|
بيوغرافيا الجوع - قراءة: عمر عبد الرحمن أبو راس
|
الأحباب في سودانيز أون لاين وغواة الرواية تحديداً، هاكم قراءة في رواية "بيوغرافيا الجوع" للبلجيكية اميلي نوثومب وترجمها للعربية بسّام حجّار وصدرت عن المرز الثقافي العربي، كتب القراءة صديقنا الصحفي عمر عبد الرحمن أبو راس، ونشرها بجريدة الرياض السعودية في 28 مارس 2007 م .....
بيوغرافيا الجوع
عمر عبدالرحمن أبوراس
اميلي نوثومب الكاتبة - العابرة للقارات بلجيكية ولدت في عام 1967م وتنقلت بحكم وظيفة والدها كسفير في عدة دول، وكانت حصيلة ذاك الانتقال بين "العوالم المختلفة" هذه الرواية المدهشة الصادرة عن المركز الثقافي العربي بالمغرب، والتي (اتحفنا) بها معرض الرياض الدولي للكتاب مؤخراً ضمن (الكنوز) الأخرى التي امتلأ بها. ورواية (بيوغرافيا الجوع) كما جاء في مقدمتها ليست مجرد سرد لرحلة الكاتبة وحياتها من اليابان الى الصين وأمريكا وبنغلاديش والهند وكمبوديا فقط رغم حرارة جاذبية السرد والرؤى الممتزجة بحرارة التحديات التي تصنع حياة المرء إلا أن الملاحظة الأهم أن ذلك البناء "السردي" يمضي موغلاً داخل النفس البشرية بصورة مدهشة تتماهى ما بين الرغبة في الطعام والقدرة الهائلة على تصوير ملامح الحياة وسط "ثقافات مختلفة" أنها رواية "كوكبية" بكافة المقاييس، ومنذ "ضربة البداية" تدهشنا المؤلفة في الحديث عن أرخبيل أوقياني يدعى "فانواتو" لم يعرف الجوع يوماً، وهذه الوفرة الغذائية - دونما انتاج - جعلت مكان تلك الجزر يصابون بالكدر والغمة، ولا يشعرون بالجوع ابدا!! لسبب بسيط فهم لم "يجربوا" الجوع في يوم من الأيام!!
وتؤكد المؤلفة بأن (انتفاء) الجوع مأساة لم يتطرق إليها أحد من قبل، وتصفه بأنه على غرار تلك (الأمراض اليتيمة) التي لا تحظى باهتمام الباحثين، حيث لا يثير (اللاجوع) أي قدر من الفضول بشأنه، فيما عدا (أهل فانواتو)، لا أحد يصاب به! حيث يأكل الناس من قبيل المراعاة واللباقة، ولا يتكبد الإنسان هناك منسقة ابتكار الحلوى عندما توفر له الغابة فاكهة لذيذة فاخرة إذا قارنا بها صنوف الكعك التي نبتدعها (ص15)!! وتشير المؤلفة الى أن من السهولة علينا أن نعين ما هو نقيض (فانواتو): كل الأماكن الأخرى، ذلك أن القاسم المشترك بين الشعوب قاطبة هو أنها شهدت المجاعة في فترة ما من تاريخها، فالمجاعة تولد الروابط والصلات، وهي مادة لحكايات تروى، وزعيمة البطون الخاوية من دون منازع هي العين فما فيها سلسلة متصلة من الكوارث الغذائية أسفرت عن أعداد لا تحصى من الموتى وأول ما يبادر به صيني صينياً آخر هو سؤاله: "هل أكلت؟" وكان على الصينيين أن يعتادوا أكل ما لا يؤكل،، لذلك تجد هذا القدر من رهافة الذوق في فن الطبخ لديهم. وتتساءل أميلي: هل من حضارة تفوق الحضارة الصينية تألقاً ومهارة؟
والمؤلفة كما تزعم ليست بمنأى عن الموضوع الذي تتحدث عنه، وبنقلة (فاتنة) تؤكد بأنها ترى في (فانواتو) التجسيد الجغرافي المثالي لنقيضها فهي تقول: الجوع هو أنا! ورغم أنها تنتمي الى بيئة موسرة وفي كنف عائلة لم تشعر يوماً بحاجتها إلى شيء لذلك تفهم - البطالة - الجوع بوصفة خصوصية فردية، وليس أمراً يمكن تفسيره اجتماعياً، وأنه هناك لا يؤخذ بمعناه الأشمل: فلو كان مجرد جوع الى الطعام لكان التعامل معه أيسر مثالاً. فهل يوجد جوع واحد فقط هو جوع البطن وليس مؤشراً على جوع أعم؟ فالجوع في نظرها يعني تلك الحاجة الفظيعة التي تمس الكائن كله، ذاك الفراغ الآسر، وذلك التوق لا إلى الامتلاء الطوباوي بل إلى تلك الحقيقة البسيطة: فحيث لا يوجد شيء، أتطلع لأن يكون ثمة شيء!!! وتقدم لنا أميلي نوثومب اسطراً من البهاء الكتابي في تعريف الجوع إذ ترى الجوع هو أن تريد، انه رغبة أشمل من الرغبة. ليس الارادة التي هي قوة، كما أنه ليس ضعفاً لأن الجوع لا يعرف الخنوع. فالجائع هو من يسعى، ذاك الجوع الذي يشق الصدر، ويفرغ النفس من جوهرها، هذا الجوع هو السلم المفضى الى الحب. ذلك أن كبار العشاق تدرجوا في مدرسة الجوع. والكائنات التي تؤلد شبعانة - وهي كثيرة - لن تعرف يوماً ذلك القلق الدائم، تلك العصبية، ذاك الشقاء الذي يورق ليل نهار!
وتصل بنا المؤلفة الى (قوانين) هامة حيث ترى بأن التعارض الشائع بين النوعية والكمية غالباً ما يتم عن حماقة عريقة. ذاك ان من يعاني جوعاً حارقاً لا تكون شهيته كبيرة ومتزايدة التطلب وحسب، بل تكون لديه شهيات أكثر صعوبة. ثمة مسلمة للقيم حيث الأكثر يولّد الأفضل: مشاهير العشاق يعلمون ذلك، ويعلم ذلك أيضاً الفنانون المهجوسون بفنهم. وذروة الرهافة هي خير حليف للوفرة.
وببراعة مذهلة تأخذنا المؤلفة عبر سرد آسر الى طفولتها وعلاقة أسرتها مع الطعام حيث تعتبر والدها "شهيداً غذائياً" وأنه شخص حقن بالجوع عنوة من قبل الآخرين، وأن أمها كانت مدبرة (عبوديته الغذائية) إذ كانت هي الممسكة بالسلطة الغذائية.
ثم توغل المؤلفة في وصف طفولتها في اليابان لتقدم لنا هنا لوحات اخرى من العذوبة في ذاك البلد الرائع الطبيعة والأزاهير بل واعتبرت انتقال العائلة الى الصين عام 1972م بمثابة الكارثة وانهيار لعالم جميل، وفي الصين اكتشفت المؤلفة الجوع الى الآخر بسبب "الثورة الثقافية" ومن الصين الى نيويورك حيث مباهج الحياة الطويلة التي لا تتكرر في زمن واحد ثم الى بنغلاديش حيث تصف المؤلفة الحياة هناك بأنها (في عام 1978م) كناية عن شارع مكتظ بأناس مشرفين على الموت (ص163) وتقول أيضاً: لم أر في حياتي شعباً يختزن طاقة كتلك التي يختزنها شعب بنغلاديش. في عيون الناس هناك جمرة السعى المتوقدة والجوع السيد يلهب دماء البنغلاديشيين ثم تتحدث المؤلفة عن الهند التي تصفها بأرض النعيم أو بالبلد الذي يقضي فيه المرء أوقاته متطلعاً الى السماء متأملاً القمم الشاهقة، وتنتقل بروقها الأنيقة الى بورما التي تصفها بأجمل بلدان العالم. ورغم (بلجيكية) المؤلفة الا أنها حينما تعود الى بلدها تقول بأن بلجيكا هي البلد الذي فهمته أقل من سواه! وبما أن اليابان لم تبارح مخيلة المؤلفة منذ الطفولة فقد عادت اليها بعد عشرين عاماً تقريباً لتقول: لم تكن اليابان التي عرفتها ومع ذلك كانت هي اليابان محتجبة بين شبكات الطرق السريعة والعجائز المرتديات الكيمونو.. كما أن اليابان هي التي أمدتها بالطاقة للكتابة.. ولم تعد الكتابة كما أشارت في الختام الى الاندفاعة القصوى والرغبة التي لا تنضب ابدا، والحاجة التي تمنح التشوه.
جريدة الرياض اليومية الاربعاء 9 ربيع الأول 1428هـ - 28 مارس 2007م - العدد 14156
رابط الخبر : http://www.alriyadh.com/2007/03/28/article236768.html
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: بيوغرافيا الجوع - قراءة: عمر عبد الرحمن أبو راس (Re: عصام عيسى رجب)
|
العزيز عصام لم أقرأ الرواية.."لأن أصدقائي في الرياض فضلوا أن يحبسوها عندهم ويحقنوننا بقراءتهم لها" ولكنني أميل إلى أن الصديق عمر أبوراس قدم قراءةً لـ"تصور" المؤلفة للجوع وليس للرواية كعمل أدبي بحت - رغم الإشارة غير مرة إلى براعة السرد- ..أكثر ما شدني في قراءة أبوراس أنني كلما أمعنت في القراءة كلما ازداد شعوري بالحضور الطاغي لبخار الايدولوجيا،أو حضور نقيضها الذي يفضح وجودها مهما استترت خلف "سرد آسر" بدا لي ذلك من خلال التنقل المخادع والتفلت بطريقة فاتنة من أية منهجية "نقدية" بعينها في الوقت الذي يتعمد "بتلقائية؟" أن يسقط بقعة ضوء"SPOT LIGHT"هنا وأخرى هناك مومئاً إلى موقف المؤلفة المخاتل من الجوع ذلك الموقف الذي صورته قراءة عمر - حسبما تلقيتها - كرطانة تأملية وظفتها المؤلفة مع موتيفات من سيرتها وأكليشيهات فولكلورية من بلدان لم تكن سوى " مسرح" لفصول من تجربتها الحياتية في قراءة متعالية لمعاناة شعوب حولتها "براعة السرد" إلى موضوعات تعتقد المؤلفة أن ما يكشفها هو نقيضها الذي أسقط عليه أبوراس " من غير قصد؟" إحدى نقاط الضوء فظهرت سيرة نمطية لذهنية غربية تتأمل شرقها.
شكراً عصام.. واعتبرها مناورة بغرض استعارة الرواية.
| |
|
|
|
|
|
|
|