توافد الأهل و الأقارب على منزلهم من كل حدْب و صوب .. يعانقونه و هم من طرف خفى يرمقون زوجته الروسية بتمعنٍ و نظرات متفحصة. سُمْرة المُلْتَفِّين حولها تزيد من إنبعاث وهج بياضها الثلجي .. يحدوهم الشوق إليه بعد هذه الغربة الطويلة التي لم يألفوها من قبل .. فأطْول غربة في نظرهم هي غربة سكان المدن عن قراهم و العودة إليها في مواسم المناسبات و نهاية الأسبوع كالعصافير في هجرتها بحثاً عن القوت و أوبتها لأعشاشها.. كنور ..كدباس ..خليوة ..العكد .. أم الطيور .. ( و الله يا جنا بقيت أبيض زى الروس .. حتى شعرك بقى ناعم ) .. تختلط عفوية الأهل بأتيكيت ميزالونا و نظرات زوجها التي تحثها و تشجعها على الإندماج في هذا الكرنفال الإحتفائي. تتابع بنظرتها المندهشة عناق زوجها الطويل لفتيات و نساء و رجال .. تجفلها زغاريد تنطلق من قريباته .. أشاحت بوجهها ذعراً عندما نحروا العجل عند عتبة الباب و جعلوها تخطو عبر الدم إلى الحوش الذي تتناثر فيه العناقريب بحبالها التي غيرتْ الشمس ألوانها. تبتسم بين الفينة و الأخرى لشقيقة زوجها الصغيرة التي تقف ملتصقة بها تحدق النظر إلى زرقة عينيها و شعرها الفضي الطويل و بشرتها (الجبنية). أمه إمتلأتْ نفسها زهواً و فخراً .. فها هو فلذتها يعود و معه الشهادة الكبيرة بعد غيبة طويلة ، أكل فيها الشك قلبها .. بعد أن أرهقتْها الشائعات طويلاً بأنه لن يعود بعد أن تزوج من أجنبية .. ترمق ميزالونا من حين لآخر بشيء من الإمتنان .. فرغم عدم رضاها في دواخلها بهذا الزواج .. إلا أنها تشعر بأن الفتاة تحب إبنها و إلا لما جاءت تتبعه إلى هنا .. ( عشان خاتر عيون ولدي .. رِدْتَها و الله ) .. و هي (تصوط ) جك العصير و تضرب حافته بالملعقة .. فتموسق الرنة مزاجها المعتدل فتتورد خدودها بحمرة الفرح اللامتناهي .. فرح فارقها طويلاً .. و ها هو يعود بزخم أفقدها توازنها .. تدلق مجاملاتها بلا حساب.. فتعانق ( الشّفّة ) رغم الخصام .. و تقالد ( النعمة ) و هي في خجل شديد منها لأنها لم (تحمِّد) لإبنتها السلامة بعد ولادتها القيصرية ،، فتبالغ في إكرامها لتغطي ندمها و تقصيرها.
10-09-2005, 12:56 PM
ابو جهينة
ابو جهينة
تاريخ التسجيل: 05-20-2003
مجموع المشاركات: 22758
في مناسبات كهذه .. تنكسر حواجز نفسية كثيرة و يجتاز الناس بعض حدود قناعاتهم حباً في إستطلاع شيء جديد عليهم .. كوصول هذه الروسية إلى هذا الحى الهاديء .. الكل يريد أن يخرج بمعلومة قبل الآخر .. فهو كرمْى حجر على سطح بركة ساكنة .. فتمتد دوائر لا نهائية تتسابق نحو الأطراف ، و هكذا هي الحكاوي عن فرد جديد أو دخيل على سكون بركة الحى. مكث فيهم أسبوعاً مسترخياً يتلقى حفاوة الإستقبال .. أدْخَلَ صديق الصبا ( عبدالقادر) جردلين من المريسة سراً.. و توسط به ( المنضرة) و دلق فيه حفنة من مسحوق الكركدي و كتلاً من الثلج .. ضحك عبدالقادر و هو يمازح ود المرضي : هاك أشرب( المريسوف ) على وزن ( إسميرنوف ) يا شيوعي .. قزايز الفودكا و الجِنْ البتشربوها الصباح بكان الشاى .. إن شاء الله ما تنفعكم. و أطلق ضحكة مجلجلة و هو يحرك الجردل بكوز ألمونيوم منبعج. يلعب المشروب برأس عبدالقادر قليلاً .. ( عليك الله حسع يا ود المرضي .. جنس الروسيات ديل زى نسوانا ؟ آآآ ) نطقها و إبتسامة خبيثة تقف في منتصف الطريق بفعل مَطَب سَفَة من التنباك. قال ودالمرضي كمن لم يفهم السؤال : زيهن في شنو يعني ؟ قال عبدالقادر و هو يكرع كوزاً من المشروب و هو يتكلم داخل الكوز فيرجع الصدي إلى فمه ليعود إلى الكوز مرة أخرى : ما تستهبل يا غتيت .. إنت لسع مكار؟ قطعتْ ميزالونا حديثهما الذي كاد أن يكون وصفاً ماجناً لتساؤل عبدالقادر غير البريء. كرعتْ معهما المشروب و كأنها تشرب ليمونادة السكة حديد في زجاجاتها ( المدردمة ).. كسَرَ المشروب قليلاً من حدة الحر المطبق .. و نُذُر كتاحة صيفية تلوح في الأفق فيتلون سماء عطبرة بلون أرجواني كشفق المغيب.
10-09-2005, 12:59 PM
ابو جهينة
ابو جهينة
تاريخ التسجيل: 05-20-2003
مجموع المشاركات: 22758
أراحت جبهتها على كتف زوجها و هي تهمس كلاماً ناعماً.. فبحلق فيها عبدالقادر و جزء من لسانه يتدلى و كأنه يحلم غارقاَ في نصف إغفاءة .. و سائل هلامي يندلق من (سفته) الماكنة في خط ملتوي على أطراف فمه حتى نهاية ذقنه .. فيمسحها بطرف كُمْ جلبابه. رفع ودالمرضي رأسها برفق و حدثها بالروسية فهو يعرف مزاجها إن هي تخدرتْ بالمشروب : دة هنا ما ممكن .. طنطنتْ كثيراً و هي تتجرع المشروب. إستساغت طعمه .. فصارت تغرف بنفسها دون أن تنتظر عبدالقادر. وقف ودالمرضي ليصافح جموعاً من المستقبلين .. عندما شق المكان صراخ ميزالونا .. إلتفتَ نحوها فإذا هي تشير فَزِعةً إلى عبدالقادر الذي كان يلتهم قطعاً من ( الكبدة النية) المعطونة في صحن ( البصل و الليمون و الشطة) .. ( الله ياذاك يا عبدالقادر .. مش كفاية منظر السفة كمان تسفسف في الكبدة النية قدام البنية.؟). لم يأبه عبدالقادر بهذه الجملة ، فقد كان تائهاً في مذاق (مَزّتِه) و هو يستمتع بقرقشة الكبدة بين أسنانه الصدئة. إستأذن أسرته و أخذ زوجته و إنطلق ليروي غليل حنينه بين ثنايا مدينته العزيزة. إيهي يا عطبرة .. مر بالمدرسة الغربية ( الأولية ) : هاهنا يا عزيزتي عرفنا طعم الزمالة في عمر مبكر جداً.. تداعت إلى ذاكرته أيام ( خُرْتاية الكتب ) المصنوعة من ( قماش الوزْن عشرة و الدمورية ) .. و سندويتشات الفول من (عم شَنَاكة اليمني) في سوق القيقر ترقد مستكينة مع الكراسات و الكتب.. و الجزمة (الباتا) البيضاء تبرق بياضاً بفعل الطباشير. و معلم الأجيال الأستاذ ( بدوي ) الذي كان ( يفش غبينته ) بأن يعض قلم التصحيح الأحمر بين أسنانه حتى ينكسر ..
10-09-2005, 01:02 PM
ابو جهينة
ابو جهينة
تاريخ التسجيل: 05-20-2003
مجموع المشاركات: 22758
موسيقى القِرَب كانت تقطع الهدوء المخيم ، يُمَوْسِقه صرير أقلام الرصاص. عرج بها إلى نهر عطبرة من جهة قشلاق البوليس .. : هنا يا ميزالونا تعلمنا أن نسبح ( مع التيار و ضد التيار ) .. فالسباحة في هذا النهر المجنون هو كأن تجتازي مفازة في ليلة حالكة السواد دون دليل أو راحلة .. و هنا يا عزيزتي غرق صديق عمري في غمرة هيجان النهر و نحن نتراهن على الغوص في ذلك الماء العكر .. ألا رحمك الله يا صديقي .. لا زلت أذكر صياحه و التيار يأخذه بعيدا و كأنه علق في شيء يسحبه إلى أسفل و نحن وقوفاً لا حول لنا و لاقوة .. ثم خاصمْنا النهر طويلاً .. تحاشينا حتى النظر إلى مياهه و شطآنه .. و هاهنا يا عزيزتي المدرسة الأميرية الوسطى .. أترين كل هذه الميادين ؟ كلها شهدت ( شيطنتنا ) و لقاءات ( السداسي ) و تحديات ( الدافوري ) و دوري المدارس .. أما هذا الصرح .. فهو مدرسة عطبرة الثانوية الحكومية .. صومعة العلم التي أوَتْ مئات طالبي العلم من أبناء الشمال .. و هنا .. عاشت البلابل مع والدهم طلسم ناظر الثانوية .. أتذكرين تلك الأغنية ( غالين غلاوة ) و أنت تنطقينها ( قالين قلاوة ) ....؟
10-09-2005, 02:02 PM
Adil Osman
Adil Osman
تاريخ التسجيل: 07-27-2002
مجموع المشاركات: 10208
هذه كتابة مدهشة. أنت قاص، وروائى متمكن. واصل يا أبا جهينة. سودن اللغة العربية. لا أعنى أن تكتب بالعامية. أقصد أن لغتك العربية سودانية مائة بالمائة. وهذا هو ما يميز كل شعب من الاخر، وكل كاتب من الذى يشاركه نفس اللسان.
10-09-2005, 05:04 PM
ابو جهينة
ابو جهينة
تاريخ التسجيل: 05-20-2003
مجموع المشاركات: 22758
شهر مبارك عليك. سعدت بمداخلتك الأنيقة. و أشكرك على الإطراء الذي أخجل تواضعي ..
حقيقة قد فتحت موضوعا ألرجو أن ينال حظه من البحث من المهتمين هنا .. ألا و هو ( سودنة ) القصة و الحوار و النصوص .. و هو ما أحاول جاهداً أن أصل إليه كما لامسه من قبلي أساتذة أجلاء و رواد في هذا المجال ..
Quote: سودن اللغة العربية. لا أعنى أن تكتب بالعامية. أقصد أن لغتك العربية سودانية مائة بالمائة. وهذا هو ما يميز كل شعب من الاخر، وكل كاتب من الذى يشاركه نفس اللسان.
عافاك الله
10-09-2005, 05:41 PM
عبد الحميد البرنس
عبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114
وحول سودنة اللغة أو (خصوصيتها) أرجو أن يسعفنا هنا الناقد عبداللطيف على الفكي أوالناقد والمبدع أسامة الخواض بالحديث عن تمييز الخطابات داخل فضاء السرد وأشير هنا إلى مساهمة ميخائيل باختين الجليلة حول (الخطاب الروائي) على وجه الخصوص.
تلك قصة أخرى جيدة.
محبتي
10-09-2005, 11:56 PM
صلاح الدين عبدالله محمد
صلاح الدين عبدالله محمد
تاريخ التسجيل: 01-02-2005
مجموع المشاركات: 1403
عزيزي الأستاذ صلاح الدين الشهر مبارك و كل سنة و إنت طيب
أشكرك على المداخلة التي أسعدتني.
Quote: الى ماضى ليته يعود
بالأمس يا صلاح قابلت رجل عطبراوي .. سألته عن حى القيقر و أمبكول و زقلونا و السوق الكبير و ووووو. بشرني بأن المدينة تلتقط أنفاسها و بدأت فيها الحياة تدب من جديد .. يحدثني كان هو و أنا أسمع صافرة القطارات و الورش ..
سيعود ذلك الماضي يا صلاح .. ربنا يدينا جميعا العمر و العافية دمتم
10-10-2005, 00:59 AM
ابو جهينة
ابو جهينة
تاريخ التسجيل: 05-20-2003
مجموع المشاركات: 22758
شقيقي جلال رمضان كريم والله أكرم وأنت ياشقيقي جميل
Quote: نطقها و إبتسامة خبيثة تقف في منتصف الطريق بفعل مَطَب سَفَة من التنباك.
اللهم إني مستمتع وفخور
Quote: كنور ..كدباس ..خليوة ..العكد .. أم الطيور ..
تشرفت برؤية بعضهن مع فرقتنا للتمثيل ويالها من أيام وذكريات كنا كل يوم نشيل معدات ومعينات العرض التمثيلي ونصل لإحدها ويضرب السكلي بأن فلان مات فنؤجل العرض ونذهب للأخرى ومع وصولنا يتكرر المشهد فصرنا نحسب الأيام بأن هذا اليوم الثالث لفراش خليوة وبكره يرفع فراش عكد ويمكننا العرض بعد بكرة في كنور وهكذا لك خالص معزتي ولكنني سابقى هنا بمشئية الله
10-10-2005, 05:50 AM
ابو جهينة
ابو جهينة
تاريخ التسجيل: 05-20-2003
مجموع المشاركات: 22758
Quote: كنا كل يوم نشيل معدات ومعينات العرض التمثيلي ونصل لإحدها ويضرب السكلي بأن فلان مات فنؤجل العرض ونذهب للأخرى ومع وصولنا يتكرر المشهد فصرنا نحسب الأيام بأن هذا اليوم الثالث لفراش خليوة وبكره يرفع فراش عكد ويمكننا العرض بعد بكرة في كنور وهكذا
و ياهو دة السودان .. و الله دة لو في بلد تانية ياخدو العربون و يفرتقو لا بيهمهم بكا ولا إعصار.
شكرا أبو البدور .. و ربنا يرد الغربة سالمين غانمين
10-10-2005, 04:47 AM
Adil Osman
Adil Osman
تاريخ التسجيل: 07-27-2002
مجموع المشاركات: 10208
Quote: إذن الشجن الذى يسكن اصوات البلابل، بنات طلسم ناظر عطبرة الثانوية، بعض من شجن عطبرة؟
و مغزول به البلابل لم تكن أول إنطلاقة لهن في طريق ذلك الفن الرفيع بموسيقى بشير عباس ، بل كانن في عطبرة يمثلن نقلة نوعية متقدمة في تفاعل المرأة بقضاياها و التصدي لها. التحية لهن جميعا. و تحية خاصة لزميلتي الأستاذة نادية طلسم أينما كانت.
Quote: هنا البلابل فى منتصف ظهيرة الحنين:
للأسف يا عادل الموقع دة محظور هنا .. ممكن ترسلو بلنك آخر ؟ تسلم و مشكور
هناك ملاحظة جانبية : ثلاث سودانيين أعرفهم حق المعرفة تزوجوا من روسيات. و الغريب في الأمر أنهن تأقلمن بسرعة مذهلة على كل تقاليد السودان حتى في الملبس و المأكل و ( المشرب ) .. المشرب يا أخوانا الحلو المر و الموص .. يعني ما يروح عقلكم بعيد. ميزالونا واحدة منهن. سأواصل هنا قصتها مع ودالمرضي. دمتم
10-11-2005, 02:16 AM
Ahmed Daoud
Ahmed Daoud
تاريخ التسجيل: 01-30-2004
مجموع المشاركات: 755
شقيقى ابو جهينة تكتمل الروعة لدى بقراءة قصصك المستوحاة من الواقع ... عطبرة مدينتى الجميلة .... اما ميزالونا هذه احس بأننى رأيتها فى شوارع موسكو ... ليننغراد او سوتشى .... شكرا لك على هذا الامتاع
اي ريحة من اتبرا ونهرا تجذبني وتطربني ..خاصة عندما تسردها ذكريات تأخذك بعيدا نحو الأيام الجميلات التي نرجو ان تعود ونتمني ذلك ..ولا اخال صديقك مخطي فقد رأيت الحياة تدب في عطبرة متمثلا هذا في الحركة الدائمة وعمار في السوق مباني جميلة ومنسقة ذات طوابق متعددة وبدت لي متغيرة فقد لم رأيتها منذ مدة طويلة..وشي آخر اعجبني نادي الضباط علي نهر اتبرا ..فقد شهدت فيه مناسبة وكان الجو جميل جدا .لم استمتع بالمناسبة بقدر استمتاعي بالجلوس في هذا الجو الجميل والمنظر البديع ..نخل وخضرة رائعة ..ياخي بلدنا حلوة حلا ما عادية رغم المعاناة والتجاهل والكهرباء اليوم في ويوم مافي ورغم الكتاحة الجات خربت المناسبة الحضرتها وخلت مدى الرؤية صفر..حللللوة..ايه يابلدي الصغير العزيز ...
10-12-2005, 01:10 AM
ابو جهينة
ابو جهينة
تاريخ التسجيل: 05-20-2003
مجموع المشاركات: 22758
Quote: خاصة عندما تسردها ذكريات تأخذك بعيدا نحو الأيام الجميلات التي نرجو ان تعود ونتمني ذلك ..
آمين يا بتنا.. آمين
Quote: ولا اخال صديقك مخطي فقد رأيت الحياة تدب في عطبرة متمثلا هذا في الحركة الدائمة وعمار في السوق مباني جميلة ومنسقة ذات طوابق متعددة وبدت لي متغيرة فقد لم رأيتها منذ مدة طويلة..وشي آخر اعجبني نادي الضباط علي نهر اتبرا ..
الله يبشرك بالخير .. حاجة مفرحة فعلا
Quote: فقد شهدت فيه مناسبة وكان الجو جميل جدا .لم استمتع بالمناسبة بقدر استمتاعي بالجلوس في هذا الجو الجميل والمنظر البديع ..نخل وخضرة رائعة ..ياخي بلدنا حلوة حلا ما عادية رغم المعاناة والتجاهل والكهرباء اليوم في ويوم مافي ورغم الكتاحة الجات خربت المناسبة الحضرتها وخلت مدى الرؤية صفر..حللللوة..ايه يابلدي الصغير العزيز ...
كان هناك قبل ثورة أكتوبر .. عند ملتقى النيل بنهر عطبرة .. كازينو حسن العربي الذي حطمه المتظاهرون في أكتوبر. فهل تم تشييده مرة أخرى ؟ أم تم بناء شيء آخر على الموقع.؟
واصلي معانا هنا
10-11-2005, 12:24 PM
ابو جهينة
ابو جهينة
تاريخ التسجيل: 05-20-2003
مجموع المشاركات: 22758
رياح الخماسين المحملة بذرات تراب البطانة الحمراء جعلتْ من (ميزالونا) رويداً رويداً أشبه بقطعة من المعجنات تخرج للتو من فرن مايكرويف. أخذ لونها يأخذ لون البشرة ما بعد (حفرة الدخان) .. (الحاجَة أم الإختراع) .. هذه المقولة ربما إنطلقت بعد هذه الإكتشافات المذهلة من ( شاف و طلح و دلكة) .. ما أبرع هؤلاء النسوة اللائي جلسن في عز الهجير و ( ضل القايلة ) يقمن بتجربة كل هذه الأخشاب بصبر و أناة . تُرَى كم من بشرة إحترقتْ ؟ و كم من جسد تضرر ليقدمن للأجيال هذه الوصفة التي لن تندثر. مهما تفننت بيوتات التجميل فإن نساءنا لن يتخلين عن هذه الممارسات التجميلية التقليدية التي صارت في رسوخ مجرى النيل و ثبات راسيات جبالنا. القومة ليهن ..
تتسع عينا ميزالونا يوماً بعد يوم من أشياء بدائية تراها كل يوم و لكنها أشياء تنم عن ذكاء خارق و ألمعية ترقد في قاع الفطرة.. لقد خُلق هذا الشعب ليعيش هنا فقط .. على أديم هذه الأرض و تحت سديم نجيماتها.. هواؤها هو فقط الذي يضخ هذه البراعة في صدورهم و يبثها نمطاً مميزاً في شرايينهم .. أما خارج هذه الأرض سرعان ما يحتضرون ... فهم كالحيتان خارج مياهها ....
هذه الوجوه السمراء .. تكْرَعُ ماءاً لا يعترف ( بالشَّب) في عز الدميرة فيمد لسانه لصهاريج عطبرة و يندلق كما يشاء بلونه الطبيعي ليقالد هذه السحنات التي ألِفَتْ الشمس فأبَى إلا أن يصالحها على مدار السنة بثلاث فصولٍ مختزلاً فصل الربيع الذي يمر مرور الكرام في روزنامة العطبراويين و من جاورهم من الغبش شرقاً و غرباً .. لم يكن بائعو اللبن وقتها يعرفون أنه يمكن غش اللبن ماءاً .. حتى و إن عرفوا هذه الفعلة المخزية لأكتسى الحليب لون الطمى و لسان حاله يقول خذوا البائع فجريرته بينة. تستهويها شلخات النساء .. فتمرر أصابعها الرقيقة البيضاء برفقٍ على مجرى الشلوخ .. و كأنها تتخيل منظر المرأة و هي في عز عملية التشليخ ، فتمط شفتيها : ( أووووه ) كمن تسترجع معها لحظات الألم تلك. تتوقف طويلاً عند ( الشلوفة المدقوقة ) ... تسأل ببراءة إن كانت عملية دق الشلوفة مؤلمة. فقد راقتها فكرة أن تكون لون شفتيها بلون واحد لا يتغير .. تضحك ( حاجة بتول ) و بطنها المترهلة تهتز و هي تحرك ( مروحة السعف ) لتصطاد به هواءاً معدوماً : البنية لو دقينا شلوفتا بتبقى زى عروسة المولد.. تتلفت ميزالونا لتعرف سر الضحكات من حولها و هي تضع إبتسامة حيرى على شفتيها. يترجم لها ود المرضي .. فتبادلهن الضحك .. ( يا حليلا .. قلبها أبيض متل لونَا ) .. لن تنسى ميزالونا ما عاشت تلك الأيام التي سبقتْ عرس شقيقة زوجها ..( سعاد ). فــ ( سعاد ) كانت مخطوبة لأحد الأقارب الأباعد. تمت خطبتها بمباركة الأسرة كلها حتى يتم تقريب صلة القربى البعيدة هذه. و لكن دون سابق إنذار جاءهم خبر بأن الخطيب قد تزوج في كوستي .. حتى لم يكلف نفسه عناء الحضور و الأعتذار .. تهامست النسوة وقتها بأن أمه لم تكن راضية عن هذه الخطوبة .. و قالت البعض بأنها قد إستعملت السحر لتبعده ، فقد كان تعلقه بسعاد كبيراً. لذا فقد تحزّمتْ أم سعاد و شمَّرتْ عن ساعديها لتبقى أيام العرس ذكرى باقية في سِفْر الأسرة .. حرمتْ ميزالونا نفسها من النوم حتى لا تفوتها شاردة أو واردة من طقوس الزواج .. فما أن تسمع زغرودة في ركن من أركان المنزل .. حتى تهرول مستفسرة بعين الدهشة و التساؤل. زغردتْ ( الرَاكَز الله ) و هي تأتي ( بالقرمصيص ) .. فكانت ميزالونا أسرع من أم العروس لتتفحص هذا القماش المبهرج الناعم الملمس. تتنقل بين بيت زوجها و بين البيت الذي (حبسوا ) فيه العروس لتهيئتها ... تتلقفها أعين الفضول و هي في مشاوير الذهاب و الإياب .. ( يا خواني قولوا للبنية تقعد في بكان واحد .. قبال العرس يبدا البنية بتقع من طولا .. ) .. تشفق عليها أم ود المرضي كثيرا.. تشعر بأنها أصبحت قريبة منها جدا... ما فتيء (عبدالقادر) يجلب المشروب المسكر طيلة مكوث صديق صباه .. فإرتقى بالصنف ليجلبه في زجاجة يدسها في كم جلبابه الواسع الأيسر و هو يلقي بالتحية بيده اليمنى زيادة في التمويه على الحضور .. ثم ينسرب كالأفعى إلى ( المنضرة ) .. يضع الزجاجة خلف الكنبة .. ثم يدلف إلى المطبخ و يتناول كوبين في جيبه و يعود إلى مكمنه و هو يتحسس ( حقة الصعوط ) الفضية.. يبتلع عبدالقادر كأسا و هو يقطب جبينه و يمط شفتيه : بت الكلب الليلة صنفها كاتول عديل .. ثم بنصف عين يسأل ودالمرضي : عليك الله يا جنا كان ما حكيت لى عرسك كان كيف في الصقيعة ديك ؟ يتجاهله ود المرضي.. فيعاود عبدالقادر سؤاله : لا دلكة و لا حفرة دخان و لا جرتق .. دخلت على البنية سآآآآآآآآكت و ريحتكم فودكا فودكا ؟؟؟ إبتسم ود المرضي لثرثرة صديقه و هو يتناول قبضة من الفول السوداني ..
(عدل بواسطة ابو جهينة on 10-12-2005, 00:56 AM) (عدل بواسطة ابو جهينة on 10-12-2005, 00:59 AM)
10-12-2005, 05:49 AM
adil amin
adil amin
تاريخ التسجيل: 08-01-2002
مجموع المشاركات: 38116
عزيزي الأستاذ عادل أمين تحياتي العطرة رمضان كريم ....
رغم كل هذه السنوات التي عشتها بعيدا عن مدينتي عطبرة .. إلا أنه إلى الآن لا زالت أحداث أحلامي تجري في عطبرة .. لا غرو .. فهي محفورة على جدران الذاكرة كما ألوان الجداريات .. سعدت جدا بولوجك هاهنا .. ليك القومة .. تسلم و دمتم واصل معنا
10-13-2005, 04:00 AM
ابو جهينة
ابو جهينة
تاريخ التسجيل: 05-20-2003
مجموع المشاركات: 22758
مشيت في دهاليز البورد وفتشت ليك البوست ده من سلسلة سيرة مدينة..عشان تشوف عيا ناس عطبره الشديد..واه يا سعاد...
Quote: كان يجوب بعربته الكارو شوارع المدينة،لا يفرط فى اناقته واثوابه الناصعة البياض وحصانه المغرور يسير في خيلاء كخيول باكنجهام،ويردد قولته المشهورة دائما:المحافظ عنده مارسيدس وانا عندى حصانسدس،وفى الظهر ياتى بحصانسدسه الى موقف باصات الخرطوم،ليكحل عينيه بالجمال المسافر والجمال العابر وهذه عادة ورثها من اجداده فى مدن النخيل فى الشمال الشعراء اللذين لا يتبعهم الغاوون وهم يجلسون فى مرسى البوستة الباخرة وينزفون مشاعرهم شعرا يسمى هذا ناس الخرطوم بغنى الشايقية ****** كانت حوراته الذكية الغامضة تسحر الناس،اليوم يوجد صيد ثمن امراة مسافرة مع ابنتيها الشابتين صاح بصوته الجهورى -سلام ناس المكان التفت له صديقه مداعبا _الجابك شنو ما تمشى بالكاروا بتاعك ده تشوف ليك زبالة تلمها ابتسم ابتسامة خبيثة ورمق احد الفتاتين عن كثب ووجد انهن لا زلن غير مكترثات بقدومه السعيد:فردد بصوته الجهورى - زبالة شنو....انا بشيل بالمراسيدس بتاعتى دى تلفزيون ..تلاجة ،فديو ،غسالة ....وكمان مرة مطلقة وسقطت الفراشات الجميلة فى الفخ وبدا على احدهن الاهتمام للجملة الاخيرة رد صاحبه فى دهشة مصطنعة - عرفنا الهتش ده كلو بشيلو بالكارو...المرة المطلقة دى شنو - يا اخى المشوار بمشوارين .قبل ما اوصلها بيت ابوها يجو الاجاويد يرجعوها واكون كده انا الربحان ضج الجميع بالضحك بما فى ذلك البنات ودون ان يفقدن وقارهن،ورمقته احداهن فى ود فاضاء وجهه الاسمر بكل الوان الفرح ،هذا ما كان يصبو ******* مضى الوقت المرح..وصعد المسافرين والمسافرات وتحرك البص مبتعدا وقفز صاحبنا على عربيته ونهر الحصان ولم يلحظ احد الدمعة المرة التى سقطت من عينيه الولهانتين وطفق يغني مبتعدا امسك حبل الصبر وخلى قلبك ما يبقى نى اصلو ود اب زيد كل يوم من بلدنا يرحل جدي ******* يا نسمة يا جاية من الوطن بتقولى لى ايام زمان ما برجعن
جذبني إلى البوست ما لا أستطيع له دفعا من جاذبات أولها اسمك الذي أحرص على ملاحقته في كل مكان.. استمتاعا بما تكتب من إبداع ممتع ومفيد.. وثانيها اسم لا أستطيع تجاوزه (عطبرة) فلهذا الاسم عندي مذاق لا يحسه إلا من سكنه (مزاج) عطبرة، فعطبرة حالة ومزاج وحس وطعم لا شبيه له في الأمكنة.. وقد سرني فيما كتبت أنك عطبراوي الهوى فتضاعف استمتاعي بالحكي وشرد خاطري مع وصفك للمواضع التي زارتها ميزالونا برفقة زوجها فقد كانوا يطوفون في دواخلي حيث يسكن العطبراوي وإشلاق البوليس والحكومية القديمة (مدرستي) والقيقر و... والناس.
نمشي ونجي..
10-12-2005, 02:19 PM
ابو جهينة
ابو جهينة
تاريخ التسجيل: 05-20-2003
مجموع المشاركات: 22758
Quote: اسم لا أستطيع تجاوزه (عطبرة) فلهذا الاسم عندي مذاق لا يحسه إلا من سكنه (مزاج) عطبرة، فعطبرة حالة ومزاج وحس وطعم لا شبيه له في الأمكنة..
عطبرة حالة .. و مزاج .. و حس .. و طعم .. لا شبيه له في الأمكنة.. صدقت يا عبدالله .. صدقت و الله .. هذه المدينة التي شكلت هيكلي و مسامي و ووووو.. عافاك الله.
Quote: وقد سرني فيما كتبت أنك عطبراوي الهوى فتضاعف استمتاعي بالحكي وشرد خاطري مع وصفك للمواضع التي زارتها ميزالونا برفقة زوجها فقد كانوا يطوفون في دواخلي حيث يسكن العطبراوي وإشلاق البوليس والحكومية القديمة (مدرستي) والقيقر و... والناس.
إني و الله لأحس بأنك الآن عطبراوي كنت تسكن هذه الأماكن .. أرجو أن نتقابل غدا و نسترجع هذه الذكريات إن كنت من ممن رضعوا من ثدى هذه الأم الرؤوم. تسلم عبدالله
10-11-2005, 04:10 PM
Adil Osman
Adil Osman
تاريخ التسجيل: 07-27-2002
مجموع المشاركات: 10208
تعرف يا دكين .. وقفت يوما في محل بأثينا .. إتنين عجايز واقفين في المحل .. تناوبوا النظر و البحلقة فيني من فوق لتحت ثم سألني أحدهم : من أين أنت؟ فقلت بدون تفكير : من خرطوم كونتا ميخالوس. إنفرجت أسارير الرجلين ، و قالوا أنهما يسمعان به كتاجر رائد في مجاهل أفريقيا .. المدهش أنهما تحدثا عن الخرطوم .. و فندق السودان و شارع النيل و المتحف .. و بيت الخليفة و كأنهم عاشوا بالخرطوم .. إنها الخرطوم بعيون كونتا ميخالوس نقلها لأهله الأغاريق
10-12-2005, 06:04 AM
Hassan Osman
Hassan Osman
تاريخ التسجيل: 01-16-2005
مجموع المشاركات: 1727
تحية خاصة لاهالي عطبرة فقد جذبتي حروفها وكانها امي على الباب انها ام الجميع ولم نغادرها الا لاجلها حتى تعود حرة كما كانت عطبرة الميلاد والنشأة والحياة الاجتماعية التي صقلنا فيها وهي التي دفعتنا كالخنساء تقول لبنيها وهي تدفعهم للحرب : اذهبوا عسى الله ان يجمعني بكم في الجنة. ياشباب عطبرة دوما انتم في المقدمة لا تتخلفوا عنها ان الشعلة من عطبرة والثورة سيرتها واليكم هذا الرابط لاجدكم فيه الثورة قد ابتدت خطاها على النظام]
10-12-2005, 03:42 PM
ابو جهينة
ابو جهينة
تاريخ التسجيل: 05-20-2003
مجموع المشاركات: 22758
بسم الله الرحمن الرحيم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته جهينة داير اقول ليك حاجتين ,اولن بسطني ( بتشديد الطاء شديييد) حد البسط مايكون بوصفك الفيديو كليبي ده والشئ التاني وريتنا اسم اتبرا( المدينة التي بطعم الشمس) في الانترنت
اهم شئ عشان ما انسى انا قبل ده ما قريت ليك شئ لكن بعد ده هلا هلا اكان كتبت دجاجي يلقط الحبا بتلقاني بلقط معاه داير اكتب كتير بس الجها ز ما فيهو عربي
***ود المسيكتاب***
10-13-2005, 04:15 PM
ابو جهينة
ابو جهينة
تاريخ التسجيل: 05-20-2003
مجموع المشاركات: 22758
حقيقة لا أدري كيف لم أقرأ ( سيرة مدينة) .. قرأتها من الرابط .. تشدني مثل التداعيات الأخير ’’و دمعة الرجل المرة تندلق دون أن يلحظها أحد.. إنتابني شعور هو كالشعور عندما تكون في السينما و تأتي لقطة مؤثرة فتتساقط دموعك و لكن لا يلحظها أحد ( فتتفشى ) تمتما بكاءا و حزنا .. عافاك الله .. سنواصل عبق أتبرا دمتم
10-14-2005, 04:53 AM
ابو جهينة
ابو جهينة
تاريخ التسجيل: 05-20-2003
مجموع المشاركات: 22758
الأخ العزيز سيف الدين الحسن تحايا عطرة و رمضان كريم
سعدت بمداخلتك الأنيقة
Quote: جهينة داير اقول ليك حاجتين ,اولن بسطني ( بتشديد الطاء شديييد) حد البسط مايكون بوصفك الفيديو كليبي ده
ربنا يديم عليك دائما و أبدا البسط و الصحة ..
Quote: والشئ التاني وريتنا اسم اتبرا( المدينة التي بطعم الشمس) في الانترنت
عطبرة هذه الأم الرءوم .. كانت زينة مدائن السودان .. و الآن يقولون أنها تسترد عافيتها من جديد. ولدت بها و ترعرعت بين ربوعها .. بالمناسبة أخي سيف الدين .. أنا قريت جزء في ريفية شندي .. و كان معي شباب و الله أعزاء من المسيكتاب .. و لكن الذاكرة الخربة أبت إلا أن تمحو أسماءهم من رأسي و لكن بقيت صورهم و أخلاقهم باقية في قاع المخيخ. التحية للمسيكتاب تلك القرية الوادعة بأهلها الأجاويد.
Quote: اهم شئ عشان ما انسى انا قبل ده ما قريت ليك شئ لكن بعد ده هلا هلا اكان كتبت دجاجي يلقط الحبا بتلقاني بلقط معاه
دة كرم منك شديد و شيء أفتخر به .. دمتم
Quote: داير اكتب كتير بس الجها ز ما فيهو عربي
بعد كدة حتى لو ما عملت مداخلة هنا أنا بعتبرك قاعد معاى هنا .. تشرفت و سعدت بمخاطبتك دمت أبدا
بحثتْ ميزالونا عن زوجها .. و لكن بحثها لم يَطُل .. فقد وجدته منبطحاً بجوار صديقه عبدالقادر .. بينما المشروب كالعادة يتوسطهما .. جلستْ متكئة على جنبه ..تبادلهما كأساً بكأس .. قال عبدالقادر و هو يبصق ( سفة ) لتخرج متناثرة عبر الباب : حليلنا نحن .. نسوانا ما نشوفن علا بالليل ريحتن ريحة تكل ..
مدَّتْ شقيقة ودالمرضي رأسها من الشباك : ميزالونا .. يلاكي ، العروس قاعدين يعلموها الرقيص .. ترجم لها زوجها .. فهبَّتْ واقفة و هي تكرع كأساً مترعة ثم تضع قبلة عجْلى على خد زوجها ..
أصْلَح عبدالقادر من طاقيته إلى الأمام و قال هو يشمر عن ساعده : الما عرس روسية حرم مدفون بالحيا ..
ثم أطلق ضحكته المجلجلة و هو ( يدردم ) سفة في بطن راحته و هو يتبع ميزالونا بنظرة إعجاب مشوبة بالتحسر. قال ود المرضي و هو يصلح من إتكاءته : تعرف يا عبد القادر .. البت دي وقفتْ معاى وقفة ما ساهلة أيام الغربة .. بحبها بجنون .. حب يمكن ما تتصورو قدر شنو و شكلو كيف .. لكن تصدق يا عبدالقادر .. مرات كدة بشتاق لحاجات كدة ضاربة في أعماق أعماقي .. حاجات مافي إلا عند السودانيات .. يعني في ونسة دقاقة كدة الواحد ما بيعرف ينزل لمفرداتا إلا بالدارجة بتاعتنا .. رغم إني بعرف اللغة الروسية كويس جداً .. لكن في حاجات كدة .. غايتو ما قادر أعبر ليك .. نظر إليه عبدالقادر ملياً .. ثم (كتح) كأسه و هو يتحاشى إنزلاقة السفة مع السائل و قال و هو يقطب بين حاجبيه : عرس لى روسية خرسا ولا بكما .. أنا بنضم معاها ونسة دقاقا .. يا زول خلينا بلا مفردات بلا أعماق .. و الله فعلا البني آدم ما بتملا عينو شي غير التراب ..
تسلل ودالمرضي إلى مكان تعليم رقيص العروس تاركاً عبدالقادر مع تحليقه بأدوات (الكيف ) و أحلامه التي لازمته طوال عمره دون أن تتحقق.. وقف خلف أمه و خالته محنياً رأسه حتى لا يراه أحد.. كانت هناك تقف وسط الحلبة .. بقوامها البديع .. تحاول أن تجاري العروس في تمويج جسدها مع إيقاع الدلوكة و ( صفقات ) البنات و غناء المغنية بصوتها الذي يستحث العروس على الميلان و الدوران .. إتسعتْ عينا ودالمرضي دهشة و هو يرى هذه القوقازية الأصل تضبط موسيقى جسدها مع هذا الإيقاع الإفريقي الصاخب .. تضع يديها على صدغيها .. و ترمق العروس لتجاريها .. و تشجيع البنات يتعدى العروس ليدفعها لمزيد من ( الإنفداس ) و رَمْى يديها إلى الخلف .. لتعود بنوبة من الضحك و قد إحمرَ وجهها بفعل المجهود و الشراب الذي يبدو أنه تفاعل من ( الكتمة ) في تلك الغرفة الضيقة .. رجع ودالمرضي لصديقه ... و في رأسه تتزاحم مشاعر شتى .. أيمكن أن تعيش معه هنا إلى الأبد ..؟ ألن تتركه بعد أن تمل هذه البلد ؟ رجع بذاكرته إلى أيام الجامعة في ليننغراد .. كيف قابلها في بهو السكن الجامعي .. بوجهها المستدير الطفولي .. تقاسمتْ معه كل روبل معها .. علتْ شفتيه إبتسامة عندما تذكر يوماً من أيام ( الفَلَس ) .. و قد إحتسى نصف زجاجة فودكا وحيداً في غرفته الضيقة .. و عندما عضه الجوع .. تذكر أن ليس معه ما يبتاع به أي طعام .. فقرر أن يتكوم على جوعه .. و يشرب بقية الزجاجة حتى يتخدر و ينام .. وقفتْ على شباكه حمامة مبللة بالماء ترتجف برداً .. نظر إليها فرأى فيها وجبة كاملة الدسم .. و هو الذي تعود على أكل الحمام من البرج الذي شيده أبوه أعلى سقف الحمَام و ملأه بالحَمَام.. دخل المطبخ على أطراف أصابعه و أتى بفتات الخبز و صار يرميه أمام الحمامة .. و هي تتقدم لتلتقطه بحذر .. تتقدم خطوة و تنفر مرتدة خطوتين .. حتى أتى بها إلى منتصف الغرفة و عاجلها بمسند الكنبة .. و قبل أن تكمل ( فرفرتها ) كانت قد دخلت في ( الحلة ) العامرة بماء ساخن .. نتف ريشها على عجل .. و أفرغ أحشاءها .. ثم وضعها لتموسق جوع بطنه الذي صار قاب قوسين أو أدنى من وجبة هنيئة .. كرع ( السليقة ) ثم ( قرقش ) الحمامة و مص عظامها .. و جلس يغني : ينوحن لى حماماتن .. همن عيني غماماتن .. عندما دخلتْ ميزالونا المطبخ و رأت ريش الحمامة صرخت و ولْوَلَوَتْ .. هجمتْ عليه تضربه براحة يدها على صدره و بطنه .. لم يعرف سبب ثورتها إلا بعد أن صالحته بعد خصام إمتد لعدة أسابيع .. فمعظم الروس لا يحبون أن تذبح الحمامة .. قال في سره : الحمام ال ضبحناهو في بيتنا .. لو جبنا ريشو هني يسوي ليهو مصنع مراتب و مخدات.
لا أعرف كيف أشكرك .. فلسببين دمعت عيناى : الأغنية لها ذكرى محببة إلى نفسي .. ذكرى غائرة في تجاويف الروح .. السبب الثاني هو هؤلاء البلابل .. فقد ترعرعنا سوياً في حى واحد .. مع أخويهما نادر و بركات .. نساهر الليالي في المذاكرة .. نسرق سجاير العم عبدالمجيد طلسم .. نتسلل من الباب المطل على النيل لنسبح في نهر النيل .. أما الذكرى التي لن تنمحي من ذاكرتي .. هي تلك الرحلة التي قمت بها مع أسرة البلابل في زواج عمهن ( بيبي ) الأستاذ المعروف .. ذهبت معهم إلى وادي حلفا ثم في رحلة جميلة إلى أسوان و معبد أبي سمبل .. شكرا عادل ..
10-16-2005, 05:50 AM
ابو جهينة
ابو جهينة
تاريخ التسجيل: 05-20-2003
مجموع المشاركات: 22758
عذراً لإنقطاعي عن سرد هذه الرواية و سأواصل ما أنقطع .. توقفت لأسباب كثيرة منها دواعي هذا الشهر الكريم .. ثم لتفاصيل أتحاشاها كتابة لأنها تصب في خصوصيات غير مرغوب بها في الوقت الحاضر بعد كل هذه المدة منذ قدوم ميزالونا و حتى الآن و إستقرارها في الخرطوم كمواطنة سودانية ..
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة