|
الصادق المهدي يحكي: الأنصار لم يقتلوا الطيب السرّاج.. قتله الحرامية..!
|
الصادق المهدي يحكي: الأنصار لم يقتلوا الطيب السرّاج.. قتله الحرامية..! بقلم: وجدي الكردي
على طريقة: (ذهبت جيبوتي لأصطاد فأراً، فوجدت فيلاً)، ذهبت لبيت الصادق المهدي أمني نفسي بـ (فأر حكاية صغير)، فإذا بالإمام الحبيب يفتح لنا أبواب حديقته ليهدينا (أفيالاً) من الروايات والأقاصيص.. ونحن نهم بدخول (بيت الصادق)، لحظنا في ركن منه لافتة إقتاتت عليها الشموس والغبار تقول: شارع نسيبة بنت كعب، فعجبت لمن زجوا بهذه الصحابية الجليلة في هذا الشارع الذي يشكو وجهه من بثور وحب شباب تولىّ. أهو سوء تقدير أم نكاية؟ لم نمكث كثيراً في إستقبال البيت الضاج بالحركة، دقائق أسفل السلم حتى صعدنا إلى أعلى حيث الإمام الحبيب.. في طريقنا إليه، كانت (السيدة سارة) كمن تدس وجهها في باب صحيفة مفتوحة (ضلفتيها) وهي تجلس بمكتب في منتصف (الهول الواسع)، تدير عمالاً منهمكين في صيانة البيت العجوز.. حين دخلنا عليه، هبّ ابنه عبدالرحمن واقفاً بقامته المهدوية الفارعة ليخرج، بعد أن أعطى كل منّا نصيبه بعدل، من إبتسامة واسعة.. بدا الإمام وسيماً ومنهكاً في آن، لم يكن في كامل لياقته (المصطلحاتية)، كأنما الماكينة التي تنتج عباراته العجيبة في عطلة أو معطلة.. دخل سريعاً في (الموضوع) بخبرته الواسعة في التعامل مع (الميديا).. الفكرة هي مجموعة حلقات عن (أوراق عُمر) الإمام الصادق بن الصديق بن عبد الرحمن بن محمد أحمد بن السيد عبدالله، والإفادات يسجلها الزميل الاستاذ النذير إبراهيم العاقب لـ (الرأي العام) تنشر لاحقاً متسلسلة.. مهمتي تنحصر في جمع الأوراق التي تسقط بعيداً من (سلة النذير) وعرضه في (حكايات)، قد تكون هذه الحلقة الاولى والاخيرة، وقد أجمع من شتات كل حلقة حكاية ـ (حسب التساهيل) ـ وكرم الإمام الحبيب.. (1) قبل ان نختبر أسنة الإقلام في حضرة الأمام، جاءونا بمشروب من (منظور سودانوي): عصير من التبلدي والكركدي، و(ملوة تمر) من سليل نخلة حرة.. لم يكن ينقصنا إلا (حبيب الشعب الفول) كما تمنّاه محمد المهدي المجذوب قائلاً: هات فولاً بالزيت في أول الليل واذهب به الشجا عن لهاثي هاته والرغيف والكوز والقلة أشهي لعيني من مهاة..! (2) أول ملاحظاتي في مسيرة الامام الحبيب، أيام الطلب، محطة عجيبة اسمها (سنة تانية).. كيف؟! إستهل الامام الصادق تعليمه متنقلاً بين خلوتي الفكي علي السيوري بالجزيرة أبا، والفكي احمد العجب في ام درمان، وحين إنتقل إلى (مرحلة الكُتاب) بالجزيرة أبا، إستمر فيها حتى (سنة تانية)، ليغادرها إلى مدرسة الأحفاد في أمدرمان.. أكمل الأحفاد لينتقل إلى كمبوني في الخرطوم ولكنه في (سنة تانية) غادر كمبوني لكلية فكتوريا بالاسكندرية، وفي (سنة تانية) غادر فكتوريا بغير رجعة.. التحق بكلية العلوم في جامعة الخرطوم وكانت امنيته ان يدرس الزراعة مع رفيقه عمر نور الدائم، لكنه أيضاً، غادر جامعة الخرطوم في (سنة تانية).. ليلتحق بكيمبردج ولا أعرف ان كان غادرها هي في (سنة تانية) أم لا؟! فمن يملك تفسيراً لهذه السنة؟! (3) الإمام الحبيب، قال لـ (حكايات) انه تعرض في مستهل حياته لسلسلة من الصدمات الحضارية، اولاها كانت حين إنتقل من مدرسة الجزيرة أبا الأولية لمدرسة الأحفاد و.. (مجتمع الجزيرة أبا كان منضبطاً ومتآخياً واقرب الى المدينة الفاضلة، وفيه: (شفت كل قبائل السودان واتعلمت منها..)، والصدمة الثانية كانت في كمبوني الوسطى التي: ( أول مرّة آكل فيها بالشوكة والسكين)، أو كما قال الإمام..! الصدمة الثالثة حلت بالصادق المهدي في كلية فكتوريا وكانت جد عنيفة حيث قال: (..لبسنا الروب والبجامة وشفنا البنات عريانات والنسوان بالمايوه..).. ربما إستنكاراً لهذا التفسخ، يبرر المهدي ظهور حركة «الأخوان المسلمون» في مصر كرد فعل رافض للتفسخ الذي حلّ بالمجتمع المصري الذي (تفرنج) عنوة مع مرجعيته الاسلامية.. سألته كيف عصم نفسه من هذه (البلاوي المتلتلة)، قال الإمام الحبيب: ـ (أيام الآحاد، كنت أخرج من الداخلية المنضبطة إلى منزل علي عبد الله البنا، من اسرة البنا وابن شاعر المهدية الشهير، كان محكوماً عليه بالاعدام لانه من (بتوعين) ثورة 1924م، فتوسط له الامام عبد الرحمن فأطلق الانجليز سراحه.. علي البنا لجأ لمصر والتحق بجيشها حتى وصل لرتبة اللواء، وقائداً لحرس السواحل في الاسكندرية.. المهدي أضاف بحسم: ـ بالطريقة دي ما كان في (كده ولا كده).. (4) نعود لمدارس الأحفاد، يقول سيدي الصادق المهدي: ـ (ان بابكر بدري شخصية غريبة، (مع انو مجاهد) في جيش المهدي وتم أسره، لكنه (بصورة ما) صار تفكيره حداثياً في التعليم وتبنى افكاراً ثورية جداً مثل قاسم أمين، المدهش ان الامام عبد الرحمن بدلاً ان يعاكسه ـ لاسباب كثيرة ـ ساعده، ولولا دعمه الادبي والمادي، لما استطاع بابكر بدري منافحة الذين هجوه، مثل قائلهم: أبعد الشيب يا ود بدر تأتي أموراً في بني الاسلام تنكر؟ ما أسفت عليك لكن.. أسفت على الأحفاد بين يديك تخسر.. سألت الإمام الصادق: من القائل؟ أجاب: ـ والله ما عارف، واحد من شعراء الزمن داك.. (5) تبريراً لخط الامام عبد الرحمن (التجديدي)، حكى المهدي طرفة، طرفها أنصاري مجيد، قال: قدم الامام عبد الرحمن يوما احد أئمة المالكيين ليصلي بالأنصار، فدخل الامام المالكي (تووش) على سورة الفاتحة دون أن يتبسمل أو يتعوذ، فتصدى له عبد المجيد ابو ساق، المجيد في انصاريته، فسلّم واقفا وخرج من الصلاة ليصلي لوحده ولمّا سألوه: ـ مالك يا عبد المجيد طلعت من الصلاة؟ قال: ـ ما بنصلي انا والشيطان في صف واحد، زولكم ده ما بقول بسم الله ليه؟! (6) في كلية فكتوريا أيقن الطالب الصادق المهدي ان (شغلانتو بايظة) مع اللغة العربية، كان نهج الكلية يكرس للغة الانجليزية على حساب العربية، فقام مفتش اللغة العربية (بزيارة مفاجئة) ـ ليست مثل زيارات الطيب سيخة أيام تثوير الخدمة أو تسويرها، لافرق ـ المفتش طلب من الطالب الصادق أن يقرأ قصيدة بعينها فتلجلج.. ـ هل تذكر القصيدة سيدي؟ ـ كيف.. (عمري ما بنساها).. القصيدة للشاعر الصعلوك، بشر بن عوانة العبدي، قالها حينما طلب ابنة عمه فاشترطوا عليه أن يسوق ألف ناقة مهراً من نوق خزاعة، يريدون هلاكه بالسير في طريق وعرة مليئة بالمخاطر، وفي الطريق قابله أسد، وكانت القصيدة: أفاطم لو شهدت ببطن خـبت ü وقد لاقى الهزبر أخاك بشرا إذن لـرأيـت ليـثا أم ليثـا ü هزبـرا أغلبـا لاقى هزبرا (7) ـ يقول الصادق انه قام بتقطيع أوصال القصيدة أرباً أرباً وهو ينشده، فضحك عليه المفتش ويومها شعر بأنه: (اتهزأت كده)، وأيقن انه: (في المحل الغلط).. وممّا زاد طين (العربي) بلة، ان قام أستاذ انجليزي (متفلقص) اسمه (ثويبي) بتأليف أشعار سمجة من شاكلة: (فكتوريا أووه فكتوريا)، قصائد تكرس للانجليز وتمجد الملكة، فكره الصادق هذا الضرب من التعليم المقيت، أو هكذا خيّل له.. عاد المهدي في إجازته السنوية للخرطوم وهو في (سنة تانية فكتوريا) وأول ما فعله أن: (شرطت كتبي كلها)..وعلم أنه: (زي التعليم ده ما بينفع معاي).. المهم: (كنت عارف انو ده غلط، لكن الصاح شنو ما عارف)..! (8) التحول الكبير الذي حدث في حياة الأمام الحبيب يصفه بقوله: ـ ( في الحتة دي) صادفت شيخ الطيب السراج، كان الامام عبد الرحمن قد اختار السراج ضمن مؤرخين مكلفين بإعادة كتابة تاريخ المهدية، فوجد الصادق في شيخ السراج ملاذاً لأفكاره التي تقول بخطل التعليم الحديث، ويؤكد المهدي مطابقته لافكار السراج بالقول: (ممكن تقول وافق شن طبقة)..و: (بالنسبة لي كان السراج اكتشافاً عظيماً جداً).. قلت للإمام الصادق: ـ لكن السراج كانت أفكاره بالية جداً، وكان يبدو كأنه خرج من معركة بدر متوجهاً لأبي روف؟ قال الصادق: ـ أيوه، عارف.. السراج (بيقولو) انه كان يقفز بحصانه على المراكب في أبي روف ليعلمها كيفية القفز على الاساطيل..! وحين يقال لشيخ السراج على سبيل المداعبة: هل تذهب لأوربا يقول في حسم: إلا غازياً..! لكن الصادق المهدي يقول في إعجاب ظهر جلياً في عينيه: ـ (لم ألتق من هو اعلم من شيخ الطيب السراج في اللغة وفي نفس الوقت (دمو خفيف جداً).. وعن مدى عمق علاقته بالرجل يقول الإمام: (انا كنت تقريبا ابيت معاهو في البيت، واقعد معاهو بالأيام والاسابيع).. سألته: والقراية عملت فيها شنو؟ قال الصادق: ـ (قراية شنو، انا خلاص بقيت مع شيخ السراج مع المفاهيم الخارج العصر دي)..! (9) وآخر قولي مثلما قلت أولاً: لمن طلل بين الجدية والجبل..؟! وعلى ذات الطريقة قلت: أطلق للإمام قطاً في برج الحمام.. سألته: ـ ما قولك سيدي الإمام في (ما يقال) بأن الانصار وراء مقتل الشيخ الطيب السراج؟ رد الامام في هدوء: ـ الانصار ما ليهم دخل.. شيخ السراج صديق للانصار ما في أي مبرر يكتلوه.. وأين كنت وقتها؟ ـ انا كنت مافي.. ـ كنت وين؟ كنت في الجزيرة أبا.. سنة كم؟ ـ سنة 1963م ـ تفتكر منو الكتل السرّاج؟ ـ الناس الاعتدوا على شيخ الطيب غالباً حرامية.. ـ ليه غالباً؟ ـ لأنهم سرقوا المال العندو، السراج كان عايش لوحدو كأنو في خلوة.. ـ عرفت كيف؟ ـ أنا كنت بقعد مع شيخ السراج (مدات طويلة)، ما كان في زول بجيهو غير أصحابو.. أنا بفتكر غالباً العمل كده .. حرامية.
|
|
|
|
|
|