|
قصيدة ... رينيه شار
|
ولد رينيه شار في منطقة السورغ (جنوب فرنسا) في الرابع عشر من حزيران 1907. بعد عام على ولادته، ماتت أمه فتزوج أبوه الذي سيموت أيضاً، من أختها وعمر رينيه أحد عشر عاماً. وعند صدور كتابه الصغير "مستودع" سنة 1929 التقى به إيلوار فعرفه إلى أندريه بروتون، أراغون، كريفيل. فانضم إلى المجموعة السوريالية، التي سيصبح واحداً من أهم عناصرها الصارمين في حقبة المواجهة مع ارتدادات الستالينية وشعرها المأجور المسمى في سجل التاريخ الأسود بالواقعية الاشتراكية. وقد أصدر في المنشورات التي كانت تشرف عليها الحركة السوريالية عدداً من الكتب الشعرية الصغيرة، من بينها القصيدة الطويلة "أرتين"، التي ينهيها بالعبارة التالية: "قتل الشاعرُ نموذجَهُ". جمعت أشعاره المعبرة عن انتمائه السوريالي كلها سنة 1934 تحت عنوان: "المطرقة بلا سيّد". ثم أخذ يبتعد عن السوريالية، لكنه بقي على علاقة شخصية مع ايلوار وتزارا، وحافظ على ودّ لن يتراجع عنه طوال حياته لأندريه بروتون شخصاً وشاعراً. لعب دوراً في المقاومة الفرنسية وقد خلد لحظاتها النفسية والخلقية في "أوراق هيبنوس" وفي عدد من أفضل قصائده النثرية، ضمها كتابه الخارق Fureur et mystère الذي يمكن ترجمته ب "حُمَيّا وسر" أفضل من أن يترجم بـ"هياج ولغز" أو ب "سُعْر وسر"، لأن المعنى العميق لهذا الكتاب يكمن، حسب معظم نقاده، في Fureur بمعنى الحمّى التي تنتاب الشاعر أثناء الكتابة و mystère السر الذي يكتنف كل خلق شعري. هذة أحدى قصائده أخترتها لعنايتكم الكريمة السادة البورداب... تسريح الريح
عند سفح تلّ القرية، تعسكر حقولٌ مُمَّونة بالميموزا. بعيداً عنها، في أيّام القطاف، يحدث أن يكون لنا لقاءٌ طَيّبٌ بفتاةٍ ذراعاها مشغولتان طوالَ النّهار بالأغصان الهشّة. أشبهُ بمصباحٍ إكليلُه عطرٌ، ستذهب، دائرةً ظهرَها إلى شمس المغيب.
الحديث معها سيكون خرقاً للمحارم.
لها خفّ يدهسُ العشبَ، دعوها تمرّ في الطريق. قد يكون لكم حظٌّ فتميّزوا على شفتيها وهْمَ نداوة الليل.
مآثر
كان الصيف يغرّد على صخرته عندما ظهرتِ لي، الصيف كان يغرد على انفراد منا نحن اللذين كانا صمتاً، ودّاً، حرية حزينة، بحراً أكثر من البحر الذي كانت مجرفته الطويلة الزرقاء تتسلّى عند أقدامنا.
كان الصيف يغرّد وقلبك يسبح بعيداً عنه. احتضنتُ شجاعتكِ، أصغيتُ إلى بلبلتك. طريق على امتداد مطلق الأمواج باتجاه قمم الزبد العالية هذه، حيث تُبحر الفضائل المبيدة للأيدي التي تحمل منازلنا. لم نكن سذّجاً. كنا محاطين.
السنوات تمرّ. العواصف انقرضت. انصرَفَ العالم. كان يؤلمني أن أشعر أن قلبكِ هو الذي لم ينتبه إليّ. كنت أحبك. وأنا غائبُ الوجه، فارغ الفرح. كنت أحبكِ، متغيراً في كل شيء، وفياً لكِ.
الغائب
هذا الأخ العنيف الطبع إلا أنه كان ثابت الكلمة، متحمّل التضحية، جوهرة وخنزيراً برّياً، حاذقاً ومساعداً، يمكث في قلب سوء التفاهم كمثل شجرة صمغية في عراء البرد الذي لا يقبل الخلط. ضد عالم الأكاذيب الحيواني التي كانت تعذبه بعفاريتها الخبيثة وأعاصيرها، كان يدير لها ظهره ضائعاً في الزمن. كان يأتيكم من طرق غير مرئية، يفضل الجسارة القرمزية، لا يناوئكم، يعرف كيف يبتسم. مثل نحلة تغادر البستان من أجل فاكهة اسودت سلفاً، كانت النساء تساند من دون أن تخون تناقضَ هذا الوجه الذي لم يكن له ملامحُ رهينةٍ.
حاولت أن أصف لكم زميلاً لا يُمحى، الذي نحن قلّة التقينا به. سننام في الأمل، سننام في غيابه، بما أن العقلَ لا يشك في أن ما يُسمّيه، باستخفاف، غياباً، يحتلُّ أتونَ الوَحْدة.
الكوسج والنّورس
هاأنا أرى أخيراً البحرَ في انسجامه المثلّث: البحرُ ذو الهلال الذي يقطعُ سلالةَ الأوجاع الباطلة، المَطْيَرةُ الهائجة الكبيرة، البحرُ السريع التصديق كلَبْلاب.
عندما أقول: أزلتُ القانونَ، تجاوزتُ الأخلاق، نشرتُ القلبَ شبكةً، ليس لأقرّ نفسي بالحقّ أمام ميزان العدم هذا الذي تمدُّ ضوضاؤهُ سعفتَها إلى ما وراء إقناعي. لكن ليس مما رآني أحيا، أضطلعُ، إلى الآن، شاهداً على مَقرُبةٍ. يجوز إذنْ، لكتَفي أن يأخذه الكرى، لشبابي أن يُسرعَ. فمِن هذا فقط يمكن استمداد ثراء فوريّ وفعّال. هكذا، هناك يومٌ صافٍ في العام، يومٌ يحفرُ دهليزَه الرائعَ في زبَد البحر، يومٌ يعلو العيونَ لتتويج الظهيرة، أمس، كان النُّبْلُ مهجوراً، الغُصيْنُ بعيداً عن برعمه، لم يكن الكوسجُ والنّورَسُ على اتصالٍ بعضها ببعض.
أنت يا قوسَ قزح الشاطئ الصاقل، قرّب المركبَ من رجائه، اِسعَ لأن تكون كلُّ نهايةٍ مفترضة براءةً جديدةً، سائراً محموماً يتقدّم من أجل هؤلاء الذين يتعثّرون في التثاقُل الصباحي.
مصارعون
في سماء الرجال، بدا لي خبز النجوم مظلما وقاسياً، ولكن في أيديهم الضيقة قرأت تطاعن هذه النجوم داعيةً نجوماً أخرى لا تزال حالمات مهاجرةً من القنطرة، جمعتُ عرَقَهن الذهبي، فتوقفت خلالي الأرضُ عن الموات.
لماذا يطير النّهار
طوال فترة حياتِه، يستندُ الشّاعرُ، لحظةً إذا شاء الظرْفُ، إلى شجرةٍ ما، بحرٍ، منحدرٍ، أو إلى غمامة لها صبغةٌ معيّنة. إنّهُ ليس ملتحماً بضلالات الآخر. فلِحبّهِ، وسَبْيه، وسعادته، نظيرٌ في كلّ الأماكن التي لم يذهب إليها، ولن يذهب أبداً، لدى الغرباء الذين لن يتعرّف عليهم. وما إن نرفعَ الصوتَ أمامه، أو نستحثّه أنْ يقبل التكريمات الآسرة، أو نستدعي الكواكب بشأنه، حتّى يجيبنا بأنّه من البلد "المجاور"، من السّماء التي اُبْتلِعَت توّاً.
يبعثُ الشّاعرُ النشاطَ ومن ثم يهرعُ إلى الخاتمة.
وإنْ، مساءً، لوَجنتهِ فجوات مبتدئٍ عدّة، فهو عابرٌ مهذّبٌ يتعجّل في تحيّات الوداع حتّى يكون هناك حينما يخرج الخبزُ من التنّور.
عتبة
عندما انهدَّ سدُّ الإنسان، مُمتَصاً بصدع جبّار سببه هجران الإلهي، فإن الكلمات في البعيد وهي كانت لا تريد أن تضيع، حاولت الصمود ضد الدفع الباهظ. وهاهنا حُدِّدت سلالةُ معناها.
ركضتُ حتى نهاية هذه الليلة الطوفانية. واقفاً في الفجر المرتجف، طوقي مملوء بالفصول، أنا في انتظاركم، أيها الأصدقاء القادمون. أستشفّكم منذ الآنَ من وراء سواد الأفق. موقدي لا يكفّ عن التمني بالخير لمنازلكم. وعصاي، من خشب السرو، تضحك من كل قلبها من أجلكم.
القصيدة نقلا عن ايلاف - 17 يوليو 2003 07:04
ترجمها عن الفرنسيةعبدالقادر الجنابي
|
|
|
|
|
|