دعواتكم لزميلنا المفكر د.الباقر العفيف بالشفاء العاجل
|
أكتوبر على أعتاب سن النبوّة ... عز العرب حمد النيل
|
هذا المقال نشر عام 2003 في ذكري أكتوبر وأعيد نشره الآن في المناسبة نفسها لاحتوائه علي أسئلة لا تزال قائمة وسأعقبها بمقال آخر عن أكتوبر بعد سن النبوة. عزا لعرب أكتوبر علي أعتاب سن النبوة «سقط الشهيد .. والطريق لا يقود إلى الطريق» بقلم عزا لعرب حمد النيل لم تزل شرفةٌ.. هناكْ في بلادي، مُلوِّحة ويد تمنحُ الملاكْ أغنيات وأجنحة العصافيرُ أم صداكْ أم مواعيدُ مفرحة قتلتني.. لكي أراكْ؟! - محمود درويش - في كل عام موجدة.. وما أصعب المواجد حين يصبحن موجاً في بحر اجترار الذكرى اللجب ولعلها صفحة من صفحات تاريخ السودان المضيء بحساب النزوع نحو فجر الحرية والانعتاق من نير النظم الشمولية وإن لم يبلغ ذلك مبلغاً مثلما أحدثته اللواحق. وفي ذكرى أكتوبر وهي تقترب رويداً رويداً من الأربعين.. عمر النبوة، وهو أيضاً أربعين النفساء عندنا بعد وليد جديد، حرى بنا أن نقف في هذه المسافة الزمنية الفاصلة لقراءة التاريخ علها تكون فتحاً يخرجنا من إلتفاتة الاجترار إلى الاعتبار باستدعاء الخبرة التاريخية وتقويم “Assessment” التجربة. هدف الثورة هو تغيير المجتمع تغييراً جذرياً وليس الهدف أن تتم عملية إبدال حكومة وإحلال أخرى بديلة فقد يكون هذا من عمل الانقلابات، ويمكن الاستدلال هنا بالثورة الفرنسية التي رسخت مبادئ الأخوة والعدل والمساواة وألغت النظام الملكي والإقطاعي وأحلت محله النظام الجمهوري، فالثورة عمل وطني وأخلاقي على نقيض الانقلاب. وعندما نسقط هذه المعاني على تجربتي أكتوبر وابريل وعلى الرغم من الوعي السياسي والاجتماعي الذي تميزنا به إلا أننا نجدهما قاصرتين على الانبساط في حدود المعنى، أما ابريل فقد عرفها سياقها «وسقاتها» بأنها انتفاضة وأما أكتوبر فقد كان ما تلاها دون المعنى والمضمون. نقول هذا ونحن نحي ذكراها 39 ونهنئ من بقى من صناعها وعلى رأسهم الدكتور جعفر كرار رئيس جبهة الهيئات عندئذٍ. ونحن في هذا اليوم من أيام الوفاء لا يعصمنا ذلك من أن نستذكر التاريخ في قراءة من زوايا مختلفة بغية الفائدة. «إنّ المحنة ليست محنة الجنوب وحده ولكنها محنة الشمال والجنوب من حيث فقدان الحرية والحياة الديمقراطية». بهذه العبارات ألهب الأستاذ الجامعي حسن الترابي وقتذاك حماس الجماهير في أولى المحاضرات التي سبقت أكتوبر ملخصاً القيمة الأعلى للسلطة والسلطان من حيث كفالة الحريات وإرساء القيم الديمقراطية. غير أن المحنة الأكبر أن صاحب هذه العبارات أصبح فيما بعد ركيزة أساسية من ركائز النظام العسكري الذي قوض أكتوبر مما يمثل أمثل نموذج لمفارقة الأقوال للأفعال في صورة من صور البرغماتية الذكية في تحديد هدفها الاستراتيجي حيث الاقتراب من السلطة بأي ثمن. وتدور دورة التاريخ ليلعب د. حسن الترابي نفس اللعبة في صورة مقلوبة ليساهم المساهمة الفاعلة في تقويض النظام الديمقراطي حين ذهب للسجن حبيساً وجاء عمر البشير إلى القصر رئيساً مستفيداً من الذاكرة السياسية الواهنة للشعب السوداني. نسوق هذا المثال وأكتوبر أوشكت أن تكمل الأربعين عاماً وهو العمر السياسي لمعظم قيادات الأحزاب السياسية في بلادنا وعلى رأسها الياء المعرجة «المهدي، الميرغني، الترابي» وكذلك «نون نقد». يقول خضر عمر في مذكراته: «كنا نتطلع للأخبار ونحاول أن نسمع الإذاعات المختلفة لنعرف ما يجري وماتم عليه الاتفاق بعد أن حل عبود المجلس الأعلى. ولدهشتي قابلني شقيق الزميل محمد صفوت وقال انه سمع أن الحكومة قد كونت وكونها شخص يقال له سر الختم فقلت له على الفور.. ليس في السودان من يستطيع أن يكون حكومة واسمه سر الختم واعتبرت الرجل قد سمع اسماً لم يحفظه جيداً»... انتهى. ويواصل في فقرة أخرى قائلاً: «وعندما عدت إلى الفندق الذي أنزل به وجدت الأخ محمد خليل تبيك فسألني هل سمعت الأخبار فقلت له سمعت خبراً لا قيمة له ولم أعلق عليه ولما أخبرته به قال: نعم لقد ألف الحكومة سر الختم المدرس واسمه سر الختم الخليفة وكان الخبر موضع دهشة الموجودين»... انتهى. وعلى الرغم من أن هناك كثيراً من هذه المقتطفات تحتمل التأويل وتستحق أن توضع بين قوسين إلا أني نقلتها كما وردت في المذكرات؛ ولكن بالنظر إلى المسرح السياسي السوداني عبر التاريخ الفاصل بين 64 - 2003م يمكن القول بأن سر الختم الخليفة من «الساسة» القلائل الذين غادروا هذا المسرح ولا أدري أفي هذه الحالة يكون ذلك ما يمدح أو يُذم. خضر عمر وبتاريخه السياسي المضيء يقف مندهشاً ومتسائلاً عن معايير اختيار رئيس حكومة أكتوبر الانتقالية مما يدل علي أن الخليفة «أتى» به من خارج المشهد السياسي السوداني يومئذٍ out of the blue مما يجعلنا نتساءل في غير براءة هل هناك أيادي خفية أدارت هذه الأمور لتجبيرها لصالح جهة سياسية بعينها؟ هل كانت هناك خيارات متعددة.. وان كانت ما الذي جعل الغلبة في الاختيار لسر الختم الخليفة؟ هل تكرر السيناريو نفسه في أبريل حين اختير د. الجزولي دفع الله وأبعد سياسي مخضرم مثل مبارك الفاضل شداد؟ في تقديري أن المعاصرين لهذه الحقبة والمشاركين فيها يقفون موقف المجيب على مثل هذه التساؤلات وأظننا في حاجة إلى أن نقرأ شهادات الدكتور جعفر كرار وللأستاذ محجوب محمد صالح وللدكتور حسن الترابي.... وغيرهم. تم تكوين حكومة أكتوبر الانتقالية تكويناً روعي فيه تمثيل كل الأحزاب والفئات التي شاركت في الأحداث مما أتاح للشيوعيين فرصاً أكبر لفصل العشرات من الأكفاء بدعوى الرجعية، كما أن بعض الوزراء الشيوعيين في الحكومة عملوا على تحريض العمال على الاضرابات وبذل الوعود صعبة التحقيق. ورغماً من أن الحكومة تم تشكيلها من بعد تشكيلاً جديداً، إلا أن الحكومة الأولى ظهرت سياساتها في مظهر من التشفي والسمات الفوضوية رغماً عن أن مثل هذا السلوك ارتبط بالأنظمة العسكرية بوصفها رافضة للآخر في الأصل. أما العالم فقد نظر حينها إلى أكتوبر باعتبارها ثورة رائدة بل هي أول ثورة في العالم الثالث يقوم بها شعب اعزل إلا من إرادة ضد حكم عسكري مسلح ويحقق النصر عليه وكانت أخبار الثورة تذاع من كل محطات العالم عن هذا البلد «المجهول» باستثناء محطات الإذاعة المصرية التي ران عليها الصمت التام لمدة ثلاثة أيام رغم أن مصر بغض النظر عن أنها الجار الجنب للسودان فهي أيضا وبصفة تقليدية تهتم بما يجري في السودان ولتدلل على ذلك أنشأت إذاعة ركن السودان. صمتت وسائل الإعلام المصرية عن ثورة الشعب السوداني دهراً وحينما نطقت سجلت إفادتها بأن ثورة أكتوبر مستوحاة من «ثورة» 23 يوليو في مصر. أثار هذا الحديث حفيظة الجماهير وساءها أن توصف ثورتها بأنها «تقليد» وأنها ليست أصيلة مما دفعها فيما بعد إلى التظاهر أمام مبنى السفارة المصرية في الخرطوم كما أنها أحرقت العلم المصري. وفي حقيقة الأمر وبناء على كثير من الشواهد يمكن القول بأن مصر وبكل تاريخها الفخيم تجهل الكثير عن السودان والسودانيين وتختزل كل حضارات السودان وتعدده الثقافي والاثني والديني في أنه الأخ الأصغر الذي ينبغي أن يتعامل مع أخيه بمنظور الأبوية والطاعة وليس معاملة الند للند بل معاملة السيد والعبد؛ ومازال السجال الذي دار على صفحات الصحافة بين الأستاذة الصحفية المصرية صباح موسى والأستاذة رياح الصادق إلا مثال حديث على الذهنيةالمصريةتجاه السودان. لم تكتف العقلية السياسية المصرية بمثل هذه المواقف السلبية تجاه قضايا السودان بل دفعها هذا الغياب والتغييب إلى أن تلعب دوراً في انقلاب 30 يوليو 1989م ظناً منها أن الخير في قدوم الواردين «طبعاً الخبر الذي يعود على مصر وحدها». دون أن تدري وجهة النظام السياسي أو التوجه الفكري لقادة هذا الانقلاب رغم الضجيج المصاحب لسمعة المخابرات المصرية وانتشارها في السودان. أو أن يكون الحافز وراء ذلك الخشية من انتقال «عدوى الديمقراطية» بعد أن غدت معظم الأنظمة السياسية العربية الحاكمة أشبه بالملك المقود والوراثة الأسرية.يتنامى التعامل بهذه العقلية السياسية تجاه السودان في وقت أصبحت فيه القيادة المصرية تردد كثيراً الحديث عن العلاقة الأزلية بين البلدين وضرورة تنميتها، وأن السودان يمثل العمق الاستراتيجي للقاهرة والعكس كذلك مما يدفعنا إلى رفع العقيرة بأن الجارة مصر في حاجة إلى معرفة واستكشاف السودان بكل تفاصيله ومن ثم كيفية بناء التصورات التي تكون محصلتها تحقيق النفع لشعبي البلدين بناء على القرب الجغرافي والمصالح المشتركة والمصير المشترك على أساس أن السودان بلد عربي أفريقي أساسه التعدد.ونحن في الذكرى 39 لأكتوبر المجيد نحيى ذكرى كل الذين أسهموا في صنع هذه الثورة وعلى رأسهم الشهيد القرشي. تُرى هل قادنا سقوطه الجليل في ذلك اليوم إلى الطريق بعدُ!
|
|
|
|
|
|
|
|
|