الطيب صالح فى ذكرى أكرم صالح!متعة القراءة وقراءة المتعة!

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-07-2024, 00:15 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الثاني للعام 2010م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
06-01-2010, 06:55 PM

jini
<ajini
تاريخ التسجيل: 02-05-2002
مجموع المشاركات: 30720

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
الطيب صالح فى ذكرى أكرم صالح!متعة القراءة وقراءة المتعة!

    Quote:
    يا ليت لي بالشام أدني معيشة
    أصاحب قومي فاقد السمع والبصر
    يا ليتني أرعي المخاض بقفرة
    وكنت أسيرآ في ربيعة أم مضر

    جبلة بن الأهيم


    أخر عهدي بأكرم صالح كان في تونس قبل شهر من وفاته في ردهة نزل المشتل إذا صوت يناديني (طيب مش معقول) لم أكن قد لاقيته منذ عام هكذا ظللنا نلتقي صدفة منذ تفرقت بنا السبل (ماذا جاء بك الي هنا) دعاني إتحاد إذاعات الدول العربية لإلقاء محاضرة عن النقد الرياضي سوف أذكر الرأي الذي قلته لي إن الناقد يجب أن يركذ علي المحاسن وليس علي المساوئ..النقد الرياضي مثل النقد الأدبي..كانت هذه عادته تجيش أفكاره عفو الخاطر بلا مقدمات وبلا نظام
    (متي قلت لك ذلك )
    (أسمع نتغدي معا ضروري ولا ترتبط علي العشاء)
    طيب طيب ولكن أي ندوة هذه
    كيف عبد (بكسر الباء) كيف أحمد
    كويسين
    أسمع طيب أنا فكرت إذا حصل أي شئ لعبد أو أحمد أترك كل شئ وأكون بجوارهم
    يا أخي ماذا يمكن أن يحدث ؟ أحوالهم عال وصحتهم زي البمب عبد الرحيم ترك التدخين بيتمشي مدة ساعة كل مساء في حقول بيرن وأحمد ساب التدخين من زمان وبيعمل (جوقنج) أي يمارس رياضة العدو
    طيب لازم ننفذ الفكرة نجتمع كلنا في بيرن عند عبد الرحيم أو في لندن خسارة ماإجتمعنا في باريس لما كنت إنت هناك كيف الدوحةمعاك ؟ ما تجي تسمع محاضرتي سوف أذكرك فيها
    لازم أحضر إجتماع وزراء الثقافة
    بالله عملوك وزير ثقافة؟
    الله يجازيك ما إنت عارف أنا بشتغل في اليونسكوهل أنا بتاع وزارات ؟ نحضر المؤتمرات مراقبين
    لازم يا طيب ترجع السودان بعدما نميري راح.. يا الله شو هادا الشعب ؟ كانت ثورة مش هيك ؟ مش إنقلاب
    كانت ثورة بحق وحقيقة
    بالله عبد صحته منيحة وأحمد ؟
    أحمد مش صحته منيحة عاوز يتجوز ثاني يرجع بني سويف ويبقي عمدة ويتجوز واحدة شرط سنها ما يذيد علي ستاشر وعبد الرحيم مبسوط الفلوس مش عارف وين يوديهابس زهقان
    الجماعة في الإتحاد ممكن يدبرو لي شغلة في تونس.. تونس حلوة مش هيك ؟ يا ريت إنت كمان تجي تونس
    خلاص إذا إنت جيت تونس كلنا نتجمع في تونس أصله اليونسكو أفلست ويمكن يقفلوها
    طيب إنت ضعفان أنا وزني نزل مش هيك ؟ بحياتك أنا باين علي الكبر؟ أبدآ شباب.. زي قبل عشرين سنة.. لا تنس إننا من نفس السن
    تشبث أحدنا بالأخر طيلة ذلك الأسبوع إسترجعنا ذكريات الماضي الذي يمتد أكثر من ربع قرن بمسراته وأحزانه. إستحضرنا شخوص أخوننا من ذلك العهد, منهم من قضي نحبه ومنهم من ينتظر. ولا بد أن الحديث عن الأحياء والأموات قد إخطلت بعضه ببعض ولم يجئ هكذا إنما هذا الأن لأن أكرم صالح قد مات كنا نتحدث ونضحك في الغالب,عن الأحياء والأموات . وكان قد بقي له نحو شهر فقط من رصيد العمر. قلت له إن موسي البشوتي كان أقومنا سلوكا لا يدخن ولا يشرب و لايقامر ولا..من البيت للمكتب ومن المكتب للبيت يتريض ويعيش في الهواء الطلق.مات بالسكتة القلبية. فلسطيني من الناصرة له ولدان من زوجته الإنجليزية لا بد أن ولديه قد كبرا وتخرجا من الجامعة نصراني إبن عرب قلبه مثل اللبن الحليب. كنت أقول له مازحا أن جسمه جسم فيل وعقله عقل عصفور لراجل طويل عريض زيك جاري ورا الكورة كان يحب كرة القدم وهو الذي شجع أكرم علي أن يكون معلقا رياضيا حاول أن يفهمني عدة مرات لعبة الكريكت ولكنني لم أفهم كان معجب بدمقراطية الإنجليز في بلادهم أحيانا يكرههم وأحيانا يحبهم
    ايه بس موسي كان عصبي
    صحيح كان حين يدخل ستديو الإذاعة يتحول الي كتلة من الأعصاب إذا فتح أحد عليه الباب يهب كالثور الهائج ويمسك بخناقه
    مرة كاد يقتل مستر.. فتح عليه باب الإستديو وهو يسجل برنامجا
    حسني العبوشي مسكين وجدوه ميتا في الحمام
    فلسطيني أخر لا أذكر الأن من أين القدس أم جنين كان متدينا جدا حتي في لندن في تلك الأيام يقبض علي دينه كالقابض علي الجمر.جاءنا من كراتشي مع عياله وزوجته الباكستانية قال له أبو جرجس وهما في المصعد وحسني يخالس النظر,فتاة مفرطة الجمال صعدت معهم (والله يا أبو..إذا طلعت الحكاية مش زي ما بتقولوا يكون خازوق) أبو جرجس سعيد العيسي نصراني إبن عرب من فلسطين شاعر معروف تشرب روح الإسلام ككل النصاري العرب المخلصين له قصائد جميلة في مدح الرسول صلي الله عليه وسلم . ذكرني بأميل بستاني إذ سألته في برنامج كنت أقدمه تلك الأيام إسمه (الواحة) ما هما الكتابان الذان يحملهما معه دائما في سفراته أجابني (القرآن الكريم وديوان المتنبئ) كان حسني رحمه الله يصلي الفجر حاضرا ويذهب الي سوق اللحم في سمثفيلد يشتري ما يلزمه وأحيانا يجئ به الي المكتب في قفة أعارني مرة نسخة لم أكن أعام إنها نادرة من كتيب شهير لهنري فورد عن اليهود لا بد أن حسني قد تركها في قاع المقطف ووضع عليها اللحم.وجدتها مبقعة بالدم فرميتها في سلة الزبالة.ظل يلاحقني الي أن تركت لندن .كان يوبخني إنني فرطت في الصلاة .نعم ذلك العالم المفتوح وفي الوجه ما يكفي من النضارة وفي الجيب ما يكفي من المال,واللسان طلق,والدنيا كأنها خلقت لساعتها.غفر الله لي فقد كان إسلامي رقيقا عهد ذاك

    ذهبت جدتي بطاعة نفسي
    وتذكرت طاعة الله نضواء
    كما قال الحسن بن هاني سامحه الله
    ألخطأ والصواب

