|
بين حرمة إهداء الزهور وإباحةحز الرؤوس في الإسلام؟
|
عبدالخالق حسين [email protected] العدد: 859 - 2004 / 6 / 9
يبدو أن الفقهاء والمتفيقهين والمتأسلمين، مصرون على تحويل حياة الشعوب العربية والإسلامية إلى جحيم في هذه الدنيا قبل الآخرة وإظهارنا للعالم وكأننا مخلوقات غريبة وعجيبة نزلنا تواً إلى الأرض من كوكب آخر. فبعد ما يقارب من 15 قرناً من ظهور الإسلام الحنيف، المعروف باحترامه للحياة والعمل على سعادة الإنسان، يطلع علينا هؤلاء بفتاوى وفرمانات ما أزل الله بها من سلطان لم يسمع بها حتى المسلمون الأوائل، ليفرغوا الحياة من معانيها ومن كل ما هو جميل من شأنه أن يجعلها ذات قيمة تستحق أن تعاش. ولا أدري لماذا كل هذه الكراهية ضد الجمال والفنون الجميلة (والله جميل يحب الجمال) ورغم عدم وجود أية آية أو حديث يؤيد موقف هؤلاء المتزمتين من أعداء الحياة. فما يجري من تعسف ضد الفنون والقيم الجمالية والأفكار التنويرية لم يعرفه الإسلام طوال تاريخه وحتى في أشد فترات الظلام قهراً وسيطرة السلفيين المتشددين كما حصل في عهد الخليفة العباسي المتوكل الذي لقبه المستشرقون ب(نيرون الشرق) والذي دشن حكمه بملاحقة خيرة المفكرين الإسلاميين من المعتزلة وغيرهم وحرق كتبهم وقتلهم في الساحات العامة.
مناسبة هذه المقالة هي أني استلمت عن طريق البريد الإلكتروني رسالة تتضمن فتوى صادرة عن(اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء) في المملكة العربية السعودية. وإن كانت الرسالة منتحلة، فعلى اللجنة المذكورة توضيح الأمر وتبرئة نفسها وإلا فالرسالة صحيحة. أنقل صورة الفتوى في نهاية هذا المقال. والغريب في هذه الفتوى أنها تقضي بتحريم تقديم الزهور كهدايا للمرضى الراقدين في المستشفيات. وكالمعتاد، تبدأ على أنها رد على رسالة من مستفتي يسأل: (انتشرت في بعض المستشفيات محلات بيع الزهور وأصبحنا نرى بعض الزوار يصطحبون باقات الورود لتقديمها للمزورين. فما حكمكم ذلك...)...
وتضيف الرسالة: "وبعد دراسة اللجنة للاستفتاء أجابت بما يلي: ليس من هدي المسلمين على مر القرون إهداء الزهور الطبيعية أو المصنوعة للمرضى في المستشفيات أو غيرها وإنما هذه عادة وافدة من بلاد الكفر نقلها بعض المتأثرين بهم من ضعفاء الإيمان. والحقيقة أن هذه الزهور لا تنفع المزور، بل هي محض تقليد وتشبّه بالكفار لا غير. وفيها أيضاً إنفاق للمال في غير مستحقه وخشية مما تجر إليه من الاعتقاد الفاسد بهذه الزهور من أنها من أسباب الشفاء. وبناء على ذلك فلا يجوز التعامل بالزهور على الوجه المذكور بيعاً أو شراءً أو إهداءً. والمشروع في زيارة المرضى: هو الدعاء لهم بالعافية وإدخال الأمل في نفوسهم وتعليمهم ما يحتاجون إليه حال مرضهم كما دلت على ذلك سنة النبي صلى الله عليه وسلم. وبالله التوفيق.".
قبل أيام كتب الأستاذ العفيف الأخضر مقالة بعنوان (في سبيل تعليم وإعلام ينشطان غرائز الحياة، إيلاف: الجمعة 04 يونيو 2004 ) نقل لنا أمثلة من المتأسلمين المغاربة الذين جعلوا المجتمع والجامعة "فضاءً كارهاً للفن والإبداع بكل أشكاله .. فالمهربون الدينيون يحرمون الغناء ويعتبرونه دنساً ودعارة ويحرمون استخدام الآلات الموسيقية التي يسمونها "معازف الشيطان" ويحرمون تعليم الموسيقي (…) وقد حولوا الأعراس وحفلات العقيقة إلى مآتم يحرم فيها الغناء ومختلف أشكال الفرح...الخ" وقد وصلت هذه الدعوات حتى إلى الجامعات المغربية كما حصل في كليتي الطب والصيدلة. وكذلك في مصر بدأت حملة محاربة الغناء والموسيقى وتحويل حفلات الأعراس إلى حفلات الزار وحرق البخور وتحضير الأرواح ..! كما وهناك حملة ضارية ضد الكتب التنويرية والكتاب المستنيرين.
