الجدار العازل، المستوطنات، حصر الفلسطينيين في غزة وحصارهم، تجويعاً وبطالةً، تدمير المحرّمات في الحروب: المستشفيات، المعابد، المدارس، منازل الأبرياء، مقوّمات الحياة ومن ضمنها الماء والكهرباء، آلاف القتلى والجرحى، وفوق ذلك عزل غزّة عن العالم:
هذا كله، في نظر الديموقراطيات الغربية، لا شيء! منطق يشوّه الحقيقة والعقل والمنطق.
وداخلَ هذا «المنطق»، أو بقوّته، يَنْشقُّ العرب، أو «يُشقّون»، سياسياً، واقتصادياً.
مسرح قَتْلٍ وفتكٍ وتدميرٍ و «تصفيقٍ»، لا مثيل له في التاريخ.
-2-
قلت، وأكرر هنا: لستُ متعاطفاً مع «حماس»، عقائدياً، أو إيديولوجياً. وهو ما يمكن ان يُناقَش ويُقوّم، على حدة. غير أنّ هذا لا علاقة له بنضالها من أجل حقوقها الوطنيّة والإنسانيّة المشروعة. ولا يُمكن القبول باتخاذ مُعتقداتها ذريعة لقتل شعب، وتدمير ارضٍ أو احتلالها، وإنكار حقوق. ولا معنى ولا محلّ لتهمة «الإرهاب» هنا. خصوصاً أنها تهمة لاحقت كل من تحرّك من اجل استعادة حقه في فلسطين، مسلمين ومسيحيين.
-3-
لم تعرف المؤسسة السياسية العربية، مؤسسة السّلطة والقيادة والعلاقات الدولية، امتهاناً في تاريخها كلّه، كما تعرفه اليوم، في فلسطين. لا من إسرائيل، وحدها، بل من العالم أجمع.
حقاً، يبدو العرب، اليوم، كأنّ أرضهم الخصبة، الكريمة، العالية، مجرّد صحراء، مجرّد مساحاتٍ سائبة، وكأنّهم، جماعاتٍ وشعوباً، مجرّدُ أعدادٍ فائضةٍ عن حاجة العالم، وينبغي التخلّص منها، أو وضعها في «مَعازل»، بطريقة أو أخرى.
والفاجع السّاخر، في هذا كلّه، هو ان العرب أعطوا كل شيء لإسرائيل و «ديموقراطياتها الغربية»، بالاعتراف والعلاقات الديبلوماسية – أعطوا كل شيء: السلام، والثروة، والقواعد العسكرية، وأسواق التجارة والاستهلاك، والمحالفات من كل نوع، دون أن يأخذوا، مقابل ذلك، أي شيء، بل دونَ ان يُمنّ عليهم حتى بالاعتراف ان لهم حقوقاً، وأنهم موجودون، بشراً كبقية البشر، لا أشباحاً ولا عبيداً. وهذا ما تُواصل تأكيده الحرب الإسرائيلية على غزة (عليهم جميعاً). فهذه الحرب ليست لاجتثاث «الإرهاب الحماسي» وصواريخه، وإنما هي حرب لاجتثاث «الهوية»، شعباً وبلاداً – مقوّمات، وأسساً تاريخية وثقافية وعمرانية واقتصادية. حربٌ تخرُق، الى ذلك، جميع الحُرمات التي توصي بها القوانين الإنسانية في الحروب، تخرقها جميعاً، فتقتل الأطفالَ والنساء، وتدمّر البيوت والمدارس والجوامع والمستشفيات، ومراكز الأمم المتحدة نفسها، الرَّمز الدوليَّ لحقوق الإنسان.
نعم، ليس هناك امتهان في التاريخ كله، كمثل هذا الامتهان الذي يعيشه العرب، اليوم.
وفي هذه «الخِلْطيّة» الإسرائيلية، التي تتبنّاها الديموقراطيات الغربية، تُطلقُ صفة «الإرهاب» على من يدافع عن أرضه، ويبرّأ منها من يغتصبها، ويستوطنُها.
والسؤال المحيّر هو: من أين يَجيء هذا الاستعدادُ، عند السلطات العربية، لقبول هذا الامتهان، والسَّيْر في مخططاته؟
-4-
في كل حالٍ، وتلك هي ذُروة الانحدار الكارثي، أخشى ان تكون المسألة الآن قد أصبحت أبعد من «حماس»: من التنابُذ أو التعاطف معها. وأصبحت أبعد من غزة، ومن الخلاف أو الاتفاق الفلسطيني – الفلسطيني، أو العربي – العربي، وأخشى أن تكون قد أصبحت أبعدَ من فلسطين نفسها.
المسألة هي: دولةٌ – عضوٌ في هيئة الأمم المتحدة، تضرب عرضَ الحائط بقوانين هذه الهيئة ومبادئها، تعطي لنفسها الحقوق والمطامع التي تشتهيها (كل مطمع لها هو حق لها!)، دولة تستأثر بالحق، غصباً عن هذه الهيئة، بالقضاء حرْبياً، على أية قوة عربية لا تطمئنُّ إليها، متى شاءت. وبالطرق التي تشاء، وبالأسلحة العالية التطور، فتْكاً وتدميراً، سواءٌ كانت هذه القوة «فرْداً»، أو «جماعةً» أو «دولةً». وهي طرقٌ تشهد حرب غزّة أنها لا تقيم أي وزنٍ للحياة ومقوّماتها، أو للإنسان نفسه، حتى ليبدو ان «عدوّها» ليس إلا ذريعة للإبادة العمياء دون تمييز. وهو استئثارٌ يتم بتواطؤ، أو رضوخ عربي، ويتم كذلك بنوع من المباركة الدولية.
القضاء على «حماس» هو، بهذا المعنى، ليس إلا قضاءً على الفلسطيني نفسه، مباشرةً، وعلى العربيّ نفسه، مُداورَةً. تعزّز ما أقوله المؤسسة الإسرائيلية السياسية: فهي ترفض ان ترسمَ حداً أو تعترف بحدود بينها، بوصفها دولةً، وبين فلسطين بوصفها «دولةً» مجاورة. وترفض ان تحدد «وضع» الأشخاص غير اليهود الذين يقيمون في إسرائيل. وترفض ان تعطي لرئيس السلطة الفلسطينية أية حرية، حتى حرية الانتقال، أو أية استقلالية في أبسط جزء من أجزاء فلسطين «الفلسطينية». وترفض الى ذلك ان تنسحب من الأرض العربية التي تغتصبها، احتلالاً، في سورية ولبنان.
-5-
ما الواقع العربيّ، اليوم، في ضوء «حرب غزة» أو غزْوها؟ أولاً – فقدت معظم الأنظمة العربية، مشروعية تمثيل حقوق شعوبها في الحياة الكريمة، الحرة، المستقلة، فقدتها، ديموقراطياً وإنسانياً وأخلاقياً.
ثانياً – لا تبدو «حماس»، في هذا الضوء، مجرّد تنظيم سياسي – عسكري – ديني، ولا تبدو أنّها «دينيّة» أكثر من غيرها، إلا بالشعارات التي ليست، في التحليل الواقعي الأخير إلا خطاباً غيبياً، مما وراء الواقع (وهل إسرائيل في واقعيتها دولة علمانيّة، أو غير دينية؟).
على العكس، تبدو «حماس»، في هذا الضوء، كأنها «بصيصُ» عالم آخذٍ بالانطفاء، أو كأنها «انفجارٌ» صغيرٌ في عالم سياسي عربي كبير وخامد. وتبدو، بوصفها كذلك، كأنها «أملٌّ كامنٌ» ضد المؤسسة السياسية العربية، وضد المؤسسة الإسرائيلية السياسيّة، في آن.
ثالثاً – كل شيء، في هذا الضوء، يُشير الى ان الأمن المؤسسيّ العربيّ، آخذٌ من الآن فصاعداً بالوقوع في قبضة الأمن المؤسسيّ الإسرائيلي.
رابعاً – الانتصار على «حماس» بوصفها «تنْظيماً»، هو في هذا الضوء، انتصارٌ محدود وموقّت في معركة ستكون طويلة الأمد. و «طول الأمد» هنا هو، بالضبط، ما تريده إسرائيل. فهو يتيح لها ان «تهضم» جيداً، وأن «تستوطن» جيداً، وأن «تمحو» و «تروض» جيداً، وأن «تُهيمن» جيداً، بحيث يستنزفُ العالمُ السياسي العربي طاقاته كلها في ما لا يُجدي، وبحيث تُعيد بناءه، كما تشاء، وفقاً للإيقاع الذي تشاء.
خامساً – ليس «قتلُ» غزّة، في هذا الضوء، إلا مجرّد فصل في «مسرح القتل». فصل تجريب لقتل «العواصم» العربية.
و «عقاب» العرب هنا ليس واقعاً على «سلوكهم» بل هو واقع على «وجودهم»، وفقاً لتعبير محمد حسنين هيكل.
سادساً – ليست الولايات المتحدة إلا حجاباً – ستاراً لهذا المسرح التراجيدي. خصوصاً انه ليس لإسرائيل التي تُخْرجه وتديره إلا «القوة» – قوة البطش والتدمير. وليست الولايات المتحدة إلاّ «الخزّان» الأكبر للوقود الذي تحتاج إليه هذه القوة.
لكن إســـرائــيل، في هذه «الانتصارات» التي ستحـــققها، لن تكون في نظر التاريخ الإنساني العادل، وفي نظر الحقيقة والعقل، وفي النظر الإنساني بحصر الدلالة، إلا انتهاكاً للإنسان وحقوقه، وللحرية، والحقيقة، والعقل.
سابعاً – «مسرح القتل» هذا، تنعرضُ فيه مرحلةٌ حاسمةٌ من مراحل انقراضنا: انقراض ذلك الألَق الذي عاش خمسة عشرَ قرْناً وكان اسمُه: العرب.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة