|
الموسيقار بشير عباس
|
بشير عباس: راهب الحقل الفني في مسائل الغناء تختلف الأذواق. ولكن لا يتجادل إثنان في أن الموسيقار بشير عباس يقف في مقدمة رموز الموسيقى السودانية، ولو كان القدر قد جعل منه ملحناً ومغنياً في آن واحد مثل محمد وردي ومحمد الأمين وأبوعركي البخيت لصار منافساً لهم في القمة أو العكس. غير أن قدره أن يتقدّم الاوركسترا والتي تدرّب عليها منذ يوم الثالث من يوليو 1959 حينما أصبح سكرتيراً لأوركسترا الإذاعة، حيث آنذاك هو حلقة الوصل بين الفنانين وشعبة التسجيل.
والده، رحمه الله، والذي تنسّم يوماً وظيفة صراف مركز الروصيرص في بداية الخمسينيات كان حميماً بطفله بشير الذي يثابر لإكمال مرحلة الكتاب، ولما كانت المدارس الوسطى قليلة حينئذ قرر والده أنه سيهديه -إذا تفوق- ما لم يكن قد حلم به.. وفعلاً تجاوز التلميذ النجيب المرحلة ليلتحق بمدرسة مدني الأهلية وتلقى من والده «صفارة» من الأبنوس شكّلت الأداة لمواصلة هذه العذوبة من الألحان التي أداها عبد العزيز داؤود وحسن عطية وزيدان إبراهيم والبلابل، هذا بغير تشذيبه لكثير من الالحان عبر ما كان يسمى بـ«السمكرة الفنية» حيث يعدل ويقترح المقدمات الموسيقية ومتن اللحن كما شأن لمساته الساحرة في مقدمة «الطير المهاجر» وفي بعض الأناشيد الاكتوبرية التي غناها وردي.
ما قبل ذلك التعاون مع هؤلاء الرهط من الفنانين جلس لأبنة عمه الأستاذة أسماء حمزة، وهي أول ملحنة سودانية، وتدرب على يديها أسرار العود الذي كانت تجيد العزف عليه ولا يزال موجودا حتى الآن بمنزل الأسرة بالحلفايا. ولعل هذه الاسرة الفنية تمددت لتشمل بعض المبدعين حيث من ضمن أعضائها صديقنا الملحن والمغني ضياء الدين ميرغني الطاهر وهو الناشط السياسي الذي ما برح مؤمنا بفكر القومية العربية، وهناك زميلنا رسام الكاريكتير سامي المك كما أن أختاً لبشير تحفظ المئات من الأغاني التي تؤديها في احتفالات الأسرة.
وبرغم أن هناك ارتباطا يصعب فكه بين الاستاذ بشير عباس والبلابل اللائي اكتشفن بواسطته إلا أن لموسيقارنا العتيق حق الريادة في الموسيقى البحتة وكثيرون لا يعرفون أن بداية موهبته الحقيقية تفتقت من خلال النغمات الشجية التي ألفها قبل دخوله الإذاعة حيث قدّم مقطوعتي «أمي» و«نهر الجور» اللتين ثبتتا أقدامه. والواقع أن هذا الضرب من الإبداع برع فيه بشير عباس وساعدته امكاناته الخرافية في التعامل مع العود وربما يضع الدارسون للموسيقى بشير عباس وبرعي محمد دفع الله ومحمد الأمين مِن أفضل مَن عزفوا العود في السودان وكذا أبوعركي البخيت الذي غطت اهتماماته بتقديم أعماله عبر الاوركسترا على إبراز قدراته في خفة ريشته التي تجري بين الأوتار وتستنطقها فتولد شلالاً من الانغام. وفي السنوات الأخيرة جاء المبدع عوض أحمودي ليخلق منزلته كعازف ماهر لا يقل شأناً عن كل الذين سبقوه في مضمار فني يصعب خوضه..