    حين ذهبنا لندفن أخانا قيس كردي إحترنا برهة من يصلي بنا صلاة الجنازة.ما من أحد منا صلي بالناس صلاة الجنازة من قبل.وقفنا علي حافة القبر مسلمون ونصارة وأخ لنا عربي يهودي من البصرة شيعناه بعد ذلك بأعوام قليلة في مدافن اليهود (السفرديم) في جولدرزجرين. أذكر إنني قلت لنفسي,المقبر يغطيها عشب ندي شديد الإخضرار,وكل قبر عليه باقة من الزهور, والربوة التي فيها المقبرة تتحدر الي أودية من هنا وهناك , وضوء الشمس في ذلك الضحي ناعم ذو ألوان شتي كجناح فراشة, الموتي كأنهم أحياء.وقفنا في تلك المقبرة الجميلة ندفن رجلا مسلما ولا ندري كيف نصلي عليه. كان أكرم صالح وأنا أقرب الناس لقيس كردي,من القدس إذا لم تخوني الذاكرة,مرحا مهذارا جاء للعلم والعمل,كان يعمل طابعا في القسم العربي لهيئة الأذاعة البريطانية,تزوج إنجليزية من عائلة ثرية وكان حفيا فرح بها, حين رأيتهما معا قلت لأكرم أو لعبد الرحيم الرفاعي (هاذان علاقتهما هشة كفرخ الحمام,أدني شئ قد يكسرها) أنجب منها ولدين ثم تركها صدمته بسيارتها خطأ كما حكمت المحكمة فيما بعد
    وقفنا علي حافة القبر وفجأ خرج من بيننا شاب طويل وقور السمت مطمئن النفس, إسمه محمود السوقي , صلي بنا أحسن ما تكون الصلاة, ودعا أحسن ما يكون الدعاءْْ, بكينا كلنا علي أخينا مسلمون ونصاري وأخونا اليهودي البصري ونظرنا الي الشاب الذي صلي بنا لم يكن أرسخنا قدما ولا أطولنا باعا ولا أعلانا رتبة ولا أرجحنا عقلآ , نظرنا إليه فكبر في أعيننا وكأننا نراه لأول مرة.
    إنها قصة محزنة في مجموعها ولكن أكرم صالح كان مرحا حاضر النكتة,سريع البديهة,تقضي الوقت معه وأنت في ضحك متواصل.فلسطين كانت تؤلمه دون شك,مثل شوكة غاصت في باطن القدم,ليس أقل مما ألمت معين بسيسو صديقه القديم الذي ذكرناه أيضا في تونس,لكنه حمل ذلك العبء بخفة,حتي ليظن من لا يعرفه إنه لم يكن يبالي,كان توفيق صايغ مثله في ذلك ,لا تكاد تجد في شعره ظاهريا ذكرا لفلسطين, لكنها كانت تحيط به من كل النواحي, العبء الذي أنقض ظهر أكرم صالح كان عبئا أخر.وكنا نعجب لم ألقاه علي ظهره ولم ظل يحمله ما يقرب من عشرين عاما
    (يعقوب مسلم كان عنده القلب من زمان)
    يا ساتر يعقوب كان عصبيا جدا أكثر من موسي بشوتي يثور لأتفه سبب
    تذكر حين طارد مستر.. في ممر الإذاعة ؟
    جري وراءه وهو يحمل حذاءه في يده ويصرخ (والله لاكسر رأسك بها الكندرة ياإبن ... (كان متغطرسا ذلك الخوجة) كان عنده دكتوراه من إكسفورد , نشأ في روديسيا أو جنوب أفريقيا إختفي بعد تلك الحادثة هل تذكر ماذا فعلوا مع يعقوب ؟
    لا شيئ ناداه مستر هوايتهد وقال له هذا السلوك لا يليق بناس محترمين(مستر هوايتهد الله يذكره بالخير كان رجلا فاضلا أظنه ما يزال حيا )
    سمعت أنه يعيش في سمرست حين كنا معا في مكتب بيروت,ومرضت كان يزورني كل صباح في السادسة تماما طياة ثلاثة أشهر,كان يمشي علي قدميه من بيروت الي مصيف عالية كل صباح وفي طريقه يمر علّ في المستشفي ,وجهه الأحمر يتوهج بالصحة وهو فوق الستين. لابد أنه الأن في التسعين من العمر
    (كان معجبا بك)
    وأنا كنت معجبا به إختلفت معه مرة فقال لي (مشكلتك يا مستر صالح إنك ليس عندك ولاء للهيئة) قلت له تعرف يا مستر هوايتهد أنا ما عندي ولاء حتي لوطني بالطريقة التي تطلبها زاد وجهه إحمرارا وخرج جاءني بعد نصف ساعة وهو يبتسم .قال لي أنا آسف لم يكن يحق لي أن أقول لك ذلك
    (لو كنت في السودان أيام نميري كان دخلوك السجن )
    أو أحالوني علي المعاش علي أحسن الفروض
    (أظن نميري لم يكن يحبك )
    الحمد لله لم يكن يعرفني ولا أعرفه لاكن صديقا حكي لي أنه قال له صاحبك هذا طلبنا من يجي يشتغل معانا قال لا يمكن أترك لندن شوية سمعنا أنه طار راح إشتغل في قطر
    (الإنجليز كانوا متسامحين معنا جدا في تلك الأيام كنا كأننا نملك الإذاعة) أنت بالذات أتعبت مستر هوايتهد صبر عليك لأنه كان يعلم إنك إذاعي موهوب تذكر يوم زواج الأميرة مارجريت ؟
    (ايه اخدتني نومة الدنيا انقلبت أدخلوني بصعوبة , حرس ورجال أمن ودنيا ) أنت كنت تصف الحفل عند قصر بكنجهام وأنا عند تشرش وستمنستر بدعنا يومها
    رجعنا تعبانين وحالتنا بالويل, الخواجة دخل علينا كن نظن أنه سوف يهنئنا قال كنتو تقولو سيداتي وسادتي كتيرأنت قلت له علي طريقة عبد الرحيم يا خواجة ما تسيبنا في حالنا نحنا في ايه وانت في ايه
    (عبد وهو رئيس قسم كان كل ما تجيه مذكرة ينظر إليها بقرف ويقول يا أخي ما يسيبونا في حالنا ) أظن مستر هوايتهد أرسل لكل واحد منا خطاب تهنئة بعد ذلك
    (بالله عبد حالته منيحة )
    إنت عارف أصبح مدير إذاعة في سويسرا ترك كل شئ, المراهنة علي الخيل والتدخين, والجري ورا .. كلنا جرينا ورا(..) المال والفراغ والجدة ربنا يغفر لنا
    كنا أثرياء بمقاييس تلك الأيام عبد الرحيم وأنا كنا نسكن شقة في نواحي كامدن تاون, تذكر ندفع فيها عشرين جنيه في الشهر وباقي راتبنا نضيع أغلبه في الكلام الفارغ
    عدنان كان أشطر واحد فينا أول ما وصل لندن إشتري بيت في كرويدن
    عبد الرحيم الآن يذكرني بواحد في بلدنا كان كثير الزواج والطلاق عبد الرحيم الأن كل كم شهلر يبدل سيارته يشتري سيارات فاخرة سكند هاند بأثمان بخسة
    (ايه عبد كان مرزق ,كان دايما يجد فلوس وأشياء ثمينة ملقاة علي الأرض) أنا علي العكس تماما عمري ما وجدت شئ واقع
    ايه بس إنت كنت مرزق فيهن
    يا راجل كما يقول عبد الرحيم يا أخي في واحد عمل عمايلك إنت وعبد الرحيم
    عبد الرحيم كان مجرم
    وانت كل إمرأة تقابلها كانت تريد ان تتبناك هل كنت تفعل ذلك عن عمد
    أبدا والله سعود هو اللي كان يقول للبنت أنا فلسطيني مسكين ما عندي وطن يتيم أمي وأبوي ماتوا في الحرب
    سعود ألحق أضرارا كثيرة بهذه الطريقة
    وأحمد كمان ما قصر
    في ذلك السوق العامر كان كل واحد يجد رزقه ,محمود مرسي كان طويل وأشقر وعيونه خضر, كان ملفت للنظر لكنه كان خجول. نحن كنا مدبرين حالنا بالقليل الذي عندنا كان يقول لي ولعبد الرحيم فهموني بس إنتو بتعملوا سحر لهن ولا ايه بتكلموهم إزاي؟ بتقولولهم ايه؟


                  

06-01-2010, 06:57 PM

jini
<ajini
تاريخ التسجيل: 02-05-2002
مجموع المشاركات: 30720

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الطيب صالح فى ذكرى أكرم صالح!متعة القراءة وقراءة المتعة! (Re: jini)

    Quote: عبد كان لازم يتجوز (أبو اللوز) كما كان يسميها أبوها كان جنرال أو ماذا ؟
    وإنت لماذا لم تتزوج البنت التي كانت تجيئك من كمبردج ؟ ايه كانت عظيمة بس الرائعة فعلا كانت الكندية المتدينة بتاعة الكرستيان سينس كانت إمرأة فارهة كما يقول صديقنا عثمان محمد الحسن
    (وأنت ألم تحبك البنت اللي أهلها بيصنعوا المربي الشهيرة )
    كل مرة أشتري هذا النوع من المربي اتذكرها كانت رسامة ومتقلبة الأطوار, تحبك اليوم وتكرهك غدا
    يا باي أهلها كانوا مليونيرات..كان عندهم أكبر محل لبيع لعب الأطفال في لندن
    أرسلوها في رحلة بحرية طويلة إلي جنوب أفريقيا لتنسي

    (يعقوب كان من الناصرة)
    لا من بيت لحم
    رحمه الله كنا نتصرف وكأننا جنود في جيش غازي في مدينة مفتوحة, المضحك المحزن ان المدينة كانت لندن عاصمة الإمبراطورية البريطانية الناس الذين أعطو وعد بلفور وأنشأوا دولة إسرائيل كنا كما يقول الشاعر الإنجليزي نعيش زمنا رغدا علي حافة الجحيم لعل هذا ما عنيته حين قلت علي لسان مصطفي سعيد في موسم الهجرة الي الشمال (إنني جئتكم غازيا في عقر داركم قطرة من السم الذي حقنتم به شريان الشعوب
    طيب إنت لخصتنا جميعا في شخصية مصطفس سعيد
    أخذت روح تلك الفترة من جيلنا والجيل الذي سبقنا..بعض الناس يظنون ان مصطفي سعيد شخص بعينه, بعضهم يقول أنه انا..واضح إن الأمر ليس كذلك, هذه شخصية خيالية فيها ملامح من مئات الناس
    إنت علي أي حال عوضت بالكتابة
    الكتابة فيها بعض العزاء لكنها لا تعوض الزمن الضائع لا شئ يعوض عن الزمن الذي ضاع هدرا. تعرف يا أكرم أنا أؤمن الأن أن إبن العرب يجب أن يعيش في بلد عربي مهما كان الثمن, والمسلم يجب أن يعيش في بلد مسلم , لايمكن أن تكون مسلما في بلد كافر صدق عبد الرحمن الأبنودي : في الفجر قال الآذان
    زي في كل يوم بيقول
    بلاد الكافرين ما تسع غير الكافرين
    مهما الزمن يقصر ومهما يطول


    أسماء وأوصاف

    هل تظن في العمر بقية نعوض فيها عما فات ؟ كان أكرم متحمسا لتعويض ما فات
    أواخر المسينات وأوائل الستينات في لندن كنا صباح الوجوه بدرجات متفاوتة والذي حرم الوسامة كساه الشباب حلة تفي بالغرض وكنا حسني الأصوات بدرجات متفاوتة
    عبد الحيم الرفاعي , صوته مثل شخصيته مهذب عميق أنيق رائق واضح النبرات
    وأكرم صالح صوته مفعم بإحتمالات الأفراح والأحزان كأن أحد يريد أن يضحك ويبكي في الوقت نفسه
    وصلاح أحمد كأنك مزجت أصوات نات كنج كولول ولوي أرمسترونج وجلال معوض
    ومنير شمة كان حين يقول هنا لندن تحس كأن الأسير بحرا تلاطمت أمواجه
    وصلاح عز الدين , مزيج من طه حسين وبيرم التونسي يتحدث الفرنسية والإنجليزية بطلاقة أصله ثابت في أحياء القاهرة القديمة وفرعه في فنشلي رود والبوليفار سان ميشيل وصوته يوحي بكل ذلك
    وكان حسن الكرمي قبل ذلك قد قطع شوطا بعيدا في ميدان التعليم في فلسطين, من علماء اللغة العربية عميق المعرفة باللغة الإنجليزية موسوعي صاحب قواميس صوته وقولر متحفظ يقرأ نشرات الأخبار ولسان حاله يقول : فيا برق ليس الكوخ داري وانما
    رماني اليه الدهر منذ ليالي
    وعبد الرحمن بشناق,كان قبل أستاذا في الكلية العربية العتيدة ودرس في كمبردج,صوته كريم وسيم مثل شخصيته
    ونديم صوالحة جاء الي لندن من بادية الأردن ولما يبلغ العشرين,حسن الوجه,حسن الصوت صوتوه بدوي لم تطمس بداوته دروس الدراما التي كان يتلقاها في كلية روزبوفرد
    وعلي ابو سن,طويل وسيم متوقد الذهن,من أرومة سامقة في السودان يقرأ نشرات الأخبار كالمتفضل علي الإنجليز,صوته يوحي بأنه لا ينوي أن يمكث طويلا في تلك المحطة, وأنه يرنو الي قمم أعلي وآفاق أرحب
    محمد البيبي,دمث موطأ الأكناف,يؤدي عمله بإخلاص,يأتي وينصرف في الوقت تماما.كالسجين تحسبه قد إستمرأ حياة السجن حين تستمع الي صوته الحي الحذر , لا يمكنك أن تتصور ما يعتمل في صدره من حنين للبلاد وأحزان علي مصائر العباد,ذلك الحنين وتلك الأحزان أنقضت ظهره فيما بعد.
    وأبراهيم رزق إداري كفء وإذاعي قدير, أخذ نفسه بالشدة مثل حبل قد يقطع في أي لحظة,من بيت جاله, فيما أظن ومن الكلية العربية يقينا , في صوته شئ من هذا وذاك
    و محمود مرسي الذي اصبح فيما بعد نجما سنمائيا لامعا , شكله إسكندراني وصوته صعيدي
    وفؤاد جميعي , شكله إسكندراني وصوته إسكندراني, صوته ليس عزبا ولا جميلآ ولكنه جذاب, تسمعه فيبقي في ذاكرتك وتسأل نفسك ما الذي أعجبك فيه
    وفؤاد علم , يعرف ما ينفعه ويحدد الهدف فلا يخطئه, يعمل لدنياه وآخرته كأنه يعيش أبدا , يذيع علي عجل لأنه يفكر دائما في شئ آخر
    وحسين أحمد أمين , صوته مصري إبن ذوات فيه نبرات من دار العلوم
    وليلي طنوس, مسيحية كالمسلمين , عربية كالأروبيين, أرستقراطية كبنات البلد , تشربت حب اللغة العربية في الجامعة العربية في بيروت , ومن البستاني والعلايلي ومارون عبود فيها من رومانسية جبران وجاذبية لبنان تتلمس الكلمات العربية وهي تنطقها كأنها قطعة من عملة أثرية نادرة
    وداؤد الذبيدي فيه أريحية العراق والأغوار البعيدة في وجدان الشيعة صوته خليط من قراءات عاشوراء ومقامات ناظم الغزالي
    وجمال الكناني ,جاء علي كبر , وقد رأي أياما أفضل , عمل في الدبلوماسية المصرية في عهد الملك ولما قامت الثورة أحالوه علي التقاعد , كان يحتقر الإنجليز سرا وعبد الناصر علنا , إبن شيخ أزهري وقد درس في جامعات بريطانيةوأميركا ,لم تكن الإذاعة من شأنه ولكنه تعلمها بالصبر وقوة الإرادة , رجل واضح المقدرة , كان ينفع سفيرا أو وزيرا لو أنهم لم يظلموه ولم يظلم نفسه , يذيع مثل شخص يعمل رئيسا للخدم في القصر الذي كان يملكه أبوه , والمالك الجديد إبن رئيس الخدم
    وصباح محي الدين , هل من دمشق أو حلب , جائنا يحمل درجة الدكتوراة من السربون وزوجه فرنسية كان حجة في نوادر الرفث عند العرب يحفظ منها قدرا هائلا شعرا ونثرا , تعود العيش مع الفرنسيين فما راقته الحياة في لندن كان يكره الإذاعة ويحتقر الأوربيين عموما كل الجهود لتعليمه الإذاعة باءت بالفشل , مات بعد ذلك في حادث سير في الكويت
    وموسي السعودي من القدس , لعله كان أحسن قارئ للأخبار في تلك الأيام , كريم متلاف صريع غواني له مطلب واحد يحصل عليه دون مشقة , كان مذيجا عجيبا من الفارس والصعلوك, قابلناه في جنيف عام 1973 عبد الرحيم الرفاعي وأنا , وكان قد طلق زوجته الإنجليزية وتزوج هولندية وحصل علي درجة الدكتورة وأصبح أستاذا في جامعة لايدن , نظرنا إليه ولم نعرفه أول وهلة فقد فعل فيه الزمن فعله , إلا أطلال من وسامته القديمة الملفتة للنظر وأصداء بعيدة من صوته الجميل الفريد

    أمة داخل أذاعة

    بوش هاوس ذلك الصرح الفكتوري المهيب ضم حشدا من القدرات العربية والمواهب العربية تقيم أمة , لو كان قومنا يعلمون , ولو لا أننا ظلمنا أنفسنا واستسلمنا للوهم الأوروبي الفتاك ,فضلت بنا السبل وتشعبت بنا الطرق بين السفارة الهندية والسفارة الأسترالية , تصله من شارع كنجز رود من ناحية من ناحية هولبورن في الشمال. والي الجنوب كنيستان شهيرتان بناهما سير كرستفرن ثم جسر واترلو علي نهر التيمز الي الغرب شارع ستراند الذي يؤدي الي ميدان الطرف الأغر والي الشرق شارع فليت الشهير شارع الصحافة هناك كانت الحياة تبدأ وتنتهي بين المكاتب والإستديوهات والكافتريا والنادي وقد إختلطنا بعضنا ببعض مع مرور السنين مكونين بناء واحد متنوع الأجزاء يشد بعضه بعضا عالم مستقل ولاؤه ليس للإنجليز ولا للعرب ولكن اذاته , وللعمل في حد ذاته كان وضعا شاذا مثل مستعمرة تحول فيها المحكومون الي حكام او سجن تحول فيه السجناء الي حراس كنا مثل كافور كما زعم المتنبئ نأكل من زاد الإنجليز ونطعمهم وقد جئنا الي ذلك المكان لأسباب شتي بعضنا جاء بغرض الدراسة وبعضنا جاء في طلب الرزق وبعضنا جاء فرارا من أذي يتهدده , هذا ثم ذلك السراب الأوروبي الخادع


                  

06-01-2010, 07:00 PM

jini
<ajini
تاريخ التسجيل: 02-05-2002
مجموع المشاركات: 30720

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الطيب صالح فى ذكرى أكرم صالح!متعة القراءة وقراءة المتعة! (Re: jini)

    Quote:
    لندن . هنا لندن بيكاديللي كنجزرود.تشلسي.همستد.إيرلزكورت.بارنزكورت .وستمنستر.نهر التيمز.جسر ووترلو.ساعة بج بن.مجلس اللوردات.النساء يستلقين علي العشب في حديقة هايدبارك.والدنيا عامرة في حوانيت وحانات ومسارح وسنمات بيكر إستريت.وريجنت إستريت ولستر إسكوير وهولبورنوتتنهام كورت رود وما حولها كنا في مقتبل العمر, صباح الوجوه بدرجات متفاوتة,ظماء الي أشياء غامضة بدرجات متفاوتة , والجو مفعم بروائح مثيرة لا ندري كنهها كنا قد صلينا وصمنا قبل أن نجئ غضضنا أبصارنا وحفظنا فروجنا.ولكن أحد لم يهيئنا لذلك اللقاء الرهيب.
    لندن, أوروبا , الغرب, محطة فكتوريا, عالم جين مورس , كنا خليطاً عجيباً , فينا الأخ المسلم والشيوعي والبعثيوالناصري واللامنتمي والمحب للإنجليز والكاره لهم , بل كنا جميعا في واقع الأمر نحب الأنجليز ونكرههم في أن واحد وكان مدير الإذاعة العربية رجلا من أسرة عريقة يسمي جوردن ووترفيلد كان محبا للعرب إذ قضي فترة من شبابه في مصر مرسلا لصحيفة التايمز وكان مؤرخا ذا سمعة حسنة أصدر عدة كتب منها كتاب لايارد عالم الآثار المعروف الذي إكتشف مدينة نينوي القديمة وكانت جدته ليدي جف جوردن قد عاشت ردحا من الزمن في الأقصر أواخر القرن الماضي للإستشفاء من مرض صدري وكانت تكتب الي عائلتها في إنجلترا رسائل تعد قطعا أدبية رائعة تنطق بحب مصر والعرب عامة وتنم عن فهم عميق وتعاطف أصيل مع المصريين الذين إلتقت بهم وخاصة الفلاحين الذين عاشت معهم في نواحي الأقصر كواحدة منهم كانت مثل لورد ولفرد بلنت من هؤلاء الأروبيين النادرين الذين إستطاعوا أن يخترقوا الجب الكثيفة من الجهل والتعصب التي أرخت سدولها علي أوروبا في تلك الفترة وما تزال ونظروا الي تراث العرب وحضارتهم وطموحاتهم بفهم يدعو للعجب وقد جمع مستر ووترفيلد هذه الرسائل وحققها وأصدرها في كتاب يقوم أستاذنا محمد فتحي بترجمته الي اللغة العربية , أرجو أن يصبح في متناول القارئ العربي قريبا
    كان مستر جوردن ووترفيلد رجلا ضخما بجميع المعاني جسمانيا وعقليا وروحيا فيه ترفع الارستقراط وتسامح الفنان ورحابة صدر المؤرخ كان يستحق ان يكون مديرا عاما لهيئة الإذاعة البريطانية بأسرها, أو نائبا في البرلمان أو سفيرا أو وزيرا لكنه لم يكن طموحا ولم يكن يبالي وكان يصرف شؤون القسم العربي بلا كبير جهد, ويهرع الي قلعته في إيطاليا أشهر الصيف يقرأ ويكتبوكان مع وقاره ضحوكا يعجبه بصورة خاصة مزاح عبد الرحيم الرفاعي لأنه مصري , ومزاحي لأنه كان يعاملني كزميل له في مهنة الكتابة فقد كانت بعض تراجم كتاباتي بدأت تظهر في لندن تلك الأيام . وكان يعجبه قول عبد الرحيم الرفاعي أن بريطانيا وطنه القومي ساخرا بذلك من الزعم اليهودي بأن فلسطين هي الوطن القومي لليهود
    مرة قلت له في جمع من الناس انيني إشتريت كتاب له من مكتبة لبيع الكتب القديمة
    قال لي هل قرأته
    قلت نعم
    قال لي أرجو أن يكون أعجبك
    قلت له أنه يستحق كل بنس أنفقته عليه
    فسألني كم دفعت
    قلت له ست بنسات , كما تقول ستة ملاليم
    هل كان إستعماريا يسوسنا بدهاء المستعمرين أم كان إنسانا فاضلا بحق فإن ذلك المكان في تلك الأيام كان مكانا عجيبا بحيث أن الإنجليز أنفسم لم يكونوا يعرفون أحيانا هل هم يعملون في بريطانيا أم في بلد عربي , ونحن هل كنا أدوات للمستعمرين الذين أذلوا بلادنا ونهبوا ثرواتنا وعرقلوا مسيرتنا نحو الحرية والتقدم أم كنا طلائع لعالم جديد لم يولد بعد يحب فيه العربي الإنجليزي دون إحساس بالذنب ولا إحساس بالجميل
    سراج منير , لم يكن قحا تماما مثلي حين جاء الي لندن كان بحكم نشأته القاهرية أكثر دراية بالحياة مع دماثة في الطبع وذكاء هادئ وروح فكهة خاصة بين أناس يرتاح لصحبتهم وكان مثلي جديدا علي العمل الإذاعي ولكنه تعلمه أسرع مني وتحول في فترة قصيرة الي إذاعي متعدد القدرات يجمع في شخصيته بين التروي وحب المقامرة وكنت أشاركه في التروي, وأكرم صالح يشاركه في حب المقامرة لذلك نشأت بينهم صداقة خاصة بالإضافة الي صداقتنا المشتركة ولما جاء أحمد البديني وهو أكثر تهورا من كليهما نشأت بين الثلاثة صلة لم أكن طرفا فيهاإلا كمتفرج من وقت لآخر من ذلك أنهم إنشغلوا لفترة بالمراهنة في سباقات الخيل والكلاب. أنا كنت أسري عن همي بوسائل أخري, لكنني كنت أرافقهم أحيانا بدافع حب الإستطلاع وفي المرات القليلة التي كنت أراهن فيها كنت أكسب شأن المبتدئين فأضع الربح في جيبي وأتفرج عليهم يكسبون ويخسرون وأحيانا يخسرون كل ما معهم عبد الرحيم كان يحول ذلك فيما بعد الي مادة للضحك كان يرسم صورة كركتورية بالغة الطرافة لعالم السباق والمراهنين وسلالات الكلاب وأسماءها والخيل وعاداتها وأمزجتها أيها يحسن الجري في الأرض الصلدة وأيها يعدو أحسن في الأرض المبتلة ولو شاء لأصبح كاتبا لامعا في الكتابة الساخرة والواقع أن أي منهم كان بوسعه أن يكون كاتبا ولعلني عرفت بينهم بمحض الصدفة .. سراج منير يضئ الآن في بيرن بسويسرا حيث يقيم كان شاهدا في زواجي فيما بعد ثم وليا لأمر إبنتي زينب أيام دراستها هناك من هؤلاء الناس الذين يحملون عنك مؤونة التكلف ويجعلون الحياة تبدو أكثر خيرا وأقل عدوانا والحديث عنه يطول


    تمنّت فُوَيقا والصراةُ حيالها ترابُُ لها من أينقٍ وجمالِ
    وأعجبها خَرقُ العضاهِ أنوفها بمثل أبارٍ حُدّدت ونصالِ
    فابكَ هذا أخضرُ الجالِ معرضا وأزرقُ فأشرب وأرعَ ناعمَ بالِ
    ستنسي مياهاً بالفلاةِ نَميرةً كنسيانها ورداً بعينِ أثالِ

    وا حسرتا يا إبن العم
    الموت كان يبتسم,ثالث ثلاثة ونحن نتذكر ونضحك في نزل المشتل وفي مطعم المرابطين وحين غنا لنا عبد الله حداد أغانيه المريرة الحزينة عن أحوال الفلسطينيين وسائر العرب
    كان الموت يبتسم لأن أحدنا قد بقي له شهر واحد من رصيد العمر ؟ هل كان يبتسم بسخرية أم حزن؟
    يموت جزء منك حين يموت صديق عزيز هذا ما عناه ابو نواس بقوله (وأراني أموت عضوا فعضوا)
    الأرض كأنما تتناقض أطرافها ,والمصابيح في دجي روحك ينطفئ منها مصباح , الأفق يتسع ويضيق, الصداقة مثل الحب ,أقل وأكثر الصديق الذي يحمل عنك مؤونة التكلف كما قال عبد الملك بن مروان (لقد تأبطنا الحسناء وركبنا القارة من الخيل, وأكلنا اللذيذ من الطعام, ولبسنا الناعم من الثياب, ولم يبقي الأن إلا جليس يحمل عنا مؤونة التكلف) لأنه أكرم عبد القادر صالح ولأنني الطيب محمد صالح, صرنا إبني عم , رب أخ لم تلده أمك وكذلك إبن عمك
    حييا يحبب إليك الحياة قليلا وميت يسهل عليك الموت قليلآ كمصابيح رهبان إمرئ القيس
    نظرت إليها والنجوم كأنها مصابيح رهبان تشب لقافل
    مصباح في بيرن ومصباح في واسنجنطون ومصابيح في لندن والخرطوم وتونس والقاهرة ومصباح في بيروت, أه, مصباح في بيروت, مثل نار المحلق
    تشب لمقرورين يصطليانها وكأن علي النار الندي والمحلق
    تشب علي ذري جبال في خيالك, من المحيط للخليج. أشقاء في المأزق والمنفي, المأكل والمشرب,وأحزان النزوح وأحلام التوبة والأوبة
    أن تعرف إنسانا قريبا مما تعرف نفسك. أو لا تعرفه كما لا تعرف نفسك, كما يعرف السجين السجين والمسافر المسافر, والطالب الغريم ,والجندي الجندي في ميدان القتال
    تضحكان لآن الضحك وراءه ضحك والأحزان وراءها أحزان, كموج في أثر موج وقد كنت شاهدا عليه , وكان شاهدا عليك, والزمان غض الإهاب والدار دار حرب, وأنتما أثيران ولا تدريان, مهزومان ولا تدريان(بكيت علي أطلال سلمي في الحانات وما صليت صلاة العشاء وقد أذن الفجر)..
    كل خطوة مشيتها , تفتكر وتنسي, وكل ذلك شر,لآن الذي تبحث عنه قد خلفته وراءك,سرت بقدميك الي حيث أخذت وأعطيت وذدت الي قيودك قيدا,نسيت من أنت وظننت الأمر سهل ,جزعت حين سمعت, وقد كنت سميعا مطيعا.
    وما حسن أن تأتي الأمر طائعا وتجزع ان دعي الصبابة أسمعا
    رأيت عينين سوداوين وبشرة سمراء, وهبت عليك ريح الخزامي,وقلت يا لهف نفسي,هاتان العينان,أين كانتا من قبل. تنورت نارها حين هطل الثلج ولكن هيهات هيهات
    طلبت الشفاء عند الأطباء ولكن شفاؤك عند الصبي العربي اليتيم
    ومالك بالمدينة وحده يسرح الإبل.
    لقد بكيتما معا حين قال شكري القوتلي (إننا نضع أقدام الأجيال القادمة علي طريق الوحدة والحرية).
    وبكيتما معا حين قال عبد الناصر إنه توقع القارة من الشرق فجاءته من الغرب, ولما أنشدت أم كلثوم من كلام صلاح جاهين (ثوار علي طول المدي ثوار مطرح ما نمشي يفتح النوار)
    يذهب فجأ كما يخيل لك , ولا يبقي إلا ما يشبه الإحساس بالعضو بعد بتره , أو شئ مثل ظل الغمام .

    كامل حكيم من دنقلا العرضي حين جاء الي لندن كان يقترب من الأربعين طويلآ غير متناسق الأعضاء كل عضو في جسمه كأنه يتحرك بإرادة منفصلة ,ويسير في طريق مستقل,لكنه كان إنسانا ودودآ محبا للناس ضحكاته تجلجل في ردهات الإذاعة ونظراته تدخل الهلع في نفوس السكرتيرات الإنجليزيات, عمل ردحا من الزمن في إدارة السكك الحديدية بالسودان ثم فجأخطر له خاطر,كما يحدث للشعراء والفنانين,ولم يكن شاعرا ولا فنانا,رمي عهدته في وجوه رؤسائه علي حد قوله,وذهب دون أن يقول لهم مع السلامة,ساح في الأرض من كينيا إلي زنجبار إلي أندونيسيا إلي الهند ثم عاد إلي بلدته أقام بها عاما كاملآ لا يفعل شيئا(يتونس) ويأكل ويشرب وينام,علي حد قوله,ثم ألقت به المقادير عندنا في لندن في أواخر الخمسينات ,وسرعان ما إكتشف المسؤلون خطأهم فإن حكيم لم يكن يفهم في الإزاعة ولم يكن عنده إستعداد لكي يتعلم,فتركوه طيلة ثلاث سنوات وهي مدة عقده,لا يفعل أكثر من الربط بين البرامج حين تذاع علي الهواء يقول (سيداتي وسادتي تستمعون الي كذا,وإستمعتم إلي كذا) ذات يوم ذهب حكيم الي مستر ووترفيلد مدير الإذاعة وقال له باللغة العربية وباللهجة السودانية (يا مستر ووترفيلد الحكاي شنو؟ الناس كلهم رقيتوهم الأخد ترقية ال أخد علاوة.بس مستر حكيم رابط في محله,لايذيد ولا ينقص,يا مستر ووترفيلد الكلام ده أعوج منكم,مافيش ولا شلن عشان مستر حكيم؟
    دخل لندن وخرج منها مثل الشعرة من العجين يأتي في الصباح ومعه طعامه يعده بنفسه في داره في (شذك) ويعود مباشرة بعد إنتهاء العمل وقد حول المطبخ الواسع في داره الي (تكل) علي الطريقة السودانية وضع فيه سريرا وطيئا مثل (العنقريب) السوداني وجهاز الراديو والتلفزيون, وأول ما يصل داره يخلع سترته الأفرنجية ويلبس جلابية سودانية, ويعد طعامه ثم يستلقي علي قفاه علي السرير,يستمع إلي الراديو ويتفرج علي التلفزيون إلي أن يحل موعد النوم, وتزوج من السودان بالتوكيل وهو في لندن أناب أخاه ليقوم بإجراءات العقد,فأرسلوا له عروسه ولم يكن قد رأها من قبل ومعها كميات كبيرة من العطور السودانية والبخور ذادت كثيرا عن الوزن المسموح به واحتارت الإدارة الإنجليزية ماذا تفعل فقال لهم حكيم إنها أدوات تجميل فأعجبهم ذلك المخرج فقبلوه,وكان حكيم يذهب إلي الدلالات ويشتري قطع الأساس القديم بأثمان بخسة وجمع منها قدرا كبيرا وحين أراد العودة وجد أن تكاليف شحنها الي السودان أكبر بكثير من ثمنها فتركها حيث هي,كنا نذهب الي داره من أن الي أن صلاح أحمد محمد صالح وعبد الرحيم الرفاعي وأكرم صالح وأنا,فيستقبلنا في المطبخ ويطعمنا الطعام السوداني الكسرة والويكة والكمونية وحتي المرارة الكبدة النيئة كأنك في أمدرمان ومستر حكيم في تلك الضاحية من تلك المدينة الأوروبية النائية في جلبابه السوداني وصدره مفتوح مغطي بشعر أشيب كثيف والروائح الأليفة العطر السوداني وروائح الكمونية والويكة والشاي بالنعناع والقرفة وغناء أحمد المصطفي من المسجل كأنه في أم درمان,ولندن ,كأنك سافرت من دنقلا العرضي إلي الخرطوم يا سبحان الله أقول في نفسي وقد كنت منذ تلك الأيام أراقب الناس والحياة مثل الكاتب ولا أكتب بل أدع الأفكار تضيع مع سحب دخان السجائر الذي تعلمته بين نغائض أخري في تلك الظروف والأحوال, يا سبحان الله , هذا الإنسان العجيب لماذا لا يحزن ويعاني كما نعني ونحزن ؟ لماذا لا يحس هول الأمواج التي تتلاطم حوله؟ لماذا لا ينفعل لهذه الأصوات الغريبة والروائح الغامضة المثيرة,الأمر واضح عنده هنا مثل هناك, ليس أحسن ولا أسوأ, لكنه مختلف وحدود العالم معروفة,القطار الذي يحمله إلي مكان العمل ويعود به,ودكاكين البقال والجزار وبائع الخضار لا أكثر لم يكن طائرا مهاجرا بل كان طائرا صحراويا خلا له الجو وطاب له التحليق فطار وطار وحملته ريح الي بلد نائي أقصي الشمال,أقام ما شاء له أن يقيم,ثم حملته ريح ثانية من حيث جاء لايدري كيف جاء وكيف عاد,كنا نحبه لأجل ذلك,وكان هو يعاملنا كأننا أطفال لا ندري ما نفعل,وأحيانا كنا نستدرجه إلي ما كنا نأخذ به من طيش فيقضي السهرة كلها يضحك علينا ويسخر من أفعالنا كل فتاة يجد فيها مأخذا التي نحسبها فارعة يقول أنها طويلة مثل الجمل,أو الزرافة, وهذه مثل (عود السلك) وهذه وجهها مثل الحصان,وهذه مثل القملة, وهذه أسنانها مثل أسنان الحمار,وكنت تلك الأيام أميل إلي ممرضة من ليفربول,أظنها آية في الجمال والظرف, فيقول لي (التمرجية الكريهة دي أيه عاجبك فيها؟
    عاد كما جاء لما انتهي عقده لم يحاول أن يبقي أطول,قال لي (يا خوي شغلانة الإذاعة دي ماها نافعة كفاية ثلاثة سنين حوشنا فيها قرشين تنفعنا هناك في بلدنا. نتوكل علي الله نرجع بلدنا.وعاد كما كان من السكة حديد الي السكة حديد.عاد مديرا لسكك حديد الجزيرة. تذكرت كامل الحكيم منذ اسابيع في الرياض قابلت ضابطا شابا في الحرس الوطني السعودي , قضي عامين يتدرب في أميركا وقضي فترة في باريس.مثل حكيم غطس في الماء ولم يبتل,سألته عن باريس فقال لي(والله ما رأيت فيها أكثر مما رأيته في الملز)

    أكرم صالح خاصة,كان طائرا من نوع أخر مثل عصفور حط علي غصن شجرة عارية من الأوراق,والثلج ينهمر,والأرض مكسوة بالجليد,تحسبه قد يسقط في أية لحظة,وقد يموت من البرد,ولكن قدرته علي الإحتمال كانت تدعو للعجب
    جاء أواخر الخمسينات من أذاعة الشرق الأدني التي كانت واسعة الإنتشار في تلك الأيام ولم يكن معروفا إنها تمول مباشرة من وزارة الخارجية البريطانية أنكشفت تلك العلاقة عام 56 أثناء العدوان الثلاثي علي مصر,فقد إستولت عليها حكومة المحافظين بقيادة سيرأنتوني إيدن ,وحولتها إلي إذاعة صوت بريطانيا,فاستقال معظم موظفيها من العرب,جاء أكرم إلي لندن,إذاعيا ناضجا متمرسا,كان دون الثلاثين,فخورا بزوجته المالطية,التي كانت ملكة جمال,وبصوته المصقول بين الشامي والمصري,لأنه تربي في لبنان,وتعلم في مصر,يقول لك بلا حرج
    بالله مش صوتي حلو؟
    دهشت أول مرة سمعت منه ذلك,ثم أدركت أن السؤال لا ينم عن غرور أو نرجسية,بقدر ما ينم عن براءة كانت من مكونات جاذبيته
    نعم صوتك حلو
    أحلي صوتي ولا صوت عبد؟
    صوت عبد الرحيم أعمق من صوتك لكن صوتك جميل جدا
    وصوت صلاح؟
    صوت صلاح أعمق من صوتك وصوت عبد الرحيم
    بس صوتي أحلي
    كل واحد فيكم صوته جميل بصورة مختلفة
    العجيب أنه لم يكن يكترث لجمال صورته,كان وسيما ذا عينين واسعتين بين الزرقة والخضرة,له لمة فاحمة السواد فقدها تدريجيا مع تقدم السن,أمه درزية من جبل لبنان,فيما حدثنا,أحبها أبوه الشيخ عبد القادر شبل,فخطفها وبني بها,وأنجب منها ولدين,زهير وأكرم,وماتت وهما بعد صغيران,تلك كانت عقدة حياته,فقد حكي لنا القصة مرارا بصيغ مختلفة
    ربما لأنه كان فلسطينيا ولأن أباه كان سنيا وأمه درزية,ولأن أمه ماتت عنه وهو بعد طفل,,ولأنه نشأ في لبنان وتعلم في مصر,فقد كان سريع الإنفعال مضطرب النفس,يفرح بسهولة ويحزن بسهولة,متهورا رغم حيائه,لازع اللسان رغم أدبه الجم,وكانت النساء الإنجليزيات يجدن في كل ذلك جاذبية لا تقاوم
    هل كنت تجرك مشاعر الأمومة فيهن عن عمد؟
    إنما هو لم يكن يفعل أي شئ عن عمد, كل شئ يجيئ عفو الخاطر أو بمحض الصدفة,فقط أمام المايكرفون يصبح كل شئ واضحا ومنتظما.حينئذ يتحول الي شخص آخر.تنزل عليه سكينة عجيبة, ويصبح صوته مثل ألة موسيقية في يد عازف خبير
                  

06-01-2010, 07:03 PM

jini
<ajini
تاريخ التسجيل: 02-05-2002
مجموع المشاركات: 30720

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الطيب صالح فى ذكرى أكرم صالح!متعة القراءة وقراءة المتعة! (Re: jini)

    Quote:
    تذاكرنا الأعمال الإذاعية التي إشتركنا في تقديمها ,ونحن جالسان في مطعم المرابطين في تونس :
    (تذكر عودة الأجير)
    أضاء وجه بالسعادة,وتساقطت الأعوام كما يغسل الماء الغبار,وعاد كم كان ,منذ عشرين عاما أو تزيد ..كنا في عنفوان الشباب,كل واحد يملك موهبة,قلت أو كثرت ,مثل سر تود أن تبوح به, عبد الرحيم الرفاعي جاء بعدي بقليل ,وصلاح أحمد جاء قبلي , كنت أدرس في جامعة الخرطوم , فضقت بها وتركتها , عملت فترة قصيرة بالتدريس في بلدة رفاعة, لم يكن واضحا لدي ماذا أريد أن أفعل ,ولكنني كنت أحس بطريقة مبهمة ,أن الذي أريده لن يتحقق , وأن الذي سوف يتحقق ليس هو الذي ابحث عنه ,كنت أسمع الإعلانات من إذاعة أم درمان أن إذاعة لندن تطلب مذيعين ,ولم أكن أظن الأمر يعنيني, فلم يخطر في بالي أن أكون مذيعا , وذات يوم قلت لصديقي بل أخي فتح الرحمن البشير ,(ما رأيك) قال لي (ولما لا) قدمت بعد إنتهاء موعد تقديم الطلبات , بين الجد والمزاح , ومن هنا إلي هنا وجدتني فجأة في لندن , في عز الشتاء , أذكر بوضوح كيف كنت ابدو تلك الأيام,فلدي صورة من ذلك العهد , خارج محطة الأندر جراوند في كونزوي علي وجهي العابس شارب يجعلني أبدو أكبر من سني , ألبس معطفا اكبر إتساعا وطولا من ما يجب , وأحمل رزمة من الصحف والكتب , وفاكهة إشتريتها لتوي من شارع بيزووتر ,الشارب إختفي مع مرور الأيام ,كما إختفت سجادة الصلاة التي أحضرتها معي من السودان , تحت ركام التجارب فيما بعد , في مطار لندن حين وصولي ,نظرت إلي صلاح ونظر إليّ دون ود ,بعد ذلك حينما أصبحنا صديقين حميمين قلت له (تعرف أيام وادي سيدنا أنا كنت أستسخفك جدا ,أقول ما هذا الإنسان العويل الذي يغني المنلوجات , ويضيع وقته في التمثيل ) ضحك صلاح وقال (وأنا حين أخبروني أن سودانيا يدعي الطيب محمد صالح سوف يلتحق بإذاعة لندن , حاولت جاهدا أن أتذكرك فلم أفلح , فجأة تذكرتك قلت أعوذ بالله , وسألت الله أن يخيب ظني) كان صلاح أحمد يسبقني بعام , في مدرسة وادي سيدنا العتيدة , نجما لامعا في التمثيل وحفلات السمر , كما أصبح بعد ذلك مذيعا لامعا في إذاعة أم درمان ,كان من أولاد أم درمان ,قمة الحضارة في ظننا , ومن أولاد الأفندية , إذ كان أبوه الأستاذ الجليل أحمد محمد صالح رحمه الله , أحد الشعراء المعدودين من كبار رجالات التعليم في السودان , ونحن جئنا من البوادي والنجوع , جئنا من العمارة وكلكلة وكباسة , كما قال أستاذنا عبد الحليم علي طه رحمه الله , نجباء فقط في تلقي الدروس كما إتضح فيما بعد , نحتقر أولاد المدن ونسكن في داخليات يسميها أبناء المدن سخرية (داخليات أولاد الأقاليم ) هم ظرفاء في الغالب خبيرون بمسالك الحياة , ونحن أجلاف ,شعث غبر.هم صاخبون ضاحكون خارج الفصول , وحين تدق الأجراس وتبدأ الدروس يصمتون ونتكلم نحن , نحرز قصب السبق في الإمتحانات ,وهم يربحون في سباق الحياة , من زملائنا في ذلك العهد أخونا العزيز منصور خالد , الذي أصبح فيم بعد وزيرا للخارجية ,وجعفر النميري الذي لم يكن نجيبا في تلقي الدروس ,لكن قريحته تفتقت عن الأعاجيب بعد ذلك , ورغم أنه نشأ في أم درمان ,فإنه لما صار رئيسا للدولة إدعي الولاء للريف , وابتني لنفسه دارا في دنقلا , لم تمهله الأقدار التي لا تني تسخر من آمال البشر , حتي يسكن فيها , يصدق عليه قول أبو العلاء المعري :
    صوافن خيل عند باب مملك
    جمعن وما أيامه بصوافي
    ولعل أنبغ طالب في ذلك الزمان بل في كل الأزمنة , كان عبد الخالق محجوب, الذي لاقي حتفه, ويا للغرابة علي يدي جعفر النميري , وربما يكون دفع حياته ثمنا لنبوغه ,كان في السنة الرابعة ونحن في السنة الأولي , هادئا حيا ولكن كان لعقله دوي , ولو سارت الأمور سيرا طبيعيا , لأصبح أستاذا كبيرا في الجامعة , في الرياضيات أو في العلوم أو في اللغات , فلم يكن علم يستعصي عليه , لكنه سافر إلي مصر وأصبح شيوعيا , ثم أمينا عاما للحزب الشيوعي السوداني , واصطدمت أحلامه بأحلام شاب أخر , دخل الكلية الحربية وأصبح ضابطا في الجيش ,ولسبب ما خيل إليه أن العناية الآلهية قد إختارته لحكم السودان ,فقاد إنقلابا عسكريا , وأمسك بنواصي الأمور , أو هكذا خيل إليه ,كل هذه الأشياء المحزنة بذرت بذورها تلك الأيام , وهي قصة لم تكتمل فصولها بعد ,ومهما يكن فإن جعفر النميري واحدا منا ,حسناته من جنس حسناتنا , وسيئاته لم تكن إلا تجسيما لسيئاتنا , لفد رمي سهمه فأصاب قومه , ولم يكن بدعا في ذلك ,عمل عملا صالحا وآخر سيئا , وحسابه عند الله .

    أما صلاح أحمد محمد صالح,فلم يكن في شيء من هذا كان شاعرا غنائيا شهيرا يغني قصائده حتي وهو طالب كبار المطربين,أمثل أحمد المصطفي وعثمان حسين,وكان يهوي الفن ويعشق السنما ويحفظ أسماء الممثلين المصريين والمخرجين عن ظهر قلب,ويطرب لأغاني أم كلثوم وعبد الوهاب وأسمهان وفريد الأطرش وليلي مراد ولم يكن ذوقنا السوداني قد ألفها بعد ,ورغب أن يسافر الي مصر ويلتحق بمعهد التمثيل , ولكن أباه , ربما بسبب تجربته في الشعر , أراد أن يجنبه وعثاء طريق الفن , فمنعه من السفر ووجهه نحو العمل في السلك الدبلوماسي , كان أحمد محمد صالح شاعرا كبيرا ولكنه كان يسخر من الشعر والأدب , وأذكر وأنا في السنة الأولي الثانوية ,وجدني أقرأ كتابا أدبيا في فترة المذاكرة المسائية , حين كان يجب علي مراجعة دروس الجغرافية و التأريخ والرياضة , فقال لي بصوت فيه رنة مصرية خفيفة (حضرتك عاوز تكون أديب؟) وقبل أن أستطيع الرد قال لي (طظ) ومضي عجبت لذلك لانني كنت أحب الأدب ولكنني لم أفكر في أن أكون أديبا وقد ظلت عبارته تلك ترن في أذني منذ ذلك العهد كلما سمعت أو قرأت إستحسانا لما أكتب ,أسمع صوته الساخر يهمس في أذني (طظ) .
    لما زار علي الجارم الخرطوم في أوائل الأربعينات , أغفلوا دعوته لحفل التكريم , الذي أقيم للشاعر المصري الكبير , فقال في ذلك قصيدة حدا بها الركبان في ذلك الزمان جاء فيها :


    فينوس يا رمز الجمال وبقية الأيام عندي
    لما جلوك علي الملا وتخيروا الخطاب بعدي
    هرعوا اليك جماعة وبقيت مثل السيف وحدي
    لو كان لي ذهب المعز لاحسنوا صلتي ورفدي
    أو كان زندي واريا لتهيبوا كفي وزندي
    الي أن يقول :
    هذي اليراعة في يدي لو شئت صارت ذات حد
    أو شئت سالت علقما سما يري عند التحدي
    كان شاعرا فحلا وله قصيدة إشتهرت أيامئذ عن دمشق حين ضربها الفرنسيون بالقنابل مطلعها :

    صبرا دمشق فكل طرفا باك لما استبيح مع الظلام حماك
    هكذا كان الشعراء تلك الأيام كما قال حافظ إبراهيم :

    إذا ألمت بوادي النيل نازلة باتت لها راسيات الشام تضطرب
    وقد انصفوه اخر ايامه فعينوه عضوا في مجلس السيادة بعد استقلال البلاد, فظل كما هو لم يدع سخريته وبساطته ظل يعيش في داره ذاتها التي عاش فيها قرابة أربعين عاما , ورفض أن يضعوا له حراسا وظل وفيا لأصدقائه القدامي في سوق أم درمان حيث كان يقضي أيامه . رحمه الله فقد كان واحدا من جيل عملاق , منهم إسماعيل الأزهري , والتجاني الماحي , وعبد الرحمن نقد الله وعبد الرحمن علي طه ومحمد أحمد محجوب ومحمد صالح الشنقيطي ونصر الحاج علي وكثيرون آخرون , كانوا مثلا في الوفاء بالعهد , والصدق في القصد , والرباط علي جنبات النبع الأصيل , ذهبوا كلهم الان الا نفر يعدون علي أصابع اليد, وخلفوا لنا اذا أردنا أن نحذو حذوهم , هما ثقيلا , لقد صدق أحمد محمد صالح حين قال :
    مال ميزانها وحان الغروب
    وانقضي عهدها فليست تؤوب

    انحسرت الأعوام كما يتخفف المرء من ثيابه,وغسلت الذكري غبار السنين كما تغسل وجهك بالماء. قلت له ونحن نجلس وجها قبالة وجه في مطعم المرابطين في تونس :
    (هل تذكر عودة الأجير؟)
    كانت تلك تمثيلية كتبتها من وحي قصيدة للشاعر الأمريكي روبرت فرست , وهو من الشعراء الأثيرين عندي , وخلاصتها ان عاملا اجيرا في مزرعة اختفي زمنا, وعاد وقد طعن في السن وفتك به المرض,ليموت,وفي هذه القصيدة قولة شهيرة لربرت فرست (الوطن هو المكان الذي إذا عدت إليه كان لزاما عليهم أن يقبلوك ) كان أكرم يؤدي دور الراوي, وكان دورا شاعريا رهيفا مثل تأرجح الموج علي صفحة نهر في صباح معتل النسيم. كان حين يبدأ في القراءة يصمت المهندسون الإنجليز تماما في غرفة التسجيل , بتأثير الصوت الجميل ووقع الكلمات الغريبة .
    (تذكر البرنامج الذي أخرجه جمال الكناني عن إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه؟)
    في ذلك المساء كلنا بكينا , حتي جمال الكناني بكي حين أخذ عمر الصحيفة من أخته وقرأ من سورة طه وقال (ما أجمل هذا) ثم ذهب الي الرسول الكريم في دار الأرقم , وجبذه الرسول جبذة فقال عمر (أشهد أن لا إله إلا الله وانك رسول الله) .
    (تذكر البرنامج الذي كتبه الدكتور محمد عبده عزام عن مولد الرسول صلي الله عليه وسلم؟)
    حدثت لنا حالة عجيبة في تلك الليلة اصبنا كلنا بالهلع قبيل التسجيل .ثم اضاء نور الإستديو الأحمر, وأطبق ذلك الصوت المروع الذي لا يعرفه إلا من جربه , أهون منه ان تواجه كمرات التلفزيون او تستقبل مئات العيون ترنو اليك في قاعة محاضرات مكتظة , هنا أمام الميكرفون انت وحدك ازاء اعمق أعماق ذاتك , وصوتك يرتد إليك من كاتمات الصوت داخل الإستديو , كأنما توسوس به نفسك,في تلك الليلة , لامر ما كان الهول أكبر , أذكر إن أكرم بدأ القراءة كحصان أصيل يتقدم خيلا عتاقا , ولأنه فلسطيني ,ولأن أباه سني وأمه درزية ,ولأنه نشأ في لبنان وتعلم في مصر , ولأنه طلق زوجته فهاجرت بعياله إلي أستراليا, ولأنه كما نحن , رضع لبان العروبة ويخدم الإنجليز ,ولأنه مثلنا جميعا بكي علي أطلال سلمي في الحانات والدار دار حرب , وقد أرقته أحلام التوبة والأوبة , لهذا كله خرج صوته مفعما بإحتمالات الأفراح والأحزان ,كمؤذن ينادي في الفجر ,غطسنا كلنا في ينبوع ذلك الحدث الجسيم , مولد الطفل العربي اليتيم , ودوت في مغارات أرواحنا أصداء الكلمات النبيلة.
    خرجنا متعبين , وكان جمل الكناني في غرفة التسجيل صامتا حزينا مثقلا بالهموم , ربما لأنه عاني اكثر , وقاوم أكثر , وربح و خسر أكثر , ولعله كان الوحيد بيننا الذي حياته تقرب من المأساة .
    (محمد عبده عزام يا له من كاتب )
    من حسنات جمال الكناني أنه هو من شجعه علي الكتابة للإذاعة (كناني كان انسانا عجيبا لا يبالي ظاهريا ومؤمن في قرارة نفسه , ووطني في قرارة نفسه يمالئ الإنجليز ظاهرا ويعجب بعبد الناصر سرا)
    وهو رئيس لقسم التمثيليات اكثر من التمثيليات عن الإسلام وكان عزام يكتب أغلبها , حتي إحتجت بعض الهيئات الكنسية لدي المدير العام وقالوا ان القسم العربي بهيئة الإذاعة البريطانية تحول الي منبر للدعوة الإسلامية , بعد توقيع معاهدة كامب ديفد زرته في داره في تدنجتن كان مقعدا يجلس علي كرسي ذي عجلات , وجدته غاضب مثل نمر في قفص.. قلت له لماذا انت غاضب؟ اليس هذا ما كنت تنادي به دائما؟ ألم تكن تقول ان العرب لا قبل لهم بإسرائيل وعليهم ان يعقدوا صلحا معها؟ قال ولكن ليس بهذه الطريقة هذا إذلال لو كان عبد الناصر هو الذي عقد الصلح .. عبد الناصر كان رجلا أما هذا....
    (تذكر الظل القريب؟)
    (وقلوب مقسمة؟)
    (ولص السملء؟)
    أه المسلسل عن الأندلس كيف لا أذكره قصة الإنهيار العربي كتبها عزام ايضا كأنها تحدث اليوم, سجلتها في بيروت , وغنت أغانيها تلك السيدة الرائعة ,عفيفة إسكندر , بصوتها المبحوح , من تلحين محمد غازي .
    قد ملأ الكأس وحيي
    حي بها يا حبيبي
    فقلت أهلآ بالمني
    مرحبا يا حبيبي
    بالله مل معتنقا لاثما
    فمال كالغصن تفشته الصبي يا عيوني

    كان ذلك في أوائل الستينات والناس ناس , والزمان زمان , وبيروت بيروت ,ماذا فعل الله بها ؟ من أكثر النساء شهامة وأريحية , إمرأة تزن رجالا ..جاد الغيث ديارها , حيث حلت بأرض العراق .
    تعلمت من صحبة الدكتور محمد عبده عزام أكثر مما تعلمت من الكتب , وأعده أستاذا لي بحق , كان لنا بمثابة الأب ,كثيرا ما كنا نجتمع في داره غربي لندن , نسمر ونصيب من أطياب الطعام الذي تطهوه بحذق زوجته الفاضلة (ماما هانم) شاعره أبو تمام فقد نال درجة الدكتوراة في تحقيق ديوانه وكتب عنه كتابا بديعا نشر في سلسلة أقرأ عنوانه عشرة ليلي مع أبي تمام حدثني عزام ان أبا تمام أملأه عليه إملاء , فقد كان يجالسه فعلآ ويتحدث إليه كل ليلة , وله كتاب يسمي شيخ التكية وقصته أن الدكتور طه حسين وكان أستاذه , وهو من أوائل من تخرجوا علي يديه في الجامعة المصرية ,أراد أن يساعده فرشحه ليكون مسؤلآ عن الوقف المصري في مكة المكرمة , لم يذهب في نهاية الأمر ولكنه سجل خواطره عن إحتمال أن يكون شيخا للتكية في هذا الكتاب الفكه , وكان عزام حين تعرفنا عليه في لندن يعمل أستاذا للغة العربية بمدرسة اللغات الشرقية بجامعة لندن , وقد جاء الي لندن وظل يقيم فيها, لأنه أراد أن ينشئ إبنا وبنتا له ولدا وعندهما خلل في النطق . إنسان كريم النفس جريئ الفكر كان أول من لفت نظري إلي دقائق المعاني في شعر أبي نواس , وقد كتب فيه برنامجا للإذاعة نفذ فيه إلي وجدان الشاعر العبقري بصورة لم أجد لها مثيلآ في كل ما قرأت , أخبرني أنهم كانوا يحققون ديوان أبي نواس مع الدكتور طه حسين , لما وصلو الي قول الشاعر

    وأثن علي الخمر بآلائها**** وسمها أحسن أسمائها
    صرخ طه حسين منفعلآ (الله أكبر )
    هل تسمعون ما يقول هذا الشاعر؟
    هل تفهمون ما يعني؟
    بلي كان أبو نواس كافرا أكثر مما أدرك نقاده , ومؤمنا أكثر مما أدرك نقاده , وكذلك أبو العلاء المعري , لكنهم صنعا شعرا عظيما من الشكوك التي توسوس بها صدور المؤمنين , ولا يبوحون بها , وارجو ان تسعهما رحمة الله التي وسعت كل شئ .

                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de