أن تصبر ( نعمات ) على غياب زوجها عنها مدة سبع سنوات طوال و هي الشابة الممتلئة صحة و عافية .. فذاك أمر كالمشى حفاة على الشوك في عز الهجير .. ( نعمات ) الشابة التي يقول عنها ( عبدالنبي ) عندما يراها و هي تنحني لتملأ الصفيحة ماءا من النيل : و الله الفرسة دي عاوزة ليها خيال عندو صحة .. البنية ما عندها حظ .. ثم يتابعها بنظره و هي ترتقي علو القيف بصبر و أناة و قوة لتفرغ الماء في الزير .. يتماوج جسدها المتناسق مع كل خطوة تحرص فيها على توازن ما تحمله على رأسها .. و يُظْهِر الفستان المبلل بالماء تقاسيم جسدها بدقة تجعل عبدالنبي يبلع ريقه مرارا .. و يلعن الزمن في سره و ينهال على الأرض بطوريته في غيظ مكتوم .. أن تصبر هذه الفتاة و تتناسى رغباتها الجسدية و شوقها العارم .. فهو أمر يفوق الصبر المدلوق على نسج ( برش ) من سعف النخيل في أيام القيظ تحت نخلات يهرب الظل عنها سريعا .. و يزيد أيضا على الصبر الطويل في مراقبة محصول القمح و حباته تنبثق من فتحات التربة تقاوم السموم و رياح الهجير و تقابل موجات ( الزرازير و بغاث الطير ) حتى موعد الحصاد .. تتناسى و لا تنسى .. تتذكر و تهرب من الذكرى بمزيد من التفاني في أشغالها اليومية .. تشغل نفسها حتى النخاع لتطفيء غضب الرغبة و تقتل نَتْح المتعة التي لم تدم مع عريسها المهاجر سوى بضعة أشهر .. كانت ثمرته ( محمد ) .. يؤنس وحدتها .. ترى فيه وجه أبيه .. و تلك اللحظات التي مرت كلمح البصر .. تتحدث معه عند هجعة الليالي و هي تداعب شعره .. تبثه أمانيها بعودة الغائب .. أحيانا تأمل في أن يرسل في طلبهما .. فيبدو بعيدا صعب المنال .. و تارة تلفها الأمنية و تتجسدها كروح أخرى تنام و تصحو معها .. تأتيها أسئلة وحيدها البريئة : أنا عاوز أشوف أبوى .. تخنقها عبرة .. و تلجم لسانها غصة .. فتروغ عن أمنيته بدندنة أغنية تهدهد لهفته و تجعله يغفو تجلل نومته أحلام طفولته الحيرى .. تمر أيام الصيف الطويلة .. بقيظها و سمومها .. لا يبرد جوفها غير قطرات ماء الزير و نسمات آتية من صفحة النيل .. سكون ساعات النهار لا يقطعه غير صوت طلمبات الماء تزيد من وجع رتابة أيامها .. ليل الصيف بأنجمه المتلألة .. تسامرها طوال الليل و حتى مطلع الفجر .. تحسبهم نجمة نجمة .. تتابع المتهاوي منها في الأفق البعيد .. فتعيد الكرة لتبدأ العد من جديد .. يذكرها بليلة دخلتها .. خجلها .. خوفها اللذيذ الذي سرعان ما بدده زوجها بروحه الدمثة .. تجربتها كأنثى تغادر دنيا العذرية و وصولها إلى عوالم أخرى كانت مجرد حواديت كن يتناقلنها في خجل من تجارب صديقات و قريبات .. يا لليل الصيف ذاك .. و يا لليالي الصيف بعدها .. فكلما زحف بطيئا آتيا بتثاقل تزحم رأسها تلك الأيام بعطرها و أهازيج فرحها .. يأتي الصيف الآن .. يموسق ليلها صوت نباح الكلاب البعيد .. و ضفادع يعلو نقيقها و يخفت .. و صوت أوتار طمبور يئن يحمله الهواء تارة و تارة يذوب مع أصوات أخرى .. و أنفاس طفلها هي الوحيدة التي تجعل أوتاد روحها تنغرس بصلابة في أرض حياتها المجدبة ..
