|
محمد علي جادين :انقلاب الإنقاذ ومشروع الدولة السودانية 2 (Re: altahir_2)
|
محمد علي جادين
العدد رقم: 242 انقلاب الإنقاذ ومشروع الدولة السودانية (2 - 2) انقلاب 30 يونيو 1989 كان نتيجة تخطيط وتدبير معلن، خططته ونفذته الجبهة الإسلامية القومية عندما وجدت استحالة في تنفيذ برنامجها ومشروعها السياسي في ظروف مناخ ديمقراطي ليبرالي. ووقتها كان هناك مشروعان يتسابقان في الساحة السودانية، نجاح أحدهما ينهي الآخر. كان هناك مشروع السلام الذي تبنته حكومة الجبهة الوطنية بقيادة السيد الصادق المهدي ومساندة كافة القوى السياسية والنقابية. وهو مشروع يستهدف تحقيق السلام على أساس اتفاق الميرغني/ قرنق (11/198 وترسيخ الديمقراطية وإعادة بناء الوحدة الوطنية من خلال مؤتمر دستوري وطني شامل.. وفي مواجهته كان هناك مشروع انقلاب الجبهة الإسلامية القومية.
ومع تسارع خطوات عملية السلام واقتراب انعقاد المؤتمر الدستوري، جاء انقلاب 30 يونيو ليضع البلاد في مجرى تطور مختلف. وبذلك ضاعت فرصة واعدة لإعادة بناء مشروع الدولة السودانية على أساس عقد اجتماعي جديد يكون الجنوب طرفاً أساسياً فيه. وهو مشروع ظل يتطور منذ نشوء الحركة الوطنية الحديثة في بدايات القرن العشرين ممثلة في حركة الاتحاد السوداني وجمعية اللواء الأبيض، مروراً بمؤتمر الخريجين ونشأة الأحزاب والنقابات حتى اعلان الاستقلال في مطلع 1956م. وجاءت ثورة اكتوبر 1964 وانتفاضة مارس/ أبريل 1985 لتبلور ملامحه الأساسية في تحقيق السلام وترسيخ الديمقراطية والوحدة الوطنية والتنمية الشاملة والمتوازنة. وفرصة 1989 سبقتها فرص أخرى أجهضها انقلاب 1958 وانقلاب 1969م. ويلاحظ هنا دور الانقلابات العسكرية في اجهاض كل هذه الفرص، فالانقلاب الأول جاء في ظروف تحولات سياسية كبيرة في اتجاه تلبية مطالب الجنوب في حكم فيدرالي في اطار دستور قومي ديمقراطي علماني يستند الى دستور 1956م، والانقلاب الثاني جاء في ظروف مشابهة تمثلت أهم ملامحها في شعارات ثورة أكتوبر 1964 ومؤتمر المائدة المستديرة ولجنة الاثني عشر، والانقلاب الثالث جاء بعد انتفاضة مارس/ ابريل 1985 وإعلان كوكادام واتفاق الميرغني/ قرنق وبرنامج حكومة الجبهة الوطنية.
والمهم هنا ان هذه الانقلابات لم تكن لعنة من السماء وإنما هي نتاج تخطيط وتدبير فئات وقوى سياسية اجتماعية محددة ليست لها مصلحة في تحقيق مشروع الدولة السودانية الموحدة، وساعدها في ذلك عجز القوى السياسية والاجتماعية المهيمنة في القيام بإجراءات الإصلاح السياسي التي كانت تفرضها تطورات الواقع. ويمكن ملاحظة ذلك، بشكل واضح، في الفئات والقوى التي نفذت وساندت انقلاب 30 يونيو 1989 بالتحديد وهي تتركز في الفئات الطفيلية التي نمت وتطورت بشكل واسع في عهد النظام المايوي، ووجدت في الجبهة الإسلامية القومية اطاراً سياسياً يعبر عن تطلعاتها ومصالحها السياسية والاقتصادية الاجتماعية، كما يشير الى ذلك تركيب هذه الجبهة وشعاراتها وبرامجها خلال فترة السنوات الأخيرة للنظام المايوي، وفي فترة الديمقراطية الثالثة. وتعبير (طفيلية) و(فئات طفيلية) ظهر في الكتابات العربية والسودانية خلال سبعينيات القرن الماضي، وهو يشير الى فئات وقوى محددة تقوم علاقتها مع المجتمع على اساس استغلال مشابه لعلاقة الطفيليات بمضيفها، أي لمصلحتها الخاصة مع فوائد قليلة وربما دون أي فوائد للكائن المضيف. وفي كثير من الحالات يرتبط هذا الاستغلال بتخريب واسع وملموس في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وهكذا حال علاقة الفئات الطفيلية مع الاقتصاد الوطني والمجتمع والدولة السودانية خلال السنوات الثماني الأخيرة للعهد المايوي وطوال سنوات حكم الإنقاذ.
والواقع ان انقلاب 1989 يمثل امتداداً للنظام المايوي وتطويراً لسياساته العملية في كافة المجالات وفي استمرار سيطرة الفئات الطفيلية على جهاز الدولة بشكل كامل. ونتيجة لذلك فهو يمثل طورا جديدا في تطور السياسة السودانية يدخل البلاد في مجرى تطور جديد يختلف كلية عن مجرى التطور الذي ظل سائداً طوال الفترات السابقة. وكان لكل ذلك تأثيره الحاسم في مستقبل مشروع الدولة السودانية الموحدة بملامحه وسماته المعروفة. واتضح هذا التأثير بشكل واضح في سياسات الإنقاذ في مجالات الحكم والحرب الأهلية في الجنوب والسياسات الاقتصادية والاجتماعية بشكل خاص.
فقد رفع الانقلاب شعارات الإنقاذ الاقتصادي والاكتفاء الذاتي وإنهاء الحرب الأهلية وتحقيق السلام وتطبيق الشريعة الإسلامية، كما أشرنا في الحلقة السابقة. ولكن سياساته العملية أدت فقط الى تمكين الفئات المرتبطة بحزب الجبهة الإسلامية وإلى توسيع وتعميق الأزمة الوطنية الشاملة الجارية في البلاد منذ ثمانينيات القرن الماضي. ومنذ البداية وجدت النخبة الحاكمة نفسها في طريق مسدود وحلقة مفرغة. واستمرار الحرب الأهلية يقود الى تفاقم الأزمة الاقتصادية وتعقيد المشاكل الاجتماعية. وهذه تقود الى توسيع سياسات العنف والقمع في مواجهة قوى المعارضة السياسية والاجتماعية. وكل ذلك يقود الى العزلة الداخلية والخارجية. والمهم هنا ان مصادرة الديمقراطية وتشديد القبضة الحديدية بشكل تجاوز كل التجارب السابقة لم تكن النخبة الحاكمة من فرض مشروعيتها وأهليتها.
وذلك لأن كل توجه ديكتاتوري وشمولي في السودان يولّد توجهاً مضاداً وموازياً له كما يقول بيتر وودورد في كتابه (السودان: الدولة المضطربة)، فالشعارات الدينية أدت الى اتساع الحرب الأهلية في الجنوب، وإلى اصطفاف كل قوى المعارضة في جبهة التجمع الوطني الديمقراطي. وهذه الشعارات لم تمكنها من مواجهة مشكلات التطور الوطني المزمنة، بل أدت الى تعقيدها. وأكثر من ذلك أدت سياسات التمكين الى فصل معظم المعارضين من جهاز الدولة باسم (الصالح العام) وإحلال الأنصار والمؤيدين في مكانهم. وبذلك فقدت مؤسسات الدولة قوميتها واستقلالها. وفي سبيل فرض سيطرتها على البلاد قامت النخبة المسيطرة بإعادة تقسيم البلاد الى (26) ولاية (اقليم)، بدلاً من الأقاليم التسعة التي ظلت قائمة منذ فترة الحكم الثنائي. وكل ذلك ادى الى فقدان الثقة في مشروع الدولة السودانية الموحدة، وبرز ذلك في ظهور النزعات القبلية والجهوية حتى وسط النخبة الحاكمة، وفي اتساع هجرة المتعلمين والشباب الى الخارج بحثاً عن وطن آمن.
وفي المجال الاقتصادي الاجتماعي أدت سياسات الإنقاذ الى تفاقم الأزمة الاقتصادية، رغم انتاج البترول وتصديره في عام 1999، وإلى تعميق التفاوتات الإقليمية والطبقية حتى شملت دائرة الفقر اكثر من (90%) من السكان. وازدادت الأزمة بتدهور أوضاع القطاع الحديث في الوسط، وتراجع الخدمات الأساسية وقطاعات الإنتاج وتخلي الدولة عن دورها الاجتماعي وتحولها الى دولة حارسة يتمثل هدفها فقط في حفظ الأمن والنظام العام وجمع الضرائب.
ووصلت هذه السياسات إلى ذروتها في سياسات التحرير التي أعلنت في بداية 1992 وأدت عملياً الى تصفية الطبقة الوسطى في المدن والمراكز الحضرية وحتى في القطاع الزراعي التقليدي. وهي طبقة واسعة ولها دورها المشهود في تعزيز الوحدة الوطنية وفي بلورة مشروع الدولة السودانية الموحدة طوال فترة الحكم الثنائي وفترات ما بعد الاستقلال. والأخطر من كل ذلك ان سياسات التحرير الاقتصادي أدت عملياً الى تصفية القطاع العام وعرقلة نمو القطاع الخاص في القطاعات الاقتصادية المنتجة لمصلحة فئات طفيلية لا علاقة لها بالاإنتاج.
وفي مجال الحرب الأهلية قادت السياسات العملية الى تحويلها من صراع سياسي له أسبابه المحددة ومطالبه المشروعة الى صراع ديني وعرقي وثقافي عنيف. وذلك بسبب ادخال الإسلام والعروبة كعامل مهم في تعزيز نهج النخبة الحاكمة الديكتاتوري في عموم البلاد وفي الجنوب بشكل خاص. ومن خلال شعارات (الجهاد والدفاع عن العقيدة والوطن) عملت السلطة الحاكمة على خلق استقطاب وصراع حاد بين الثقافة العربية الإسلامية الشمالية والثقافات الأفريقية والمسيحية في الجنوب، وبين افريقيا شمال الصحراء وأفريقيا جنوبها. وبذلك ادخلت الإسلام والعروبة الشمالية (السودانية) في ورطة الفشل في التعايش السلمي مع الثقافات الوطنية الأخرى في الجنوب وبعض المناطق الشمالية. وأدخلتها أيضاً في مأزق عدم القدرة على المحافظة على وحدة الكيان السوداني وخصوصية انتمائه ودوره العربي الأفريقي. ولذلك ارتفعت دعوات تقرير المصير وتفكيك الكيان السوداني الى دويلات وسط دوائر واسعة في الشمال والجنوب، وبرزت مشكلة الهوية كانعكاس لسياسات الهيمنة والاسئتصال واليأس من امكان التعايش السلمي في سودان ديمقراطي موحد. وامتد كل ذلك الى داخل الشمال، خاصة في دارفور وشرق البلاد. ويشكل ذلك ضربة مؤلمة لمشروع الدولة السودانية الموحدة. وتأتي اتفاقية السلام الشامل مع الحركة الشعبية واتفاق سلام دارفور والاتفاق المتوقع مع جبهة الشرق كنتيجة طبيعية لسياسات نخبة الإنقاذ في مواجهة الأزمة الوطنية الشاملة الجارية في البلاد. وهي اتفاقيات أدت الى تطورات سياسية واقتصادية اجتماعية عاصفة تهدد الكيان السوداني ودولته الموحدة في أساسها، وتتجه الى فرض وصاية دولية لها قواتها وبعثتها المنتشرة في كافة بقاع البلاد.
وهكذا بعد (17) عاماً من انقلاب الإنقاذ تحتاج البلاد الى انقاذ جديد، يرتكز الى العودة الى اساسيات اتفاق الميرغني/ قرنق، وتفكيك نظام الإتقاذ وعقد مؤتمر دستوري وطني تشارك فيه كل القوى ويخاطب الأزمة السودانية بكافة جوانبها، وبالتالي العمل على بناء مشروع الدولة السودانية الديمقراطية.
| |
|
|
|
|
|
|
|