|
سعد الدين إبراهيم عن أزمة المفكرين العرب في مطلع القرن الحادي والعشرين
|
Merry Christmas & Happy New Year every body
-----------------------------------------------------------------------------
أزمة المفكرين العرب في مطلع القرن الحادي والعشرين... فقه الوشاية والنكاية سعد الدين إبراهيم الحياة 2003/12/25
في أوائل شهر كانون الأول (ديسمبر) 2003, حضرت المؤتمر السنوي لمنتدى الفكر العربي, الذي يترأسه الأمير الحسن بن طلال, ويضم في عضويته أكثر من مئتي مفكر وصانع قرار ورجل أعمال, من أنحاء الوطن العربي. ويعتبر هذا المنتدى أكبر وأقدم تجمع أهلي مدني عربي, إذ تأسس عام 1981, على طراز نادي روما الشهير. وعلى رغم أنني كنت أول أمين عام متفرغ لهذا المنتدى (1985 - 1990) وكنت وما زلت أحرص على المشاركة في اجتماعاته السنوية, إلا إنني لم أفعل ذلك في السنوات الأربع الأخيرة, التي قضيتها بين محاكم مصر المحروسة وسجونها.
لذلك حرصت هذا العام, بعد براءتي واستعادة حريتي (18/3/2003), أن أحضر المؤتمر السنوي للمنتدى, خصوصاً أن الموضوع الفكري للاجتماع كان حول "عوامل تقدم الوطن العربي" وكذلك كان مناسبة افتتاح مقر جديد للمنتدى في منطقة الجبهة, احدى ضواحي العاصمة الأردنية الأنيقة في عمان. وكانت الأيام الثلاثة للقاء مفعة بالمشاعر الحارة على المستوى الشخصي والإنساني للالتقاء بعشرات الأصدقاء, والزملاء, وفي مقدمهم الأمير الحسن, الذي كان موقفه نبيلاً وشجاعاً ومتضامناً معي ومع أسرتي وزملائي في مركز ابن خلدون طوال سنوات المحنة (2000-2003).
مع ذلك, شاب اللقاء ذلك ما لاحظته من تغير مفردات الخطاب الفكري لأعضاء المنتدى وتسرّب السلفية, خصوصاً مصطلح "فقه". فقد ترددت عبارات عدة عن "فقه المصالح", و"فقه المفاسد" و"فقه المكاره", و"فقه التنمية", وما إلى ذلك من المواضيع, تعود المفكرون العرب أن يطرقوها, طوال الربع الأخير من القرن العشرين, ولم يكن فيها من جديد إلا اقتران كل منها بكلمة "فقه".
ثم حدثت أثناء المداولات ثلاثة مشاهد, الأكثر إزعاجاً كان المشهد الأول في أعقاب مداخلة لأحد الضيوف المراقبين من العراق, وهو السيد حسين سنجاري, رئيس العهد العراقي للديموقراطية. جاءت المداخلة بعد استغاثة أحد أعضاء المنتدى بما فحواه "أن اللجنة التي تشكلت لصوغ الدستور العراقي الجديد تنوي حذف المادة التي تنص على أن العراق جزء لا يتجزأ من الوطن العربي, وأن شعبه جزء لا يتجزأ من الأمة العربية". وكانت مداخلة الأخ حسين سنجاري فحواها أن هذه المادة تستحق الحذف أو التعديل, في ضوء أنها تتجاهل وجود شعوب أخرى غير عربية تعيش في العراق من قديم الأزل ومنها الشعب الكردي, وكأنه لا مانع من وجود مادة تنص على أن عرب العراق هم جزء لا يتجزأ من الأمة العربية, وأن أكراد العراق هم جزء لا يتجزأ من الأمة الكردية, وأن العراق هو وطن لكل من يعيش على أرضه.
لم يكمل الزميل الكردي مداخلته إلا وانقض عليه من أعضاء المنتدى بالهجوم والنقد اللاذع, وأصر بعضهم على أنه "عربي رغم أنفه, بما أنه يتحدث العربية", ورد الرجل بأنه يتحدث أيضاً الكردية والإنكليزية والألمانية إلى جانب لغته الأصلية وهي الكردية, وأنه يعتز بهويته الكردية, كما يعتز أشقاؤه العرب بهويتهم العربية. وانتهت هذه المشادة الكلامية, بأن طلب أحد أعضاء المنتدى من الزميل الكردي أن يغادر قاعة الاجتماعات, فترك الرجل القاعة في حزن وأسى, لضيق صدر زملائه المفكرين العرب, بتعبيره عن رأيه ومشاعره في قضية تخصه كعراقي!
وكان المشهد الثاني في أعقاب كلمة افتتاحية لرئيس الجلسة, في صباح اليوم الثاني, وهو دولة الدكتور عبدالعزيز حجازي, رئيس وزراء مصر الأسبق, علق على حال الكآبة والتشاؤم ولطم الخدود, وجلد الذات, التي غلبت على مناقشات اليوم الأول, وتحدى زملاءه في المنتدى أن يبحث أحدهم عن بارقة أمل, ولو واحدة, في هذه الظلمة الكالحة. فتطوع أحدهم ورصد سبعة بوارق أمل تبعث على التفاؤل, حدثت كلها في عام 2003, على رغم كل ما تحدث عنه كل الزملاء الذين سبقوه من مواجع ونكبات. وكان مما ذكره: سقوط الديكتاتورية في العراق, واقتراب مسيرة السلام في السودان من الاكتمال لوضع نهاية للحرب الأهلية التي قاربت الأربعين عاماً وحصدت أرواح مليوني سوداني وشردت مليونين آخرين, والمبادرة السلامية لممثلين من المجتمع المدني الفلسطيني والمجتمع المدني الإسرائيلي وتمثلت في اتفاق سلام افتراضي تم توقيعه في جنيف وأيده أكثر من أربعين رئيساً وعشرات الشخصيات العامة العالمية كنلسون مانديلا وجيمي كارتر وبيل كلنتون, ومنها التحولات الديموقراطية المشهورة في المغرب والبحرين وعمان, وعشرون من الحائزين على جوائز نوبل. ولم ينته حتى بادر زميل آخر محتجاً بأعلى صوته أن سقوط صدام حسين هو كارثة للعرب أجمعين لأن الذي أسقطه هو الأجنبي الذي جاء "محتلاً لا محرراً للعراق", ولأن اتفاق جنيف كان كارثة ثانية, حيث أن من وقعوها من الفلسطينيين قد فرطوا في "حق العودة", وهو حق مقدس. لكن هذا الاحتجاج لم يصل إلى درجة الحدة نفسها التي وصل إليها مع الزميل الكردي, ولم يُطلب من الزميل "المتفائل" أن يخرج من القاعة, فحمد هذا الأخير ربه على أن مصيره كان أفضل حالاً.
أما المشهد المأسوي الثالث فقد كان اقتراحاً من أحد أمناء المنتدى السابقين فحواه إصدار بيان يندد بدعاوى "الحداثة" و"الديموقراطية" التي يرددها بعض المثقفين العرب, لأن مثل هذه الحداثة تأتي في أعقاب الانكسار العربي, وتلك الدعوة للديموقراطية تأتي في أعقاب الاحتلال الأميركي للعراق. وهو ما يعني رفض الدعوتين أو على الأقل تعليقهما إلى أجل غير مسمى, أو إلى أن ينصلح حال الأمة العربية ويتحرر العراق, "فلا صوت يعلو فوق صوت المعركة". أكثر من ذلك طالب الزميل نفسه بأن يقوم منتدى الفكر العربي بمناهضة ومحاصرة وفضح أولئك المثقفين الذين يروجون للحداثة أو الديموقراطية لأنهم في أحسن الأحوال مخدوعون وفي أسوأ الأحوال عملاء للإمبريالية الأميركية, والتي تحاول إغراقهم بالمنح والمساعدات!
في ضوء هذه المشاهد الثلاثة المتشنجة, شعر بعض قدامى المؤسسين لمنتدى الفكر العربي, بأن هذا المنبر الذي كان مأمولاً أن يظل جزيرة للحرية في محيط الاستبداد العربي قد بدأ يتآكل, وينخُر فيه السوس نفسه الذي استشرى بعد أن أقفل باب الاجتهاد في الفكر العربي الإسلامي منذ عشرة قرون. ولولا مداخلات من بعض العقلاء, في مقدمهم الأمير الحسن لاستبدت الفاشية العربية الزاحفة لتجهر على هذا المنبر ولتغرق جزيرة الحرية تلك في مستنقع الاستبداد العربي العميق.
كان ضمن ما قاله أحد العقلاء محذراً من هذه الفاشية العربية الزاحفة على منتدى الفكر العربي, هو أننا بصدد تحويل المنتدى إلى "محكمة تفتيش" في ضمائر المفكرين وقلوبهم, تحاسبهم على النيات وعلى ما خبّأت صدروهم. بذلك تحول كل منهم من دوره الأصيل "كباحث" إلى دور دخيل "كمباحث", وانهم كجهاز دخيل للمباحث سيكونون في مجموعهم ليس فقط قد تخلوا عن دورهم كنقاد, منذرين ومبشرين, لكنهم سيكونون جهاز مباحث رديء من الدرجة الثالثة إلى جانب أجهزة المباحث والاستخبارات العربية الأكثر خبرة وحرفية.
واقترح أحد العقلاء استحداث نوع جديد من الفقه, هو فقه "النكاية", وهو فقه يؤصل لرفض الحداثة والديموقراطية والتسامح. فهي "وافدة", وكل وافدة "ضلالة", وكل ضلالة في النار. فما لم تأت مفردات الفقه الأصيل على ناقة أو بعير, فأغلب الظن أنها أتت على ظهر سيارة أو دبابة أو طائرة. وبما أن هذه مركبات لا يصنعها العرب أو المسلمون ولكن يجيد صنعها الفرنجة, فهي والمفاهيم التي جاءت معها ملعونة إلى يوم الدين! وضمن فقه "النكاية" أن نتمسك بأي مستبد عربي, ونلتفت حوله إذا ما تحرش به أو انقض عليه أي أجنبي. فألف مستبد عربي ولا أجنبي واحد, "وحاكم غشوم وفتنة لا تدوم".
وحيث أصبح "حديث الفقه" هو جديد منتدى الفكر العربي في مطلع القرن الحادي والعشرين, فقد اقترح أحد الظرفاء من أعضاء المنتدى استحداث فرع آخر وهو فقه "الوشاية" وهو فرع يلزم لحراسة "ثوابت الأمة" والإيقاع بمن تراوده نفسه في مجرد التفكير في تبني جديد وافد من بلاد الفرنجة أو دار الكفر - مثل الحرية والديموقراطية والتعددية والتسامح والمساواة.
وعلق المفكر العربي الدكتور محمد جابر الأنصاري على الاقتراحين بما يفيد أن فقه "النكاية" ليس جديداً بالمرة, بل تعود جذوره إلى سنوات الفتنة الكبرى, حينما كان يتشيع فريق من المسلمين لعلي أبن أبي طالب (كرم الله وجهه), لا حباً فيه ولكن نكاية في معاوية, بينما كان ينتصر فريق آخر لمعاوية, لا حباً فيه ولكن كراهة لعلي. كذلك ذكر الأنصاري أن الأموي عبدالرحمن الداخل (صقر قريش), تبنى المذهب المالكي, في الأندلس, نكاية في العباسيين في بغداد الذين كانوا قد تبنوا المذهب الشافعي!
وهكذا, بين فقه الوشاية والنكاية أراد فريق من المثقفين العرب أن يصادروا على حرية الفكر والاجتهاد بذريعة "الحرام السياسي" والحفاظ على "ثوابت الأمة" من دون إدراك أن ذلك كان مقدمة للانحلال من العصر العباسي الثاني في القرن التاسع الميلادي وإلى منتصف القرن التاسع عشر, حينما لاحت بوادر عصر النهضة العربية الحديثة, التي يرمز رفاعة الطهطاوي لبدايتها, وتبعه سلسلة متصلة من أساطين التنوير: علي مبارك وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعبدالرحمن الكواكبي وشبلي الشميل وأحمد لطفي السيد وطه حسين وعلي عبدالرازق وانتهاءً بزكي نجيب محمود ونجيب محفوظ.
بعد سجال منتدى الفكر العربي في عمان بثلاثة أيام فقط, قُبض على الرئيس صدام حسين, في أحد المخابئ السرية تحت الأرض في مزرعة, قرب تكريت, مسقط رأسه. وعلى رغم اختلاط المشاعر العربية وتضاربها بين فرح معظم العراقيين لسقوط الطاغية, وأسف بعض العرب للحال المزرية التي ظهر بها الرجل بعد خروجه من مخبأه, إلا أن قلة هي التي كان لديها شيء طيب تقوله عن الرجل الأسير. ومن هذه القلة أحد حراس "الثوابت العربية", حيث ظهر على احدى الفضائيات العربية, يبكي ويرثي صدام حسين, "الفارس العربي النبيل". ولما راجعه مقدم البرنامج بالسؤال "ماذا تقول للذين يصفونه بالمستبد؟", سارع الرجل بالإجابة وهو لا يزال يجهش بالبكاء: "لكنه كان مستبداً عادلاً, ويكفينا كعرب أنه انتقم لكرامتنا من الطاغوت الأميركي" أما كيف انتقم صدام من أميركا, وكيف صان الكرامة العربية, بعد أن جلبت حماقاته ومغامراته الفساد والخراب والاحتلال, فإن مقدم البرنامج لم يسأل, ربما اشفاقاً على من يبكي على الأطلال, أو ربما مشاركة وجدانية لعابد الأصنام.
وأتساءل في نهاية هذا المقال: كم نكبة ينبغي أن تقع لنا وكم مصيبة ستحل علينا, قبل أن نسترد وعينا ونبرأ من المقولات الزائفة, ومن فقه النكاية والوشاية, ونقلع عن عبادة الأصنام, ونكف عن الاعتقاد بأن ثمة مستبداً عادلاً أو مهدياً منتظراً!
* كاتب مصري.
|
|
|
|
|
|