تتوالى شهورها .. و سنواتها .. و شوقها يكبٌر سنواتها بمراحل .. و يأتي الشتاء قارسا يحمل زمهريره بين طياته .. تحتضن وحيدها تتلمس الدفء .. تبحث فيه عن عبق زوجها .. فتحتضنه إليها بقوة .. تقبل جبينه الصغير .. تداعب شعرات حاجبيه .. تمرر أصابعها على خديه الناعمين .. تتحسس شفتيه الصغيرتين بلطف بأطراف أناملها .. تمسك يده و تتمعن في أنامله .. ( شبه أبوك الخالق الناطق .. ربنا يكتب سلامتو ) .. تلمس أطراف أذنيه الباردة .. تسحب الغطاء و تضعه على رأسه .. و تبدأ في دندنتها الليلية و طيف زوجها يتراقص أمامها كضوء لمبة الجاز يداعبه تيار هواء فالت من بين فرجات الباب .. تنطلق مع المنطلقين عند سماع ( اللوري يطلق صافرة معينة يعرف بها الكل هوية السائق ) .. تتمعن الآتين .. و قلبها يكاد يقفز من بين أضلعها .. تنطلق الزغاريد و نوبات بكاء الفرح المكتوم .. و العناق .. و يختلط حابل الآتين مع نابل المستقبلين .. و تختلط بدواخلها و تتمازج مشاعر وجلة شتى .. و رويدا رويدا ينفض سامر الجمع و ينطلق اللوري إلى وجهة أخرى مخلفا غبارا كثيفا يزيد من كثافة ضباب روحها المعتمة و قلبها الولهان .. ينظر إليها وحيدها و الإمتعاض مرسوم على وجهه .. تهرب من نظرته و تسحبه وراءها و الطريق أمامها تحجبه دمعات تقف معاندة و مكابرة .. تنطلق لا تلوي على شيء و هي ترتب لبرنامج بقية يومها المعروفة يكلله الوجع الذي طال ..
أعرف أن بداخلك امرأة حبلى بالشبق وباقات الأشواق أعرف كيف تؤرقك الآهات كيف يضاجعك الليل بلا رحمة أعلم أنك تنتظرين الآتي وأن طريق الليل طويل ورفيق الشوق بعيد يرقد في أحضان التيه والأمل هضاب تفصلنا عنها عثرات الأيام أعرف أن الصبر جميل وأن الرب كريم لكن حبال الشوق طوال طول الدهر ورمال الشوق صحارى وسراب وكنت أناديك بسفح الطور أن اخلعي تيجان الصبر وأوهام العام القادم يأتيك نعاس الأمنة سكنا فتعودين امرأة أخرى امرأة سافرة بالشوق وبالآهات لا تعرف للصبر سبيلا لا تلغ العمر بلا جدوى لا تستبدل حاضرها بسراب آت .. أعرف أني أترصد أشواقي أتصيدها ، أقتلها في مهد .. إن تنمو أشواقي أكثر ، تقتلني تضربني آهاتك في مقتل ترميني بالشبق الساكن في جوفك أمقته ذاك الصبر الأجوف أمقت أن تنفثي آهاتك فوق وسادة أو تتكسر اشواقك في صدرك تتضاءل كل الأشياء بجرم الصبر وموت الشوق ومحض سراب
03-01-2005, 04:10 AM
ابو جهينة
ابو جهينة
تاريخ التسجيل: 05-20-2003
مجموع المشاركات: 22758
أعرف كيف تؤرقك الآهات كيف يضاجعك الليل بلا رحمة أعلم أنك تنتظرين الآتي وأن طريق الليل طويل ورفيق الشوق بعيد يرقد في أحضان التيه والأمل هضاب تفصلنا عنها عثرات الأيام
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة