أ. د. مختار الأصم [email protected] استرسلت في الكتابة عن النظم الانتخابية، وركزت كتاباتي على أنماط انتخاب البرلمانات والاجهزة التشريعية. ودعوت لاختيار نظام انتخاب جديد للسودان يمهد لاستقرار سياسي ويدعم الديمقراطية والسلام المستدام. وكتب كثير من المهتمين وبالاخص القانونيين منهم عن النظام الانتخابى. لقد صرفت هذه الكتابات نظر الناس عن انتخاب رئيس الجمهورية. ولعلي أتحمل قدراً غير يسير من صرف اذهان بعض الناس- بالتركيز على الانظمة الانتخابية- عن انتخاب رئيس الجمهورية. ولكننا في السودان بدستورنا الانتقالي قد اعتمدنا نظاماً رئاسياً فدرالياً. هذا النظام يجعل السلطة وأمر ادارة الدولة ورئاسة جهازنا التنفيذي في يد رئيس الجمهورية على المستوى القومي، والولاة على المستوى الاقليمي. ليس هذا تقليلاً من دور الجهاز التشريعي الرقابي في النظام الرئاسي الفدرالي. ولكنه يوضح أن الاهتمام الأكبر يجب أن ينصب على انتخاب رئيس الجمهورية، فهو عمود نظام السودان الفقري وهو رأس الدولة والمسؤول التنفيذي الأول على المستوى القومي، ويماثله سلطة على المستوى الاقليمي والى الولاية. ولكني اعترف بأنني في كتاباتي لم أعط هذا الموضوع ما يستحقه من اهتمام. وينبغي أن نوضح للناس أنه لو شاء الله أن تقوم انتخابات رئاسية نزيهة، شفافة في موعدها، فستكون هي الأولى من نوعها، فالسودان قد عرف التنافس الحر الديمقراطي الشفاف في عهود التعددية التي كانت تعتمد نظاماً برلمانياً. ولكنها ستكون المرة الاولى التي ينتخب فيها رئيس جمهورية في تنافس حزبي حر. ولا أخال أي باحث جاد يرضى أن يقول إن استفتاءات رئيس الجمهورية ابان عهد نميري أو انتخابات رئيس الجمهورية عند الانقاذ قبل اتفاقية السلام، كان تنافساً حزبياً حراً.
هي المرة الاولى اذن التي سيمارس السودانيون فيها حقهم في اختيار رئيس جمهوريتهم، وفي اختيار ولاة أقاليمهم بنظام انتخاب يعتمد التنافس الحزبي الحر الشفاف. اعتمد الدستور نظام الأغلبية المطلقة لانتخاب رئيس الجمهورية، المادة «54» «2» من الدستور الانتقالي تقول «يكون المرشح لمنصب رئيس الجمهورية الذي يحصل على أكثر من خمسين بالمائة من جملة أصوات المقترعين في انتخاب رئيس الجمهورية هو الرئيس المنتخب». فأول عقبة انتخابية تواجه المرشح للرئاسة هي أن يتحصل على أكثر من نصف أصوات المقترعين. فإن تم له ذلك أصبح هو الرئيس المنتخب. وان لم يتحصل على نسبة 50% من الاصوات زائداً «1»، فعليه أن يتحصل على أعلى الاصوات أو على الأقل يصبح «ثاني» أعلى الاصوات لكي يتمكن من البقاء في المنافسة. اذ تقر المادة «أنه اذا لم يحصل أي مرشح على أكثر من 50% من الاصوات تجرى منافسة في دورة ثانية بين المرشحين لرئاسة الجمهورية اللذين تحصلا على أعلى الأصوات». وعند الدورة الثانية تبدأ تحالفات ومساومات قد تجعل ثاني أعلى الاصوات يفوز برئاسة الجمهورية. تلك فترة حرجة في استقرار البلاد. ولكنه النمط الذي اختاره الدستور لانتخاب رئيس الجمهورية. بالطبع هناك أبواب مشرعة لتحالفات بين الاحزاب في الدورة الاولى. ففي الافق تحالف بين الشريكين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية.. تحالف قد يجعل الحركة الشعبية تدعم ترشيح رئيس المؤتمر الوطني، وبالتالي الحفاظ على الشراكة الحالية وتطويرها لتصبح تحالفاً في وضع ديمقراطي. مسألة قسمة السلطة والتي أعطت الشريكين 80% من مقاعد الجهازين التنفيذي والتشريعي لن تسبب مشكلة. فاذا ما فاز تحالفها برئاسة الجمهورية وبالتالي استأثر بمنصبي النائب الاول ونائب رئيس الجمهورية، فلن يضيرهما شيئاً أن تقل نسبة تمثيلهما في البرلمان. والجهاز التشريعي في هذا النظام الرئاسي الفدرالي لا يملك سلطات قوية لمحاسبة واقالة رئيس الجمهورية، فلرئيس الجمهورية اختصاصات واسعة وحصانة الا في حالة اتهامه بالخيانة العظمى، أو انتهاك الدستور، أو سلوك مشين متعلق بأمور الدولة. وحتى في مثل تلك الاحوال لا يملك الجهاز التشريعي ادانة الرئيس الا بصدور قرار من ثلاثة أرباع المجلسين التشريعيين. الشاهد هنا أن عدم حصول الشريكين على الأغلبية في البرلمان لن يضيرهما كثيراً، طالما في ايديهما رئاسة الجمهورية ومجلس الرئاسة. لم يحدد كل من حزب الأمة والاتحادي الديمقراطي مرشحيهما لرئاسة الجمهورية. والأمر دقيق.. فالحزبان عرفا الفوز والحكم والائتلاف في الانظمة التعددية الديمقراطية البرلمانية . ولكنهما لم يمارسا أية انتخابات لنظام رئاسي. لابد من وقفة قصيرة هنا.. هذا النظام الجمهوري الذي نحن بصدد انتخاب الرئيس فيه، جاءنا واعتمد في الدستور كنتيجة لمفاوضات نيفاشا. ولم تجر مشورة الحزبين الكبيرين الامة والاتحادي الديمقراطي بشأن نظام الحكم في البلاد. والجدير بالذكر أنه أبان الديمقراطية الثانية قد دار جدل كبير حول أي النظم أفضل للسودان. وجرى في ذلك الوقت حوار مكثف بين الاحزاب «انظر مداولات اللجنة الفنية للدراسات الدستورية 1961م». وكذلك «مؤتمر الاحزاب السياسية في أكتوبر 1966م». كان الجدل في تلك الايام هو المفاضلة بين النظامين البرلماني والرئاسي، فالسودان قد عرف ومارس النظام البرلماني الذي ينتخب فيه رئيس الوزراء بوساطة البرلمان ويعزل بوساطته. فجاء في مذكرات اللجنة الفنية للدراسات الدستورية عن تقويم النظامين البرلماني والرئاسي ما يلي: «أما النظام البرلماني فيتسم بميزة كبرى، وهي أن الهيئة النيابية بالاضافة الى سلطاتها التشريعية، تملك حق محاسبة الحكومة بطريق مباشر على الطريقة التي تسير بها دفة الحكم، حتى اذا ما تأكد لها عدم صلاحيتها أمكن لها سحب ثقتها عنها وابدالها بحكومة اخرى. وفي ذلك تحقيق لمبدأ سيادة الشعب عن طريق نوابه المنتخبين. والميزة الثانية أن هذا النظام يحول دون تركيز كل السلطات في يد شخص واحد، اذ أن رئيس الوزراء لا يعمل منفرداً بل يشاركه وزراؤه. ومجلس الوزراء مسؤول لدى البرلمان مسؤولية تضامنية، بحيث أنه اذا اجيز قرار بلوم أحد الوزراء في مسألة سياسية ذات أهمية، فإن ذلك يعني فقدان الثقة بمجلس الوزراء بكامل هيئته. والميزة الرابعة للنظام البرلماني وجود رأس للدولة ينفرد بمظاهر السيادة الشكلية. وذلك يحول دون تركيز انظار الناس واهتمامهم بشخص واحد دون غيره. ولكن لا بد لنا أن نلاحظ أن نجاح هذا النظام من الناحية العملية يتوقف على وجود المناخ السياسي الملائم الذي تتوافر فيه بعض الصفات المميزة، منها عدم تعدد الاحزاب ونضج الرأي العام ورسوخ الروح والتقاليد الديمقراطية في المجتمع. وتدل الشواهد التاريخية على أن ذلك امر عسير المنال، اذ لم تنجح التجربة البرلمانية نجاحاً كاملاً في غير المملكة المتحدة وبعض دول شمال أوربا، أما في البلاد التي لم يتوفر فيها هذا المناخ مثل فرنسا وبعض البلاد الحديثة في أفريقيا، فقد رأينا كيف فشل ذلك النظام فشلاً ذريعاً، مما أدى الى استبداله بنوع النظام الرئاسي.
أما النظام الرئاسي فأولى ميزاته كفالة الاستقرار وما يترتب عليه من آثار في الاقتصاد والحياة السياسية والاجتماعية، وثانيها كفاءة الحكم وفعاليته، وثالثها اشتراك جميع أفراد الامة المؤهلين اشتراكاًُ مباشراً في انتخاب رئيس الجمهورية، وبذلك يكون أقرب تمثيلاًُ لارادة الامة السياسية».. انتهى النص. لم تصل مداولات مؤتمر للاحزاب لاتفاق على نظام برلماني أو رئاسي، الا أن حزب الامة أقرَّ في مؤتمراته اختيار النظام الفرنسي الذي يجمع بين سمات النظام الجمهوري الرئاسي والنظام البرلماني. الشاهد هنا هو أن ما أقرَّه الدستور الانتقالي من اعتماد للنظام الرئاسي في محصلته النهائية، هو حسم لجدل طويل في تاريخ النظام السياسي السوداني. والجدير بالذكر أن الدستور لم يعط مجالاً سهلاً لإعادة النظر في تبديل النظام الرئاسي، ففى امر الاستفتاء على تقرير المصير لجنوب السودان، جاء خيار الدستور في المادة «222» «2» ما يلي: يصوت مواطنو جنوب السودان إما: «1» لتأكيد وحدة السودان بالتصويت باستدامة نظام الحكم الذي أرسته اتفاقية السلام الشامل وهذا الدستور. أو: «2» اختيار الانفصال. في الحالة «1» يظل نظام الحكم كما أقرته كل من اتفاقية السلام الشامل والدستور.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة