هل تنظف بريطانيا بقايا عربدتها في السودان؟ عادل درويش الشرق الاوسط
وصل رئيس الوزراء توني بلير الى السودان، في اول زيارة لزعيم بريطاني منذ استقلالها عام 1956، بعد يوم واحد من زيارة الرئيس الإيراني محمد خاتمي لعاصمتها الخرطوم. المفارقة التاريخية هنا، هي ان الإمبراطورية التي لم تكن تغرب عنها الشمس، تواجه الآن مسؤولياتها التاريخية في «تنظيف» الشظايا وبقايا حفلات العربدة غير المسؤولة، التي يتركها «المراهقون»، في اماكن كانت يوما حدائق كلاسيكية. ويتمنى اصدقاء السودان في بريطانيا، ان يعي بلير ذلك. مر عقد على زيارة رئيس ايراني آخر للسودان، هو علي أكبر هاشمي رفسنجاني، يوم سيطرت الجبهة الإسلامية على مقدرات السودان وجعلت منه قاعدة لإرهابيين عالميين، كأسامة بن لادن وكارلوس «ابن آوى»; بينما كان الأشقاء في شمال امة وادي النيل، يصرخون تنبيها لأبناء الأمة في الجنوب، بالخطر المحدق بهم من ايديولوجيات الإرهاب داخليا وخارجيا، خاصة ان بن لادن وعصابته، شكلا مصدر تمويل وتسليح للجماعات الإرهابية الأصولية التي عاثت فسادا في شمال وادي النيل. القى رفسنجاني خطابا - عقب صلاة الجمعة في ضيافة حسن الترابي - لوح فيه براية التشدد والعنف، وحيا «صعود» جبهة المتطرفين الأصوليين في الجزائر - وما تلاه من مذابح وإهدار دماء المدنيين ـ وتنبأ بتحولها الى «جمهورية اسلامية» على نمط بلاده، التي خربت اقتصاديا، وتقهقرت تاريخيا وحضاريا، وغرقت في اوحال انتهاك حقوق الإنسان. وبعد عقد من «تهنئة» رفسنجاني، يقف السودان على حافة الهاوية، بفضل سياسة جبهة الترابي وما تبقى منها من ايديولوجية تتجه لتمزيق الأمة واستعداء قبائل وتيارات، مثل الجنجويد العرب، على طوائف الأغلبية الأفريقية من سكان البلاد الأصليين. ادرك خاتمي «حكمة» المتغيرات العالمية، فتبنى خطابا معاكسا لسابقه، بدعوة «الفرقاء السودانيين» للتوحد من اجل المصلحة القومية السودانية وأهدافها. ولم يمضغ الضيف الإيراني كلماته او يعض لسانه، فأدان الإرهاب والعنف والديكتاتورية، ونصح بحل ازمة دارفور عن طريق جهود الإتحاد الأفريقي، وما سماه «السياسات الحكيمة للحكومة السودانية». ونرجو الا يعني بذلك سياسة دفن الرؤوس في الرمال، وإنكار الواقع الذي رصدته الوكالات والمنظمات الدولية والمراقبون المحايدون حول كارثة دارفور. قلق المراقبون من دبلوماسية بلير الناعمة مع حكومة الجنرال البشير، التي وصلت السلطة بانقلاب عسكري، خاصة ان التيارات الليبرالية والديمقراطية ومنظمات حقوق الإنسان البريطانية والأفريقية، لا ترتاح لمشهد رئيس وزراء اعرق ديموقراطيات العالم يصافح عسكريا يترأس حكومة لم ينتخبها احد، مما يشكك في شرعيتها. لكن بلير اتخذ موقفا حاسما يوم الأربعاء، بتحذير الخرطوم، بضرورة انهاء العنف في دارفور، خاصة ان السكرتير العام للأمم المتحدة، كوفي أنان، اشتكى من استمرار غياب الأمن في دارفور، ومن تقاعس الحكومة السودانية عن حماية المدنيين ونزع اسلحة ميليشيات الجنجويد; وفق قرار مجلس الأمن. وحذرت المنظمات الدولية باحتمال عجزها عن التعامل مع دارفور لغياب الأمن. بدأ الصراع بحمل المتمردين الدارفوريين الأفارقة للسلاح عام 2003، بعد ان ادارت الخرطوم ظهرها لمطالب وحاجات دافعي الضرائب في الإقليم. لكن العالم يتفق اليوم، على ان المسؤولية تقع على عاتق حكومة انقلاب الجنرال البشير في كارثة دارفور التي تعتبر الأسوأ في القرن، بتحول مليون ونصف المليون الى لاجئين اغلبهم بلا مأوى، ومصرع أكثر من خمسين الفا، اما على ايدي العرب الجنجويد لحساب حكومة البشير، او فريسة للأمراض والمجاعة وعجز وكالات العون عن الوصول اليهم بأمان، لتوفير ابسط الحاجيات، من مياه نظيفة وأدوات صحية تقيهم الأمراض، ناهيك من توفير الدواء والغذاء. وبلير هو الأخير في قافلة الشخصيات العالمية التي تزور الخرطوم للضغط عليها، خاصة ان تطور الأزمة يضع علامات استفهام امام امكانية تقدم محادثات السلام في نهاية الأسبوع نفسه، حول أطول حرب تشهدها القارة السوداء في جنوب السودان، بعد اصرار الخرطوم على فرض قوانين وثقافة وطريقة حياة اجنبية غازية، تختلف عن تقاليد وعادات ومعتقدات الجنوبيين الأفارقة. ولئن كانت الحرب في الجنوب منفصلة جغرافيا عن دارفور، فإنها تتعلق بها سياسيا وعرقيا، وتشبهها في انحياز الخرطوم للثقافة الغازية وفرضها رغم انف السكان المحليين. لهذا ربط رئيس الوزراء البريطاني بين الإثنين في صراحته لتحذير حكومة البشير. قال بلير، ان المجتمع الدولي لن يرتاح حتى تنتهي اعمال العنف ويتم التوصل الى سلام شامل في كافة ارجاء السودان. ونبه الصحافيين الى ضرورة استتباب الأمن في دارفور. رغم وصول كميات كبيرة من المعونة الى الإقليم، الذي تزيد مساحته على مساحة فرنسا. رحبت منظمة «اوكسفام» الخيرية بزيارة بلير، معبرة عن اعتقادها بأنها ستساهم في دفع المجتمع الدولي للتدخل لإيقاف العنف الذي يتعرض له المدنيون اللاجئون خاصة النساء والفتيات. قدم بلير للخرطوم خطة، ترتكز نقاطها على استراتيجية الأمم المتحدة، تشترط التزام الحكومة السودانية باتفاق شامل مع ممثلي الجنوب ـ الحركة الشعبية لتحرير السودان - في المفاوضات الجارية في كينيا. حيث يعتقد ان التسوية مع الجنوب، سيكون لها اثر ايجابي على دارفور، خاصة ان الحركة الشعبية لها وجود في دارفور، مما ادى بالقاء ظلال الأزمتين بعضهما على الأخرى. كما طلب ايضا، من البشير، قبول زيادة عدد قوات الاتحاد الأفريقي لحفظ الأمن (300 مراقب حاليا) الى 3500; وتحديد امكان وجود الجنود السودانيين المشتركين في القتال وإعادتهم الى ثكناتهم; والتزام المتمردين ايضا بوقف اطلاق النار والانسحاب من اماكن المدنيين وعدم التعرض للاجئين. ولم يلوح بلير بالعصا من دون جزرة. فبريطانيا هي اكثر دول العالم تقديما للدعم المادي للسودان. حيث اعلن عن تقديم 100 مليون جنيه استرليني ( 168 مليون دولار)، دعما للسودان. لكن بلير خيب آمال المراقبين وأصدقاء السودان، بقوله للصحافيين، ان بريطانيا لن ترسل قوات عسكرية الى دارفور لحماية اللاجئين. وكنا نأمل ان يبقي بلير السؤال معلقا، على الأقل، بعدم الرد بالإيجاب او النفي، والإشارة الى ان بلاده تدرس الموقف عن كثب، وتصوغ السياسة حسب التطورات، من اجل مصلحة المدنيين السودانيين. وهي اشارة كانت ستبقي حكومة البشير واقفة على اطراف اصابع قدميها. فمن غير المتوقع ان تتطوع حكومة البشير بتطبيق القرارات الدولية، بنزع اسلحة الميليشيات وإعادة اللاجئين، دون وجود قوات تبدو جاهزة للنزول في دارفور، وتولي حماية اللاجئين تحت علم الأمم المتحدة. وبما ان أي تدخل عسكري في العالم اليوم، لا يتم من دون موافقة واشتراك الولايات المتحدة، فحكومة البشير تشتري وقت انشغال الإدارة الأميركية في الانتخابات الرئاسية، وبتدهور الوضع في العراق. ويبدوا ان بلير لا يريد ان يخيب امل متهميه بالتبعية لواشنطن في السياسة الخارجية، فخيب، بدلا من ذلك، آمال شعب دارفور، رغم اهمية الزيارة. فبريطانيا، التي تواجدت في وادي النيل سياسيا وعسكريا لسبعة عقود، وثقافيا وتاريخيا واقتصاديا ضعف المدة، هي أقدر من أي قوة عالمية اخرى على مواجهة المسؤولية التاريخية لإنقاذ شعب دارفور، وأيضا، لإرغام الخرطوم على قبول القرارات الدولية، وما سيتبع ذلك من تطوير نحو الديمقراطية بتقليص التسلط المركزي للبشير - والذي اقال نائبه مبارك الفاضل المهدي، لتجروئه على تقديم «خريطة طريق للسلام» في دارفور ـ خارج تسلط البشير. حكومة هارولد ويلسون العمالية تخلت في نهاية الستينات عن مسؤولياتها شرق السويس، حين تعرضت المنطقة لتهديدات ايديولوجيات القومية المتطرفة من ناحية، والتدخل الإيراني من ناحية اخرى، فأسرعت أميركا - الحديثة العهد والخبرة بالمنطقة وتاريخها وثقافتها ـ بملء الفراغ وما ترتب عليه من مشاكل يعاني منها العالم اليوم. ونرجو الا يعيد التاريخ نفسه، إن ادى تقاعس حكومة بلير العمالية عن قيادة ضغوط سياسية عالمية - مدعومة بقوة عسكرية واضحة ـ على الخرطوم، لتسوية ازمة دارفور، قبل ان تتطور الكارثة الى حرب اهلية، قد يتورط فيها الجيران ولا يكون امام العالم الا التدخل عسكريا بزعامة أميركا - التي تجهل افريقيا وسياستها ـ في منطقة يصعب أي تدخل فيها من دون قيادة سياسية من بريطانيا.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة