دعواتكم لزميلنا المفكر د.الباقر العفيف بالشفاء العاجل
|
قصة هاشم النهر وأعشاب الثورة(1)
|
أسامة معاوية الطيب صديقي الشفيف الحبيب معانا هنا في المنبر ما أجمل هذا المنبر أتعرفون لماذا؟ لهذا:
قصة هاشم النهر وأعشاب الثورة(1) (ثورة ود حبوبة 1908 ) تتفتح الورود على ضفتيه، وتتباشر بالرذاذ، والنيل سادر في سهومه العميق، يفجِّر المعاني، موجاته صامتة، تسأل نفسها بين حينٍ وآخر، عن سر انتظامها المميت بين أصابع التيار الذي يصبغ الليل بأصواته، وحين تستبد الأسئلة بالموج، يتقافز على ورود الضفاف وينزلق بعد ذلك متثاقلاً لانتظامه القاتل، ولم تكن سني بداية القرن العشرين ، ذات القلم الرصاص، قد استطاعت أن ترسم وجهاً جديداً على صفحة مرآة الإنجليز، كانت تجهد أن تنتظم في ولاءاتها الدينية، وتتوحد ضد استعمار (الكفر) ولم تكن بحاجة لديمقراطيةٍ (مستدامة)، وهي تمشط شعر ليلها الطويل بالونس والذكر وشاي اللبن، ولم تحسن مفردات الإصلاح والتجديد، وقوفاً بين سيقان الانتماء الخالص حينها، وما من حاجةٍ لمصالح فردية، في زمنٍ يقتل الفرد نفسه للدخول في الجماعة، ومضى التيار صابغاً الليل وأطراف النهار بصوته عبر مساراتٍ لم يسأل عبد القادر إمام ود حبوبه عنها، وهو يلبس جلبابه المرقع ، (الفاتح على شارعين) ، الجلباب الناصية ، ويحمل معوله في زمن السلم، يركز حربته على جناح أم جكّو – جلباب الأنصار – في اقرب غرف المنزل الواسع، يدندن براتب المهدي ليل نهار، ما كان ليسمع شيئاً من قصيدة الشيخ محمد شريف معلم محمد أحمد بن عبد الله ومنكر مهديته. " فقال أنا المهدي فقلت له استقم فهذا مقامٌ في الطريق لمن يدري وخادعني بالقول كالمهد ابنكم ومحسوبكم في الحبِّ وفي عالم الذرِّ فقم بي لنصر الدين نقتل من عصا فأنت لك الكرسي ولي دول الغير فقلت له دع ما نويت فإنه وتالله شرٌّ قد يجرُّ إلى الخسر " ولتلك قصة أخرى ، ولكنه كان يمسح بطرف عمامته حبات عرقٍ صغيرة تناثرت على وجهه المشعّ بالولاء والشلوخ وتتصارع بداخله مواويل شتى من أغنياتٍ وتهاويم وصور، وحين يدخل على ذاته يسلم على إمامه ودعواه ، مضيئاً جنباته بتعاليمها وناشداً لعزومه القادمة عبر الفتوحات الكثيرة يردد مع (الدولابي) " كيف التئام فؤاديَ المفطورِ ورقؤ دمع محاجري المفجورِ أم كيف الضنا عن مهجةٍ أحشاؤها تصلى على تنّورِ أسفٌ على المهديُّ من سهد الصبا قد كان معصوماً عن المحظورِ" وأفاض ود حبوبه في حب إمامه، وهو ابن زعيم قبيلة الحلاويين ، يقف شارداً ، لا تحتمله أفكاره ولا يحتملها ، يتطاير الرذاذ على قدمين أدماهما طول القيام، وافتقاد القائد، والنهر أمامه مفضوح بصمته، يحتمي بالطوابي التي لم تحم نفسها من مدافع الأتراك الغادرة، (لم يعترف ود حبوبه بالفتح مع رهط من أنصار المهدية، ولم يرد أن يغير نهج حياته المرتكزة على بيعته لإمامه )(1) ظلَّ مخلصاً لراتبه ومعتقده ( ومضى يخالف بقية إخوانه، وبني عمه لأنهم رضوا بالواقع وأرادوا أن ينتبهوا لمزارعهم ومعيشتهم في أمانٍ تحت ظل الحكومة الجديدة)(2). لم تكن قناديل الذرة الشامية، التي أرسلت شعورها على ورود اللوبيا ناصعة الابتسام، قد أزالت من كدره وهو يُغصُّ بالمستعمر واستسلام الأهلين ضعاف الحيلة، تستفزه حربته المركوزة أمام سريره كل يوم، فلا يستطيع إغماد ذاكرته ولا إغماض عينيه، لا يستطيع مثله التعبير بالدمع، في زمن تهزُّ صرخة الرجال فيه العيون فتُذهب ماءها، يدخل على خلوته يعلم القرآن، ويجدد عهده لجلبابه المرقع بالجهاد، لا الجهاد المدنيّ ضائع المعنى والرائحة واللون، ولكنه جهاد الحضور الكثيف لراتب إمامه الذي يؤمن به. وظل النيل في سهومه، يلاطف الضفاف، وأفكار عبد القادر ود حبوبه، وهو يحاول جهد يقينه، أن يلوِّن حاضره بواقعٍ متوازن، تدميه انتكاسات دولته، فيما يسمى بالفتح في عالم كتّاب التاريخ ، ويعتصر قلبه انكسار الأهل وانحسار الحلم، الذي كان يطمح لعالمٍ لا تغيب شمس راتب الإمام عنه، وصار يرضى من الغنيمة بالانسحاب شيئاً فشيئاً من أوردة الحياة، والنخل يضع يده على عينيه ليرى من أبعد ما يتصور ، رجالاً يسيرون في زمنٍ صارت فيه زرقاء اليمامة قطعة أرضٍ مجدبة، نسيها النيل فتناست تواريخ بذورها التي قتلها صهد التربة وظلمة الغياب الطويل، وعبد القادر في وقفته فارعة الحزن جريحة الأمل تلك ، يمرُّ من أمامه ضابط تسوية الأرض الإنجليزي، تمرُّ الخيول في شموخ تغازل الصمت بصهيلها المترف، ويمرُّ عبق عطور الشرق كلها، في أردان حرَّاسه منكسي الرؤوس والقلوب وعيون الأهل، يشير الضابط بعصاه، فتبهت أحجار المساحة، وتنزوي شوارب المسَّاحين، يغيِّر حدود الله والناس، وشتلة كانت تنعم بدفء صاحبها، تحولها إشارة واحدة من عصا الخواجة الناعمة لصاحبٍ آخر وأهلون أخر، والناس يتطاولون على صمتهم بدندنة أغنيةٍ فارغة، حين تسلمهم الليالي إلى صفير الذاكرة و وخذ الأسئلة. هاهو ضابط التسوية الإنجليزي الكافر، يأخذ أرضك يا ود حبوبه ولم تزل عينك تطرف ولا زالت حربتك تُشرِع في ناظريك بريق حدِّها ولا يزال قلبك بقيةٌ من راتبٍ ومقام ولا تزال رجليك تدمي من طول قيام، وتمرُّ الخيل من أمامك ، لا يستطيع مثلك الابتسام حتى تمر الخيل ، تمرُّ أغنياتٌ غنَّاها الصبية فوق تلال الرمل ذات عنفوانٍ مضى ، والقمر ساهرٌ يزرع بين أقرانه الحبَّ، والليل ساكنٌ يخيط ثوب صباحٍ ناعم المجيء، تمرُّ تواريخ القبيلة مشتعلةً على عود صبرك وقدرتك، هاهو الدمع يطفِّر غصباً عن عينيك، من قلبك ويدك وبقية جلدك، والأهلون يتقلبون بين قضاءٍ أرهق إيمانهم وقدرٍ قضى على جبال القدرة. وقف عبد القادر ودحبوبه قبالة داره، فكَّر ، هل له أن يواجه سيوف الاستعمار إلا برقبةٍ تأبى على القطع؟ ومضى يبيع أراضيه التي اجتزأ منها ضابط التسوية نصيباً كبيراً ، ليبني دارا للضيوف علَّه يجمع القلوب فيها ، يبرم شاربه المتطلع لمعان جديدة ويحس ما يلهم محمد سعد دياب بعد زمانٍ و زمان... "إني أضعتك من يدي وأضعته عمراً جميلاً بالهناءة يورق إني أضعتك فالدروب حزينة والعشب والآفاق صمت مطبق" ولكنه يدقُّ بنعله الفاشري – حذاء من الجلد الخالص يصنع في مدينة الفاشر – على أرضه وهو يودع فيها تجارب من ماضٍ لم يكن فيه للحسرة حظ، ويدندن ... " يا لحظة الميلاد حين نجئيها لنكاد من فرح العيون نحلق يا ملء روحي يا صباحاً مترعاً الصحو يأخذني ووعدك مونق تبقين حاضرة كحبات الندى ما الظلُّ ما ريح الصبا تترقرق" أشترك معه الكثيرون في بناء دار الضيوف ، وقبل أن ينتبه الزمن لأغنيات الحماسة حين (الفزع) كانت دار الضيوف بدأت باتحاد جديد ، أسس له الغبن على ضابط التسوية وصهيل الخيول المترفه وانكسار ظل الخدم وعيون أهله و وحّد الجمع ضد الإنجليز، وكانت ثورة جديدة. تكاثر حول الدار جموع ممن يرون رأيه في بث روح المهدية ومقاومة الحكومة الدخيلة كبرت أياديهم وأشرعت اللقاءات نصاعة الجباه، وبدأت بذور الأمس النائمة في تلمس وجهها بين الشقوق والخروج لعالم الضوء (وعندما بلغ مراكز الحكومة مسلكه هذا، وقد حرمت مثل هذه الاجتماعات طلبته للحضور إلى المركز لكنه لم يستجب)(3). أو يذهب لهم برجليه وهو الذي يعد العقول للابتعاد عنهم ودفعهم للذهاب ؟ ضحك وهو يستلم رسالتهم تلك، يجلس على (عنقريبه) – سرير خشبي ينسج بالحبال المصنوعة من جريد النخل – القصير، متلفحاً ثوبه الأبيض تتكوم مسبحته على حصيرة الصلاة، قال مجالسوه إنها أنصع ضحكةٍ يضحكها منذ أن التزم البيعة، ومدد رجليه أمامه وقال لهم ( من كان يخشى الإنجليز فليذهب إليهم ، ومن كان يخشى الله فليلزم راتبه). فلزم الجميع راتبهم وأيقن الرسول أن فترة انشغالهم بالله هذه، هي فرصته للانشغال برؤسائه الذين يرفعون أرجلهم على مناضدهم الآن ، يتصاعد من رئاتهم وغليون صلفهم دخان التبغ في الحجرة الأنيقة ودخان الحقد في القلوب الضيقة ، في انتظار كسيرٍ ذليل سوف يأتي بعد قليل ندمانَ آسفا…… إذن فقد رفض ! وقف المفتش الإنجليزي، فوقفت دولة التاج كلها، وارتعبت مصر الفتاة، ومات الخدم (وذهب مفتش إنجليزي ومأمور مصري لمقابلته وكان نصيبهما القتل ومجاهرة الحكومة بالعصيان، وقامت بلوكات من الجيش من ودمدني والخرطوم، وتم القضاء على حركته، بعد أن فقد الجيش عدداً من جنوده وضباطه في مباغتة ليلية قام بها عبد القادر وأنصاره. وأخيراً تم القبض عليه وإعدامه في قريته)(4). جاءوا به مقيداً في سوق القرية، تتداخل أصوات سيارات الإنجليز وصهيل الخيول والعيون الذاهلة، امتلأت القرية بلباس العسكريين، واحتشد غيمٌ غريب في ساحة السوق، يكسر دهشة الشمس المترامية على الجباه حبات عرقٍ مخنوقة، كسرت النساء طوق عزلتها وجاءت للساحة لا تلبس أبيض الحداد ولكنها تتزين ليوم عرس جديد، خطا نحوه عبد القادر بثبات المريدين وأحوال السادة، لم يستطع المفتش الإنجليزي وجنوده إسكات ثورة الناس، لا أبواق سياراته الغريبة ولا صليل السلاح وقعقعته، لاشيء يسكت صخب النفوس المغبونة . افردوا الساحة لمقصلة جديدة على الثقافة والوجود، وجديدة على جموع لا تعرف غير ابتسامٍ للحياة على صعوبتها القاتلة، ولكن ودحبوبه لا ينشد إلا الجديد، كانت تحلِّق فوق رأسه تماماً ثلاث حمامات بيضاء – يقولون إنها كانت تسكن قبره بعد ذلك – أوقفوه على خشبة الموت، تحدى تصميمهم على عصب عينيه كان يريد أن يرى حياته وهو تتوزع على العيون الذاهلة فتمنحها ثباتاً جديداً، وحينما أحدث صوتها القاتل فعل الموت في عنقه كبَّر الرجال ( لم تكن قد تغيرت دلالات التكبير بعد ) وزغردت النساء وحلقت الحمامات الثلاث حد الاختفاء وتفرق الغيم الغريب. كان الصبح شاحباً، إلا من بعض خيوط ملونة تطوِّف على الوجوه فتغسل الخوف بالثقة، وتبدل الحال بأحوال أخر، وعبد القادر إمام ود حبوبه الذي لم يستطع أن يغمض عن حربته أو يغمدها، يرقد الآن على سريره الخشبي القصير مغمض العينين، إغماض الموت الذي أحياه، ومفتوح الوجه على عالم آخر، تزين وجهه ابتسامة نادرة ، على جانبيه جرائد من النخل، ما بالها تبدو أكثر خضرة في يومها وكأنها لم تزل على نخلتها؟ هل اتقدت فيها الحياة لملازمتها ود حبوبه الذي يبدو وسط خلوته ، والناس من حوله يتباكون ، في أبهى حالاته ، أوشك أن يعيد على جموع المشيعين ما قاله لمفتش الإنجليز (أرضي ، أرضي و وطني ، وطني وأنتم خائنوه ولذا تبدون في لباسكم الفخم وخيولكم المترفه أوهى من دود الأرض، وبيني وبينكم فقط ، هذه الحربة) وكان يهز حربته في وجوههم الخائفة المتدثرة برداء البنادق، كاد يعيدها على الجموع، حتى ليحفظها النخل، وكانت أوراق الأشجار تضاعف الظلَّ عليه، وهو مسجى في أحبِّ بقعةٍ إليه، خلوته، ينظر إليها من تحت إغماضته، يدندن بالراتب وأبيات خليل فرح.. " وقفاً عليك وإن نأيت فؤادي سيان قربي في الهوى وبعادي يا دار عاتكتي ومهد صبابتي ومثار أهوائي وأصل رشادي" الطير ذلك اليوم أفرغ السماء من وضوحها، وكوّن غيماً من الأجنحة، كان يعرف أن الحَبَّ الذي أسكت أعشاشه على شجر الخلوة الأخضر لن ينقطع، ولكن ليدي عبد القادر وهو يرمي به معانٍ لم تشهدها المواسم ، كان الطير لا يفهم (وما رميت إذ رميت) لكنه عاش شروحها ، والطريق المغسولة بالخطى العابدة، والراتب النظيف – لم تكن فيها منصات الخطابة والبروتوكول الثقيل والبدلات المهترئة على جدتها– لكنها تنضح ببياض الجلابيب والسماء وطير البقر والقلوب التي عميت عن الانشقاق مدفوع الثمن، كان الجسد المسجى على السرير القصير يبادل الروح المحلقة ابتسامات الرضا. أنزلوه من مشنقته بعد ذهاب المفتش وخيوله ذات الصهيل البارد، يتوكأ أو يكاد على يديه الحافظات لحبات المسبحة ، ينام على سريرٍ يحفظ أركانه، وتستبد بحباله شهقات رحيلٍ لعالمٍ جديد ، ومشى نحوه الزمن ، مشت تواريخ إمامه ، والحربة ، نوافذ الخلوة المغسولة بأصوات الحيران – طلبة القرآن – وأقبلت مقابر الحلاويين نحوه تتجدد بموته الناصع. والنيل، يلتفت فجأةً لموجه الذي ذهب في الصمت، حتى لكأن الماء قطعةٌ من زجاج لم يستطع النسيم أن يصفق على وجهها، وأسدلت قناديل الذرة الشامية شعورها فالموقف أكثر جدة من كل دهشتها. " وأنت ... أليس عندك يا صديق (الكون) إلا هذه الرقدة وكنت النسر حلق تحت وقد الشمسِ سار إلى مسيل الضوء وابتردا وجاب الأرض ما رقدا؟(5) وهكذا ، ندخل التاريخ بسؤالٍ ، ونخرج عنه بسؤال ، وتبقى الإجابة رهينة دفتي كتابه الذي تمليه المواقف والتحولات. أسامة الطيب
|
|
|
|
|
|
|
|
|