أما في العراق فتقوم عصابات المتأسلمين السائبة بإلقاء ماء النار على وجوه النساء السافرات وإرغامهن وحتى المسيحيات على الحجاب. وقد حوَّلوا الجامعات إلى حسينيات للعزاء واللطم، وقاموا بقتل أصحاب محلات بيع الخمور من المسيحيين واضطهاد الصابئة المندائيين وهم من سكان العراقيين الأصليين منذ فجر التاريخ، بحجة أنهم وثنيون ويطالبونهم إما أن يتحولوا إلى مسلمين أو يدفعوا الدية أو يواجهوا القتل. وفعلاً تم قتل العديد منهم وإلقاء المتفجرات على بيوتهم في الوقت الذي التزم "المعتدلون" من الإسلاميين ورجال الدين، صمت المقابر إزاء هذه الجرائم المروعة دون أن تصدر منهم أية إدانة.
نعود إلى موضوع الفتوى العتيدة في تحريم تقديم الزهور للمرضى. حجة هؤلاء أن عادة إهداء الزهور لم تكن موجودة في عهد الرسول (ص). لقد أدرك الرسول الكريم أن الحياة تتقدم وتتطور ولذلك جرت تعديلات على بعض الآيات الكريمة من وقت لآخر، العملية التي تسمى بنسخ الآيات وحسب أسباب التنزيل. والرسول (ص) هو الذي قال (انتم أعلم بشؤون دنياكم). فعدم وجود (عادة إهداء الزهور) في عهد الرسول لا يجعلها محرمة. إذ هناك الألوف من الأمور المستجدة تفرزها الحياة المتجددة دوماً، والتي لم تكن موجودة في عهد الرسول ومنها "وافدة من بلاد الكفر " في أغلب الأحوال مثل السباقات الرياضية، والمدارس والجامعات والمعاهد العلمية وحتى المستشفيات بصورتها الحالية وجميع وسائط النقل الحديثة والمطابع والتكنولوجية والثورة المعلوماتية والكهرباء ومشاريع إسالة الماء وصرف المجاري وآلاف مؤلفة المخترعات .. فهل نقاطعها لأنها لم تكن موجودة في عهد الرسول؟ وهل كان عهد الرسول هو نهاية التاريخ وجمد الزمن يوم وفاة النبي محمد (ص).
إن السلفيين المتزمتين يسلكون ذات السلوك في كل زمان ومكان. ففي بدابة القرن الماضي عندما دخلت السيارات في العراق لأول مرة، عارضها بعض رجال الدين حتى أصدر أحدهم فتوى بتحريم ركوبها مفضلاً عليها ركوب الحمير. ولحد الآن يتندر المعمرون ممن عاصروا ذاك الزمان بسخرية على قول هذا الرجل في مواعظه الدينية صارخاً في الناس: (أتتركون حمير الله وتركبون الشمندفر؟) حيث كان الناس يسمون السيارة بشمندفر في ذلك الوقت.
إن الزهور وسيلة حضارية ورمز بمثابة لغة معبرة يستخدمها الناس المتحضرون كوسيلة للتعبير عن أصدق مشاعر الحب والمودة والاحترام والتقدير في مناسبات الأفراح والأتراح. وهي تدخل البهجة في نفس من يستلمها والناظر إليها وزارعها وبائعها. ففي البلدان المتحضرة عندما تقوم بزيارة عائلة أو مريض في المستشفى، من التقاليد الجميلة أن تصطحب معك باقة ورد للتعبير عن المشاعر الإنسانية النبيلة وهي تعبر أكثر من جميع الكلمات. ويهتم المتحضرون بالزهور سواءً في حدائقهم المنزلية أو العامة والشوارع والساحات لأنها تضفي بهجة وجمالاً يسر الناظرين. ولا أدري ماذا يضر الإسلام في أن يتبنى المسلمون هذا التقليد الجميل الذي من شأنه تهذيب النفوس.
طبعاً لا نستطيع أن نتهم أصحاب هذه الفتوى بالإرهاب، ولكني أعتقد جازماً أنها وغيرها من الفتاوى والإجراءات التي تحارب الجمال والفنون الجميلة والأفكار التنويرية، من شأنها أن تجعل طباع الناس خشنة وقاسية وتفرغ الحياة من معانيها الجميلة. وبذلك تجعل الناس تكره الحياة وتقدس الموت وتهيئ الأرضية لتفريخ الإرهابيين. ولا عجب فإن الشعب السعودي الذي يدفع الثمن الآن بسبب الجرائم الإرهابية هو من أكثر الشعوب المتعاطفة مع بن لادن ومنظمته (القاعدة) الإرهابية كما كشفت استطلاعات الرأي. والسبب هو مواقف رجال الدين المتزمتين هناك ضد الحياة وسيطرتهم الكاملة على جميع مرافق الحياة وخاصة التعليم الذي استخدموه لنشر روح الكراهية والبغضاء في الإنسان السعودي ضد غير المسلمين ومن غير مذهبهم، منذ نعومة أظفاره وحتى شيخوخته. وبذلك راحوا يضيقون الخناق على الإنسان في حياته وحتى في أبسط الأمور مثل تقديم باقة ورد للمريض في المستشفى.
|
|
|
|
|
|
|
|
|