن .
    - لماذا لا ينتظر مجوك حتى نصل الى الارض الجديدة ؟
    - الرحيل إليها ليس مؤكدا بعد .
    - مجوك يريد بعض أبقار القريب الميت .
    - كلمته أن أزوجه بإسم الميت فرفض , قال أنه يريد أ تكون أول زوجة تخصه هو , وبعد ذلك سيفكر في أن يقبل بزوجة ثانية بإسم الميت.
    - لكن هكذا لن تهدأ روح قريبنا الميت؟
    - ماذا ترين؟
    - زوج أيويل بإسم الميت حتى لا تحل علينا اللعنة . لماذا قلت أن الرحيل الى الارض الجديدة ليس مؤكدا؟
    - لأنني لا زلت أفكر مع الشيوخ في البحث عن مكان أفضل .لقد عاد بالأمس "لابسا جلد الفهد" الذي ارسلته خلف الثور . الذي لاحظنا على روثه حبوب الذرة .
    - لقد غاب طويلا . أين أنتهت مراقبته للثور ؟
    - لقد قطع الثور مسافات طويلة تتخللها الغابات والوديان , الى ان وصل الى ارض خضراء خصبة .كما توقعنا كان الثور يختفي حيث المزارع الخضراء والدوكات الكبيرة .
    - إذن تكفي هذه الأرض العشيرة كلها .
    - ستكون للجميع مزارع كبيرة . وسنتمكن من زراعة "التنباك" (3)والقطن والذرة واللوبيا .
    - هل ثمة أحد يسكن قريبا من هذه الأرض ؟
    ...............هوامش..........................
    (1) اللواك luak: يبني النيليون قراهم على الاراضي العالية , وهي تتكون من عدة قرى , وتبني كل أسرة عدة أكواخ , ومعها حظيرة كبيرة للماشية تسمى باللواك , وتطلق ذات المفردة على السمك المجفف عند النوير .
    (2) شجرة اللحم : يعني بها المورلي المنطقة ذات الصيد الوفير .
    (3) نوع من التبغ يسمى العماري , يستخدم كعجينة توضع في باطن الشفة السفلى أو العليا أو في الأنف أو خلف الأذن .


    - نعم قريبا منها يوجد بعض القوم .
    - لو حاولوا منعنا .
    - سنقاتلهم ونطردهم مثلما طرد نيكانج الفونج .؟
    (*)
    وادي النحاس .. هذه البلدة التي شهدت صباي بقبابها المسطحة , المصنوعة من القش والطين , وخلاويها العارية من الجدران والأسقف , وشيوخها الغلاظ .
    في وادي النحاس اليوم بألف سنة , وفي وادي النحاس, يُعبد الله وفقا للمزاج والصدفة , وبطريقة خاصة جدا , ابتكرها الناس مزيجا من تراثهم الغابر , وتداخلات عناصر الثقافات الاخرى التي مرت على وادي النحاس عبر العصور . ربما يرتل الناس القرآن ويصلون وهم سكارى . ربما تفتض بكارة البنت دون عقد فلا يقال سوى "البنت كُسرت" . في وادي النحاس لا قصاص , فلا احد يجلد أو يغرب لعام , حتى لو شاهده أكثر عددا من الأربعة العدول , فقاعدة المرواد في المكحلة , لا وجود لها إلا في المتواتر الذهني دون جغرافيا بعينها . لا أحد يرجم بأي نوع من الحجارة , فالشيخ هو الحاكم بأمر الله , الذي دائما يكون أمره مجرد غرامة , يلقيها الشيخ على مسامع الحضور , ويمضي سواء ألقى التحية أو لم يلقها . كأن الأمر لا يعنيه . وربما ينسب المولود لكاسر البنت في حال قبوله الزواج منها , وقد يحمل المولود اسم غيره اذا تزوجها دون غضاضة , فعلى العموم مثل هذا الامر ليس ذا بال .
    في وادي النحاس ليس ثمة شيء اسمه السُكر, فالخمر البلدي هو الغذاء الرئيسي لشعب وادي النحاس . شعب وادي النحاس شعب ينتمي لحضارة عريقة لا تجد من يتفهمها , فالديار المجاورة ,لا هم لها سوى محاكمته, بدلا عن تفهم هذا الاختلاف , الذي يعود الى تباين عناصر الثقافة.
    أول حادثة جلد في وادي النحاس بسبب الجنس- او الحب او الريد وما أصبح - اسمه المعاصر "الزنا"مع توافد الشيوخ المعممين في عباياتهم الزاهية , وشامة الصلاة أعلا جبينهم . بسبب ذلك تعرضت لأول "حادثة جلد " – قصاص - ..
    كنت في أوج مراهقتي , وأنا أشارف على ختم القرآن, في خلوة الفكي إبراهيم قرض , و في ذات شبق عارم تآمرت وصديقي الغريق ,على صغرى زوجات الشيخ , الذي كان قد اعتاد ارسالنا لجلب طعام الحيران من بيته, الذي يلاصق الخلوة ..
    في ذلك اليوم عندما دخلت تعمدت الاحتكاك بجسمها اللدن , فارتعشت من قمة رأسها حتى أخمص قدميها , ولم يفتني ذلك . كان جسمها الغض منفعلا , كأن تيارا مائيا عنيفا يمر به لحظتها . الأمر الذي شجعني على مباغتتها بجرأة :
    - يجب أن نفعل ذلك.
    فردت كالمسحورة :
    - في الوقت الذي ينشغل فيه الشيخ بدرسه .
    وهكذا بدأت اتغيب عن حلقة الشيخ , الى ان فوجئت به يوما يقف عند رأسينا وانا وزوجته الجميلة عاريين .. هتف بالحيران مزبدا ومتوعدا , وتكالب معهم على . ربطوني على جذع شجرة لزجة , وجلدت كما لم يجلد أحد من قبل . وعندما اطلق سراحي لم ارتاح للأمر , فبحثت فيه وعلمت ان الغريق هو الذي وشى بي , وكشف أمري , فأزمعت في نفسي شيئا .
    كمنت للشيخ وأنا اترصد مجيئه وذهابه في الوادي , الى ان انفردت به ذات يوم وهو يمشي وحده , يتقدمه حماره الهرم , فهجمت عليه واوسعته ضربا مبرحا . وظللت بعدها اكمن للغريق حتى استفردت به , ما يثير الدهشة , اكتشافي انه كان غلام الفكي قرض ..روعني هذا الاكتشاف , اذ لم اتصور يوما ان الفكي قرض على علاقة سرية بالغريق , وأي علاقة ..
    تنهد تقي ود زهرة ريثما يبتلع غصة أعترضت حلقه ..
    (*)
    كان الاطفال يجلسون وحدهم , وكذلك الشبان والشابات والنساء والرجال . في تشكيل بديع . كل كان يأكل مع بني جنسه او أقرانه , ويناقش هموم سنه أو نوعه . والشبان بعد ان فرغوا من سردهم ,لمغامراتهم الملتهبة مع فتيات القبيلة, بدو متحفزين .,عندما وردت سيرة رجال المقاومة . كانوا يفكرون في اللحاق بالأصدقاء الذين أنضموا الى رجال جيش الرمح المقدس" في الغابات ..
    مسامرات الرجال كانت مختلفة , فالحديث عن الارض الجديدة, التي اصبحوا يحلمون بها يتصدر أحاديثهم ويستنفدها, فلا يمرون الا مرور العابر على الهموم الاخرى للقبيلة .قال الحكيم شول :
    - آن أوان وضع العلامات المميزة, على جبين الصبية الذين دخلوا سن الرجولة .
    قاطعه الرث باناو :
    - ماذا لو أجلنا هذا الأمر الى ما بعد ذهاب الشبان بالماشية ..
    - سيطول الامر بعد لحاقنا بهم .


    ... ... ... منذ غادروا دوك غوديت وهم يتنقلون من مكان لآخر . عندما كانوا في دوك فانويل كانت الأرض خصبة والمياه غزيرة . كانوا يضطرون لرفع منازلهم على أعمدة عن سطح الأرض , بسبب المياه المتراكمة , وتلاشى كل ذلك عندما قرر الزعيم "أكوي كاكاب" الهجرة بهم . ذهبت روح الزعيم اكوي كاكاب , واخذت تنتقل الى سلالته جيلا فجيل (كواريث , نيارث , كوانيريث)(2) حينها كان الزعيم قرنق قد قرر تقسيم الماشية على ابنيه "دينج" رب الخير والمطر والعشب , و "أبيونيق" : الشرير , فأعطى دينج بقرة صغيرة , وأعطى أبيونيق بقرة عجوز , وكان لكل منهما مناصريه , فانقسمت القبيلة ..
    كان أكوي كاكاب يحب أخيه الاصغر دينق, فلم يشأ تركه خلفه , وهكذا بدأت أيام الرحيل ..
    تنهد الحكيم واندينق بينق , وهو يحكي عن رحلة الاسلاف مضيفا :
    - الآن نكرر رحلة أكوي كاكاب الى ارض افضل ودوكاتها أكبر .
    كان الأطفال والنساء والشبان قد أنفضوا . ذهب الرجال الى صيد السمك , وتناثر الشبان على ضفاف البحر , يتغنون في ايقاع متسق وهم يراقبون من رقدتهم الماشية التي كانت ترعى في دعة وحبور.. بينما كان باناو في عشته يدخن بلذة كبيرة ,وامامه السمك واللبن والعصيدة , مستغرقا في تصورات واحلام مخملية بعيدة لا تفتأ تتخللها حكايات الأسلاف , ومسامرات الحكيم واندينق بينق البارحة ..
    لم يلبث نافخ القرن أن دعا الناس إلى رقصة "الروم بني"(3)بصوته الحاد الذي ملا فضاءات القرية الوادعة . فتجمع الشبان والرجال , والتفوا في دائرة حول النقارة, وأخذ قائد الغناء يغني بصوت مرتفع وجميل , قافزا من جانب لآخر , وهو يلوح برمحه في الهواء , وتبعه الرجال في الغناء وهم يتقافزون في الهواء في ايقاع موحد .
    كانت النساء تتوسطهم ابودوك(4) في الأبانو(5) الساحر , الذي كشف عن كل مفاتنها المهابة . ابودوك تردد مع النساء خارج الحلقة , الغناء المحموم الذي يلي غناء الرجال . وبقدر ما كانت جاكلين ابنة الرث باناو فرحة بمشاركة ابودوك لاهل قريتها فرحهم , كانت فرحة للفرح ذاته , وقد استخف بها الطرب .
    دخلت ابودوك الحلقة واخذت تراقص مجوك , الذي تجرأ بعد جهد جهيد ,واخذ يعدد لها صفاته وميزاته , فقطعت ابودوك رقصتها نافرة منه, وخرجت لا تلوي على شيء . كعادتها عندما يتغزل فيها احد الشباب .
    ...........هوامش......................
    (3) كواريث kwarireth:-عند الشلك تعني أبناء وبنات الملك / نيارث : -nyareth وهم أحفاد الرث من بناته وأولاده / كوانيريث :-kwanyireth تعني أحفاد الاحفاد .
    (4) الروم بني : رقصة إجتماعية من رقصات النوير , تبدا بعد مغيب الشمس .
    (5) أبو دوك : المرأة الوحيدة في تاريخ الشلك التي تقلدت منصب الرث , وذلك قبل تأسيس فشودة .
    (6) الأبانو : تلبسه الفتاة من الشلك التي لم تكتمل أنوثتها , وهو قطعة من القماش مزينة بالسكسك أو الخرز في اطرافها , وتربط حول الخصر بشريط .


    (*)

    يحكي الثقاة من أهل البلاد الكبيرة في حديثهم عن تقي ود زهرة , ان الاخير انما كان متيم اثر غانية
    رمته بلحاظها , وأضنى طيفها مرقده , لم تقل عثرته وأومقته وأصبته . بكى صدودها وساءه من الصبر مساء , اذ ان الزهراء كان عاشقا لزوجة الشيخ شفه التبريح , وفي الليلة الأولى التي تآمر فيها مع الغريق , وصار ما صار . تبين في أصحابه عوازل ووشاة , فاحزن الامر امه , واصحرها ..
    وقتها لم يرى ود زهرة في الاخرين سوى الجحيم : غربان بين ودعاة نأي وحسدة تداني . قال .وانصرف عنهم غير مبال , ولما ضاق به الحال تغرب عن دياره , لا يعرف له مكان .. من قائل انه مات وهو يمعن السرى في مسالك الصحراء غرب وادي النحاس , غير هياب لسباسبها ووهادها أو مسترشدا بصوى ساريها وعلاماتها , ومن قائل إنه اعتزل الناس مثلما كان بعض أسلافه في الربع الاخير من كل قرن : يغيب ولايظهر الا بعد مضي انثني عشر حولا (العهدة على الراوي) وعندما يعود يكون جبينه كالقمر الازهر , ليلة اربعة عشر , والثابت بين هذا وذاك, ان الفتى انما كان صريع هوى ما افاق ,وقريع جوى منى من احبابه بالفراق ...
    (*)
    عنما بدات الامطار في الهطول كان باناو يمسح الرماد الذي بكفه , على ظهر ثوره المحبب , وهو يشعر بروحه تصفى وتتسامى , وتغيبه في خدر لذيذ هاديء كالضوء , يسحبه ببطء شديد.. كان لحظتها يتصل بالآلهة..
    - (كض) (1) ساعدني في زواج مجوك , اجعله مباركا واطرد اللعنة عنا ..
    عندما أنهى باناو توسلات طقسه الديني,كان مجوك لحظتها قادما من الخلاء , حاملا بعض الجذور والحبوب والفواكه .
    - آمين .
    اقترب مجوك . سأله باناو:
    - هل نظفت اللواك يا بني ؟.
    - نعم يا أبي .
    - وألبست البقرة السمراء حليها ؟
    - ليس بعد .
    - اذن لابد انك ستفعل في الصباح ..
    - نعم ,أثمة أخبار جديدة عن الارض الجديدة ..
    - انها أرض يعتني بها (كول)(2) جيدا .
    - فليباركها الرب كول.
    - اذن سنمضي قريبا ؟
    - فليكن (ريو)(3) معنا .
    - عرفت ان قرب الارض الجديدة بعض القوم؟
    - (أجن توك نات )(4)؟
    وضحكا . بانت اسنان باناو الاربعة الامامية فراغا فاغرا , لحظتها كان لانجور يتجه نحو اللواك ,
    ..............هوامش..........................
    (1) كض : كناية عن الرب وتطلق على كل ما هو روحي لدى النوير .
    (2) كض : اله الرعدوالصواعق "الخصب" عند النوير.
    (3) ريو : اله الحرب عند النوير.
    (4) اجن توك نات : يعتقد النوير ان ليس ثمة غيرهم يعرف الكلام , وهذا من فرط اعتدادهم وثقتهم في انفسهم , واحساسهم بالتميز عن الاخرين .
    ليحلب البقرة , فصرخ فيه مجوك :
    - توقف لانجور , لن يشرب احد الشبان حليبك لو فعلت .
    لحظتها مر ثعبان بسرعة بين قدمي لانجور , فاخذ لانجور يطارده ليقتله ..
    - اه لانجور , لا تفعل .. انه مقدس ..
    هتف فيه باناو مؤكدا :
    - اسمع كلام اخيك يا صغيري.
    زمجر لانجور:
    - لكن ساحلب البقرة ..
    التفت باناو الى مجوك :
    - دعه وشأنه لقد ركب رأسه ..
    - كيف ذلك يا ابي انه صغير لا يزال يأكل الدجاج ؟!..
    - انت ايضا في يوم ما كنت تاكل الدجاج مثله .
    - لكنني اصبحت رجلا الآن .
    - رجل ؟ اه, ذكرتني , هل ارسلت رأس حربتك والخرزة البيضاء الى والد البنت التي اخترتها للزواج منها ؟
    - انها صديقة اختي جاكلين . ابدوك ابنة العم جوزيف . ارسلتها ولم يردها لي . لكنها تنفر مني . كما انها لم تعد تأتي الى جاكلين ..
    قال باناو محذرا :
    - لن تتزوجها دون موافقتها , صحيح ؟
    ابتسم مجوك في قنوط :
    - لو كنت اريد لفعلت , كما انها لا تزال صغيرة .
    - لكنها سرعان ما ستكبر .
    - عندما تكبر لن تنفر مني.
    - اذن انتظر ودع ذلك للزمن .
    - وددت لو اعلمها انا او يعلمها الزمن وهي عندي.
    ضحك باناو :
    - حقا انت حفيد نيكانج العظيم . هناك امر اخر ..
    - تساءل مجوك مستفهما :
    - ماذا ؟
    - بقرة جدتك الميتة .
    - الم تهبها للانجور ؟.
    - اعني كيف حالها ؟.
    - يعتني بها لانجور جيدا .
    - سرعان ما تنقضي العطلة ويمضي الى دراسته . تول رعايتها له .
    زمجر مجوك متمردا متزمرا :
    - منذ دخل المدرسة ولم يعد هو لانجور ذاته الذي نعرفه , صار لا يأبه لمواريثنا ولا يحب الناس ولا يسمع كلام احد . يعيش لوحده باستمرار .
    - لا تقلق عليه يا بني . دعني انا اقلق حياله .
    - انه يداوم على الذهاب لزيارة صديقك (المندكور )(1)
    - تعني عبد الله ؟.
    - هو .
    - ربما تعلمه زياراته له أشياء مفيدة . دعه يتعلم .
    - لكن ؟
    - لا تقلق يا بني , لانجور مثلك , حفيد نيكانج العظيم . اخبرني المزيد عن فتاتك ابدوك .
    - ربما المدرسة هي التي جعلتها نافرة هكذا مثل لانجور .
    - لا اعني ذلك ..
    - علمت انها ولدت بعد موت جدتها .
    - اذن بعد ابقار المهر لن نعطيها بقرة تخصها .
    - نعم .
    - احرص على الا تحتوي ابقار المهر على ثور ببيضة واحدة .


    ... ... ... فوجيء باناو عند دخوله عشة زوجته أوديت بانها كانت تستفرغ . كانت تتلوى امامه في ألم , فقفل راجعا بسرعة الى مجوك , الذي بادره بارتياع وقلق :
    - ماذا حدث يا ابي ؟.
    - اذهب الى الرب وانديينق بينق , اخبره ان زوجة الرث مريضة , ولا يستطيع حملها اليه .
    ... ... ... كان باناو يخشى أن يكون الاسلاف غاضبين عليه لقتله الرث السابق , فارسلو له (جوك كولانق )(2) ليقتص منه في زوجته الصغيرة التي يحبها كثيرا . . كان قلقا . موتورا . وهو ينتظر خروج واندينق بينق على أحر من الجمر . تغولته فجأة موجة من الصفح , فهام في داخله .
    كانت (أتييب) (3) تخرج منه تتحول الى آمال بعيدة , تلتقي بآتييب جدته التي ماتت حديثا فتبتسم له :
    - لا تخف باناو ستكون اوديت بخير .
    وتشير اليه الى البعيد :
    - لقد طمأنتني آتييب جدك عليها .
    فتح باناو بعدها عينيه في بطء وهو يشعر بارتياح ..
    - (أشيك) (4) هو السبب ايها الزعيم ..
    ألقى واندينق بينق كلماته وهو يهم بالانصراف , ودخل باناو على زوجته. حملها من الجلد الذي تنام عليه وهو يشكر الرب وانديينق بيينق . ارقدها على السرير الخشبي , وخرج مسرعا يتبرك بقباب الأسلاف .
    يدرك الآن ان الاجداد ليسوا غاضبين عليه . لقد اخبره الرب واندينق بينق ان أشيك هو السبب , اذن فثمة مولود مرتقب .



    ... ... ... منذ دخل لانجور المدرسة الاولية , لم تعد القرية تمثل له تلك الحياة السابقة, التي كان يحياها . كان عقله الصغير يعمل بطاقة جبارة في عزلته المحببة , التي يحاول أن يتأمل فيها ليكتشف العالم الذي حوله من جديد ..
    .................هوامش............................
    (1) المندكور : مفردة يطلقها الجنوبيون عموما على الشماليين (الشمال المعنوي أو السياسي لا الجغرافي – العربي).
    (2) جوك : هو الروح الساحرة عند الدينكا , وكولانق تعني انزال اللعنة .
    (3) آتييب : يعتقد الدينكا , ان لكل واحد منهم روحا " آتييب" تؤدي وظيفة الأحلام "التخاطر" والكشف , كما تطلق ايضا على روح الميت حديثا , وبذلك الروح آتييب هي اضعف من روح الميت قديما "جوك" .
    (4) أشيك : الخالق عند الدينكا .


    ... ... ... تمخضت أوديت عن مولودها , وكعادة العشيرة اخذته الى منزل جدته , وكان على باناو الا يرى مكان الولادة لثلاثين يوما قادمة , حتى لا تتسبب رؤيته مكان الولادة في موت الطفل الوليد .
    جلس باناو امام عشته . تحت ظل شجرة الباباي الضخمة , حيث يقضي قيلولاته السعيدة في اطمئنان تام ,وهو يشرب المريسة من الآنية الفخارية التي أمامه .
    كان (بنج وت)(1) و(تيت دي راج ) (2) و (تيت دي رب ) (3) قادمون شطر الرث ليهنؤنه بالمولود الجديد ويجتمعون به في بعض شئوون القبيلة .
    تجاذبوا اطراف الحديث حول الشئوون العامة للقرية , التي تصدرها الحديث عن الارض الجديدة ..
    - يجب ان نبعث فريقا من المحاربين لاستطلاعها .
    قال رئيس الحربة , الذي لم يستطع الاستطراد , ازاء صوت باروت الضاج وهو قادم يجر ابنته خلفه . هتف به باناو :
    - ماذا هنك . لماذا انت غاضب هكذا باروت ؟
    - لقد اغتصب ابيوك ابنتي أكيديا
    - كيف تم ذلك ؟
    - هاجمها عندما كانت تنظف الحقل من الحشائش .
    أشار باناو الى تيت دي راج :
    - اذهب واستدعه حالا .



    ... ... ... ختم باناو حديثه مع من حوله , ملتفتا الى اكيديا مرة اخرى , وهو يتفرسها بتمهل . كانت في ملامحها المنكسرة ونظراتها الشاردة , برية الأنوثة تحت (الأشينو)(4) الممزق , الذي يلتف حول خصرها ويتدلى حول ركبتيها ..
    - قلت كيف تم ذلك يا ابنتي ؟...
    قالت بعد تردد حسمته نظرات والدها القاسية :
    - كنت أنظف (الاقونو )(5) في الحقل عندما هجم على ابيوك دون ان اشعر به . وقتها كان المطر قد بدا في الهطول (6)..
    - وهل تكلم أبيوك ؟
    - لقد تم كل شيء في عنف صامت . لقد قاومته فمزق الاشينو ..
    حينها كان تيت دي راج قد عاد يجر خلفه ابيوك ..
    - اكيديا تقول انك اغتصبتها في وقت مقدس؟
    حنى ابيوك رأسه في خنوع , ونظراته تنكفيء على الارض . قال بعد فترة من الصمت الحاد:
    - سادفع الغرامة .
    التفت باناو تجاه باروت :
    - كم تريد ؟
    - ستون بقرة .
    هتف ابيوك :
    - لكن هذا كثير؟!..
    حسمه باناو :
    - انها عذراء , وانت اغتصبتها في وقت مقدس .. اذن فليكن المجموع مائة بقرة ..
    - لكن ..
    ............هوامش.................
    (1) بنج وت رئيس الحربة .
    (2) تيت دي راج : خبير صيد السمك .
    (3) تيت دي رب : الساحر الذي يحارب الطيور الصغيرة . حتى لا تأكل الزرع .
    (4) الأشينو : عندما تكتمل أنوثة الفتاة من الشلك , تلبس قطعة من القماش ,. تلف حول الخصر , وتدلى حتى الركبتين , تسمى الأشينو .
    (5) الأقونو : يطلق الشلك هذا الاسم على نوع من الذرة المفضلة لديهم , وهو نوع أبيض اللون .
    (6) لا أحد يتكلم عند هطول المطر , حتى لا تحل عليه اللعنة .

    حسمه باناو بنظرة متوعدة , تحمل الكثير من المعاني , فلم يجرؤ على اضافة شيء . بعدها التفت باناو الى اكيديا غامزا :
    - اكان ذلك ممتعا ؟
    كسرت اكيديا نظراتها في حياء , وهي ترمق ابيوك خلسة بنظرات لا تخلو من لذة ..



    ... ... ... كانت ابودوك تضع رأسها على حجر جدتها وهي تصطنت في اهتمام لأحاديث الجدة عن الأسلاف ...
    - لقد ولدت جدتك الأولى (ابودوك) هنا ,.. لقد اختلط دمنا بدم هؤلاء القوم . كانت جميلة مثلك . فاتنة وشرسة , وتقاتل كما يقاتل لابسي جلد الفهد , الجميع يهاب سطوتها .. لم يتمكن أحد من هزيمتها مطلقا , وبعد اغتيال الرث (قول) تم تنصيبها ملكة . لم يكن ثمة أجدر منها .. لم تكن فشودة حينها قد ظهرت على سطح الوجود ,فكان مقر حكمها في (تورو) . احضرت حجارة تتويجها من جبال النوبة المقدسة , وصنعت حراب المراسم في جن . في جن بالذات يا حفيدتي . واحضر جريد النخيل من هناك, حيث اقاربنا في الشمال , وساهمت كل القبائل في زخرفة العاج واحضار الخشب المقدس , لتتويج جدتك "أبودوك" . يجب ان تدرسي لتصبحي عظيمة مثلها. لن تستطيعي إعادة مجد الاسلاف الا بالدرس , فقد تغير الزمن كما يقول الرث باناو. اتفهمين ما اعني يا بنيتي ؟.
    - أفهمك يا جدتي . افهمك ..
    كانت ابودوك مشغولة الخاطر , بذلك الذي رأته وآتييب تخرج منها وتطوف , ترددت في أن تقول لجدتها , ثم حسمت أمرها :
    - رأيتني وآتييب دائمة الحركة هنا , وما أخاله الشمال , حيث أقاربنا النافرين , ورأيت أحدهم في مثل سني ..
    - وليم ؟
    - لا . ربما يشبه مجوك .
    - وبعد ؟
    - يبدو أنني أحببته .
    - كيف تحبين ميتا؟
    - هل يعني ذلك ...
    أطرقت الجدة في تفكير عميق , ما جعل ابودوك تقلق كثيرا :
    - ما الأمر يا جدتي ؟
    - لا شيء يا بنيتي . لا شيء , فقط ربما ترحلين عنا بعيدا , وربما لا نلتقي بعدها أبدا ...



    ... ... ... سوّت أوديت اللاوو على جسدها , وحملت طفلها الصغير وهي تتجه في قوامها الممشوق , وجسدها المشدود نحو الحقل خلف زوجها . بدت اليوم في اللاوو جميلة أكثر من أي وقت مضى .. قالت تخاطب باناو :
    - لقد راقبت ابدوك جيدا كما طلبت مني ..
    - الم تشعر بمراقبتك ؟
    - كلا انها لا تزال صغيرة
    - لكنها ذكية .
    - ربما.. انها فتاة جيدة , تجيد صنع (المانجاكيلو)(1) و(المانجافوتو)(2) وتخدم أهلها بهمة ونشاط .
    .............هوامش.........................
    (1) و (2) المانجاكيلو- و المانجافوتو : الطعام الشعبي المشهور للشلك .واجادة صنعه شرط أساسي لزواج الفتاة .
    - اذن لا تنقصها سوى بركاتي ...


    2 – الحراز و المطر

    فضاء :

    أتظن أن عندي أسرار ؟ !السر الوحيد الذي يحتفظ به الإله لنفسه , هو أن الناس أحرار ! ..
    أجل أنهم أحرار . أنت تعلم ذلك وأنا أعلمه , ولكن ,
    الناس لا يعلمونه !! ..
    على لسان جوبيتر
    في مسرحية الذباب لسارتر
    (*)
    ... كانت المحطة على غير عادتها , تكاد تكون خالية إلا مني , يبدو أن الركاب قد خلت أجسامهم تماما من الطاقة اللازمة , ليكونوا قادرين على الوصول الى هنا .
    كنت قد اتخذت قراري بمقابلة سلوى ,علني أنجح فيما فشل فيه سعود , على الرغم من تحذيره المستمر لي : " لا جدوى من ذلك يا متوكل , فلا تفعل " ..
    وأنا في انتظارها – بعد أن اتصلت بها في العيادة – طافت بخاطري ذكريات الطفولة . كيف مضى مسرعا ذلك الزمن, الذي كنا نتساقى فيه الود والحنين البريئين , نصنع الشراك للطير من شعر الحصين , نغريه بحبات الذرة , التي نسرقها من طاحونة اليمني , ونلعب عروس وعروسة .. أحيانا – وقتها – كنت أشعر بالغيرة , عندما لا تخفي سلمى رغبتها في اللعب مع سعود , الذي لم تكن سلوى تتركه أبدا !!..
    جاءت سلوى من بعيد تتهادى في مشيتها , بدا لي وجهها للمرة الأولى كأنه وجه آخر , لم يعد هو ذات ذلك الوجه الصغير النحيل , لتلك الطفلة التي عندما كبرت, وصارت ترتدي ذلك الزي بلونه "القشر بصلي" , او السماوي – فيما بعد – وهي في طريقها الى المدرسة .. عندما عادت من الجنوب , كان وجهها هو ذاته ذاك الوجه الطفولي البريء الناحل . المألوف بضحكته المميزة الواسعة, التي تفيض على كل افراد الشلة ,وتتسع متمددة لتملأ كل فضاءات البلاد الكبيرة , وأزقتها وحواريها . وبعد أن سافرت لتكمل دراستها في الخارج , لم تعد هي ذاتها , فقد إمتلأ وجهها , واستحالت عينيها الضاحكتين الى عينين عميقتين مبهمتين .. ومع ذلك اصبحت أكثر رواء وألق . بنظراتها سحيقة الإلفة . تلك الالفة التي طواها الزمن خلفه ..
    ثمة حافلة تلوح في الافق الاسفلتي المتبعج ..
    - أهلا سلوى ..
    - كيف أحوالك يا بعيد ..زمن طويل والله .
    - وربما يمضي زمن اطول بعد هذا اللقاء .
    سحبتني طقطقة الكمساري من حديثي معها . هذا الحديث المستبطن لتأملات خفية .. انتبهت الى انها اصبحت توميء رأسها بتسليم اثر كل كلمة . ردت يدها عن حقيبتها ..
    - ربما تدركين لماذا طلبت مقابلتك ؟.
    - بخصوص سعود؟
    - نعم ..
    - ما قلته له كان واضحا .
    - لقد تغربت طويلا وآن لك ان تستقري , قلت لنفسي ربما تكون الغربة قد الانت موقفك تجاهه قليلا .
    - الغربة لا تغير المباديء .
    المحطة الاخيرة . الحافلة تكاد تخلو من الركاب . نهضت كانت تبدو كصبية مراهقة, تنوء بحمل جسمها المجنون . اصطدمت نظراتي – التي كان جسدها يحجبها – بالنافذة . تسللت عبرها الى فضاء المحطة . اخذنا منعرج الطريق الى ان دخلنا كازينو المدينة اليتيم . قالت بلا مبالاة :
    - لقد اشترى الغريق كل شيء , حتى الكازينو الوحيد في المدينة .
    فلم أعقب بشيء . كنت متوترا . لا أدري لماذا . ربما للقاءها الفاتر , جفاء ردودها . جلسنا . احضر (الويتر) زجاجات المياه الغازية .. ابتسمت سلوى :
    - اعمل حسابك الخدمات هنا سياحية .
    أخذت أمص المياه الغازية ببطء ,وتوتري يخف قليلا قليلا . على نحو مفاجيء شعرت بشيء ما يتحسس ساقي – لا أدري لماذا خامرني ذلك الاحساس ,الذي خامر سعود تجاه الصرصور , ربما شعرت في هذه اللحظة تحت تأثير حكايته لي عن الصرصور ,الذي داهمه ذات ليلة – فنفضت قدمي بذعر , ويدي تلج في سرعة خاطفة فتحة البنطلون من اسفل . ليس ثمة شيء , فنظرت اسفل المائدة . لم تكن سوى قشة بارزة داعبها النسيم فادخلها على ساقي . دارت سلوى ثغرها الضاحك بأناملها :
    - أنت كما كنت دائما لم تتغير .
    اختفى ذلك المناخ المتكلف الذي رافق لقاءنا , فتجرأت مرة أخرى :
    - كان سعود ينتظرك بشوق مستبد .
    - يعلم تماما انني لا ارفضه لشخصه , بل لارتباطي بشخص آخر .
    - ايحبك اكثر من سعود ؟
    - ليس هناك مقياس اسمه عاطفوميتر لأقيس به .
    ردت بجفاء :
    - ظننت ان سبب رفضك هو علاقته بالغريق فقط .
    - لا , ولكن بما انك قلت , ثمة اقاويل عن علاقة سرية بينه وبين هذا الدجال !!..
    - الشائعات تظل محض شائعات الى ان يثبت العكس .
    - على كل حال سعود لا يهمني الا كصديق طفولة .
    - هل أعطيت نفسك فرصة كافية., لتبين حقيقة مشاعرك نحوه ؟
    - مرة اخرى اجد نفسي مضطرة للتأكيد لك , انني على ادراك تام في معرفة طبيعة مشاعري تجاه الاخرين .
    - اواثقة ان علاقته بالغريق ليس لها تأثير على موقفك ؟
    - افهم تماما ان تكون الميتافيزيقيا ميل فطري, او حافز بشري او دافع من دوافعنا عندما نعجز عن امتلاك ادوات الصراع , في مثل واقعنا المقيت . لكن ما لا افهمه هو كيف تكون هي نظام تفكير, لشخص يفترض انه تلقى تعليما مدنيا كافيا . انها حالة فصامية هذه التي يعانيها الباشمهندس سعود, في علاقته بالغريق , ومع ذلك لا تهمني علاقته هذه الا بالقدر الذي اهتم فيه لامر صديق قديم .
    - ربما حياته الممزقة . المشوهة ..
    - دائما كان اضعف من تخطي ازماته . احساسه المتعاظم بالفقر منذ الطفولة ,وحيرته أمام لغز الحرمان وشعوره العميق المؤلم بالعجز والوحدة , وتركه للجامعة واتخاذ الاغتراب حلا لكل مشاكله .. كل هذه الامور اعرفها جيدا كطبيبة وصديقة قديمة له . لكن لن يستطيع احد تغييره ما لم يغير نفسه , ولن يتمكن من ذلك دون شحذ ارادته . هناك مشكلة اساسية في علاقته بي , انا بالنسبة اليه جزء من طفولته ,يرغب في استرداده لا اكثر .
    - والدته تحبك كثيرا .
    - انا ايضا انها ام طيبة .
    - هل علاقتك ب ....
    قالت مقاطعة بحزم :
    - لا نجور لو سمحت . اسمه لا نجور .
    - ربما نسيك بعد كل هذه السنوات .
    - حتى لو مات ستظل عاطفتي موجهة الى ذكراه الى الابد .
    - لا تنسي انه جنوبي..
    - وما المشكلة هنا ؟!..
    - ... ... ...
    احتلت مساحة من الصمت ما بينهما فاردفت شذرة :
    - لو عرفته لأدركت كم هو الفرق بينه وبين سعود شاسعا ..
    ثم نهضت في حسم :
    - يجب ان تعذرني فلدي كثير من الامور تشغلني .
    - ماذا تعنين ؟
    - اعني الكثير. سارحل عن هذه البلدة وفضاءاتها العكرة .
    - واهلها ؟
    - للاسف لم اعد احتملهم .
    - كان والداك ....
    - لم تكن لاسطورة الغريق وجود ,عندما كان والداي على قيد الحياة .
    - حسنا . ربما يتزوج سعود من صديقة طفولتك سلمى أتذكرينها؟
    - اتمنى لهما حياة سعيدة . عفوا قلبي هناك , تركته مع لانجور .
    وبكل القلق الميتافيزيقي الذي سيطر على كيانها لحظتها , خطت رجلها تغادر الكازينو , فرفع متوكل الزجاجة الى فمه ووضعها بعنف على المائدة أمامه .. فالتفت الويتر تحوه متسائلا ..


    ... ... ... أمعن سعود السير وسط الكسل والتثاؤب المقيم, الذي يغمر كل شيء , كان قد شارف ود نوباوي بأزقتها الرطبة , وهو يغز السير تجاه بيت الغريق , ليستشيره فيما ألم به من حب سلمى , التي كانت بالأمس قد أخبرته أنها ستنتظره في بيت الزار .
    الغريق حل وسكن في منزل فاره يتوسط البلاد الكبيرة , محاط بما يشبه الشعب المرجانية من كل جانب . لا أحد يتذكر هل كان هذا المنزل موجودا قبل حلول الغريق أم لا ؟ ولا احد يعرف شيئا عن الأرض التي شيد عليها البيت . لمن كانت أو أهي بلا صاحب ؟ .. فجأة اكتشف الناس الغريق في جغرافيا وتاريخ المكان . لا أحد يذكر شيئا غير ذلك .
    هيئتا الكهرباء والمياه لا ترسلان للغريق فواتير عن استهلاكه , ومؤسسة التليفونات حرصت على ان تجعل اشتراكه مجانيا ,والى الابد. وضمنت ذلك في ادبيات اصول ومستندات الشركة كلها . وكان كل ذلك بسبب كرامات الشيخ التي ملأت فضاءات البلاد الكبيرة , التي أصبح أهلها ييممون شطره من الاقاصي والدواني ..
    كان سعود لا يزال يمشي في ازقة ود نوباوي العطنة برائحة التاريخ , وهو يحدث نفسه ( عبر هذا الزقاق هرب بني جرار غربا , عندما ضيق عليهم الانجليز الخناق لقتلهم غردون باشا .. وها هنا أقام محمد نوباوي فارسهم بفروخه وفرخاته (1), ومن هنا هرب حمد حفيده دون ان يلوي على شيء , مستشيرا بعيره عن مكان الحل والترحال , الى ان حط به البعير المقام في "أم زريبة" ريفي تندلتي, بحدود النيل الابيض مع كردفان , و..) تترى على خواطره ذاكرة المكان , وهو يقذ في السير مخترقا زقاقا اثر زقاق , الى ان تراءى له بيت الشيخ الغريق في نهاية الدرب, يلقي عليه الفجر ضياء على ضياءه ..
    بكر سعود بالمجيء خشية الزحام على باب الشيخ , دخل من الباب الموارب للدار , وتوقف بخشوع لدى سماعه صوت الشيخ ..( باسم الله الأعظم , بحق آج, أهوج , جلجلوت , هلهلت , صمصام , طمطام , بحق مهراش الذي به النار أخمدت , بحق شماخ , أشمخ ...) كان ضوء شفيفا يتسرب دواخل سعود وأذنيه ترتخيان لدعاء الشيخ , تسرب عن سعود الحذر والشيخ يكمل توسلاته .. استاذنه , فأشار الشيخ برأسه دون أن يرفعه .
    تقدم سعود ووقف بناحية الغرفة, ذات الإضاءة الخافتة. التي يشع فيها وجه الشيخ ..
    كانت الغرفة تشع , وتتصاعد منها ابخرة مختلفة الروائح : صندل , مزيج من القرفة والقرنفل .. طلح , وعلى الجدران ثمة جلود معلقة لأصلة وقنفذ وتمساح , ورأس ورل وقرن خرتيت , الخ ...
    ارتجفت شفتا الشيخ وهو يشير بسبابته للإبريق الذي سارع بالمجيء . مد الشيخ كفيه في تؤدة , واتبعها وجهه في رفق متمتما .. انهى الشيخ غسيل كفيه ووجهه فعاد الابريق الى مكانه . فرغ الشيخ من همهماته الاخيرة , والتفت الى سعود :
    - على حبيب الله السلام .
    - السلام عليكم يا شيخ غريق , بكرت بالمجيء اليك . خشيت أن ...
    - كنت انتظرك .
    وتمتم الشيخ تمتمات غامضة , فتقدمت في بطء عدة قنينات مختلفة الألوان والاحجام , اخذ من كل واحدة بعض مما فيها ,وخلطه في قنينة صغيرة , قرب مصلاته التي من جلد الجاموس , ورشه على سعود الذي فغر فاهه , وبعد فترة من الصمت المهيب تمكن سعود من الامساك بتلابيب شجاعته , فقال :
    - اتيت استشيرك في امر يا شيخ غريق .
    - ها , حي يا قيوم . لقد اذنت لك يا سعود , فنفذه ولا تتردد .
    - اتعرف ما الأمر؟!
    حدجه بنظرة صارمة اراد سعود ان يحسم تردده ويواصل فحسمه الشيخ :
    - استيأست من سلوى وقر قرارك على سلمى التي ظلت تنتظرك بشوق ..
    بينما ازدادت دهشة سعود , كانت شفتا الشيخ ترتجفان وقد راح في غيبوبة عميقة , لم يلبث فيها أن انتفض متمتما , كأن ثمة هاتف ألم به . انتفض فجأة والعرق يتصبب منه , وكالآت من رحلة بعيدة قال في صوت بدا كالمكتوم :
    ...........هامش........................
    (1) فروخ : (ج) فرخ , وتطلق على المذكر من الرقيق . المؤنث فرخة . وهو تعبير مجازي قد يطلق المذكر منه على الاناث ايضا .

    - دربك سالك . سأنتظرك هذه الليلة
    ثم أرخى رأسه كأنه يعني أن الزيارة أنتهت , فمضى سعود مستأذنا ..
    ... ... ...
    - لا أظنهم سيسنحون لي بالدخول يا سلمى .
    - انه زار مختلط .
    - ماذا ؟
    - هناك بعض العاقرات اللائي يرمن الحمل .
    - لكن ..
    - ستأتي أم لا ؟
    - حسنا . امري لله ..
    كان الزحام شديدا حول بيت الزار . ولج سعود البيت في صعوبة . المكان كالمولد في زحامه , بالكاد استطاع رؤية"شيخة الزار" , في عرشها الذي توسط بناتها , فأخذ يتفرس الوجوه المتزاحمة بحثا عن سلمى .
    كان بيت الزار صاخبا . اصوات الطبول تعانق الاسقف الواطئة للحي , ثمة رجال مخنثين وآخرون على سيماؤهم ما يوحي بالغموض المزعج . ثمة مخنثون, ومثليون و أفندية يجلسون في بدلاتهم المتأنقة , يبدو انهم مسئولون رسميون , في جلساتهم المترددة المنزوية, التي لم تحسم امر استمرارها بعد .
    نهضت شيخة الزار الى الكرسي . تبعتها بناتها اللائي أخذن يوزعن ما لذ وطاب, على الجالسين والجالسات في الحلقة الدائرية . رجعت الشيخة الى عرشها , المحاصر بالابخرة , ذات الروائح السحرية التي تبعث على خدر لذيذ . ارتفعت اصوات الطبول مرة أخرى , مصحوبة بالغناء الجماعي :
    بشير لولي يا بشير لولي
    اللول اللول اللولية
    بيسحروك يا لولي الحبشية
    اللول اللول تجيب البعيد
    اللول اللول لام الوليد..
    اخذ الجميع يرقصون في ايقاع هستيري , لم يلبث سعود ان لمح في وسطهم سلمى وتقي ود زهرة يخاصرها , فغلى الدم في عروقه , انزلق بين الجموع المتزاحمة في صعوبة , حتى وصلها فانتزعها من بين زراعيه , وهو يجذبها في قسوة وغضب .منسلا بها خلسة :
    - أؤكد لك لم أكن ارغب في الرقص , لكنه جذبني عنوة . انه مهووس , كما ان شيخة الزار رمتني بنظرة محذرة ...
    -
    ... ... ... ( وسع الله في رزقي في بلاد الاقحاح العديدة, فتكسبت مما أحفظ من قرآن . كنت أكسب أموالهم لقاء وعود لا ينخدع لها الغر الساذج , فنلت من خيرهم الكثير , وقررت العودة بعد سنوات طوال , لكنني لم أجد وادي النحاس , فقد اختفى من التاريخ والذاكرة . اختفى كالحلم فاستقر بي المقام في الموضع الذي كانه, في هذا الجزء من البلاد الكبيرة , حيث الناس والاشياء تفوح منهم النكهة القديمة لوادي النحاس , الرائحة المميزة لخطى التاريخ الغابر المتثاقلة, وهي تستعيد قوتها فتحيا من جديد , تمشي في المكان , بين الناس والأشياء , حيث اقيم .. انه وادي النحاس مرة أخرى ..
    نعم هو وادي النحاس يخرج من قلب التاريخ , فلا يتفاجأ أحد بوجوده ..
    بالنسبة لي أنا , لم أتفاجأ بوجود ولي الدين الغريق , لكن أدهشني ما أستطاع تحقيقه !..
    حياة الغربة والدجل والشعوذة التي برعت فيها , والاتجار في السلع غير المشروعة .. حياة الغربة هذه بعيدا عن وادي النحاس الآن ,ووادي النحاس الذي كان , أذهبت عني تهور الصبا ذاك , ولقنتني شيئا من الحكمة , وغذتني بالمزيد من المطامع والرغبات , فتناسيت العداء القديم للغريق / الغريب .. الذليل الذي فوجيء به وادي النحاس ذات يوم بعيد, ملقى على وجهه في شفة الوادي , ممزق الثياب , ناحل الجسم , عليه من آثار النصب والأعياء الكثير .. فاحتضنه الوادي وعده من اهله . اسبغ عليه الوادي عطفه ورحمته , وعلمه كيف يفك الحرف ..
    الآن الغريق الذي لطالما عرفه وادي النحاس, اصبح شخصا مهما في البلاد الكبيرة , ولربما تؤول اليه مقاليد السلطة ذات يوم قلت له :
    - ما توقعت ان يكون لامرك شأن ذات يوم يا غريب !!..
    - يضع الله سره في الغرباء فطوبى لهم ..
    ابتسمت :
    - أريد أن أشاركك أمجادك المرتقبة ..
    رمقني بغضب :
    - ليس لي أمجاد .
    - فكر في الأمر , لدي خبرة تلزمك .
    - حدد مقصدك .
    - "رغباتك" تلك كما تعرف يجب ان تكون مع من هو موثوق , كما انك بحاجة لرجل مثلي يقضي حوائجك السرية, ثم أنني صديقك التاريخي الوحيد , الذي لايرى ولا يسمع ولا يتكلم , أنى لك بمثلي بين هؤلاء الناس, وقد خبرت وادي النحاس من قبل , لا سيرة لهم سوى الشائعات التي يميلون الى تصديقها , وانت تعرف مغبة الشائعات, خاصة ذلك النوع من الشائعات , اذا سربه الخبثاء ..
    رمقني بخبث وهو يدنو مني كقط أليف ..
    خرجت من الغريق الى بيت الزار . هكذا بدأت حكايتي مع سلمى . التي ما أن رأيتها بين جموع النساء والفتيات حتى قلت في نفسي :"هذه هي التي ظللت أرتقب منذ زمن سحيق" ..
    رؤيتها أثارت فيّ أشواقا بعيدة , طال كتمانها , وأشعلت في دواخلي ذاك الحنين الذي ينتابني بين آن وآخر , ويظل أبدا محض حنين .
    انتفض قلبي لهذه الفتاة , لم يكن لي في الأمر يد , فالمشاعر لا تستأذننا عندما تهتاج , انها لا تخضع لارادتنا : هكذا علمتني الحياة والتجربة .. تجربة الرحيل ...

    3 – الموج و الصخر ..

    فضاء :

    لقد ظللت أسير وأسير , حتى بلغت مسجدا عتيقا , مهجورا ,
    دخلت فيه وبقيت هناك وحيدا ,
    أتأمل لساعات منافذ المسجد المفتوحة جميعا والسماء ..
    السماء كلها من حوله , آنئذ أدركت أن الإسلام هو هذا :
    عالم يقوم على تأمل مطلق , وسط بحار من الضوء ...

    الشاعر المكسيكي
    أوكتافيو باث
    (*)
    فشل لابسو جلد الفهد في احتلال الاراضي الجديدة , وفشل الرث باناو في تكرار رحلة أكوي كاكاب , فبدا اهتمامي بالقرية يتزايد أكثر من قبل , لقد ظللت أعتقد أن أرضنا هذه أفضل وأجمل وأنبل من أي أرض أخرى , ربما لإحساسي بالألفة مع الأشياء هنا .. هذه الألفة التي بدأت تكرس لها داخلي منذ سنوات, دراستي في مدرسة الجمعية التبشيرية الأولية ..
    ربما رائحة الهزيمة وطعمها هما السبب .. الهزيمة التي ملأت الحلوق بالغصة, وأزكمت الأنوف برائحتها الكريهة , وأحزنت القرية لسنوات عدة ..
    وربما لتجذر علاقاتي مع الآخرين , خاصة عبد الله المندكور , هذا الرجل الذي رأيته موجودا هنا, منذا تفتح وعيي على الأشياء حولي . كان يتميز على الآخرين من قومه بملامحه الهادئة , التي يفيض منها الصفح والغفران ...
    ... ... ... كان لانجور في طريقه الى بيت عبد الله المندكور , وهو لا يزال يذكر دهشته للمرة الأولى حين رآه , اذ كانت تلك هي المرة الأولى, التي يرى فيها "شماليا - مندكورا" على الاطلاق .
    المندكورات دوما كانوا بالنسبة لأهله مجرد طغاة, تمثلهم حكايات المغتصبين وتجار الرقيق والنخاسة . ارتبطو في الذهن العام لأهله بالمصريين والأتراك والشوام , وسماسرة العهد التركي / المصري ..منذ الطفولة الباكرة وأبوه يحكي عن الزعيم "قوندنق" و"أووكونق" بطولاتهم, وكيف كانا يقاومان العبودية , ويحرقان زرائب تجار الرقيق ..
    أول مرة رأى فيها عبد الله المندكور , خاله مثلهم , فلم يستطع مقاومة عدائه له , كان وقتها قد رآه يدخل عشة والده – الذي حينها لم يكن رثا بعد – ويشرب معه المريسة , ويجاذبه الحديث بلغة قومه , وعندما فرغا من الحديث وخرج المندكور , بعد أن ودع والده , هرول لانجور الى أبوه مسرعا :
    - من يكون هذا يا أبي ؟
    - انه أحد اخوتنا الصالحين .
    - اليس مندكورا ؟!
    - لكنه شخص جيد , عاش الى جوارنا طويلا وزوجته من قومنا , ولم نرى منه سوى الخير .
    - لكنه مندكور ؟!..
    - ليسوا جميعهم سيئون , في قومنا ايضا هناك سيئون ..
    - انت قلت الان انهم اخوتنا , وكنت تحدثنا عن محمد احمد العقاد , كيف ذلك وهم لا يشبهوننا ؟
    - اه لانجور , ايها الطفل الشقي , انك لا تزال تذكر حديثي عن ذلك المصري اللعين . تذكر ان الرجل الابيض الذي نحترمه الآن ,أيضا في قومه يوجد السيئون الذين أتجروا في الرقيق , وقتلوا الناس.. ولا تنس ان دمه في دمنا ودمنا في دمه ,وان رفض قومه الاعتراف بذلك ..
    - هل نحن أهل حقا ؟.
    - نعم يا بني لكننا لا نحب بعضنا مثل الكثيرين من الأهل هنا . يتعجرفون على بعضهم , وربما ينكرون قرابتهم لبعضهم . الا نقول نحن(جن توك نات) . ألم نحاول اغتصاب أرض غيرنا ؟؟..
    أطرق لانجور برأسه الصغير متفكرا لبرهة , ثم أنطلق وصوت باناو يطارده :
    - اذهب ايها الصغير الشقي والعب بعيدا .
    كان لانجور لحظتها يركض مقتفيا أثر المندكور ...
    ... ... ... لا أدري لماذا فعلت ذلك لكنني فعلت .
    كان المندكور يمشي بخطى متمهلة , وهو لا يشعر بخطواتي خلفه , الى ان هتفت به :
    - مندكور ..
    التفت نحوي مبتسما ابتسامة واسعة
    - مندكور ؟! .. أهلا ابن من أنت ؟!..
    - كنت مع ابي قبل قليل ..
    - آه انت اذن ابن صديقي باناو .ما هو اسمك ؟
    - لانجور ..
    - اسم جميل , لاتدع المدرسة تغيره لك .
    - مستر آدم يصر على تغييره , اطلق على اسما , لكنني لا احب ان يدعوني احد به .
    - اذن تعتز بأسماء اسلافك ؟...
    وهكذا صرت والمندكور أصدقاء ..
    منذها أصبحت , اداوم على زيارته.. اذهب الى بيته , ربما لا أجده , فترحب بي زوجته الجميلة هيلدا , التي تسبغ على من احساسها الامومي , ما يكفي لتدفئتي طيلة العام الدراسي .. كان وعيي معهما يتفتح على ما ظللنا نواجهه من عوائق , وفي الآن نفسه بدأت استشعر التفسيرات العديدة ,لحالنا الميئوس منه ..
    عندما كان المندكور لا يكف عن طرح أفكاره الاشتراكية حول توحيدنا , كخطوة ندمج خلالها انفسنا في التنوع الكبير لبلادنا , كنت اشعر ان وراء هذا الرجل قصة كبيرة وغريبة , يخفيها بين جنباته , وظللت اتحين الفرص لدفعه للكلام, عن حكايته التي جاءت به الى هنا بعيدا عن شعبه وارضه , لكنه كان مهجسا بأمر آخر ,بعيد عن ما تحمله طياته من اسرار انسانية صغيرة او كبيرة .. كان مهجسا بكلام افهم بعضه – وقتها – ولا افهم اكثره , كذلك الحديث الذي يحاول باناو احيانا تسريبه الى عقلي , فاشعر بالارهاق والتمزق , لكن كلاهما – المندكور وباناو - , فتحاني بافكارهما على عالم متملص صعب الامساك بتلابيبه , وهكذا مضت بنا الأحاديث, الى التعرف على الجغرافيا والتاريخ في البلاد الكبيرة من اقصاها الى ادناها , ومن بحرهاالاحمر الى نيلها وصحراءها ووديانها في اقصى الغرب, كان دائما يتحدث كما يتحدث ابي , مع فرق واحد : كل يعبر عن ذات الافكار بلغته الخاصة جدا, التي تلائم سني – كما ظنوا, على الرغم من أنني اثر كل لقاء لي بالمندكور , او اثر كل جلسة حميمة مع ابي يتناول فيها حكايا الأسلاف وتاريخهم وامجادهم , كنت أشعر بتمزق مهول يعتري دماغي , تمزق يتمخض عنه وعي مبكر بهذا الكون الصغير . عالمي الذي تحدد بالمندكور وهيلدا والرث باناو ..هذا العالم الذي سيقودني ذات يوم الى معادلة لا نهائية في الحكاية الاسطورية للبلاد الكبيرة ..
    عندما أعود بذاكرتي الى تلك السنوات البعيدة , يقفز الى ذهني ذلك اللقاء الحميم , الذي كان المفصل الحاسم لما اعترى حياتي , كل حياتي من تغيرات ..
    في ذلك اللقاء قال المندكور :
    - سأعرفك على أحد أصدقائي الذين احبهم كثيرا . صبي في مثل سنك يدعى وليم .
    - في مدرستي ؟
    - لا في مدرسة أخرى .ربما تلتقيان في الوسطى .
    قلت أمازحه :
    - هل هو أحد ابناء قومنا الطيبين ..
    فضحك وهو يؤكد :
    - كل من بهذه الارض هم في الاصل طيبون ..
    ... ... ... توقفت اخيرا أمام البيت الصغير الأنيق . طرقت بابه بلطف . وانتظرت الى أن أطل المندكور مرحبا.. جلسنا ثلاثتنا , نتبادل المزاح ,كاسرة صغيرة سعيدة , حياتها مفعمة بالدفء والأمل – اذن هذه ايامك الاخيرة في الأولية ؟
    قال المندكور , وهو يأخذ شطيرة من طبق هيلدا .. قلت :
    - أنا سعيد لأنني سأنتقل الى الوسطى برمبيك .
    - رمبيك ام نيوجنت ؟
    - ايا كان المكان فأنا سعيد بالانتقال في حد ذاته .
    - نعم , نعم : عالم جديد . اصدقاء جدد , حياة جديدة , وما سيصبح ذكريات ذات يوم ..
    نهض المندكور كأنه يتذكر شيئا . دخل غرفته المطلة على الصالة الصغيرة, واخذ يقلب أوراقا كثيرة في حقيبة منزوية تحت احد المناضد الصغيرة . وجد ما يبحث عنه, فانتزع ورقة وقلما واخذ يكتب . وجاء مادا لي ما كتب وهو يقول :
    - انه خطاب لصديقي احمد ابراهيم . سيهتم بك كثيرا . انه صديق قديم .
    - من ايام النضال ؟
    - نعم .
    (بعد سنوات قليلة , علمت ان المندكور واحمد ابراهيم وآخرين : سالم وعامر , كانوا قد كلفوا بقيادة الثورة في جبال النوبة . وتسبب سالم باهماله ولا مبالاته في فشل هذا المشروع , فأصيبو جميعا بالاحباط , وكان – وقتها – عامر قد هرب دون ان يخبرهم , فانقطعت اخباره تماما ..) ..
    أضاف المندكور :
    - ربما يعرفك أحمد ابراهيم ,على صديق آخر اسمه سالم .
    (فيما بعد أكد لي أحمد ابراهيم أنه وسالم, لم يكونا موجودين في جبال النوبة ,عندما داهمت قوات الأمن وكرهم , ولم تجد سوى المندكور..)..
    كان المندكور يتجنب دائما الحديث عن ماضيه , وعندما يدخل الحكي في أحد دروب الماضي , تجده يتحاشاه , فيعرج الى صمت مبهم , غامض , لكن يضج بالعذاب المكبوت ..
    - لماذا يشبه لابسي جلد الفهد في صمته ؟!..
    لم أجد اجابة لهذا السؤال الذي ظل يحيرني لوقت طويل, الى أن عرفت اجابته من واقع تجربتي الخاصة .. عندما تعود بي الذاكرة الى الوراء الى عقود خلت., يرن دائما سؤالي له , ذاك السؤال المتكرر الذي لم يكن سؤالا عابرا ابدا :
    - لماذا اعتزلت الشمال ؟..
    لاحقته بذات السؤال , وقد انتابني احساس خفي انه آخيرا قرر الخروج عن صمته ..
    - لم اعتزله انه يحيا فيّ. الشمال مثل الجنوب , مثل الشرق والغرب والوسط , موجود في كل مكان . انتم هنا الشمال , ومع ذلك ربما ازوره ذات يوم , لكن ساعود الى هنا مرة اخرى , فهنا ايضا اهلي . هذه ارضي , انتمي لكل شبر فيها ..
    ... ... ... كان لانجور بسؤاله المتكرر- دون ان يدري - يفجر براكينا ظلت خامدة لسنوات طويلة . كان يفتح جرحا قديما , غائرا فشل الزمن في دمله , وظل المندكور يتعايش معه..
    ألقى عبد الله برأسه على مسند الكرسي , وهو يحدق في السقف الخشبي الذي ارتسمت عليه آثار خرائط صنعها ماء المطر , والرطوبة ..تنهد بعمق . كان شعوره كله يهتاج, ويتجمع في لحظة واحدة , لحظة معينة , وكالداخل الى بوح هذه اللحظة ليخرجها قسرا, اتى صوته العميق منهدا كأطلال "تورو" . كان كأنه يتحدث الى نفسه بين الحلم والوسن : ( لقد كنت مجرد تاجر . اكملت دراستي في وادي سيدنا واخترت حياتي كتاجر , فقادتني التجارة الى شحن الخشب الى الشمال , وتوريد السكر الى الجنوب .
    ربما دون ان اعي امتلكت حسا خفيا بان التجارة مدخلي, الى عالم اكثر عمقا من مجرد البيع والشراء . هكذا بدأت علاقتي بالجنوب . هذا الحنين الخاص , القوي الذي لم أتمكن من مقاومته .. هذا الحنين الذي فتحني على نوع خاص من المهام كلفت بأدائها هنا , مهام تنتمي لجيلنا الذي انتمينا اليه, الجيل الذي تمخضت ,عنه أصداء حركات التحرر في العالم الثالث , وهي تجتاح كل العالم بانتصاراتها المدوية ..
    وربما كان ذاك الحس الخفي , هو ما انطوى عليه ذلك الطيف, الذي سيطر على كياني منذ الطفولة , طيف شقيقتي التؤام التي اختطفت امام عيني من قبل (الجمّالة) (1) ..حينها كنا بعد لم نتخطى السادسة من العمر , كان الوقت عصرا , وكنا نلعب في الشارع أمام الدار , عندما رأينا أحدهم على ظهر ناقته . كانت رؤية الجمل لمن هم في مثل سننا, تعطي لهونا ومرحنا مذاقا خاصا , فبفضول طفولي لا يخلو من الدهشة كنا نسير خلف الجمل, ونحن نضع كفوفنا على أثر خفه على التراب(2) . ننبشه .. سرنا طويلا ولم ننتبه لابتعادنا عن الدار , الا عندما توقف الجمالي وكر عائدا الينا , فتقهقرنا . اناخ ناقته , وحاول الاقتراب منا فركضنا مبتعدين , فركض خلفنا , لحق بشقيقتي وظللت انا اركض دون ان اتوقف . وعندما توقفت رايته بعيدا وشقيتي معه, على ظهر الناقة التي أخذت تخب في السير , لم ادر لحظتها ماذا افعل , فاخذت ابكي الى ان توقف احد المارة , فاخبرته .. وهكذا ظلت اسرتي ,وكل اهل الحي يبحثون عن اختي . قلبوا اعالي المدينة اسافلها , ولم يجدي بحثهم شيئا . كنا قد فقدنا اختي الى الابد . لا تدري كم هو مؤلم اختطاف تؤامك امام عينيك . ظل طيفها يلاحقني باستمرار , وكأن الزمن قد توقف عند تلك اللحظة , وهي على ظهر الناقة في سيرها المتعجل . هكذا ظللت اراها باستمرار . تكبر معي يوما بيوم . صارت رؤيا تهاجمني باستمرار . لا ادري اهي حلم ام واقع : اراها تشير لي دائما باتجاه الجنوب , ولا ادري لماذا ...
    (*)
    - بلاد الله واسعة .
    رمى عبد الله بهذه العبارة في وجه أمه , دون ان يخبرها بما حدث معه في وادي النحاس , حيث أختبأ مع سالم . خشي ان تتهمه بالجنون ,كما فعل عامر وسالم واحمد ابراهيم , فحرص على اخفاء الامر عنها . حاولت ثنيه عن عزمه :
    - بنى ابوك كل تجارته هنا ولم يسافر الى الجنوب ابدا .
    - اشعر بانني ساحقق نجاحا كبيرا هناك . لا فائدة فقد حسمت امري .
    - كان يدرك انه يقسو عليها , لكن كان ما يشده اقوى منه . انصرفت والدته حزينة وقلبه معها يملأ فضاءات السفر ...
    (*)
    كان نومه ليلة البارحة موتورا , وشخير سالم قربه يتعالى , ليملأ فضاءات المكان العاري , دهمته صحوة مفاجئة قرب الفجر , ثمة قوة مجهولة تجذبه , تحيطه بمجال من الدفء . انتبه ليجد نفسه واقفا أمام البحر , خلف شجرة يتيمة لم ير مثلها من قبل . كانت أفرعها أشبه بالشعب المرجانية . أحس بالرهبة , فحاول الامتلاء بقدر كاف من الشجاعة , ليقاوم رهبة المكان , ويجذب قدميه الملتصقتين برمل الساحل ....
    فجأة دوت صرخة مبهمة , التفت خلفه في ذعر, وهو يحاول تحديد اتجاهها , كانت تؤامه (درية) , لكن .. بملامح شفافة وجسم هلام , وقد بدا سريان الدم في عروقها واضحا ..
    تداخلت صورتها مع انطباعات ذاكرته .. كانت تصرخ بكلمات مبهمة , وأهالي قرية سالم , كأنهم انبثقوا من باطن الارض , كنافورة ملتفة حول الشجرة الغريبة .. كانوا فقط يحدقون , دون فعل أو رد فعل , وكان هو كالمشلول , ازاء الدم الذي يسيل من جسم الطفلة التي أخذت تشير بأصابعها إشارات غامضة .. تجاه الجنوب .. حاول عبد الله ان يتقدم . نجح في تقريب المسافة خطوتين . لم يستطع بعدها تحريك قدميه المزروعتين في رمل الشاطيء ..
    ............هامش.................
    (1) راكبي الجمال .
    (2) يظن الأطفال في النيل الأبيض – وقتها - بوضعهم كفوفهم على اثر الخف أنهم سيجدون نقودا ؟!.

    لم تتحمل شجرة الشعب المرجانية جسم الطفلة الهلام , فانزلقت بيت أغصانها وثمارها . وقعت على الرمل الرطب وتسايل منها الدم أكثر غزارة , فأخذت تصرخ ..
    تعالى صراخها , وظلت تدير اصبعها باصرار نحو الجنوب تارة , ونحوه تارة أخرى . نهضت الطفلة . فر اهل القرية جميعا , كأنهم يفيقون مخلوعين , . كانوا قد اختفوا , وهو بعد مزروعا في المكان لا يقوى على الحركة , متنازع الاحساس بين الفرار , والاقتراب منها . اتجهت نحوه بقدميها الصغيرتين , اللتين لم تكونا تخطان اثرا على الرمل الرطب . احس مع اقترابها منه بقوة خارقة تدفعه للركض . ركضت الطفلة خلفه . عندما التفت نحوها بعد ان قطع مسافة – ظنها طويلة – لم يرى الطفلة . كانت من تركض خلفه فتاة ناضجة .. ركض طويلا , ابتعد كثيرا . الى ان تبدى له فجاة في قلب القرية بيت غريب لم يره من قبل , تنتصب امامه ذات تلك الشجرة الغريبة, التي تركها خلفه عند شاطيء النهر .. بيت من الشعب المرجانية فاغرا درفتي بابه . ولجه بسرعة وهو يغلقه خلفه باحكام الخائف , ملقيا بجسده المرتعش على الباب .
    انتبه الى ان ساحة البيت كانت مليئة بالسلاح الاتوماتيكي الخفيف , والثقيل . بل تكاد تكون مكتظة بالاسلحة , كأنها ترسانة صغيرة .
    لفتت نظره مطبعة خشبية بدائية , ورزم كبيرة من ورق الاي فور ( (canonرد بصره عن ساحة البيت , ونظر من ثقب الباب , كانت الفتاة تقف برجاء وهي ترمق الباب في اسى , كانها تعلن خيبتها .
    احساس غامض بالتواصل معها ينشا داخله , واحساس اخر نقيض يكبل فيه كل محاولة للاستجابة . ارتدت الفتاة راجعة , وهي تهتز . توقفت في منتصف الطريق المفضي الى خارج القرية , وهي تشير ذات اشارات الطفلة المبهمة . كانت تدرك انه يتابعها من ثقب الباب .
    لم تلبث ان تلاشت فجأة كما ظهرت فجأة , مخلفة ورائها امتلاء الهواء والمكان برائحة الشعب المرجانية , حيث لاشيء سواها ..
    الم به صداع عنيف . وجسمه شيئا فشيئا يكتسي برطوبة العرق . مضى الوقت بطيئا, قبل ان يخرج متسربلا بفشله في استيعاب ما حدث ..
    خرج يبحث عن الطفلة / الفتاة .. تمور داخله افكار مختلطة . تصطرع كالحرق في اتون البركان . لتملأه بالمشاعر والاحاسيس الغامضة, والمتناقضة في الوقت نفسه ..
    عاد الى ذات النقطة التي كان يقف فيها على الساحل , دون ان تهدأ خواطره, أو تجد تفسيرا يهدئها , ظل في وقفته متصلبا الى ان انبلج الفجر , فركع على قدميه, ورمى راسه بين ركبتيه ولم يعد يعي شيئا ...
    (*)
    أنكر أهل القرية جميعهم رؤية الفتاة , ولم يصدقوا حكاية عبدالله , وأكدوا لسالم :
    - صاحبك قد جن .
    واعتقد سالم أن ما حدث لهم في جبال النوبة, قد اصابه بمس من الجنون , فهما بالتحديد دون رفاقهم الاخرين, قد نجيا من الموت المحقق بأعجوبة , بعد أن حاصرتهما قوات الأمن ..
    كانت عيون الجميع تختلس نظرات ,هي مزيج من الاسى والشك والريبة , اذ ان بعضهم كان قد شاهد في احلامه – أو كوابيسه - بيتا كالذي وصفه عبد الله , الا انه ا لم يجرؤ على التصريح , فظل حلمه او كابوسه, نوعا من الاسرار غير الموثوق بها.. ولذات هذه الاسباب ,لم يخبر عبد الله امه ابدا بحقيقة ما حدث له في قرية سالم ..
    رفعت هيلدا اطباق الشطائر , وكؤوس الحليب الفارغة من امامهما . كان لا نجور لايزال في ذات جلسته, التي لم يغيرها ابدا كانه ابو الهول . تنهد عبدالله المندكور بعمق , وهو يتلمس احساسه وزوايا مشاعره, التي يؤرقها ترقب مستفيض , يوحيه المجهول .. المجهول القديم / الجديد ...
    الطفلة الشفقية, التي انثالت من شجرة الشعب, لا تزال ماثلة في ذاكرته , تحرك هذه الذاكرة المعطوبة كيف شاءت .. الطفلة والمحطات النائية والقيلولات المفاجئة, ونبض من الاشواق التي يلفها الصمت ويحويها الأمل .. يطل عليه وجه درية , تؤامه الذي ينبثق من المجهول والى المجهول يمضي ....
    (*)
    بقايا من البيرة والصودا على المنضدة , رماد سجائر و أعقاب كثيرة , متناثرة على الأرضية المغطاة بالسجاد العجمي . منفضة عاجية تبدو ملامحها فارغة, الا من خيوط العنكبوت . منضدة ابنوسية انيقة تراصت عليها كؤوس فارغة, واخرى نصف ممتلئة .
    أوراق من شجرة المانجو المعمرة حملها الهواء خلسة, فتساقطت على السجاد الفاخر . شجرة المانجو المتكئة على النافذة , لا تمهل الريح أوراقها , ففي كل فصل تخوض معركتها , فتتجدد اسطورة الاله الات من افريقيا جنوب الصحراء , عند الشروق في يوم مشمس , غائظ بالمغامرة , بعد عراك مستميت مع البحر والغابة , في طريقه للخروج من الامبراطورية, التي لا تغيب عنها الشمس ..
    ضوء الفجر يطل متمددا من بعيد .. متسللا خلال الاغصان الجرداء, الا قليلا لشجرة المانجو المتشابكة , ثم متكورا على النافذة ,وهو يتمطى على الغرفة , مشيعا فيها شيئا من روحه الصباحية النزقة..
    الغرفة كما هي منذ عام , لم يتغير شيء : غزال محنط على الجدار , تبدو عليه علائم الموت حديثا , ينتصب قربه تمثال لغردون باشا في رحلته الثالثة , نظرات الغزال باردة , مشنوقة , لكنها عاشقة رغم كل شيء .. ترى أيحن لهذه الغابات المتفحمة., وأكوام الجماجم والعظام ؟..
    احتوت الغرفة التابوتية عبد الله تماما . أثارت فيه ملامحها السحرية أشواق سوزان المتمددة جواره بعد أن يئس تماما من ابعادها عنه , كأنها بملامحها الذائبة في حضن المدى البعيد , تحاول اشعال شهوته التي يدخرها لوقت ما " لايزال عبد الله يقاوم الموت على طريقته" .. وسوزان تستمر في ملاحقته بعريها في كل مكان , لا تنام الا وقد قتلها اليأس . كان يقسو على نفسه بشدة, حين يلامس جسمه جسد سوزان العاري . محتملا عبء الكبح ..
    دوامة من الاحلام السريالية التي لا منتهى لها , تتمدد بداخله , مختلطة بحلم العودة, لرؤى قد لا تستقبله . دائرة من عشق مرفوض . تتشنج انامل سوزان , فتنغرس اظافرها في لحمه , وانفها يلعق صدره بجنون .., والمدى الذي بينهما تتسع فيه ذكريات البحث عن درية , بكل القلق الأزلي للبحث المحموم , والهروب المسكون بالتوتر والاحساس باللاجدوى .
    كان البحث عن نقيض النقيض : هناء , حيث الادغال تفتقد اتجاه البوصلة , لم تكن أزمة مكان فحسب ...
    أصوات اللغات المختلطة تزكم خلاياه بالغموض والبعد . يحس فيها اليومي المعاش , وتفاصيله المقيتة المهلكة .. أصوات مشربة بالاغتراب والغربة والتغرب , لا ترجع سوى صدى الاغنيات القديمة والبعيدة .. اغنيات الحنين الجارف , والحرب التي تعلو سقوف البيوت الواطئة , وتطأ الناس العزاز .. بعيدا عن العمارات التي سمقت دون مرؤة ..
    خواطر البارحة – الآن – لم يزول عنها تأثير النيكوتين بعد , والتعبيرات هي ذاتها , لا تزال مشبعة برائحة الخمر وتعتعته . انه الواقع , يفرز مخلفاته على الناس والاشياء والمكان والزمن : الواقع ...
    النيل وبحر الهواء والغابات الجافة ,التي تحيط برسغ المدن . التهيؤات جميعها تشير الى انفجار ما , لا يبقي ولا يذر ..
    قالت سوزان :
    - من انت يا عبد الله ؟
    - ... ... ...
    - الحزن الذي لا يفارق عينيك ..
    - لا شيء سوى درية
    - احبك .؟
    - لا اكرهك . لماذا لك إسمين ؟
    - سوزان هو اسمي الذي منحني له العالم المتحضر ..
    - وهيلدا .
    - انه اسم ينتمي لجذوري هنا , مالوف في ثقافة قومي المحلية .
    - هيلدا مألوف ؟انه اسم اوروبي! .
    - وماذا في ذلك؟
    - طالما انت مغرمة بجذورك فلتتخذي اسما ينتمي حقا لهذه الجذور.
    - لا تغير الموضوع .
    - اي موضوع ؟
    - حقيقة حبنا ..
    - حبنا ؟
    - سأنتصر عليك في النهاية , مهما طال جفاءك ورغم كل هذا الغموض, الذي تغلفه بصمتك .
    الملامح هنا . في جوبا عاطلة عن الفرح , خلية نحل مر بها التتار , ولم يمر بها سليمان الحكيم , فلم تتكرر حدوتة النملة , وبقى الهدهد شعارا رسميا لثقافة تحتفي بالجواسيس ..
    النمل الذي يسكن الخلايا و الانسجة , يمارس بياته اليومي . ثمة نكهة خاصة لحياة متضادة , تتجذر في الوجدان , اجاد انكل سام اثارتها , وثمة حزن مقيم .. جاء صوت سوزان من البعيد عميقا ,لا يخلو من اللوعة والاسى :
    - عبد الله .. عبد الله ...
    - كم احبك .. كم احبك ..
    لكنه كان لا يسمع , سوى زرقة الغصة التي في الحلق والتي لا تفتأ تخزه ..
    سوزان هذه الانثى الخلاسية الجميلة , تحبك انت المختلف , القادم من الشمال على صهوات السفر . اتيت لتركب معها الثور الذي يحمل الكرة الارضية على عاتقه – لطالما امسكت بالبقرة من قرونها , وظل الاخرون يحلبونها , ولم تحصد سوى قبض الريح , ونطح البقرة - .. تتحد فيك سوزان . تتحدان على ظهر الثور , تموتان وقوفا كفرسان "التبوسة" ..
    هذه الانثى الخلاسية هجين المورلي وأنكل سام . هذه الانثى القادمة مع افواج الاغاثات والمنظمات الطوعية , تحبك أنت ؟!..
    صعد ببصره جسد سوزان المسجي قربه وتنهد . تسلل ببصره النافذة المغطاة باغصان المانجو , محاولا احتواء ملامح جوبا من النافذة . كانت تبدو كنقش في القلب كدرية . اختلجت خواطره وهي تصطدم بسقف السماء . قال مخاطبا سوزان :
    - يبدو أنها تشعر بالغثيان .
    - عبدالله .
    - الحب مثل البطولة , اكذوبة محض .
    - اخيرا .
    - ... ... ...
    - هل تهت في خواطرك النهمة مرة اخرى ؟
    - لم اته بعد ..
    المدن المتورمة تأخذ خواطر عبد الله بأحلامها السرابية , الضبابية .
    - كم احبك عبدالله ..
    أزاح شفتيها المثقلتين بالشظى ..
    - لا زلت محملا باشواق سنين عجاف .
    - لماذا تبعدني كلما اقتربت .
    - سأرحل يا سوزان ..
    سارحل . لا تزال درية بعيدة عني . بعيدة بعد مدن البهار والمن والسلوى . بعد مدائن الحنطة , التي هبطت بنا الى الارض .. رمى بنظره خلل اغصان المانجو , المتكئة على النافذة المشرعة ..
    بنايات عالية تطل بين السحب المتكاثفة , عبر قطار يقطع السكك الحديدية دون توقف , وحين يخرج القطار عن مساره في 1956 , يغني الناس سفر الغربة . السكك الحديدية تجرفها السيول والفيضانات ومياه الامطار الغزيرة تقتلع البيوت من جذورها , ليفترش الجميع العراء : وطن بكامله في العراء .. حتى ما تبقى من اسلاك التلغراف التي قطعها الانصار, لم ترحمها السيول , وظلت الهجانة هجانة . حصاد لضباب مستوحش , يشرع النوافذ لحروب الرؤى .. لتتسع دائرة الفراغ ..
    وسوزان , تعرجات لسحب رملية ملأى بالهجير . تختفي ملامحها الغائرة بين تلافيف الافق الشفقي , المشقق بأخاديد الدم ..تؤدي الصلاة الاخيرة , منذرة نفسها لاول قادم من الكواكب المجهولة, التي لم يسمع بها احد .. لتذوب الحدود بين الامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس, فلا تشمل الغابات والمنافي فحسب , بل أكوان اخرى غامضة , مليئة بالفضائيين العجيبين ..
    المسيح لا يأتي وود النمير لا يزال يقطع بسيفه سواعد العربان ليعطيها للحكامات , كي يضربن بها على الدلوكة – الدنيا جحر ضب خرب – والجلابة جلابة (1) لاشين ولا دشن ..
    صدر سوزان على كتفه ورائحة البهار الافريقي والبخور تهمس في العرق ...
    - جدتي كانت زوجة بيكر , لكن عشيقته فتاة الزاندي خطفت امي, كي لا يتمكن من اقامة حكومة منظمة في خط الاستواء , وتزوج السلطان امي قسرا , مثلما فعل اسلافه مع اسلافي في جن . ولم يعثر بيكر على امي من جدتي , ولا حتى في كتب التاريخ , اضناه البحث فرحل . كانت امي تحكي عن لطف بيكر – والدها – كثيرا . الم يكن مهذبا اكثر من الدفتردار , والم تكونوا قساة بخطفكم لها ؟.

    ............هامش......................
    (1) الجلابة : تطلق على تجار الرقيق (الذين يجلبون الرقيق).



    انتم قساة بطبعكم . ومع ذلك انا اتالم الان لمقتل اجدادك في ام دبيكرات . لكن كان لا مناص من موتهم . كانت هزيمتهم ..
    قاطعها :
    - اسمعي جيدا . اجدادي لم يهزموا . هزيمتهم هي نحن ..
    - انتم تقولون النار تلد الرماد .
    - ولذلك لم يتغير وجه التاريخ منذ 1956, توقفنا لحظة قتل غردون, ولم نبارح تلك اللحظة حتى الان ..
    سوزان حروف منسوجة من الجوع والتوتر ..
    يحلم عبد الله ..لا شيء سوى الحلم ,بعد البحث المضن لإكمال مشوار لا نهاية له . لابد له من الإنعتاق من أسر سوزان .. ربما يتمخض مزيد من البحث عن بارقة أمل . عله يجد درية مرة أخرى , ربما تنزلق من شجرة الشعب المرجانية , بجسمها الهلام , وتطارده أو يطاردها متخطيا حدود القرية , الى أقصى تفاصيل المكان, الذي يحمله داخله , كدرب "الجلجلة "..
    - جدتي في طفولتها ...
    - لا تهمني حكايات جدتك .
    - الا تصدق ان جذوري هنا , الا تصدقني ؟!..
    - لا يوجد لدي دافع لتكذيبك .
    - اذن لماذا هذه النظرات الغامضة ؟
    وتنقل راحة يدها الى وجهه , تديره اليها . ينظر الى عينيها عميقتي الأسى واللوعة . هذا المحيط الأزرق الى درجة الاحبرار , لو تقاسمها البحر لتكحلت كل حورياته الحزينات , ولتلبدت سماء المدينة بمزيد من أغنيات الشجن الهاربة , الى عينيها الهاربتين من ماض غامض , الى راهن مستوحش . سابح في الفراغ والخواء ..
    رؤية غامضة مليئة بالأسرار والإنعتاق تدهمه . يبعدها , وصدى صرير السلاح الابيض – كفتح الأبواب القديمة – في اصطدامه بالرصاص يعانق رنين خلاخيلها , وحكة خاتمها الماسي., في القلادة الافريقية السوداء., التي تزين معصمه ..
    عندما اقيل والدي من وزارته المحلية, التي تمخضت عن أديس أبابا , هاجر بنا . في الحقيقة هرب من الحرب مثل كثير من السلاطين . لكنني تركته . تركتهم جميعا في مدينة الضباب وعدت . عدت الى هنا تطاردني لعنة الاموال التي سرقها وهاجر ..
    - لماذا عدت ؟
    - لانني انتمي الى هنا .
    - هل تظنين انه بمجيئك مع منظمة انسانية, ستنقذين هؤلاء القوم ؟
    - سأفعل ما بوسعي لاطعمهم, واداوي امراضهم .
    ضحك حتى أنكفى ..
    - ما المضحك ؟ من انت بحق الشيطان ؟ ..
    - اضحك لانني ادرك قوانين اللعبة . هذه اللعبة كبيرة جدا . اكبر مما تتصوري .
    رائحة العرق المبهر بمزيلات العرق , والعطور الهادئة , الطالعة بهمس من كل ذرة في كيانها . هذه الرائحة تثير جنوني , المسجون في قمقم ..
    - كم أحبك عبد الله .
    - في المرة الأولى التي رأيتك فيها , اعتقدتك من الآفروأمريكان . ملامحك , وطريقتك في الكلام مثلهم .. لماذا لم تخاطبيني بعربية جوبا عندما التقينا للمرة الأولى ؟!..
    - لا أدري انه امر فعلته هكذا بعفوية .
    أدنت وجهها . شوق مسحوق الخاطر . صبت ردتها على المسيح , والمساحة الواسعة من الصبار ترتعش ..
    - قال سالم ذات مرة : ربما تكون "دريتك " هذه جنية ..
    انسكبت سوزان , فأصر :
    - لابد أن أرحل ..
    (*)
    هدير محركات الباخرة يمزج في نفس عبد الله., مسافات السفر الذي قطعه كأنه راجلا على قدميه , ومعالم الطريق الطويل لا تزال عالقة بخاطره .. نعم هكذا تمتزج لحظات اللقاء بهاجس الترقب والانتظار ...
    تتكسر الأمواج بجسم الباخرة الهرمة , تعانق صدره كل الاشواق الممزوجة .,في الحنين الجارف للمجهول ..
    النيل يمتد أمامه , كحلمه بدرية . سماوي كدمها , مخلوطا بالبهار ورائحة ألف ليلة وليلة ..
    الباخرة نيمولي تشق عباب النيل الأبيض بجرأة وحذر متناهيين (سأبحث عنك يا درية حتى الموت , ربما التقيك وبكل براءة الطفولة ومحبتها ,ترسمين على رمل الساحل أمام تلك الشجرة المرجانية الغريبة كلمة واحدة :
    - آخيرا .
    - آخيرا ..
    تتبدين تؤامي ,لا تلك المخفية بين أجداث الذاكرة , بل كل شيء حتى الذكريات المشتركة . ترى بأي شكل ستنداحين عن موج البحر ؟ انلتقي هنا في جوبا ؟ ننتظر هدؤ الجو الذي أثاره غبار المعارك الاستوائية ,التي مضت والتي ستولد واحدة تلو الاخرى .. اننتظر هدؤ تمرداتنا على أقدارنا المرصودة كالسحر , ونمضي لنشوي عيش الريف والبفرة , واذا اتى جمالي نوقعه من على جمله ونقتله . نعم نسفك دمه كما يسفك الدم , الدم لعنتنا ..) ... تميل الباخرة ميلا حادا , إثر موجة عنيفة , فيتشبث عبد الله بالسياج . عيناه المتشوقتان لرؤية درية , تحتضنان الافق الملبد بالغيوم . ترتسم على شفتيه إبتسامة واهنة , وهن الأمنيات المدفونة برحم الغيب .
    يقذف الى البحر بثلاث حصوات , من وسط البحر تطلع درية : حورية صغيرة , بريئة تأخذه معها الى عالمها البهيج , يقطعان معا الدرب الضيق بين الشعب . تربط في عنقه تعويذة قهر المخاطر , فيمضي مندفعا الى بلاد الجن . يجلب الدهان السحري , الذي يحيل نصفها السمكي الى آدمي ..
    وتجلس في باحة الدار , تتثنى وهي تشذب أغصان الريحان البري . تنغرس شوكة رفيعة في أنملها , فيبدو على وجهها السحري الألم . فيضع قدمها على حجره ليخلع الشوكة , التي يشعر بها كغصة في حلقه ..
    ثمة أحلام وتصورات , تأتي في كل لحظة طلق متعسرة , كطارق ليل يمزق بكارة الصمت والهدؤ ..
    - ماذا كان سالم يعني ؟..
    هل فعلا به مس ؟. يلفت نظره طائر بحري في بقعة نائية عن الباخرة . يغوص الطائر في أعماق المياه الشفافة , مشعلا في دواخله مشاعرا متداخلة . كل منها مقاطع من غيوم حبلى بالوعد والوعيد .. يغوص الطائر البحري في الأعماق السحيقة . يستحيل الى قطعة أثيرية , تأخذ شكل الثلج , فيتحول هو خلف السياج الى كتلة من التوتر , ويبعد عن السياج . هوة سحيقة تتسع بينه وبين مدن شمال البلاد الكبيرة .
    نيمولي وسط البحر . لا زمان . لا مكان . لا إتجاه .وهو يستند على السياج مرة أخرى , ممعنا النظر الى البحر . تقع عينيه على فتاة جميلة على مبعدة منه , فيرد بصره عن البحر, اليها .كانت حادة الانف , ذات بشرة مشربة بلون القمح . حركت فيه ملامحها انطباعا قويا , تسآل : لماذا لم تختر الطائرة للسفر ؟.. لاحظ انها تتابعه بنظراتها الآسرة . تأملها . كان وجهها مشبعا بالسحر . التفت الى البحر , وهو يحس باختلاساتها للنظر . شعر بها تقترب منه على نحو مفاجيء لم يتوقعه .قالت في انجليزية أفريقية :
    - هل تتكلم الانجليزية ؟
    - بعض الشيء. ما يكفي .
    وهكذا تعرف الى سوزان ..
    سوزان المشبعة بحداء البحر ورائحته ,وعواء الليل واشجانه . حدثها عن البلاد الكبيرة وأهلها وناسها الذين لا ينامون الليل , وهم معتكفون لأسابيع طويلة , لا قوت لهم سوى القرض وجرعة ماء يتيمة... حدثها عن "النوبة " والدراويش , والذكر الذي يقض مضاجع الليل ذاته . حدثها عن كل شيء, الا قرية سالم والطفلة – طيف درية , وسكت عن الكلام المباح..
    وحدثته عن لندن والضباب وثلج الشتاء , ودرجة البرودة في برمودا وجرينتش, برلين , هاييتي , روما , أثينا , باريس , حدثته عن نيويورك وميدان التايمز.. ولم تكف عن الحكي عن البلدان التي زارتها , والأخرى التي تحلم برؤيتها .. وكانت المسافة بينهما تتسع , بالقدر ذاته الذي تضيق فيه.
    - أشعر بالأمان هنا أكثر منك ..
    - لذلك نحن غرباء في بلادنا والأجانب مواطنون . هذه بلاد لا تحب اهلها , فقط تحترم الغريب ,وتعطيه ما تفشل في تقديمه لابناءها ..
    - انتم مسكونون بخوف ابدي ..
    كان وجهها ينطق بابتسامة ساخرة , انغرست في داخله كنصل حاد .
    - نصف قومك من المهاجرين , والمنفيين , والمغتربين .. من تبقى هنا ليبني هذه البلاد؟؟..
    - لا أحد سوى المغلوبين على أمرهم والحكومة والأحزاب والمشردين , والمساجين و المحاربين, والاجانب الذين تكتظ بهم البلاد الكبيرة .. هذه هي قصة البلاد الكبيرة باختصار..أخبريني لماذا انت هنا ؟
    - أنا موظفة في منظمة إغاثية تهتم بالطفولة والامومة ..
    تشعبت بهما الاحاديث , فاختلفا أكثر مما اتفقا ..وضحكا – رغم كل شيء – وهما يقطعان سطح الباخرة الى الاتجاه المعاكس . استندت على السياج . وقفت قبالته . احتوته نظراتها بعمق . كانا دافئين – رغم كل شيء - ..
    اهتزت الباخرة إثر موجة عنيفة , أمسك بها من كتفيها يحميها من السقوط . هدأت الباخرة قليلا , ولفهما صمت ينطوي على انفعالات جياشة , لفحت وجهه بتنهدات دافئة :
    - وانت لماذا في طريقك الى الجنوب ؟
    رد ببساطة :
    - لا أدري , ربما اطارد طيفا ..
    - طيفا ؟!..
    وحكى لها عن درية تؤامه , والشجرة في قرية سالم .. كانت قد فجرت فيه كل الهواجس, والظنون المكتومة ..
    - لا أصدق حرفا واحدا مما قلت .
    انتفخ وجهه من الغضب ..
    - لم أحكي لك لتصدقيني او تكذبيني . لقد سألتني فجاوبتك .
    شعرت بالحرج ..
    - أنا آسفة . لا تهتم أنا ايضا يقولون عني :"غريبة الاطوار" ..
    شعر بها كأنها تعزيه , فهدأ قليلا , وقال ضاحكا :
    - انت بالفعل غريبة الأطوار ..
    على نحو مباغت تناولت راحة يده وأخذت تعبث بها , وهي تنظر الى البحر , متشاغلة بحركة الأمواج وهي تصطدم بجسم الباخرة الضخم ..
    اعطى وجهه هو الآخر الى البحر .
    شحنات مرتعشة . خطوط ضخمة , تنسحب على الأفق البرتقالي , الذي يشده قوس من الألوان , يلفهما بالصفح والغفران .
    كالذي يصلي في محراب , سلط بصره بخشوع على البحر . والافق يمتد أمامه , ينحني هابطا بتقوس حاد , حيث تلتقي أشواق الأرض بحنان السماء . ومن نقطة مماثلة للتي ابتلعت الطائر البحري . يخرج طائر آخر يشق بجناحيه المياه الشفافة . يرفرف . يحلق شاقا عباب البحر , وغشاء الهواء في اندفاعة حادة , يستحيل بعدها شيئا فشيئا الى نقطة ضئيلة , تختفي خلف الأفق الممتد , تاركا خلفه خيط شفاف , تمسك درية بطرفه ...
    (*)
    تدثرت الشمس شيئا فشيئا بالغياب , وبدت أنوار الباخرة الساقطة على صفحة الماء , كحلم رومانسي عذب , في لوحة رومانتيكية , لا تخلو من هدهدة الطفولة والخضرة . لكنها موسومة بالحزن .
    يتسلل ضوء القمر شيئا فشيئا , كوات قمرات الباخرة . ومع ايغال الليل يكمل خطوط اللوحة .. خرج عبد الله من قمرته , حدثته نفسه أنه سيلتقي سوزان على السطح ..
    (*)
    كانت جالسة على أحد المقاعد المتناثرة . سحب مقعدا وما أن جلس حتى شرعت بتلقائية شديدة في حديث حالم , وهي تضحك في عذوبة . نهضت فتبعها .. استندا على السياج , وصمت حميم يلفهما في غلالته الليلية , إلا من أضواء الباخرة المتموجة على سطح البحر .. تأخذهما التموجات الى عالم رشح صوفي هاديء . تدفع عبد الله للمزيد من مقاومة شعوره نحوها .. هذا الشعور الذي تستثيره ويؤازرها فيه الليل والهدوء والأمواج, التي يتموج عليها النور ..
    (*)
    ضوضاء الميناء وأشواق المسافرين , تختلط بآحزان آخرين , يبحثون عن الحقيقة في المجهول ..
    هذه النقطة من الساحل ,كخلية نحل تضج بالمودعين والمسافرين والقادمين, والآتين لاستقبال أوطانهم , وفي داخل كل منهم وطن مختلف – دون أن يدري - عن الذي سيلتقيه ..
    على طول شريط الساحل , الذي كأفعى تتتسحب على الرمل , يتبدى بائعي المانجو والباباي والدليب , يعرضون بضاعتهم ولا أحد يشتري . ضوضاء الميناء تشتد عند ملامسة مرساة السفينة للساحل . يتراكم المسافرون على منفذ الباخرة , استعدادا للنزول .. أمسكت سوزان بكتفه وهي تقول :
    - يجب أن تمضي معي, ريثما تتعرف على المكان , فأنت غريب هنا ..
    - لكن ؟..
    - ستكون آمنا أكثر وأنت معنا في سكن المنظمة . ألم نصبح أصدقاء بعد ؟..
    ولم يدر كيف يجيب , فقد حاصرته بإلحاحها .....
    (*)
    القادم الى جوبا للمرة الأولى لابد أن يهيء نفسه لصدامات الحرب, في المدن الشقيقة , وجو عامر برائحة البارود . جوبا المدينة المتنازعة بين جيش الحكومة وقوات الرمح المقدس , ومع ذلك تستمر الحياة دونما توقف , رغم كل شيء . الوافدون من الشمال يتجشأون الموت هنا , والقاطنون مترعون به , وليس ثمة مسيح يصلب لاجل أحد على ابواب المدينة ..
    ليس ثمة مسيح يكفر عن أخطاء التاريخ , والكل يهوذا !!..
    قد تفاجئك جوبا بدوي القنابل , وزخات الرصاص ربما تسقط على مقربة منك ..
    (*)
    توقفا أمام بيت المنظمة . هدأت سوزان بأناملها الرقيقة الكلاب الشرسة الثلاثة , التي أخذت تزمجر في وجه عبد الله . , ركوع سوزان لتهدئة الكلاب في حميمية حرك في داخله انطباعات قوية – كانت عيناها تشعان بإلفة ,لم يرى مثلها من قبل , فاخذت الكلاب تهز زيولها في ود وهي تتسابق الى حضن سوزان ..
    اقترب هو الآخر من الكلاب بحذر , واخذ يربت عليها برفق .. عبرا الطرقة المحاطة بالنجيلة المزروعة في تنسيق بديع , وولجا الى الداخل..
    - البيت كما يبدو خاليا الا منا , لابد ان الجميع في عمل ميداني خارج جوبا ..
    قالت سوزان , ثم أخذت تنادي :
    - هنادي , هنادي ...
    ولم يجبها سوى الصدى , سألها :
    - من تكون هنادي التي تنادينها ؟
    - انها صديقتي , تطوعت للعمل معنا ..
    - أهي ..
    - لا , من الزاندي . ستروقك فهي غريبة الاطوار مثلي ..
    قالت بتلقائية , وهي تشير له الى غرفته.
    تطلع عبد الله في أنحاء الغرفة . قلب محتوياتها ببصره : بار صغير . منضدة أبنوسية . سجاد عجمي فاخر . منفضة سجائر عاجية . غزال محنط على الجدار . تمثال غردون في رحلته الثالثة .أغصان لشجرة مانجو تتكيء على النافذة , وستائر وردية جميلة , تمنح الغرفة جوا حالما, عندما تضاء لمبة النيون ذات اللون البرتقالي الهاديء ..
    - يا لها من مقبرة جميلة ..
    - مقبرة ؟!..
    والتفت نحوها . لم تكن موجودة . كانت قد غادرت الغرفة دون أن يسمع وقع خطواتها, التي كتمها السجاد الفاخر وهي تنسحب , لاحقها بأسفه ..
    (*)
    خرجا يشقان دروب جوبا العامرة بالحزن . عربة المنظمة . الجيب الصغيرة , قطعت بهما المسافات بتؤدة , تجاوزا دغل متوسط من المهوقني والتيك والصنوبر . كانت أشجار المانجو والباباي متناثرة في كل مكان , بإبداع هندسي غريب , مبهر يخطف انظار الغرباء عن المكان .
    ولجا دربا يقطع الطريق- الذي كان مسفلتا ذات يوم- ويتكيء على غابة مانجو بديعة ...
    هدأت سوزان من سرعة الجيب قليلا , خشية أن تتسبب ثمار المانجو المتناثرة على الدرب , في قلب العربة الصغيرة , عرجا بعدها الى حي جوزيف .. حيث دهمت أنفيهما رائحة نفاذة . خليط من الايثانول والعرق والدم ومخلفات الجنس . هنا لم يكن للمانجو المتناثر على الطرقات من أثر .. فقط قطع قماشية متكورة , ذات لون داكن , افتقدت لونها الاصلي , وتحجرت . إنثنت سوزان الى شارع ملوال , ثم انحرفت شمالا وهي تقول :
    - ذاك هو شارع يامبيو , حيث لأفريقيا نكهة خاصة ..
    ابعد عبد الله نظراته عن الأكشاك التي على يمين الشارع , وهو يمعن النظر في حي البطري , بمبانيه الجميلة ذات السقوف المثلثة كظهر الثور .
    ها هو يتعرف على جوبا والهدنة بعد لم تنقض , ولكن تبقى تفاصيل الدخول الى زمن آخر, في سيرة الحرب مستمرة . فانزارا ويامبيو توغلان في هاجس الحرب على غير العادة , والحكومة تحشد عدتها وعتادها , مدن تسقط واخرى تسترد , وهكذا دواليك بين الاسترداد والسقوط ,ترتسم ألف علامة إستفهام حول كل هذا الغباء : لماذا يتحارب الناس ؟ ما المغزى ؟ وماذا يريدون ان يثبتوا لانفسهم ؟ يا لهذا الغباء ..اخبار مكرورة . مملة . لا أحد ينتصر , الكل خاسر ..لا سلام . الحصيلة هزيمة للجميع . هذه بلاد مغضوب عليها , بلعنة الحرب , تجري في عروقها هرمونيا الحرب . تتداعى في صخب الرصاص وزحير البارود , وتبقى مفتوحة الاذن على ذكريات مؤلمة., مستمرة في الزمان والمكان , تنطوي على الراهن الموسوم بالعجز, عن فعل شيء يسترد في الناس عقولهم .
    سبق هتاف عبد الله دخوله :
    - سوزي .. سوزي ..
    وتوقف في منتصف المسافة دهشا, ينظر الى الفتاة ذات الثوب المخملي, والشعر المجدول التي تجالس سوزان . كانت تحمل وجه درية الغائب , وجه درية المهيب عميق التقاطيع الحزينة ..
    - درية ؟!..
    وتموجت في رأسه هالات زرقاء . خضراء . برونزية لامعة . هالات لا لون لها . ثم لم يعد يعي شيئا ...
    (*)
    عندما أفاق وجد سوزي ممددة الى جواره في غرفتها ..
    - أين هي ؟
    - أهدأ . أهدأ يا عبد الله .. انها ليست درية , انها صديقتي هنادي التي حدثتك عنها .
    - ألم تقل شيئا ؟..
    - قالت ...
    (*)
    كانا يرتشفان الشاي الساخن في الحديقة . على المنضدة مجمرة افريقية طقسية , يضوع بخورها العطر في فضاء المكان . تمثال لثلاثة رؤوس أفريقية ذات نظرات عميقة – يبدو الرعب المريع مخفيا في عيونها التي بدت متورمة , أين راى هذا المثّال كل هذا الرعب الفظيع؟انه رعب يكفي العالم بكامله!!- تحت اقدام للمسيح مصلوبا .. هيلدا في ثوبها الشفاف, الذي تبين تحته كل توترات الانسان, وهو يصوغ بقوة فعله البشري الخارق,الجغرافيا والتاريخ ..
    كانت تبدو له الان, غريبة عنه أكثر من اي وقت مضى . حاول سبر أغوارها . نظراتها اللصيقة بالاعماق تنمو وتترعرع , تكبر كمدينة من الأحاسيس الملتوية , المكسوة بالتوجس والمجهول.. المخاوف والظنون الحارقة ..
    أوغلت نظراتها في الصمت أكثر فأكثر . هذا الصمت الذي ينطوي على صخب لا حد له . ينفي درية , التي تسبح كدخان السجائر في ضباب ذاكرته , المرسومة على اثر بعيد , لخف ناقة تعن في المسير دون صوى ساري أو دليل عارف , او علامات طريق ..دون نجوم او قمر وضيء او حتى ريح الشمال البوصلة , دون شمس لمعرفة الشرق من الغرب , فقط الضباب يحيط كل شيء , حتى لا يعود جمالِيها يراها , او تحس بوجوده على ظهرها .. يا لهذا الظلام ..
    كان جسمه يدور ورأسه يدور والفراغ حوله يدور ..
    (*)
    أعطته ظهرها , وكالآت من رحلات الكشوف الجغرافية , شتته المجهول الذي اكتشفه, الى مزيد من المجاهيل المرتقبة – قال احدهم انه اكتشف منابع النيل, كأن النيل لم يكن موجودا قبله , وكأن احدا لم يكن يسكن حول هذه المنابع ويشرب منها ,قبل ان يقوم- حضرته - باكتشافه "الخارق", يا لهراءات أولئك المكتشفين المزعومين ..
    كان يشعر بها حزينة . كئيبة . مكسورة الخاطر ..
    بحث عنها في البيت كله دون أن يعثر لها على أثر . كانت الكلاب في الحديقة تعبث بشيء ما .. تقدم منها , كانت تحاول جر قطعة قماش مدفونة في الأرض . اقترب اكثر. خفق قلبه بعنف . جذب قطعة القماش . كان الثوب المخملي .. ثوب درية , قلبه دهشا . كان ملطخا بالدماء ...
    (*)
    تحركت الباخرة . تعمقت في مجاهيل البحر . صوت دوائر الماء الموجية وهي تتكسر على جسم الباخرة المتمايل تاتي عنيفة . الخوف من الصحراء والبحر والغابة , تتعبا به زخيرة المدافع الطائشة .. هدير الأمواج يعلو على صوت المحركات , وصرخات الدواخل تطغى على كل صوت .
    حنين جارف للدفء والشوق المستفيض ,الى جاسات القهوة النهارية . حفنة من أحلام مجلوة بالفضة , وقوارير من الندى لا يعكرها العرق الصديء ,لذكريات حادة . سطح الباخرة , السياج . المقاعد المتناثرة على السطح . الذكريات . التابوت المتحرك , المنفي وسط البحر ..
    تلك النقطة يعرفها جيدا . ذاتها التي انطلق منها الطائر البحري . ترى أيخرج مرة اخرى من الاعماق الباردة . يحلق , يسقط , يحلق , يسقط , يحلق شاقا بجناحيه عباب الريح والانواء , فتنهزم أمامه البدايات والنهايات . يخترق الافق الى عمق سحيق , الى مدى يلتقي فيه البحر بالشمس , الغابة بالصحراء . .
    تلفت انتباهه جزيرة لم يرها من قبل . تبدو صغيرة نائية . تقاوم الموج بضعف , كالانثى تتملق فحولة البحر الزنجي , تحسره عنها وهي راغبة , راغبة ...
    انوار الموانيء والمدن البعيدة , تبدو متلألئة كحزنه البكر .لكنها باهتة كأعقاب السجائر . تنبثق اشعة الشمس البرتقالية خلال السحب السهبية . سوريال يتشكل وسط البحر الى المجهول في تداخل حميم . لم تكن الشمس هي الشمس . اختفت بعض شعاعاتها خلف نتؤات الغيوم الشرنقية ..
    (*)
    تنهد عبد الله المندكور وهو يسترد رأسه من مسند الكرسي . كان الشاي الذي أمامه قد برد . مسحت هيلدا دموعها وهي تنهض لتعد الشاي للمرة السادسة . تابعتها نظراته في حنان .
    وكان لانجور غارقا في صمت مسكِون بالمشاعر المختلفة, لا يدري ماذا يمكن ان يقول .. قطع عبد الله الصمت :
    - الذكريات تظل ذكريات , لكنها لا تنسى يا بني ..
    شعر لانجور بمفردة"بني " تبدو مختلفة على لسان عبد الله ,كانه لم يسمعها من قبل ابدا . كانت حميمة . دافئة . حزينة مثل حزن الحمام .. اضاف عبد الله :
    - لا تنسى الخطاب الذي اعطيتك اياه .
    خرج لانجور بمشاعره المتضاربة, ولم ينم بعدها لوقت طويل ..
    4 – على هامش الزمن الدائري ..

    فضاء :

    ("لا"(*) سلام عليك , أما بعد , فإنك مرقت
    من الدين مروق السهم من الرمية ,
    علمت حيث تجرثمت , ذلك أنك عاص لله
    ولولاة أمره , غير أنك "..." ..
    جلف , أمي , تستطعم الكسرة,
    وتشتفي بالثمرة ,
    والأمور عليك حسرة "..." ..
    ثم أهلكهم الله بنزحتين ..)...

    من خطاب الحجاج لقطري ابن الفجاءة
    زعيم الخوارج

    ............هامش..................
    (*) لا : لا توجد في الأصل .
    (*)
    انزلق سعود الى الشوارع الممتدة , والمتمددة كوحوش خرافية , ورأسه يطن كأن خلية نحل بداخله . مر بمحلات لبيع الأشياء القديمة , وتوغل في عمق السوق بحركته المزعجة , واجواءه المتخمة برائحة العطن ..
    الريح . البرد القر , والشجرة الجرداء المهتزة امام البيت , وصراخ أطفاله الجائعين . غراب نحيل الخاصرة "أغبش" ينكمش على الشجرة الجرداء, المتجردة من اي ملامح يكرس داخله الاحساس ذاته , بالعتة والغم والغربة..
    كان اليأس قد تملكه , بعد أن تكرر مجيئه وذهابه الى مكتب الشيخ لاسابيع عديدة , دون طائل يجنيه من وراء ذلك .. فمنذ حقق الشيخ ولي الدين الغريق أحلامه العجيبة , واستولى على السلطة في البلاد الكبيرة , لم يعد من السهل عليه أن يلتقيه . فبالأمس فقط جلس منتظرا في الاستقبال اكثر من خمسة ساعات, دون ان يتمكن من لقاء الشيخ , هو الذي ترك غربته البعيدة في بلاد النفط, يمني نفسه باحلام جديدة , جاء يحملها , لكن الشيخ ..
    قاطع موظف الاستقبال خواطره ,وهو يربت على لحيته الانيقة بطريقة متكلفة :
    - يا اخي لقد كثر ترددك , ولولا اشفاقي عليك لسكت عن الافصاح عن الرغبة الحقيقية للشيخ ..
    وسكت , فنظر اليه سعود متسائلا ..
    - في الحقيقة لا يرغب في مقابلتك ..
    شعر للمرة الاولى بأنه كم كان عبيطا . نهض مكسور الخاطر والدنيا , كل الدنيا تدور في رأسه ..
    (*)
    الريح لم تسكت , وموجات البرد تزداد , والغرفة الحقيرة التي وهبتهم اياها والدته ,بأرضيتها المتعجة , تزكي داخله مزيج من الاحساس بالبرد والاسى . "سفات" التمباك المحاطة بدوائر البصاق الجاف ,في كل مكان على الجدران . مروحة السقف المتهالكة بلونها العتيق تتوكأ كعجوز تعاني أمراض المفاصل . يتساقط الغبار من السقف البالي , اثر اهتزازها الثقيل ..
    شغل كاسيت.. الشيء الوحيد الذي جاء به بعد اغتراب سنوات .تأوهات الصوت الشرقي المبحوح , المنبعث من جهاز "القاريونس", تمتزج بتأوهاته المكتومة , تشكل معها جرحا نيئا لا يبرأ ..
    على الجدار المقابل للمائدة العرجاء , الصقت صور عديدة تطلق اصواتا شاحبة . تحت الصور كانت اسماء الانبياء الشائعين ,تلوح في فراغ المكان , تطوف كتموجات دخان السجائر . هتفت فيه سلمى جزعة :
    - البنت عندها انيميا ..
    - وماذا افعل لها ؟..
    - انه الجوع .
    فاكتفى بنظراته الزاجرة..
    بقايا الخمر البلدي تبعث رائحة كريهة . مسح فمه في حركة لا ارادية , وتلمظ شفاهه الجافة . تمدد على السرير المحفور وسط اربع خشبات متهالكات . المرايا المعلقة على الحائط المقابل , اعتلتها صور للشياطين والانس والجن . مستنقعا قانيا يتوسط المرايا , يطمث ملامح الرؤيا الكاملة .
    ضوء شحيح يتسرب من السقف , والشرخ الممتد في المرايا, يعكس صورته كسجين يستعد لدخول المعتقل مرة اخرى ,في ذات لحظة اطلاق سراحه . بقايا سوداء من الشاي متجمدة في قاع الكوب المتآكل الحواف – والذي عافه النمل –كان يفكر في الكيفية التي يمكن ان يخرج بها نفسه ,من هذا الزكام النفسي الحاد , فخرج ليجدد طقوس السير على الطرقات .
    مرة أخرى يحتويه الطريق ذاته , ومرة اخرى يحرك فيه .,بقدميه الاوراق المتناثرة هنا وهناك, في حركة موتورة .
    فقاعات ضوء تنفجر بانقطاع التيار , تجدد انفجاراتها في الحس , العواصف الباردة التي يهيجها الشتاء بداخله .. ودوامات الغبار تتراكم . تملأ الافق , الريح تزعق بشدة , ودواخله تصر كالباب القديم المهجور لحظة محاولة فتحه .
    انطفأت لمبة النيون ثم أضاءت , كانت تنطفيء وتضيء ليملأ ضوء باهت فراغ المكان , المسكون بالفئران القزمة , والضيوف الثقلاء من فصائل الحشرات .. الحشرات .. تخيل نفسه صرصورا بقرني استشعار وعيون مركبة . وتذكر علاقته التاريخية بالصراصير , حاول طرد هذا الخاطر الملح , ثم عاد للتآلف معه , اذ يسحبه بعيدا الى اغوار ماض حميم , فقده الى غير رجعة .. حينها كان يحكي لصديق عمره متوكل ..(تلمست شعري المبتل وقدماي تستقبلان الطريق, لم أجفف جسمي بعد الحمام , كنت لا أزال مرهقا من السهر بسبب ذلك الصرصور اللعين . كان ضخما , مخيفا بأجنحته الحادة . نفضته من الملاءة بزعر , وظننته خرج من الباب , ففوجئت به يمشي على الستارة., التي تغطي الجدران . كان يمشي وقرنا استشعاره منتصبين , كأنه يحذرني بعينيه, اللتين تطاير منهما الشرر . منيت نفسي بنهايته , سحبت كتابا تراثيا ضخما – كنت قد استعرته من الشيخ الغريق - , وانقضضت عليه بغتة , وسحبت الكتاب وانا اتنفس الصعداء ...
    وضعت الكتاب مكانه على الرف , وواصلت قراءتي , واذا بي اتفاجأ به يستقيم على خدي . قفزت من السرير وانا أحاول ابعاده بعنف غريزي, وأخذت اطارده بإلحاح , الى ان اصبته .. بعدها حاولت التركيز مرارا على قراءتي في الكتاب , لكن لم انجح , فعيناي تجريان على السطور دون ان افهم شيئا.. كان قد افسد ليلتي الى غير رجعة , فقد أخذ يتراءى لي طول الليل ....).. ضحك متوكل وهو يقاطعه :
    - الفئران ليست كالصراصير ..
    (.. وتذكرت الخوف المزمن لمتوكل من الفئران , ففي احدى الليالي ,التي بات فيها معي بسبب عدم توقف المطر. نهض من نومه مزعورا, في وقت متأخر , على وقع شيء ثقيل فأفقت انا الاخر . ما حدث بالضبط أن متوكل – كما روى – قفز قفزة واحدة جعلته خارج الغرفة , اتبعها باخرى اعادته للغرفة مرة اخرى., على سريري وفوقي مباشرة . حاولت استيعاب المسألة ,فاكتشفت فشل قانون الجاذبية , اوضح متوكل ان فأرا خبيثا داعب احلامه – هكذا ظن في البداية – وعندما اكتشف ان الفأرواقعا ماثلا على انفه, قفز قفزته التاريخية .. مازحته : - ربما اشتم فيك رائحة أمه .. ) ..
    نجح سعود في طرد الخاطر , خاطر علاقته التاريخية بالصرصور , آخيرا وهو يستكين للفضاء الغاضب حوله ..
    كانت الريح بالخارج لا تزال تعوي, والمطر اللاسع يتساقط زخات زخات .., ومع اشتداد تساقطه ووقع قطراته على السقف, تنشحن النفس بكآبة الريح ومخاوفها . تمنى في هذه اللحظة بالذات زجاجة مياه غازية ..
    بحث عن بقايا شمعة في الدرج المتآكل , تعثرت اصابعه بشيء جاف . ركز حواسه عليه , استعان بالانف وملمس الاصابع الجائعة . لم تكن سوى قطعة خبز جافة . ابتسم بمرارة ,وشحوب مقيت يكسو جلده البارد لكن الجاف . لمع البرق فقذف قطعة الخبز الجافة على المرايا , وقرر الخروج دون ان يهتم لأمر المطر , معتمرا حزنه , قلقه ..
    موجات البرد تدخل بعنف من النوافذ المفتوحة على الفراغ . تراجع عن الخروج, وحاول ان يسلم نفسه للنوم ...
    حاول ان يرفع جفنيه المثقلين , وهو يسمع وقع خطوات مائية على ارض الغرفة, التي أسقط الزمن نوافذها وأبوابها ..كانت سلمى قد جاءت لتكلمه في ذات الموضوع : صغيرتهما المريضة ..
    كانت تموجات الذاكرة تمضي بسلمى الى سنوات خلت , كان فيها حالها غير هذا الحال , عندما كان الجميع ينادونها ب"هبة الآلهة" , وهم يتمنون لمسة من يدها, أو ابتسامة صامتة فحسب . كانت سلمى ملكة الحفلات والرقص , عندما تلامس قدمها الرشيقة الارض كالهمس , تاكل الغيرة حينها كل الصبايا , ويظل الشبان مسهدون لايام تطول , لم تكن تبتسم الا له , الامر الذي جعل العوازل يخرجون السنتهم من قاع الحلق, ويشهرون بلاعيمهم فاتحينها الى اقصى سقوفها , ولهذا السبب بالذات وقف متوكل "ألف أحمر" , فطفح الكيل ليملا البلاد الكبيرة .. واحتدمت المعركة بين سعود واهله , وانزوت سلمى على نفسها تحت الحصار برا وجوا ..
    كانت سلمى لا تزال تحدق في جسم السعود المسجى امامها كالميت وهو يغط في نوم عميق – هكذا ظنت – غير ابه حتى لهذا البرد والمطر ...
    كانت تشعر بالانزواء في حياته , فحدثتها نفسها بالطلاق , ومحاولة البدء من جديد . تلمست بطنها المنتفخ , وتاوهت في حزن . وسنوات غربتها معه., تستردها الى ذلك اليوم الذي قررت فيه الحكومة الليبية طرد الاجانب .. صرخ في وجهها :
    - يبدو انهم يتآمرون معك ضدي!..
    - ماذا تعني ؟!..
    - الا تصرين منذ خمسة سنوات على العودة , ها سنعود رغم انفنا ..
    كان متوترا , اختلط غضبه ببكاء الاطفال, الذين انزووا في ركن الغرفة الخالية, الا من الاسفنج , بصراخها الذي تحول الى نشيج متقطع وزفرات مغلوبة ..
    فتت الحشيشة التي براحة يده , ازال غلاف السيجارة "الرياضي" , مزج الحشيش بالتبغ ولفهما بحنكة . فتش عن كبريت في جيبه فلم يجد , انتهرها :"كبريت" .. نهضت مهيضة الجناح , بحثت في أرجاء الغرفة قليلا وجاءته بالكبريت ..
    أشعل اللفافة . نفث دخانها في توتر , شعر بنفسه يهدأ شيئا فشيئا , وشعور ملون ينساب داخله كشلال .. تمر على خاطره ,مسرعة , متوترة : الصور . تستعرض محطات هامة في حياته البائسة , فتنهض سلوى حب حياته الفاشل .سلوى التي تركت كل الطفولة خلفها, فرحلت بها أسرتها جنوبا ..
    أشياء كثيرة تتبدى بين تلافيف الذاكرة , تهوم في الفراغ . نفث دخان سيجارته , تشكلت دوائر وخطوط متموجة , تابعها , تابعها , تابعها .. تلاشت عند نقطة التقت فيها نظراتهما . احساس دافق يبلل عروقه بصهد لاهب , كذلك الاحساس ليلة توحدا لأول مرة .. (كانت سلمى محبوسة في غرفة مشددة الحراسة , وطفله داخلها ينمو بهدؤ..) .. كانت امها واختيها قد جردن الغرفة .,من اي شيء قد تسشتعمله للانتحار , واشرف تقي ود زهرة عريس الغفلة بنفسه .,على تبطين الجدران والارضية بالاسفنج , دون ان تتوقف يده السخية عن الانفاق بسخاء , هذا الانفاق الذي لم يحول حبها لسعود .. قال لها الغريق ذات مرة " من اكبر المصائب تبديل الحاضر بالغائب " ففسرت "الغائب" بانه حبها لسعود ..الذي لم تكن تريد سواه ..
    كان زفافها الى ود زهرة يقترب حثيثا, وسعود يعد الدقائق والثواني وقد قرر في اللحظة الحاسمة ,شيئا مباغتا لاختراق البيت الحصين, الذي وضعها فيه العريس ..
    كان يقف خلف تقي ود زهرة اثنين من رجاله الاشداء في جلاليبهم الملونة , قطع أحدهما المسافة الى اقصى الغرفة. وازاح ستارا مسدلا على الجدران الايسر , ثم مضى الى الجانب الاخر من الغرفة ,بخطوات بطيئة حانيا راسه في خشوع , مزيحا ستارا آخرا, من على الجدران المقابل , فبان تمثال صغير من الجبس , انحنى يردد عبارات مبهمة , ورمى بحبات من بخور "ام التيمان " وأعواد قصيرة ذات روائح مختلفة , ثم تابع بعينين متأنيتين الدخان وهو يتصاعد , يطوق التمثال , فتغيب ملامحه في كثافة الاحتضان تمتم العريس وحارساه بصلوات سرية طويلة , قطعها تعالي هتاف ضاج في الخارج ..
    كان سعود قد استعان بانصار الشيخ الغريق, ومتوكل واصدقائه القليلين, وهم في طريقهم للهجوم على بيت تقي ود زهرة نمت التظاهرة نفسها , شارك فيها كثيرون لا يعلمون سببها :الأهالي والمشردين والطلاب وبعض الافندية السياسيين, الذين حاولوا حرف هتافاتها التي تنادي بحرية سلمى , الى شعارات تنادي بسقوط الحكومة , ففشلوا- حتى- في ذلك .. كانت المظاهرة الصغيرة قد نمت نفسها الى تظاهرة عرمرم ..فكان صوت الهتافات يصل ود زهرة داويا , مخيفا ..
    دخل احد رجاله : " لقد أحرقوا سياراتك سيادتك "..
    كانوا يهاجمون الابواب وهم يقذفون بالكاوتش المشتعل .. اربكت النيران المتصاعدة تقي ود زهرة , فأخذ يهتف "الامن , اين الامن يا اولاد الكلب .." خرج تقي ود زهرة مفزوعا يتبعه الاخرون , لحظتها كان سعود يتسلل, باحثا عن المكان الذي تم اخفاء سلمى فيه , عندما عثر عليها اغلق الباب خلفه . بكت حين رأته حتى سال الكحل من عينيها , احتضنها مهدئا . صار المكان حولهما بقعه من الضوء الملون . جذبها خلفه سائرا بحذر قاطع طريق – لا يدري أحدهما حتى الان, كيفا تمكنا من عبور حلقات النار المشتعلة في كل مكان – كل ما يذكره الان , وبعد كل هذه السنوات انهما وجدا نفسيهما في غرفة للشيخ الغريق – كان قد اسكن فيها احد انصاره الغامضين بأطراف المدينة – في الحي العشوائي البعيد ..اخلى لهما نصير الشيخ المكان .ومضى يرفع تقريره للغريق..
    كانت سلمى قد راحت في غيبوبة عميقة .,بين احضانه الدافئة ..
    و الآن , بعد كل هذه السنوات . ذات الاحساس الدافق., ذاك الذي بلل عروقه في الحي العشوائي البعيد ,يسترده اليه :عار , وعارية . لكنها لم تعد هي ذاتها , قطعت عليه حبل ذكرياته., تظن ان اللحظة مناسبة:
    - سعود ..
    - يا عيون سعود .
    - الطفلة ...
    صرخ فيها , ارتدى ملابسه بسرعة , وخرج صافعا الباب خلفه بشدة , احتواه الطريق ذاته ببرده الجاف , كان عاريا الا من ثيابه الداخلية., والافرول الملبك بالزيوت والوقود . اثنين من الليبين رفعا صوتيهما يتحرشان به , ابتلع اساه متجنبا العراك ومضى منكسرا , ودواخله تمور بالغضب المكتوم .,وصل الى الورشة فهتف به عامر :
    - ما بك عدت سريعا ؟..
    - لم احتمل البقاء في البيت .
    - انت تعمل اربعة وعشرين ساعة يا رجل ؟.
    - وانت اصبحت مواطنا هنا .
    - للضرورة احكام . كنت احلم ذات يوم بقيادة التغيير.
    - لا زلت تتذوق طعم خيانة رفاقك لك .
    - من منا لم تتم خيانته . قلت لهم ان سالم خاننا فلم يصدقني أحد .
    كلما وردت سيرة سالم وعلاقته السرية بتقي ود زهرة, الذي شاعت حوله الشائعات حول تقلده مهام الامن بدعم خفي من الغريق , وانه على علاقة سرية به , كلما وردت سيرة سالم في اي سياق ترتجف دواخل سعود ,الذي يخشى ان يجيء اليوم يكتشف فيه عامر ,انه كان على علاقة سرية بالغريق .. علاقة بريئة خالية من اطماع امثال سالم .. سعود يعرف رد فعل عامر . يعرف مدى تطرفه في مثل هذه الامور . فهذا التطرف هو ما قاده لا لهجر الاصدقاء والرفاق فحسب, بل كل البلاد الكبيرة , كأن الجميع خانه , وليس سالما أو الحزب وحده ..
    - ما الذي يمنعك انت من العودة ؟ حبك القديم لسلوى ؟.
    - لا , لا ..لا أملك حتى مجرد نفقات العودة ..
    - هذا امر لا يصدق ؟!..
    - للاسف انها الحقيقة ؟..
    - اصدقك .. سادبر لك الامر فلا تقلق . الافضل ان ترحل الان, قبل ان يتم ترحيلك فلا تعرف العواقب ..
    - وانت ؟..
    - كما قلت انت . هنا وطني البديل ..
    كان الليل يرخي سدوله في الخارج , عندما جاءت صديقة عامر , في ذات التوقيت المعتاد لحضورها الاسبوعي ..دخلت الى الغرفة الملحقة بالورشة , فخرج هو مفسحا لهما المكان . أطفأ عامر النور الداخلي للورشة , وانهمك سعود على احد المحركات, مكتفيا بضوء الورشة الخارجي ..
    غيمة من الذكريات تظلل خاطره .. كالشوكة "تنقح" في اللحم الحي , تتفتق الغيمة عن سلوى وصوتها يلاحقه :
    - لكنني احب شخصا آخر ..
    حاول نسيانها في العلاقات العابرة , الى ان بدأت نوافذ للود تفتح ادراف قلبه من جديد, عندما راى سلمى بعد غيبة طويلة .. وتكرر اللقاء ..
    كرعدة تحطم حصون المعاناة ,و تضمد جرحا قديما في الآن ذاته , التقى سلمى على انقاض حبه الذبيح لسلوى , كان ثمة ميلاد لخرائف مثمرة ,على الارض التي اجدبها طول الانتظار والمحل .
    سارا تجاه البحر ليلا, وسلمى تضيء كنجمة سهب ترشد الساري , حبها معالم لطريق موحش وبلسم لجراحات متمددة .. تتبعثر سوالفها لتغطيه برائحة الطين وظمأ المفاوز .. كان حديثها كرزاز .. حبات مطر شارد .. يحكي عن ظمأ المفاوز و"مشيش" الوديان , ليروي قلبه بالحنين .. ينسى عذاباته . جراحاته , وقلبه الذي كالنافذة المغلفة بالعتمة., ينفتح لوجهها المنور , تفتح قفله الصديء . تشرع ادرافه على مصراعيها ,ويطلان معا على عوالم تسبح في بحر من النور ..كانت سلمى كوقع الانشودات الربيعية .. وكانت حياته معها في ميلاد هذا الحب, حلم لا أول له ولا آخر ...
    ينطلقان متشابكي الايدي , والحي الشعبي البائس يختفي خلفهما , تتلاشى معه ملامح البلاد الكبيرة , فلايبقى الا وجه النيل ذو الايحاءات والشجن ..القمر المترع بالصفاء , والاحساس الرخو بالليالي المخملية..
    الى ان ظهر في حياتهما تقي ود زهرة مغريا اهلها بالجاه والسلطان ...
    كانت سلمى لا تزال تحدق في جسد سعود المسجي أمامها . انتبهت ان المطر قد توقف منذ فترة طويلة . اقتربت منه ..
    - سعود . سعود ...
    لم يرد عليها . خالته يغط في نوم عميق فانسحبت يائسة . بعد ان خرجت انتصب على السرير . ادمعت عيناه . كان يشعر بالقهر . خرج . بدت له البلاد الكبيرة طاردة . غريبة عنه . لا ينتمي اليها . كانه يراها للمرة الاولى . انزوى على نفسه وهو ينزلق الى قاعها ...
                  

02-05-2007, 01:27 PM

حبيب نورة
<aحبيب نورة
تاريخ التسجيل: 03-02-2004
مجموع المشاركات: 18581

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: كولاج - رواية - أحمد ضحية (القسم الأول) (Re: احمد ضحية)

    ضحية
    عليش يا اخوي
    الجمال في البلد دي
    بنزل الواطـة
    هسة لو عملت ليك بوست فيه شكلة
    علي اليمين من الصفحة الاولي ما يزح

    عموماً سلمت يا حبيب
                  

02-05-2007, 11:19 PM

محمد سنى دفع الله
<aمحمد سنى دفع الله
تاريخ التسجيل: 12-10-2005
مجموع المشاركات: 10986

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: كولاج - رواية - أحمد ضحية (القسم الأول) (Re: حبيب نورة)

    سلمت يأخوي ضحية
    مهم جدا الروايات عن تاريخنا
    وعن حروبنا ، ايام القحط وايام الفرح
    روايات من السودان الوطن القارة
    الحرب في الجنوب سنوات من العذاب والألم والأفراح والفراق
    وقصص لم نسمع بها ولم تحكى بعد
    قبل روايتك هذه اطلعت على قصة اسمها ( الغبينة ) آتيم ـ
    للروائي ـ ابراهيم بشير ابراهيمـ ـ
    واحدة من العلامات الفارقة في القصة السودانية
    والأن نتمنى ان نتابع معك هذه الرواية والتي عشت معها حالة من الوجد
    مهم جدا هذا النوع من الرواية
    لانه يضعنا في مواجهه مع الذات
    لنتامل كم هي الحرب مريرة وقاسية
    وتقبل تحيات ابراهيم بشير
    مودتي
                  

02-07-2007, 03:56 AM

احمد ضحية
<aاحمد ضحية
تاريخ التسجيل: 02-24-2004
مجموع المشاركات: 1877

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: كولاج - رواية - أحمد ضحية (القسم الأول) (Re: محمد سنى دفع الله)

    محمد السني
    اين انت ايها المبدع الكبير
    تحياتي لك ولصاحب "الزندية" الرواية التي احببتها كثيرا - ونجت باشا في 1910 وهو يودع الخرطوم مسلما مهامه الى حاكم اخر أوصاه واوصى الاداريين " احرصوا على هذه البلاد ففي كل شبر منها كنز ثمين" لطالما توقفت كثيرا عند هذه الاشارة ل"كنوز" بلادنا - واتصور الان بعد كل هذا الزمن انه قد اضيف الى هذه الكنوز الكثير .. مثل تجاربنا التاريخية الايجابي منها والسالب , هذه المشاعر الانسانية العميقة . هذه المتناقضات وهذا الزخم من الافكار والرؤى التي ينطوي عليها ميراتنا .. كل ذلك سيبقى مصدرا أزليا لا ينضب لإلهام كل الذين يحاولون البحث في هذا الواقع المعقد - السودان - دمت مرة اخرة استاذنا السني وستتوالى فصول هذهخ الرواية خلال هذا الاسبوع . اذ انني اعمل على استكمال طباعة القسم الثاني الان .. خال محبتي
    وكل الود
                  

02-07-2007, 03:46 AM

احمد ضحية
<aاحمد ضحية
تاريخ التسجيل: 02-24-2004
مجموع المشاركات: 1877

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: كولاج - رواية - أحمد ضحية (القسم الأول) (Re: حبيب نورة)

    حبيب نورة
    تسلم لينا وتسلم لنورة ونورة تسلم لينا
    ومع ذلك - على خلفية حديثك أعني - لابد من اشتراع خط جاد , ربما سيكون الاقبال عليه ضعيفا , ولكن بمرور الوقت سيحدث إقبال .. لاتقلق فكل فعل بالضرورة سيحدث اثرا ما في وقت ما
    مع المودة والحب
                  

02-08-2007, 01:08 PM

احمد ضحية
<aاحمد ضحية
تاريخ التسجيل: 02-24-2004
مجموع المشاركات: 1877

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: كولاج - رواية - أحمد ضحية (القسم الأول) (Re: حبيب نورة)

    up up up up up
                  

02-08-2007, 01:33 PM

احمد ضحية
<aاحمد ضحية
تاريخ التسجيل: 02-24-2004
مجموع المشاركات: 1877

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: كولاج - رواية - أحمد ضحية (القسم الأول) (Re: احمد ضحية)

    up up up up up
                  

02-07-2007, 03:41 AM

احمد ضحية
<aاحمد ضحية
تاريخ التسجيل: 02-24-2004
مجموع المشاركات: 1877

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: كولاج - رواية - أحمد ضحية (القسم الأول) (Re: احمد ضحية)

    up up up up up
                  

02-07-2007, 04:44 PM

احمد ضحية
<aاحمد ضحية
تاريخ التسجيل: 02-24-2004
مجموع المشاركات: 1877

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: كولاج - رواية - أحمد ضحية (القسم الأول) (Re: احمد ضحية)

    up up up up up
                  

02-09-2007, 04:53 AM

احمد ضحية
<aاحمد ضحية
تاريخ التسجيل: 02-24-2004
مجموع المشاركات: 1877

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: كولاج - رواية - أحمد ضحية (القسم الأول) (Re: احمد ضحية)

    up up up up up
                  

02-10-2007, 00:16 AM

احمد ضحية
<aاحمد ضحية
تاريخ التسجيل: 02-24-2004
مجموع المشاركات: 1877

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: كولاج - رواية - أحمد ضحية (القسم الأول) (Re: احمد ضحية)

    up up up up up
                  

02-10-2007, 02:47 PM

احمد ضحية
<aاحمد ضحية
تاريخ التسجيل: 02-24-2004
مجموع المشاركات: 1877

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: كولاج - رواية - أحمد ضحية (القسم الأول) (Re: احمد ضحية)

    up up up up up
                  

02-10-2007, 00:27 AM

بهاء بكري
<aبهاء بكري
تاريخ التسجيل: 08-26-2003
مجموع المشاركات: 3519

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: كولاج - رواية - أحمد ضحية (القسم الأول) (Re: احمد ضحية)

    الصديق المبدع احمدضحيه ............ سلام
    دعني اقول فوق هذه المرة
    فوق ........ فوق
                  

02-10-2007, 07:28 PM

احمد ضحية
<aاحمد ضحية
تاريخ التسجيل: 02-24-2004
مجموع المشاركات: 1877

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: كولاج - رواية - أحمد ضحية (القسم الأول) (Re: بهاء بكري)

    up up up up up
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de