وإذ يقف رواد الموسيقى البحتة الفنانون أدهم وجمعة جابر والخواض والماحي اسماعيل وحمزة علاء الدين وعلاء الدين حمزة وبرعي محمد دفع الله وبدر الدين عجاج وحافظ عبدالرحمن مختار والفاتح حسين، إلا أن ما يميّز الملحنين بشير عباس وبرعي محمد دفع الله ثراء الإنتاج وتمحور تجديدهما في اطار الموروث ولم يسعيا للخروج عن الميلودية السودانية بدعوى التجريب. وتقف أعمال بشير الموسيقية كشواهد حيّة على إبداعيتها العالية، وعلى الرغم من أن تواضع الاستاذ بشير الزائد في عدم تقديم عازف عود عليه من أولئك العمالقة الذين ذكرنا إلا أن هناك تشابهات كبيرة في تاريخه الفني مع برعي، فما دام الموسيقار الأخير قد خبأ معظم ألحانه في الصوت المتميّز لابي داؤود فإن معظم الألحان التي قدمها بشير كانت من نصيب البلابل، وكلاهما قادا الاوركسترا وتفرغا ردحاً لفرقة الإذاعة والتي كان من الصعب الحصول على عضويتها.
كما أن لديهما العشرات من المقطوعات الموسيقية التي كان البرامجيون يتناوبون في تقديمها في الإذاعة والتلفزيون ولو أن هناك بعض الموسيقيين ممن يقارنون بين الموهبة الفطرية للإثنين ويحاولون تفضيل واحدة على أخرى فإنني أرى أن لكل منهما ميزات تخص سواء في مستوى الألحان التي أداها المطربون أو الأسلوب الذي به يحاول كل منهما امتاع الجمهور، والحقيقة أن المقارنة بين بشير وبرعي تبدو مثل المقارنة من أجل التفضيل بين دور حسن عطية وأحمد المصطفى في تطوير الغناء أو بين أبوداؤود وعثمان حسين.
على أنه برغم كل هذه الأعمال الموسيقية الشيقة فإننا وجدنا أن أمر الاهتمام بتطور الموسيقى البحتة في السودان لا يزال أمراً عصياً فمن جهة ليس لدى جمهورنا الثقافة العالية التي بها يقارب أهمية المؤلف الموسيقي بالمغني وكثيراً ما إنطلى الأمر على الدولة حيث تجدها تركز الاهتمام بالمغنيين وتهمل مبدعين صنعوا الفنان نفسه ومن دونهم لتوقف الفن. إلى ذلك فإن شركات الانتاج الفني لا تغامر بتقديم «إلبوم» يحوي أعمال الراحل برعي في محاولات تأكيداتها الاعلامية بأنها تسعى لتطوير الغناء وأخيراً أن صحافتنا الفنية ظلت ترسخ الاهتمام بالمغني وفي ذلك تهمل بقية المبدعين المشكلين للأغنية، فلا يجد الشاعر تقديراً كما يجده فنان ناشئ لفت الانظار في شهور معدودات، والحال هكذا لا تهتم الصحافة بتتبع أخبار العازفين حتى أن رائدا مثل بدر التهامي وهو من أول من عزف آلة الكمان قد ألم به المرض ولم يلتفت إليه مسؤول ومات والغصة في حلقه.
غير أن ما شذ عن هذا هو الموسيقار حافظ عبد الرحمن مختار والذي استخدم ذكاء خارقاً ليعيش على موسيقاه البحتة ويسجل حضوراً داخلياً وخارجياً عزز إمكانية الدفع بثقافة الاهتمام بـ«النغمة الحافية». ولولا التوقّف القسري لفرقة السمندل لجذرت نفسها كفتح معزز لتيار المؤلفين الموسيقيين الذي حاول ليجعل تذوق الموسيقى البحتة منافساً إن لم يكن مرادافاً لتذوق الكلمة المموسقة وكلنا نذكر القبول الحسن الذي لاقته تلك الفرقة والإضافات التي قدمتها في تقديم الفلكلور الموسيقي واستخدام العلوم الحديثة في توزيع بعض ألحان الفنانين الكبار.
وقد ينبس قائل إنه سيأتي اليوم الذي ترتقي فيه عملية التلقي الموسيقي ومن ثم يجد موسيقي باهر مثل بشير عباس مكاناً علياً يستحقه ووضعاً مادياً معتبراً قد يفرغه للتأليف وإقامة مركز لتعليم العود -كما قد يتصوّر المرء- وبذل معارفه للمهتمين بأن يقدّم وصاياه العشر حول كيفية استنباط اللحن الخالد، خصوصاً وأن الأغنية السودانية تعاني اليوم نضوباً خطيراً في الألحان واجتراراً للماضي الغنائي يهدد استمرارها كمعطى ثقافي هو أكثر شيء يميّز إبداعنا الغنائي بين العالمين.
وظني الآخر أن غياب دور الملحن المحترف والذي كان يشغله ملحنون أمثال عبد الرحمن الريح وخليل أحمد وعبد الفتاح الله جابو وعلاء الدين حمزة والطاهر إبراهيم وحسن بابكر وعبد اللطيف الخضر وأسماء حمزة وبابا فزاري ويوسف السماني وسليمان أبوداؤود وفتحي المك وبدر الدين عجاج وعمر الشاعر والفاتح كسلاوي، هو السبب في هذا الضمور اللحني. فضلاً عن هذا فإن توفر موهبة الفنان/ الملحن في هذا الجيل أصبح من النوادر على الرغم من جمال الأصوات وتميّزها، ولقد كان الفنانون أحمد المصطفى ووردي وعثمان حسين والعاقب محمد حسن وإبراهيم الكاشف ومصطفى سيد أحمد... إلخ، تميّزوا بالتلحين لأنفسهم فوقاً عن ذلك كانت جديتهم تمنعهم من التسرّع لتقديم الأعمال الغنائية التي تغيب فيها أسباب الإضافة للموروث النغمي.
صحيح أن تفضلاً إنسانياً ووطنياً مسؤولاً لتبني المغنيين لا يزال ملقياً على عاتق الأساتذة بشير عباس وود الحاوي وكسلاوي وعمر الشاعر وهم الذين تسمح لهم سنهم أكثر من غيرهم بملاحقة الأصوات المتميّزة لهذا الجيل ولكن من متابعات المرء للأصوات الجديدة يتضح أن معظمهم يفضّلون فقط نبش أغاني الماضي وإنتاج «ألبومات» أكثر من المحافظة على ملكاتهم غير المنكورة وتوجيهها نحو الطريق السليم بالصبر الدؤوب المرتجى للكلمة الجديدة واللحن الشجي، كما كان يفعل الفنانون في الماضي، وفي حال كهذا يبقى على بشير عباس وود الحاوي مثلاً أن يركزا على البحث عن أصوات جميلة مغمورة لم تستسهل بعد أمر الغناء كما كان شأنه مع بنات طلسم «هادية وحياة وآمال».
صحيح أن الغربة قد أبعدت الموسيقار بشير عباس عقودا من مواصلة ما بدأه من إنتاج كثيف حتى منتصف الثمانينيات. ولكني أعتقد أن استقراره في البلد يعتبر عاملاً أساسياً لاستئناف تجربته اللحنية والموسيقية. وأن الظروف الآن تسمح له باختيار عازفين مهرة يشكلون فرقة ماسية تقدّم مقطوعاته بتوزيع جديد حتى يضاعف من جهد الذين حملوا مشعل الموسيقى البحتة، خصوصاً الموسيقار حافظ عبد الرحمن الذي حقق نجاحات داخلية وخارجية، من خلال عرض أعماله الموسيقية وتكوين جمهور معتبر بمشاركاته في المناسبات العامة وطرحه لـ«البومات» عدة وجدت رواجاً وفتحت مجالاً مشجعاً للموسيقى البحتة.
وما دام أن تكريم الموسيقار بشير سيتم في مارس القادم فإننا نأمل أن يجيئ دلالة تكريم لرواد الموسيقى واللحن في شخصه ثم تكريماً له كرائد ثقافي واجتماعي تتجاوز تجربته مع البلابل الدلالة الإبداعية. وفي هذا يمكن اعتبار دوره في الانطلاق بتجربته معهن اسهاماً اجتماعياً في دفع نضالات المرأة السودانية وتفجير مواهبها في واقع لا تزال تعاني فيه من التهميش وحق لاتحادات وجمعيات متعددة تعنى بأمر المرأة أن تسعى للمشاركة في ذلك التكريم للموسيقار الذي استلهم أسرار حرفة الموسيقى من إمرأة وهي الأستاذة أسماء حمزة وكان وفياً وحفياً حين رد الجميل على نساء بلاده بأن قاد البلابل مفجراً لمكنون طاقاتهن الابداعية وجاعلاً منهن اسماء لامعة عند تعداد مآثر المرأة السودانية في بيئة الفن أو الكفاح الاجتماعي.
وإذ يغدو من الأهم التوثيق اللائق لفنان رائد مثل بشير في زمن التقنيات الصوتية وتطوّر تجربة التورزيع الاوركسترالي في السودان من خلال ذوق جديد لموسيقيين يمتازون برهافة الحس في إعطاء الآلات الموسيقية مكانها في بنية اللحن، فإننا نتوق لليوم الذي نجد فيه ألبومات خاصة بالموسيقار. وأتوقع أن أعظم هدية يقدّمها للجمهور في يوم تكريمه جعل انتاجه الموسيقي متوافراً وليس ذلك بالشيء البعيد المنال فشركات الإنتاج الفني يمكن أن تسهم في تمويل هذا العمل ما دام أن أرضية للنجاح في التوزيع قد تمت لموسيقيين يقدمون الموسيقى البحتة.أمدّ الله في أيام الأستاذ بشير عباس ومتعه بالصحة والعافية.
نقلا عن الصحافة
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: الموسيقار بشير عباس (Re: صلاح شعيب)
|
جميل الشكر استاذنا المثقف النبيل شعيب محاور كثر تتطلب امعان فى القراءة للرد عليها بالتفصيل, فيرى انتريستينج..... ساعود حالما ينجل الحزن المخيم بفقدان الرمز عجاج .. الى لقاء..
| |
|
|
|
|
|
|
Re: الموسيقار بشير عباس (Re: صلاح شعيب)
|
Quote: لأبنة عمه الأستاذة أسماء حمزة، وهي أول ملحنة سودانية، وتدرب على يديها أسرار العود الذي كانت تجيد العزف عليه ولا يزال موجودا حتى الآن بمنزل الأسرة بالحلفايا. ولعل هذه الاسرة الفنية تمددت لتشمل بعض المبدعين حيث من ضمن أعضائها صديقنا الملحن والمغني ضياء الدين ميرغني الطاهر وهو الناشط السياسي الذي ما برح مؤمنا بفكر القومية العربية، وهناك زميلنا رسام الكاريكتير سامي المك كما أن أختاً لبشير تحفظ المئات من الأغاني التي تؤديها في احتفالات الأسرة. |
ولا تنسى خالنا العزيز احمد المك وشقيقه الملحن والمغنى فتحى المك وعازف الفلوت الشهير فيصل نصر وعازف الكمان المرحوم مامون عثمان بشير وابنه عثمان زرياب ولكن بشير عباس رغم انه بعد بعض من هؤلاء يظل الرقم الاصعب لما اثراه فى دنيا الموسيقى السودانية واحسب حزنى على بدرالدين عجاج سياخذ منى بعض الوقت لاستعيد توازنى لاشثراء هذا البوست الرائع والعميق صديقى واخى الاستاذ صلا شعيب ضياء ميرغنى
| |
|
|
|
|
|
|
Re: الموسيقار بشير عباس (Re: صلاح شعيب)
|
الاخ صلاح شعيب كل سنة وانت طيب حقا لقد انصفت الرجل .. فالاستاذ الكبير بشير عباس قامة فى الفن والتواضع الجم واستاذ فى الموسيقى لا يشق له غبار السر
| |
|
|
|
|
|
|
|